بِسْمِ ?للَّهِ ?لرَّحْمَنِ ?لرَّحِيمِ
بين المصلحة والمنفعة فى مجال التشريع

كتاب اللفه الشيخ /طه الحبيشي



الحمدُ للهِ الذى خلق الإنسانَ وعلمه البيانَ، والصلاةُ والسلامُ عَلَى النَّبِىِّ الأمى أَنزل عليه ربه القرآنَ، وعَلَى آله وصحبه الذين آمنوا به وآزروه ونصروه وفقهوا عنه واتبعوا النورَ الذى أنزل معه، فرضى الله عنهم ورضوا عنه، فعاشوا حياتَهم عاملين مجتهدين، وأقبلوا عَلَى ربهم مخلصين.
نسأل اللهَ أن يُلحقنا بهم فى الآخرين، وأن يجمعَنا وإياهم فى جناتِ النعيمِ وبعدُ.
فلقد شاءَ الله عز وجل أن نعيش عصرًا شهد مجموعةً من الأنظمةِ التشريعية، والطرق الثقافية، كما شهد احتكاكَ هذه الأنظمةِ الثقافية، وتلاقىَ أو افتراقَ أصحاب هذه الأنظمة وحوارهم أو صراعهم عَلَى نحو يجعلُنا أحيانًا نرى أتباع هذه النظم - عَلَى اختلافها - وهم عَلَى وفاقٍ مصطنع أو عَلَى خلاف يتسم بالصراحة والوضوح.
وهم فى خلافهم أو فى تصالحهم قد لا تحكمهم المبادئُ، بقدر ما تحكمهم المصلحةُ أو المنفعة.
شاء الله أن نعيش هَذَا العصرَ بما فيه من تزييف وحقائق تمتزج كلُّها امتزاجًا، يجعل التميز بينها أمرًا عسيرًا يدِق عَلَى أصحاب النظر ورجال الفكر، الذين أفنَوا أعمارهم فى البحث عن السبل التى بها يميزون بين الطيب والخبيث.
وفى هَذَا العصر الذى عشناه، وفى أوائله بالذات رأينا قطبين متصارعين، يدعو أحدهما إلى النظرية الماركسية ويطلبُ تطبيقها عَلَى العالم كله، بحيث تصبح الحاكم الأوحد لجميع سكان المعمورة عَلَى اختلاف مُناخِهم وألوانهم.
أما القطبُ الثانى فإن تابعيه يدعونا إلى نظام سَمَّوْهُ النظام الديمقراطى، وهم يريدون أن يكون هَذَا النظام هو الذى يحكم الدنيا من أقصاها إلى أقصاها، بحيث لا يخرج من نطاقه أحد، وَلاَ يشذ عنه من الأرض فتيل قطمير.
لقد عشنا هَذَا الصراعَ فى أوائل عمرِنا، وأحسسنا أن أصحاب كل نظام ينتظرون اليوم الذى يكون فيه العالمُ محكومًا بشريعةٍ واحدة، وخاضعًا لنظام واحد هو نظامهم الذى يؤمنون به ويعملون من أجله.
وكل نظام من هذين النظامين عَلَى الأقل له ظاهر وباطن.
فظاهر كل نظام أنه يدعو الناسَ إلى ما ينفعهم، ويسوقهم إلى ما يسعدهم، ويحملهم حملاً إلى الفردوس الموعودِ الذى لا طريقَ له إلا هَذَا الخضوعَ المطلق لِهَذَا النظام الذى يدعونه إليه.
وكثيرًا ما ينخدع الناس، أو بعضهم عَلَى الأقل بظاهر ما يدعيه أصحابُ هَذَا النظام أو ذاك.
وكثيرًا ما تحمس رجال من الشعوب التابعة لغيرها لِهَذَا النظام أو ذاك آملاً (مع حسن الظن) أنه يستطيع بِهَذَا النظام الذى اعتنقه أن يكون قائد قومه إلى حل مشكلاتهم الاجتماعية، والوصول بهم إلى سعادة أبدية، فيحمدون له حسن فعله، ويشكرون له ما فعله بهم أيام قيادته.
