<!--<!--<!--<!--<!--<!--

ماذا نفعل عندما نريد إقناع شخص ما بوجهة نظرنا، سواء كان هذا الشخص صديقاً، أو تلميذاً، أو أي شخص؟ الأغلب أننا نظل ندافع عن وجهة نظرنا مبرزين نقاط القوة فيها، ونقاط الضعف في وجهة النظر الأخري. وتكون النتيجة ما نراه من مستوي متدنٍّ للحوار علي صفحات الفيس بوك وغيره، من سباب وتقليل وسخرية من وجهات النظر المختلفة عنا (مع أن الاختلاف أمر طبيعي جداً!). ونبدأ في التحزب، والتعصب، ثم تضرب الفرقة بجذورها بيننا مع أن الأمر في البداية لم يكن سوي اختلاف في وجهات النظر.

ومع أننا قد نعلم جيداً أن الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية إلا أنه يبدو منا عند التطبيق العملي أننا لا نفهم ذلك جيداً. نعلمه نعم، ولكن نفهمه لا. العلم بالشيء قد تعبر عنه عبارة "حافظ مش فاهم" وهو ما رسخه فينا أسلوب التعليم العقيم الذي تشربناه حوالي 17 سنة في حياتنا، هي عدد سنوات الدراسة المدرسية والجامعية. أما الفهم، فهو أن يصل الأمر إلي عقيدة أو أسلوب تفكير يحكم سلوكك.

ولعلكم تعلمون التجربة التي قام بها الفيلسوف أرسطو لإثبات حقيقة أن كل إنسان يتفاعل مع الأشياء وفق ما يحسه، وأنه لايمكن اتفاق الناس علي نفس الرأي مائة بالمائة، في حين أن اجتماع آراء ناضجة يستطيع تكوين صورة متكاملة. صنع أرسطو مجسماً لفيل بنفس مواصفات الفيل الحقيقي، وطلب من خمسة أشخاص مكفوفي البصر منذ الولادة أن يتحسس كل منهم الفيل ويصفه. فتحسس الأول اليد، وتحسس الثاني الأذن، وتحسس الثالث الخرطوم، وتحسس الرابع البطن، وتحسس الخامس الساق. وطبعاً كان وصف كل واحد للفيل بناء علي الجزء الذي لمسه فقط. ولو أنهم جمعوا أوصافهم لما لمسوا، لأصبحت لديهم صورة متكاملة واضحة
للفيل.

هلا أخبرتكم باكتشاف عن أنفسنا: إننا أحياناً، إن لم يكن غالباً، نتبني رأياً معيناً ونحاول إقناع غيرنا به دون أن نعرف وجهات النظر الأخري، وحجج الآخرين في تبنيها أو الاقتناع بها! وندخل في نقاشاااات وحواراااات (إن كان من الممكن أن نطلق عليها حوارات من الأساس!) دون أن يكون لدينا رغبة حقيقية في الاستماع إلي الآخر. ولماذا لا نستمع؟ أليس من المحتمل أن يكون الحق مع غيري؟ أو أن يكون هناك في منطقة ما بيننا؟ ثم أنه ليست النتيجة الحتمية للاستماع تغيير رأيي، بل علي العكس قد تكون النتيجة مزيد من الإيمان به.

نقطة أخري، وهي أن تغيير الآراء والأفكار ليس كتغيير الملابس مثلاً. تغيير الملابس لا يستغرق سوي دقائق، إنما تغيير الأفكار قد يستغرق دقائق أيضاً، أو ساعات، أو شهوراً، بل وربما سنواتِ حسب عمق هذه الأفكار ومدي تأثيرها في حياة الشخص.

ماذا فعل الأستاذ لتغيير فكر تلميذه؟

وفي الصدد ما نتكلم عنه، دعوني أنقل لكم جزءاً مما قرأته من السيرة الذاتية للدكتور/ جلال أمين "ماذا علمتني الحياة؟" يحكي د. جلال أمين أنه ذهب في بعثة دراسية لإعداد رسالة الماجيستير في إنجلترا. وفي أول لقاء بينه وبين الأستاذ المشرف عليه، حاول أستاذه أن يتبين اتجاهاته الفكرية، فاكتشف أن لديه، آنذاك، ميولاً اشتراكية وماركسية. فقرر الأستاذ - كما يحكي د. جلال أمين - أن أفضل سياسة يتبعها معه أن يتركه عدة شهور يقرأ في أي اتجاه يحب، علي أن يقترح عليه من حين لآخر كتاباً يعتقد أنه يصلح مسار تفكيره.

