بقلم / محمد سعيد أبوالنصر
من كُبرى الفواجع التي عايشتها أنني كنت أثق في رجل من الناس كنت أحسبه صِدِّيقًا أو وَلِيًّا جاء من عصر الصحابة حتى كدت أقول في نفسي كيف وُلِد هذا الرجل في عصرنا ،إنَّ الرجل كان في عيني يُشبه عمرًا في ثوب العدل ، و أبا بكر في ثوب الصدق ،و"عليًا" في ثوب العلم، وعثمان في ثوب العطاء، وخالدًا في ثوب الفروسية ،الرجل في نظري كان مثال الرجولة والاتزان والاحترام ولكن وبدون مقدمات تدعوا للحسرة فوجئت بالعامة من الناس يقولون بأنَّه مرتش ، يمد يده ويقبل الرشوة من أراذل الخلق، فجاءت هذه المعلومة وصدمتني وآلمتني وهزتني وافقدتني صوابي، وبعد مناقشة طويلة ودافعًا طال منى عن الرجل اكتشفت عبر الأيام أنَّه أكثر مما قالوا ،فقلت إنَّ الرجل لم يُسْقط نفسه فقط إنَّما أسقط معه القيم النبيلة التي كانت في مخيلتنا عنه فالموضوع ليس في رشوة يتقاضها إنَّما هو اسقاط للأمانة والثقة والعدل والعطاء ،الرجل بتقاضيه الرشوة أسقط صوره الصدق حينما تمثلها ،وأسقط صورة العدل حينما كان متلبسًا بها ،وأسقط قيمة العلم عندما اتصف به ،وقيمه العطاء حينما كان يتعطف على الفقراء والمساكين ، وقيمة التدين حينما كان يتكفأ ليصلي الوقت في حينه ،إنَّ الرجل تحول من ولي صالح الى غشاش كذاب ، تحول من متدين حقيقي إلى متدين مزيف ،أو هو بالأصل مزيف لكننا لم نكتشف زيفه إلَّا عبر الوقت فهل ضاعت القيم وذهبت مع الريح ، ومما زاد الطين بله ما طالعتنا به وسائل الإعلام على تحفظ الدولة والاجهزة الرقابية على عدد من الموظفين وهم متلبسون بالرشوة ،وبتتبع الاحداث ،وجدنا كأنَّ الخبر شيء اعتادت عليه الأسماع والأبصار ،وقام المحللون ليحللوا موضوع الرشوة ، وفي تحليلهم تكاد تسمع كلاما أقرب ما يكون إلى كونها أصبحت حلالًا زلالًا لا مانع من أخذها !!!! فهل يصح هذا الفعل وهل يجوز للإنسان أن يتقاضى رشوة ؟وما حكم من يتقاضاها ؟
الرشوة:
الرشوة :تُطلق على ما يعطيه الشخص لحاكم وغيره ليتحصل على مراده.
أو هي ما يعطى لإبطال حق أو لإحقاق باطل "أو هي ما يبذل للغير لِيَحْكُمَ بِغَيْرِ الْحَقِّ، أَوْ لِيَمْتَنِعَ مِنْ الْحُكْمِ بِالْحَقِّ".
حكم الرشوة
الرشوة حرام بلا خلاف، وهي من الكبائر. وقد وردت الأدلة متضافرة على ذلك؛ منها: قول الله تعالى في معرض ذمه لبعض أهل الكتاب: ﴿سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ﴾ [المائدة: 42] قال الحسن وسعيد بن جبير: "هو الرشوة".
وقال تعالى: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 188]، فالله نهى عن أكل أموال الناس بالباطل ووصفه بأنه باطل وإثم.
وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما قَالَ: "لَعَنَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ الرَّاشِي وَالْمُرْتَشِي" وفي رواية بزيادة: «والرائش»، أي الساعي بينهما، واللعن من الله تعالى أو رسوله صلى الله عليه وآله وسلم معناه أن ذلك كبيرة من الكبائر، والمرتشي يحرم نفسه من نعمة استجابة الدعاء؛ فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول ": «أَطِبْ مَطْعَمَكَ تَكُنْ مُسْتَجَابَ الدَّعْوَةِ».
