وقد تعرضت اتفاقية أعالي البحار التي أقرها مؤتمر جنيف سنة 1958 لهذا الموضوع بما يتفق مع ما تقدم. ونصت اتفاقية جمايكة على المبادئ نفسها فيما يتصل بحقوق الدول الحبيسة أو غير المشاطئة أو المغلقة (المواد 124-133).
مهمة الشرطة والقضاء في أعالي البحار: إن عدم خضوع أعالي البحار لسيادة دولة ما يتبعه أنه ليس لدولة أن تتولى فيها أعمال الشرطة والقضاء دون غيرها، وان الدول سواء من هذه الناحية بمعنى أن كلاً منها هي صاحبة الاختصاص القضائي فيما يتعلق بالمراكب التي ترفع علمها ولا شأن لها بالسفن التابعة لغيرها.
فالقاعدة إذن أن كل ما يقع من أعمال أو تصرفات على مركب ما أو منه أثناء وجوده في أعالي البحار يخضع لقوانينالدولة التابع لها، وإنه ليس لدولة حق الشرطة أو القضاء فيما يتعلق بالمراكب الأجنبية الموجودة في هذه البحار احتراماً لسيادة الدول التي ترفع هذه المراكب علمها. وهذه القاعدة مطلقة فيما يتعلق بالمراكب الحربية أو التي تقوم بأعمال السلطة العامة كمراكب المطاردة والشرطة وما شابهها. لكنها فيما يتصل بالسفن الأخرى تحتمل بعض استثناءات تجيز في حالات معينة تعرض الدولة لسفينة لا تتبعها وإخضاعها لإجراءاتها البوليسية أو لقضائها. وهذه الحالات هي حالة الحرب وحالة الاشتباه في العلم وحالتا الإتجار بالرقيق والقرصنة، وذلك على التفصيل الآتي:
ـ حالة الحرب: يسمح قانون الحرب[ر] للدول المحاربة بأن تتولى أعمال الشرطة إزاء السفن التجارية المحايدة في كل ما يتصل بواجبات الحياد. وللمراكب الحربية لهذه الدول أن تعترض أي سفينة تجارية محايدة تلتقي بها في عرض البحر وأن تقوم بتفتيشها للتحقق من أنها لا تحمل للعدو مهربات حربية أو معونات من أي نوع، ولها في حالة ظهور العكس أن تقبض عليها وتقودها إلى إحدى موانيها ـ مواني الدولة المحاربة ـ لتقديمها للمحاكمة وفقاً لما تقضي به قواعد الحياد في الحرب.
ـ الاشتباه في العَلَم: لكل مركب حربي، ضماناً لسلامة الملاحة في أعالي البحار، أن يتحقق من جنسية السفن التي يلتقي بها في هذه البحار، ويستدل على جنسية السفينة كما تقدم بالعلم الذي ترفعه. فإن لم تكن السفينة ترفع علماً كان للمركب الحربي أن يكلفها ذلك بإشارة منه حتى يتعرف جنسيتها. فإن امتنعت أو رفعت علماً اشتبه قائد المركب الحربي في أنّه لا حق لها في رفعه طالبها بالوقوف، وبعث إليها أحد رجاله للاطلاع على أوراقها والتحقق من جنسيتها الحقيقية والغرض من رحلتها. واتخاذ هذه الإجراءات حق ثابت للدول المحاربة وقت الحرب، لكنه يثير اعتراضاً شديداً في وقت السلم لما فيه من مساس بمبدأ حرية الملاحة في أعالي البحار، وباستقلال الدولة وكرامتها التي قد تكون السفينة المشتبه فيها تابعة لها. والمعمول به اليوم أنه لا يجوز لمركب حربي في غير حالة الحرب أن يتعرض لسفينة أجنبية لمجرد الاشتباه فيها، وكل ما يملكه هو أن يبلغ أمرها إلى السلطات التابع لها، وتتولى هذه بالطريق الدبلوماسي مخابرة الدولة التي تتبعها أو ترفع علمها السفينة المشتبه فيها لتتخذ ما تراه بشأنها. هذا ما أقرته اتفاقية جنيف لعام 1958 وأكدته اتفاقية جمايكة لعام 1982 (المادتان 96 و102).