فرأينا بعضَهم قد رأوا أن نجاة شعوبِهم، وحل مشكلاتهم الاجتماعية لن يكون إلا عَلَى أساس من المبدأ الاشتراكى أو الماركسى فصرخ بين قومه بشعارات هَذَا النظام، وحملهم حملاً عَلَى اتباعه، وتقدم الإعلام يمارس دوره، فصبغ الهواء المحيط بأجمل الصبغ، وصب فى آذان الناس أروع الكلمات، فصفق الجميع لما رأى وسمع.
وأنشئت وظيفة للكرازى والدعوة وتقدم الدعاة لِهَذَا المذهب الماركسى يدعون الناس إليه بحماسة بالغة ونشاط منقطع النظير، ومن ورائهم زحَّافات تسوى لهم الأرض ومن أمامهم جرَّافات تقتلع كل مذهب مخالف، أو دعوة معارضة من قلوب الناس وأدمغتهم، ولو أدى ذلك إلى شق الصدور وقلع الرءوس.
وقد لا يدرك الناس فعل الجرافات، وَلاَ فعل الزحافات، إذ الهواء المغلف للأرض قد طُلى بأحسن الألوان، وصُبغ بأفضل الصبغ، وإذ المناخ الملائم يحيط بالناس فينعشهم أو يسكرهم، فَلاَ يلتفتون وهم فى قمة النشوة وتحت تأثير السُكر إلى شىء من شدة أو قسوة، أو إلى شىء من تزييف وتضليل.
وأيقن البسطاء من الناس أنهم خارجون لا محالة من الشدة التى تطوقهم إلى فضاء الفردوس الموعود، بما فيه من حلو الثمار وراحة النفوس والأبدان.
وما هى إلا سنواتٌ عجاف، حتى وجد الناس أنفسهم وهم يرتطمون بالقاع، فى حفرة عميقة الغور مظلمة الجوانب، فاقدة الهواء لا أمل فيها للنجاة.
ولقد وجد الناس أنفسَهم يصيحون ويبكون أسى عَلَى أيام ملأت أنفسهم بالآمال الكاذبة، تخيلوا معها أنهم يسلكون إلى الخير طريقًا ليس لهم فى الدنيا طريق سواه.
وفى زحمة هَذَا الإغراق وجدوا يدًا أخرى تلمع بالبياض الكاذب تمتد إليهم، وأصحابها يقولون لهم: لا تحزنوا وَلاَ تأسوا عَلَى ما فاتكم، فإن ما وقعتم فيه من خطأ يمكن تداركه، وإن الخطأ الذى يقع فيه الإنسان لا ينهى الدنيا ما دام يمكن أن يتدارك أمره، وأن يسلك إلى غرضه طريقًا يبسًا لا يخاف فيه دركًا من عدد، وَلاَ يخشى فيه ملاحظة من نظام فاسد.
ويستطرد أصحاب هذه اليد التى تلمع ببياض كاذب قائلين: إننا أصحاب هَذَا النظام الديمقراطى الذى سيحكم العالم الجديد، وهو نظام يرد الحكم إلى الشعب، ويمنح الحريات لأصحابها ويحافظ للناس عَلَى حق الحياة، وعَلَى الكرامة والمساواة، وعَلَى الأخوة الإنسانية حتى يصل الإخلاص بين الناس إلى منتهاه، وإلى إتاحة الفرص أمام الناس حتى يخلص كل شقى من شقائه، وينتهى كل إنسان إلى سعادته، ولم يعد هناك مجال للسعود والنحوس باعتبارهما مبدأين يحكمان العالم، وإنما هو النظام المضمون، والحزام الواقى، والكمال الذى يفقد مثله أصحاب الجنان ولو كانوا من سكان الفردوس الأعلى.
كلماتٌ ارتفعت، وأيادٍ بيضاءُ امتدت، انفتح عليهما أعين وآذان أناس ذهب بهم النظام السابق إلى هَذَا المنحدر المظلم الرهيب، فابتسموا للصوت الجديد بما يحمله من قول رشيد، واختلطت دموعهم بضحكاتهم، واستبشروا الِبشْر كله.
وقام الناس من وهدتهم يتبعون الداعى لا عوج له، وينصتون إلى كرازة المذهب الجديد بعد أن سقط صرح المذهب الاشتراكى أو الشيوعى ودالت دولته، وما هى إلا أيام قلائل حتى انكشفت أسرار اليد البيضاء، فوجد الناس فيها سمًا قاتلا، وسلاحًا مدمرًا، صعد إلى السماء نجومًا مصنوعة، ونزل إلى الأرض عناقيد غضب، وملأت ثعالب الصحراء أرجاء الدنيا، وارتفع صوت الرعد مدويًا يهدد بإسكات كل صوت، وتصفية كل جسد ما لم يعلن أصحاب الصوت أنهم تابعون لِهَذَا النظام الجديد بحيث يتم ولاؤهم له، ويزوروا عمن سواه بإخلاص مطلق، وولاء غير مستور.