ومال المرتشي سحت وحرام وغير طيب؛ فقد قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لكعب بن عجرة رضي الله عنه: «يَا كَعْبُ بْنَ عُجْرَةَ، لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ نَبَتَ لَحْمُهُ مِنْ سُحْتٍ، النَّارُ أَوْلَى بِه» وقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: «يَا سَعْدُ، أَطِبْ مَطْعَمَكَ تَكُنْ مُسْتَجَابَ الدَّعْوَةِ، وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، إِنَّ الْعَبْدَ لَيَقْذِفُ اللُّقْمَةَ الْحَرَامَ فِي جَوْفِهِ مَا يُتَقَبَّلُ مِنْهُ عَمَل أَرْبَعِينَ يَوْمًا، وَأَيُّمَا عَبْدٍ نَبَتَ لَحْمُهُ مِنَ السُّحْتِ وَالرِّبَا فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ»
فالشريعة الإسلامية حرمت جريمة الرشوة. ، وينبغي أن يكون المسلم إيجابيًّا لا يقر الفساد ويُنْمِيه، بل عليه أن يمنعه ويحاربه، ويتعاون مع المجتمع في القضاء عليه، ويتم ذلك بأن يعظ من يطلب الرشوة ويذكِّره بالله بدلًا من أن يعطيه ما يطلب، فإن لم يستجب المرتشي للوعظ أبلغ عنه المسؤولين؛ لمعاقبته والأخذ على يده. والذي يؤكد على عظم الرشوة توسَّع الفقهاء في معنى الرشوة حتى أدخلوا فيها من دفع شيئا لغيره ليستخلص به حقه، أو يدافع به عن نفسه، أو عرضه، أو حتى عن الآخرين، فهل يسمى هذا الدفع أيضا رشوة ، اختلف الفقهاء فمنهم من أجاز ومن من منع ،ومن أجاز وضع شروطًا وقيودًا مشددة، منها أن عليه أولًا أن يستنجد ويستنصر ويستغيث بكل من يظن فيه أن يوصل له حقه أو يمنع عنه الظلم، فإذا ضاقت به السبل ولم يجد المعين أو المجير أو المغيث فإنه يكون في حكم المضطر والذي يرتكب أخف الضررين ويدفع أشد المفسدتين حين يقدم شيئا للحفاظ على حقه أو حق غيره، وهذا متفقٌ عليه بين المذاهب الأربعة، ويخرج من إثم التحريم الشخص الدافعُ أو الإنسان المعطي وحده، ويبقى الإثم والفسق والكبيرة تحيط بالآخذ والقابض وحده واقعًا تحت الوعيد، مجرَّمًا بعار وخزي هذه الكبيرة؛ يقول السيوطي في كتاب "الأشباه والنظائر": ما حرم أخذه حرم إعطاؤه... ويستثنى صور منها: الرشوة للحاكم ليصل إلى حقه"
وجاء في فتوى الشيخ خالد عبد المنعم الرفاعي لمن أراد الحصول على وظيفة بطريق الرشوة قال : "إِنْ كانت هذه الوظيفةُ مُباحَةً وكُنْتَ عَلى يَقِينٍ أَنَّكَ مُؤَهَّلٌ لها، ولَنْ يَتَرَتَّبَ عَلى دَفْعِكَ المالَ التَّعدِي عَلى حُقُوقِ أَحَدٍ، أَوْ حِرمان مَن هُو أَوْلَى بِها مِنْكَ، فَلا بَأْسَ أَنْ تُعْطِيَ مالاً إِذا لمَ تُمَكَّنْ مِنْها إِلاَّ بِذَلِكَ، ولا يُعَدُّ ذَلِكَ رِشْوةً في حَقِّكَ؛ فَإِنَّ الرِّشْوةَ هِي ما أُعْطِيَ لإحْقاقِ باطِلٍ، أَوْ إِبْطالِ حَقٍّ، أَمّا ما أُعْطِيَ لإحْقاقِ حَقٍّ أَو إِبْطالِ باطِلٍ فَليسَ بِرِشْوةٍ بِالنْسَبةِ للدّافِعِ، وإِنْ كانَ رِشْوةً بِالنَّسبَةِ لِلآخِذِ. قال في "عَوْنِ المعْبُودِ": ".... وقالَ فِي "مَجْمَع البِحار": ومَنْ يُعْطِي تَوصُّلاً إِلى أَخْذ حَقٍّ أَوْ دَفْعِ ظُلْمٍ فَغيرُ داخِلٍ فِيهِ، رُوِيَ أَنَّ ابْن مَسْعُود، أُخِذَ بِأَرْضِ الحَبَشَة فِي شَيء فَأَعْطَى دِينارَينِ حَتَّى خُلِّيَ سَبِيلُهُ، ورُوِيَ عَنْ جَماعَة مِن أَئِمَّة التّابِعِينَ قالُوا: لا بَأْس أَنْ يُصانِع عَنْ نَفْسه وماله إِذا خافَ الظُّلْم".
وقالَ ابنُ تيميةَ رحِمه الله: "فَأَمّا إذا أَهْدَى لَهُ هَدِيَّةً لِيَكُفَّ ظُلْمَهُ عَنْهُ أَوْ لِيُعْطِيَهُ حَقَّهُ الواجِبَ، كانَتْ هَذِهِ الهَدِيَّةُ حَرامًا عَلَى الآخِذِ، وجازَ لِلدّافِعِ أَنْ يَدْفَعَها إلَيهِ، كَما كانَ النَّبِيُّ يَقُولُ: "إنِّي لأُعْطِي أَحَدَهُم العَطِيَّةَ فَيَخْرُجُ بِها يَتَأَبَّطُها نارًا" قِيلَ: يا رَسُولَ اللَّهِ، فَلِمَ تُعْطِيهِمْ؟ قالَ: "يَأْبَوْن إلاَّ أَنْ يَسْأَلُونِي ويَأْبَى اللَّهُ لِي البُخْلَ".