ـ الاتجار بالرقيق: لما كان الاتجار بالرقيق شائعاً حتى أوائل القرن التاسع عشر، فقد أخذت الدول تعمل جدياً على محاربته بكل الوسائل وعلى الأخص أثناء نقل الرقيق عبر البحار، وأبرمت لذلك عدة معاهدات خولت فيها المراكب الحربيةالحق في ضبط كل سفينة تلتقي بها في أعالي البحار مشتغلة بتجارة الرقيق وفي تقديم رجالها للمحاكمة، وكانت هذه المحاكمة بادئ الأمر تجري أمام قضاء الدولة التي تتبعها السفينة المضبوطة، وفي سنة 1841 أبرمت في لندن اتفاقية عامة تأيد فيها حق المراكب الحربية لكل من الدول التي اشتركت فيها في تفتيش أو ضبط أي سفينة تصادفها في أعالي البحار تشتغل بتجارة الرقيق، كما تقرر أن تكون محاكمة رجال السفينة المضبوطة ـ خلافاً لما كان متبعا من قبل ـ أمام قضاء الدولة التي قامت بضبطها أسوة بسفن القرصنة.
ولما كانت تجارة الرقيق قد آلت إلى الزوال مع أوائل القرن العشرين فقد انتهى الأمر بإلغاء الاتفاقات الناظمة لمكافحتها في البحر وذلك بمقتضى اتفاقية سان جرمان لعام 1919، مع أن الاتجار بالرقيق مازال محرماً في القانون الدولي ويعدّ تحريمه من النظام العام الدولي بمقتضى (المادة99).
ـ القرصنة Piracy: هي كل اعتداء مسلح يقوم به في عرض البحر مركب يعمل لحسابه الخاص، لذا يعد القرصان عدوا عاماً للجنس البشري، وتعد القرصنة جريمة دولية تخضع لقضاء أي دولة تضع يدها على المركب القائم بها. وقد استقرت هذه الأحكام وصارت على مر الزمن في حكم القانون مع عدم جواز توقيع العقوبة على القرصان إلا بعد محاكمته أمام الهيئة القضائية المختصة. وتقع مهمة ضبط مركب القرصنة على عاتق البحرية الحربية الدولية، وواجبها الأول وقت السلم حماية سفن الدولةالتابعة لها وضمان الملاحة في أعالي البحار. فإذا التقت سفينة حربية بمركب اشتبهت لأسباب جدية في اشتغاله بالقرصنة، كان لها أن تستوقفه وتطلع على أوراقه. فان اتضح لها أن الاشتباه في غير محله أخلت سبيله، وفي هذه الحالة يكون للدولة التي يرفع المركب علمها أن تطالب بتعويض الضرر الذي يصيبها من اتخاذ هذه الإجراءات. أما إذا ثبت للسفينة الحربية أن المركب يشتغل فعلاً بالقرصنة فتلقي القبض عليه وتقوده إلى أحد مواني دولتها لمحاكمة رجاله، ويرجع في تحديد العقوبة التي يقضى بها على القرصان وفي تقرير مصير المركب إلى قانون الدولة التي قبضت عليه. وتراوح هذه العقوبة عادة بين الإعدام والأشغال الشاقة، ومصادرة المركب بما عليه من بضائع، إلا إذا تبين أن هذه البضائع منهوبة من مراكب أخرى وتثبت ملكية أصحابها لها فترد إليهم.
ويجب عند ذكر مراكب القرصنة أن لا يخلط بينها وبين نوع آخر من المراكب المعتدية تعرف «بمراكب التصدي»Corsaines فالأولى تعتدي لحسابها الخاص أي لتحقيق مغانم أو أغراض شخصية؛ فتفقد بذلك حماية الدولة التي كانت تتبعها، في حين تقوم الثانية باسم دولة محاربة تتبعها بالتصدي للمراكب التجارية التابعة لدولة العدو أو لدول محايدة فتأسرها أو تغرقها لأغراض تتصل بالحرب القائمة. وقد كان استعمال «مراكب التصدي» في أثناء الحروب من الأمور الشائعة المباحة فيما مضى. وكان رجالها يعاملون، إذا وقعوا في الأسر على أنهم قراصنة. غير أنه منذ إبرام اتفاقية باريس لتنظيم الحرب البحرية سنة 1856 صار التصدي معدوداً من الأعمال غير المشروعة.