وفى هَذَا الخضم المضطرب اجتمع دعاة المذهب الاشتراكى، يبحثون لأنفسهم عن مكان ومكانة فى العالم الجديد، فاختاروا أن يعرضوا أنفسهم فى الأسواق، يشتريهم من يشتريهم ولو بالقليل مما يوضع فى القلوب أو فى الجيوب.
وهؤلاء الذين يعرضون أنفسهم فى الأسواق سيعطون كل ضمانة لكل مشترٍ، أنهم لا خوف منهم، فولاؤهم لأسباب أرزاقهم.
وليس هناك فى الأسواق مشترٍ إلا أصحاب هَذَا المذهب الجديد، فتقدم سماسرته لشرائهم عَلَى شرط أن يقوم كل واحد منهم بمهاحمة الأنظمة المخالفة، واصطناع كل وسيلة لِهَذَا الهجوم، فقبل دعاة المذهب البائد أن ينقلبوا دعاة للمذهب الجديد.
وتحدد الإسلام وشريعته، وعقيدته، ورجاله، ونبيه، وأصول تشريعه أهدافًا للرماية.
وعرضت هذه الأهداف عن طريق سماسرة النظام العالمى الجديد عَلَى هؤلاء القوم الذين عرضوا أنفسهم فى الأسواق، فقبلوا العمل فى هذه الميادين، مادامت بطونهم ستملأ بالملذات، وجيوبهم ستملأ بالأموال.
ولكن العمل يحتاج إلى اصطناع شخصيات، وتمثيل أدوار، وَهَذَا الاصطناع وذلك التمثيل يحتاجان إلى شىء من الأموال لتدبير مقومات الشخصية الجديدة، أو الملابس التى ينبغى ارتداؤها لتمثيل كل دور.
وطمأن سماسرة النظام الجديد هؤلاء الذين عرضوا أنفسهم فى الأسواق عَلَى مطالبهم، فالتقت الإرادات وتوافقت الأهواء، وأبرمت المعاهدة وباركها الشيطان.
ومن خلال كتب وأبحاث تبين لأصحاب النظام العالمى الجديد أن الإسلام هو المشكلة، فأعطوا إشارة البدء لهؤلاء الذين تم شراؤهم من الأسواق أن يقوم كل واحد منهم بالدور الذى يناسبه، شريطةَ أن يظهر كل واحد منهم أنه مخلص للإسلام إخلاصًا لم يصل إليه صحابى من صحابة رسول الله e، وَلاَ حوارى من حوارى النَّبِىِّ محمد e، فضلاً عن أن يكون إخلاص تابعى من التابعين.
وقد تعارض النصوص ما يقوله هؤلاء الدعاة وينسبونه للإسلام.
وهذه المعارضة نفسها تشكل معضلة أمام هؤلاء الدعاة، ربما تكشف نياتهم وتفضح زيفهم.
فما الحل؟
وتمخضت عقولُ المكفرين لهذه الدعوة الجديدة عن أن يرفعوا شعار (الاجتهاد فى الإسلام)، ويشوشوا عَلَى الناس حقيقته ومعناه، ويخلطوا بينه وبين الرأى الفج المنعتق من كل ارتباط، والآخذ بالهوى لتضليل العامة والبسطاء.
فظهرت مشاريع مختلفة يعرضها أصحابها عَلَى الناس، نعم.. مشاريع مختلفة، فالحق واحد، والباطل يتعدد: ? قُلْ هَ?ذِهِ سَبِيلِى~أَدْعُواْ إِلَى ?للَّهِ عَلَى? بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ ?تَّبَعَنِى?.
وكان لتعدد هذه المشاريع أثران عظيمان:
أحدهما: أن علماء الأمة قد أصبحوا شبه عاجزين عن ملاحقة هذه المشاريع والرد عليها لكثرتها.
وثانيهما: أن كثرة هذه المشاريع قد أوقعت البسطاء فى شىء من الحيرة، لا يكاد الواحد معها يبصر مواقع أقدامه، لما للفتنة من شدة الوقع.