وفعلاً أخذ يقرأ كما يحلو له، فإذا بكتاب عن الماركسية يقوده إلي كتاب آخر عنها أيضاً أو كتاب ينقدها، فيقوده ذلك إلي قراءة رد الماركسيين علي هذه الانتقادات. وأثناء ذلك، كان أستاذه يرشح له كتباً يقرأها (يبدو لي من أسمائها كما ذكرها في الكتاب أن أستاذه كان يهدف من خلالها إلي تعريضه لوجهات نظر مختلفة). ولم يبدُ من الأستاذ أي ضيق أو غضب من النقاشات التي كانت تجري بينه وبين تلميذه رغم ظهور التلميذ بمظهر من يظن أنه يعرف الحقيقة كاملة.

يقول د. جلال أمين: "ولكن رأيي كان يتغير بالتدريج ودون شعور واعٍ مني. ليس بالضبط بسبب قراءتي لكُتّاب يعادون الماركسية، بل لتعودي خلال هذه الفترة علي قراءة الرأي ونقيضه، ومن ثم اكتشافي أن المسألة لا يمكن أن تكون بالبساطة التي كنت أظنها في البداية، وأن الأمر يحتاج إلي تأمل وروية أكبر مني.... ولم يكن وراء قراءتي خلال هذه الفترة أي هدف غير الوصول إلي الرأي الصحيح في هذه القضية أو تلك."

فماذا كانت نتيجة هذا الأسلوب الذي سلكه الأستاذ لتغيير فكر تلميذه؟

يستكمل د. جلال أمين: "عندما شرعت في اختيار موضوع رسالة الماجيستير، كنت قد بدأت أفقد حماسي للاقتصاد الماركسي، وللماركسية بوجه عام.... أصبحت الآن أري الماركسية كحلقة في سلسلة طويلة من تطور الفكر الاقتصادي، قد تكون أفضل من الحلقات الأخري في أشياء ولكنها أسوأ في أشياء أخري. وراق لي أن يكون موضوع الرسالة المقارنة بين النظريات المختلفة في موضوع الربح." وعندما ذكر موضوع الرسالة لأستاذه "... فإذا به ينظر إليّ من فوق نظارته وقد رفع حاجبيه عالياً... قال لي ما معناه: إنني يجب ألا أستبعد موضوعاً من الكتابة فيه لمجرد أنه لا يشاركني رأيي فيه، وإنني إذا أحببت أن أكتب في الماركسية فإنه لن يرفض. ولكني أكدت له أن هذا الموضوع هو ما أفضل بالفعل الكتابة فيه"

إننا بحاجة إلي الاستماع الحقيقي الذي هدفه الوصول إلي الحقيقة. وكان الإمام الشافعي يقول: "ما ناقشت أحداً إلاَّ أحببت أن يظهر الله الحق على لسانه". إننا بحاجة إلي تقبل الاختلاف، فلو أراد الله أن يخلقنا متشابهين لفعل، ولكنه - سبحانه وتعالي - أراد الاختلاف الذي يجمع ولا يفرق، الذي يثري ويقوي لا يفقر ويضعف. إننا بحاجة إلي الصبر علي الناس، وبحاجة إلي أن نكون عادلين مع أنفسنا وعدم التضييق عليها بإلزامها برأي معين دون أن نأخذ فرصتنا في التعرف علي كل وجهات النظر الأخري واختيار ما تقبله عقولنا.

المصدر: كتاب "ماذا علمتني الحياة؟ - سيرة ذاتية" – جلال أمين – دار الشروق. http://www.aljbor.net/vb/showthread.php?t=31807
  • Currently 85/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
27 تصويتات / 1546 مشاهدة
نشرت فى 28 فبراير 2011 بواسطة hoda-alrafie

ساحة النقاش

عدد زيارات الموقع

47,706