وجريمة القرصنة الدولية لا تقع إلا في عرض البحار. فإذا حصل اعتداء من مركب على آخر في البحر الإقليمي لدولة ما، أو من مركب على شواطئ دولة من الدول، كان العقاب على هذا الاعتداء من اختصاص الدولة التي وقع في مياهها أو شواطئها دون غيرها. وهذه المبادئ مقرة في اتفاقية جنيف لعام 1958(المادتان 15 و16) وجمايكة لعام 1982 (المواد 101-103).
2) الجرف القاري
الامتداد القاري، أو العتبة القارية، أو الإفريز القاري وغيرها.
وكلها مرادفات أو مصطلحات تقابل مصطلح Continental Shelf أوPlateau Continental أي الجرف القاري. وهو التعبير الذي استخدمته اتفاقية جمايكة لعام 1982 من دون التعبيرات الأخرى المرادفة، وذلك للدلالة على منطقة تدخل في نطاق البحر العام، ولكنّ للدول الساحلية حق مباشرة مجموعة من الحقوق عليها.
ويحسن التفريق هنا بصدد الجرف القاري بين اتفاقية جنيف لعام 1958 واتفاقية جمايكة لعام 1982 وذلك للإلمام بالتطور الذي طرأ على النظام القانوني لهذه المنطقة.
1ـ الجرف القاري في ظل اتفاقية جنيف لعام 1958: وفقاً لهذه الاتفاقية عرف الجرف القاري بأنه مناطق قاع البحر وما تحته من طبقات متصلة بالشاطئ تمتد خارج البحر الإقليمي إلى عمق مئتي متر أو إلى ما يتعدى هذا الحد إلى حيث يسمح عمق المياه باستغلال الموارد الطبيعية لهذه المنطقة (المادة1).
إن إفراد النظام القانوني لمنطقة الجرف القاري جاء لمواجهة حقيقة اشتمالها على مساحة تقدر بنحو مليون كم2 تحوي ثروات هائلة من الغاز والبترول والماس والمنغنيز... وغيرها.
ومع أن اتفاقية جنيف لعام 1958 بشأن الجرف القاري كانت أول تنظيم قانوني دولي عالمي لهذه المنطقة فإن الاتفاقية المذكورة لم تحل جميع الإشكالات المتعلقة بهذه المساحات وبالذات تلك الخاصة بتحديد مداه. فالعمق المحدد بمئتي متر غير كاف من ناحية، والسماح باستثمار ما وراء هذا المدى معناه من ناحية أخرى منح الامتياز بموارد المنطقة المذكورة لأكثر الدول تقدماً من الناحيتين التقنية والعلمية من دون بقية الدول. ومع هذه الثغرات فإن الاتفاقية المذكورة وضعت تحديداً لحقوق الدول الشاطئية مع الاحتفاظ بالطبيعة القانونية للمنطقة المزمع تنظيمها والتي هي أصلاً جزء من البحر العام. وهكذا فإن للدولة الشاطئية حق اكتشاف الثروات الطبيعية التي قد تكون في منطقة الجرف القاري واستغلالها، ولها في سبيل تحقيق هذا الهدف تشييد المنشآت وإقامة مناطق أمن تمارس داخلها الاختصاصات المختلفة التي ترتبط بهدف الاكتشاف والاستغلال المشار إليه. ولكن يجب مراعاة الطبيعة القانونية لمنطقة الجرف القاري لكونها جزءاً من البحر العام. لذا يجب أن تتمتع الدول الأخرى بالحقفي ممارسة حريات الملاحة والصيد والبحث العلمي والطيران وغيرها، فالنظام القانوني للمياه والفضاء الذي يعلو الامتداد القاري لا يجوز المساس به.
المصدر: http://sarab.cz.cc/t5236-topic
نشرت فى 7 فبراير 2011
بواسطة investmarine
maha karamallah
ماجستير فى العلاقات الدولية - كلية الحقوق جامعة عين شمس »
أقسام الموقع
ابحث
تسجيل الدخول
عدد زيارات الموقع
34,810
ساحة النقاش