وهذان الأثران قد أحدثا شيئًا من السرور والرضى فى نفوس أصحاب النظام العالمى الجديد.
غير أن الله عز وجل لم ولن يرضى أن يعبث الناس بالكون الذى خلقه وأبدعه، وَلاَ بالشريعة التى أوحى بها إلى هذه الأمة، وتعهد بحفظها، ووعد أن يمكن لها فى الأرض.
فأصبحت بوادر الأمل تظهر، وأخطاء النظام الجديد تجل عن الحصر حتى أدرك الناس ما فى هَذَا النظام من خطر.
وعما قريب سيدرك الناس بفكرهم أن النظام العالمى الجديد خرافة - وأكذوبة - ووهم، وأنه سيزيد المشكلة الاجتماعية تعقيدًا، وسيبعد بالناس بعدًا شديدًا عما يبتغونه من سعادة، وهم يسيرون نحوه من هدف.
ونحن سنحاول فى هذه الدراسة أن نركز عَلَى الاجتهاد وعما يفهمه فقهاء المسلمين فى قسم مستقل.
ثم نحاول فى القسم الثانى منها أن نعرض إلى نماذج من هذه الاتجاهات المزعومة المضللة، ونسلط الضوء عَلَى عوارها فى مقاصدها وغاياتها، وعَلَى أخطائها فيما تنتهجه إلى هذه الغايات من سبل ومسالك.
والله أسأل أن يجعل الحق عَلَى لساننا، وأن يوفقنا لما يحبه ويرضاه وأن يجعل كلماتنا ناصرة للحق دامغة للباطل، فهو حسبنا ونعم الوكيل، ومنه العون وعليه السداد ومنه التوفيق.
التعريف بالاجتهاد
لقد درج العلماء حين يتصدون إلى موضوعاتهم عَلَى أن يبدأوا أول ما يبدأون من الحديث بتعريف الموضوع الذى يتصدون له.
وفى التعريف الذى يذكر لبيان حقيقة موضوع ما أو علم بعينه، نجد العلماء تحكمهم اللغة من حيث وضعها، ويحكمهم الاصطلاح من حيث تراضى أصحابه.
وليس للغة من معنى يقصدون إليه، إلا ذلك المعنى الذى يضعه الواضع اللغوى بإزاء اللفظ المقصود.
وحين يضع الواضع اللغوى اللفظ بإزاء معناه، يظل هَذَا الارتباط بين ذلك اللفظ وذلك المعنى يلح عَلَى الأذهان، حتى لا يكاد يوجد أحدهما إلا ونجد الأذهان تستحضر الآخر بالضرورة.
وهذه الطريقة التى تحتوى اقتران اللفظ بمعناه، وعرضه عَلَى الأذهان بإلحاح، بحيث إن وجود أحدهما بانفراده يذكر ضرورة بالآخر، قد أطلق عليها مؤخرًا مبدأ الارتباط الشرطى، وهو مبدأ معروف وقد استفاد منه العلماء فى مجالات عدة.
وأما المعنى الاصطلاحى للكلمات: فحقيقته أنه يباح لأهل كل فن أن يتدخلوا فى الألفاظ التى تتصل بموضوع بحث ما أو فن بعينه، فيحُدّوا من دلالاتها عَلَى معناها تحديدًا يجعلها تخالف الدلالة اللغوية شيئًا ما من المخالفة.
وقديما قالوا: إنه لا مشاحة فى الاصطلاح.
والمقصود من هذه العبارة أنه يجوز لأصحابه كل فن أن يضعوا معانٍ بإزاء ألفاظ يختارونها ويصطلحون عليها، ويتداولون معانيهم الخاصة من خلالها.
وليس هناك من شىء يمنع أهل أى فن، وأصحاب أى علم من أن يصطلحوا فيما بينهم عَلَى ربط المعانى بالألفاظ عَلَى نحو ما يريدون.
ولكن هناك شرط ينبغى أن يلتفت الجميع إليه، خاصة أصحاب الفن الواحد، وَهَذَا الشرط هو: أنه إذا اتفق مجموعة من العلماء فى فن معين عَلَى اختصاص بعض الألفاظ بمعان معينة، فإنه لا يجوز لأصحاب هَذَا الفن أن يستعملوا هذه الألفاظ فى غير ما اصطلحوا عليه من الدلالات.