وقالَ ابْنُ حزْمٍ رحمه الله في "المحلى": " مَن مُنِعَ مِن حَقِّهِ فَأَعْطَى لِيَدْفَعَ عَنْ نَفْسِهِ الظُّلمَ، فَذَلِكَ مُباحٌ لِلْمُعْطِي، وأَمّا الآخِذُ فَآثِمٌ".
وعَلى هَذا فَلا مانِعَ شَرْعًا أن تَدْفَعَ مالا لِتَنالَ بِه حَقَّكَ في هَذا العَمَلِ بشرط أن لا تأخذ مكان من هو أولى منك، وهذا التكييف لا يدعو القائمين على الأمر إلى التهاون في الضرب على أيدي المفسدين، بل على العكس من ذلك تمامًا: يجب أن ينذر بأهمية الضرب على أيدى العابثين المفسدين الفاسقين، ويشحذ الهمم ضدهم. ومن ناحية أخرى: على ولي الأمر أن يغيث كل من طلب منه الغوث للقضاء على هذا الفساد العريض، ويجب على الراشين والمرتشين أن يتوبوا إلى الله تعالى من هذا الإثم حتى يبارك الله سبحانه في أموالهم وأولادهم.
الفرق بين الرشوة والبقشيش :
يوجد فرق بين البقشيش والرشوة ،وهذا يتضح من خلال تبين مفهوم البقشيش ،كلمة البقشيش ليست بعربية؛ لكون مادتها لا تعرف في لغة العرب، قال اللغوي أبو بكر بن دريد في "جمهرة اللغة" "البقش لَيْسَ من كَلَام الْعَرَب الصَّحِيح" اهـ.
وأما معنى البقشيش في العرف: فهو مقابل للهبة والعطية؛ لكونه يدفع بلا عوض،
فما يسميه الناس بالبقشيش: فالأصل فيه أنه يعطى على سبيل الهبة، وعن طيب خاطر، فيشمل الهدية -وهي التي يراد بها إكرام المهدي لا غير- والصدقة -وهي التي يراد بها وجه الله تعالى-، فهي مشروعة على هذا الوجه. والأدلة على مشروعية العطية والهبة كثيرة وَالأَصْلُ فِيهَا - قوله تعالى: ﴿فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا﴾، وَقَوْلُهُ: ﴿وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ﴾، وقوله تعالى: ﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ﴾؛ قِيلَ: الْمُرَادُ مِنْهَا الْهِبَةُ، وَأَخْبَارٌ كَخَبَرِ الصَّحِيحَيْنِ: «لا تَحْقِرَنَّ جَارَةٌ لِجَارَتِهَا وَلَوْ فِرْسِنَ شَاةٍ»؛ أَي: ظِلْفَهَا، وَانْعَقَدَ الإِجْمَاعُ عَلَى اسْتِحْبَابِ الْهِبَةِ بِجَمِيعِ أَنْوَاعِهَا؛ قَالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾، وَالْهِبَةُ: بِرٌّ، وَلأَنَّهَا سَبَبُ التَّوَادِّ وَالتَّحَابِّ؛ قَالَ صلى الله عليه وسلم: «تَهَادُوْا تَحَابُّوا»، وَقَبِلَ صلى الله عليه وسلم هَدِيَّةَ الْمُقَوْقِسِ الْكَافِرِ وَتَسَرَّى مِنْ جُمْلَتِهَا بِمَارِيَّةَ الْقِبْطِيَّةِ وَأَوْلَدَهَا، وَقَبِلَ هَدِيَّةَ النَّجَاشِيِّ الْمُسْلِمِ وَتَصَرَّفَ فِيهَا وَهَادَاهُ أَيْضًا"
والفرق بين الرشوة والبقشيش يظهر من الموضوع والغاية، وقد تكلم العلماء على هذا عند كلامهم على الفرق بين الرشوة والهدية، فما يُدفع إلى الحكام ونحوهم للحكم للراشي غير جائز، أما العطية والإكرامية ونحوها مما يعطى للعمال الفقراء والمساكين فهو على أصله أنه مستحب، والأمور بمقاصدها، ولذا كانت النية دليل تفريق بين الأمرين المشتبهين في الصورة والهيئة مع اختلافهما في الحكم أو الغاية، والنَّبِيّ -صلى الله عليه وسلم- كَانَ يَأْكُلُ الْهَدِيَّةَ وَلا يَأْكُلُ الصَّدَقَةَ، وَقَالَ فِي اللَّحْمِ الَّذِي تُصُدِّقَ بِهِ عَلَى بَرِيرَةَ: «هُوَ عَلَيْهَا صَدَقَةٌ، وَلَنَا هَدِيَّةٌ»"