وعلماء أصول الفقه لهم علمهم المختص بهم، ولهم كغيرهم الحق فى أن يصطلحوا عَلَى استعمال ألفاظ بعينها لتدل عَلَى معان خاصة تخالف نوعًا ما من المخالفة هذه المعانى التى وضعها الواضع اللغوى بإزائها.
وإذا تبين هَذَا كله قلنا: إن الباحث لابد أن يبدأ بحثه بذكر تعريف للشىء الذى اعتزم أن يبحث فيه.
وإذا كنا سنعتزم بفضل الله وتوفيقه أن نبحث فى الاجتهاد، فإنه يجب علينا بادئ ذى بدء أن نعرف ما نحن مقبلون عليه تعريفًا يجلى هَذَا الموضوع ويميزه عما سواه.
وسوف نذكر التعريف بضربيه المعهودين للباحثين.
التعريف اللغوى
والتعريف الاصطلاحى
ونحن نقصد من ذكر هذين التعريفيين أن يكون القارئ عَلَى بينة من أمره، بحيث لا يتمكن أحد من تضليله، خاصة فى هَذَا الزمان الذى شاع فيه التلاعب بالألفاظ.
فأنت لا يخفاك أن الجاهلين والمغرضين من الأمة قد يعمدون إلى اللفظ الواحد، فيذكرونه فى كتاباتهم أو حواراتهم بمعان عدة، فإن كانوا من الجاهلين فإن انتقالهم بين هذه المعانى يكون مرتبطًا بجهلهم ضرورة.
وإن كانوا من المغرضين فإن هَذَا الانتقال بين هذه المعانى يكون المقصود من ورائه تضليل الأمة، خاصة الغرّيين منها.
وهذا مبرر كاف يجعلنا نحرص غاية الحرص عَلَى أن نذكر التعريف اللغوى، والتعريف الاصطلاحى جميعًا.
ونحن حين نذكر هَذَا وذاك سنحاول أن نبعد غاية البعد عن التعقيدات اللفظية، التى تنأى بالقارئ عن الفهم، وتبتعد به قليلاً أو كثيرًا عن الإدراك أو الاستيعاب.
ونحن حين نَعِده بأننا سنخفف من التعقيدات اللفظية، فإننا سنحاول أن نفعل ذلك ما استطعنا إليه سبيلا.
والكمال لله وحده.
التعريف اللغوى:
إن الاجتهاد فى اللغة مأخوذ من الكلمة - جَهِدَ - والمصدر من هَذَا الفعل هو - الجهْد والجُهْد - والمادة عَلَى أية حال قبل تصريفها أعنى فى حالتى الفعل والمصدر تدل دلالة واضحة على القدرة، والطاقة، والوسع.
فإذا أردنا أن نتحدث عن الكلمة فى بعض تصاريفها سنجد - ضرورة - أن هناك زيادة فى المعنى تقابل الزيادة التى فى مبنى الكلمة من حيث عدد حروفها، وكيفية ضبط هذه الحروف عَلَى حسب ما يريد المستعْمِل لهذه المادة من أنواع الاشتقاقات.
ومن بين تصاريف هذه الكلمة عنوان هَذَا المبحث (الاجتهاد).
والاجتهاد عند علماء اللغة: يطلق ويراد به: بذل الوسع والمجهود أو بعبارة أخرى أكثر مناسبة نقول: الاجتهاد هو: بذل أقصى الطاقة فى موضوع ما قولاً كان أو فعلا.
وأنت لا يخفاك أن الاجتهاد بالمعنى اللغوى لا يطلق إلا عندما يبذل المجهود إلى أقصى الطاقة، بحيث لا يكون عند الباذل شىء فوق ما بذله يحتفظ به عن قصد أو تقصير.
ولذا لا تقال كلمة(الاجتهاد) إلا بإزاء هَذَا المعنى، فالذى يحمل فى يده حملاً خفيفًا لا يقال له: إنه اجتهد، والذى يجازف بإصدار فتوى دون أن يُجْهد نفسه فى معرفة الحكم من الخطاب الشرعى، وتحديد الموضوع الذى يصلح لإنزال وإسقاط الحكم عليه، بالإضافة إلى معرفة كيفية إنزال الحكم عَلَى موضوعه المعين... إن الذى يفعل ذلك متساهلاً لا يقال له - مجتهد - وَلاَ يقال لفعله هذا: إنه - اجتهاد - لما علمت من أن - الاجتهاد - لا يقال إلا عَلَى كل فعل أو قول بذل فيه صاحبه أقصى الطاقة ومنتهى الوسع، بحيث لا يبقى عنده طاقة يبذلها فى هَذَا الموضوع تسعها قدرته.
وأنت خبير أن تعريف - الاجتهاد - بِهَذَا المعنى اللغوى لا يختص بموضوع بعينه، وَلاَ يرتبط بفن من الفنون، أو علم من العلوم دون سائرها.
وأنا لا أحتاج إلى التنبيه هنا إلى أنه لا يجوز رفع شعار - الاجتهاد- بالمعنى اللغوى أثناء البحث فى علم من العلوم، أو فن من الفنون تدخل أصحابه واصطلحوا عَلَى تحديد هذه الكلمة، ووضعوا لها معنى اصطلاحيًّا خاصًا.
وكثير ما يلتبس عَلَى الباحثين الناشئين هَذَا المعنى الذى أشرت إليه فيستعلمون كلمة - الاجتهاد - فى غير ما يناسبها من مواضع الاستعمال، وهو ما عمت به البلوى فى ذلك الزمان.
التعريف الاصطلاحى:
وأما التعريف الاصطلاحى لكلمة - الاجتهاد - فإنه يستحسن أن أقدم بين يدى هَذَا التعريف بكلمات تكون بمثابة الخلفية له، التى تظهره وتوضح مع هَذَا الإظهار اختلاف العبارات، التى يعرض بها العلماء تعريفهم الاصطلاحى -للاجتهاد -.
وتتلخص هذه الخلفية التى قصدت إليها فى أن أقول: إن بعض العلماء (خاصة علماء الشيعة) يركزون بالغ التركيز عَلَى هذه الملكة التى تتكون عند المجتهد، وتلك الحاسة المدربة التى تورث الفقيه مقدرة خاصة يعتمد عليها فى استنباط الحكم أو إسقاطه عَلَى موضوعه، كما أنها تعينه عَلَى استحضار الأدلة الشرعية والعقلية عَلَى نحو ما يرى المهتمون بإدخال الملكة فى التعريف.
ولو أننا اطلعنا عَلَى تعريف - الاجتهاد - عند هؤلاء لوجدناهم يقولون: إن- الاجتهاد - ملكة تتكون عند المرء فتعينه عَلَى نصب الأدلة العقلية أو النقلية بإزاء مسألة بعينها.
وأنت لا تحتاج منى إلى القول: بأن الملكة لدى المجتهد يَحْسن بها أن تدخل شرطًا من الشروط المؤهلة له كى يشغل هذه المكانة، ودخولها فى التعريف ليس ضروريا بحيث يكون التعريف ناقصًا بدونها، وكاملاً إذا ما أخذت فى الاعتبار عند بنائه.
ولما كان العلماء قد ذهبوا فى تحديدهم لمحل الاجتهاد مذهبهم الواضح والذى يستبعد من ميدان الاجتهاد أمورًا لا يجوز أن تدخل فيه، من نحو المقطوع به من الأحكام أمرًا أو نهيا، والتى تدل عليها الأدلة دلالة قطعية وجدنا الكثيرين من المهتمين بتعريف - الاجتهاد - يأخذون هَذَا المعنى فى تعريفاتهم، محاولين التأكيد عَلَى أن التعريف ينبغى أن يحتوى عَلَى إشارة تدل عَلَى أن - المجتهد - لا يبحث إلا فيما يتاح له البحث فيه من الظنيات، وإشارة أخرى تدل عَلَى أن - المجتهد - لابد وأن يكون واعيًا بأن ما انتهى إليه اجتهاده هو ظنى لا يصل إلى مستوى القطعيات.
ومع ذلك فقد أتت تعريفاتهم المشتملة عَلَى هذه الإشارات غير جامعة عَلَى نحو ما سيتبين لنا.
وسنعرض الآن لنماذج من التعريفات التى وردت عَلَى ألسنة العلماء تمثل ما ذكرناه لك من اتجاهات فكرية.
يقول الإمام أبو حامد الغزالى بعد أن تحدث عن تعريف الاجتهاد لغة بما هو معلوم مما ذكرناه لك و[لكن صار اللفظ فى عرف العلماء مخصوصًا ببذل المجتهد وسعه فى طلب العلم بأحكام الشريعة] (1) .
وهذا التعبير الذى ذكره الإمام الغزالى عَلَى قلة القيود فيه، إلا أن ظاهره يفيد أنه يتناول العلم بالأحكام الشرعية المستخرجة من أدلتها.
وهذا لا يعنى أنه يشتمل عَلَى الاجتهاد فى تطبيق هذه الأحكام عَلَى الوقائع لأن مجرد العلم لا يعنى الأخذ فى مباشرة التطبيق.
وكثيرون من العلماء ينحون هَذَا المنحى ولكن بصراحة أكثر.
يقول صاحب منهاج الوصول فى علم الأصول فى المعنى الاصطلاحى للاجتهاد وهو [استفراغ الجهد فى درك الأحكام الشرعية].
ووافقه البدخشى فى شرحه عليه حيث قال: [وفى الاصطلاح ما ذكره المصنف وسبقه إليه صاحب الحاصل](1) .
ولقد فضل الشيخ محمد باقر الصدر أن يقسم الاجتهاد والمجتهد إلى قسمين أولاً، ثم يعرف كل واحد منها عَلَى حدة بتعريف يخصه.
فقال: [والاجتهاد عَلَى قسمين:
أحدهما كامل، ويسمى ذو الاجتهاد الكامل بالمجتهد المطلق، وهو القدير عَلَى استخراج الحكم الشرعى من دليله المقرر فى مختلف أبواب الفقه.
والآخر ناقص، ويسمى ذو الاجتهاد الناقص بالمتجزئ، وهو الذى اجتهد فى بعض المسائل الشرعية دون بعض فكان قديرًا عَلَى استخراج الحكم الشرعى فى نطاق محدود من المسائل فقط] (2) .
وقال الآمدى: [هو فى الاصطلاح: استفراغ الوسع فى طلب الظن بشىء من الأحكام الشرعية عَلَى وجه يحس من النفس العجز عن المزيد عليه] (1).
وقال ابن الحاجب [هو: استفراغ الفقيه الوسع لتحصيل ظن بحكم شرعى](2).
وهو قريب من الذى قبله.
وينتهى صاحب إرشاد الفحول إلى تعريف المجتهد بأنه هو: [الفقيه المستفرغ لوسعه لتحصيل ظن بحكم شرعى] (3).
والذى يظهر من هذه التعريفات هو أن:- المجتَهد فيه - هو: كل حكم شرعى ليس فيه دليل قطعى عَلَى نحو ما ذكره الآمدى.
وإننا حين نستعرض هذه التعريفات جميعًا نجد أنها تدور كلها عَلَى نوع خاص من الاجتهاد الذى يعنى به الفقهاء، وهو استخراج الحكم الشرعى من دليله المعتبر من غير أن يكون الدليل دالا عليه عَلَى الوجه المقطوع به.
وتعريف الاجتهاد بِهَذَا المعنى وإن كان قد دل عَلَى معناه الخاص، وعلى موضوع بحثه كما بيناه، فإنه لا يشمل الاجتهاد بالمعنى العام الذى يحتوى جميع أقسامه وتفريعاته.
فهو مثلاً لا يندرج تحته الاجتهاد بمعنى إسقاط الحكم عَلَى موضوعه وإنزاله عَلَى الوقائع اليومية عَلَى وجه لا يكون ملزمًا للغير أن يعملوا بمقتضاه، (وهو ما يسمى بالفتوى أو الإفتاء) أو عَلَى وجه ملزم (وهو ما يسمى بالحكم أو القضاء).
والاجتهاد فى إنزال الحكم عَلَى الوقائع مجال خصب ثرى، وهو الآخر يحتاج من الفقيه إلى بذل الوسع واستفراغ الطاقة مع استصحاب الشروط والأدوات المؤهلة لذلك، وأعلاها الملكة التى كونها طول المران وكثرة الممارسات فى هَذَا الميدان، بالإضافة إلى سائر الأدوات الأخرى.
ويبدو أن العلماء قد قصدوا إلى هَذَا التخصيص قصدًا، الأمر الذى يحتاج منا إلى أن ننبه إلى الحاجة إلى تعريف جامع، يشمل هذه الأنواع جميعها، بحيث يمكن معه أن نتحدت بحرية مطلقة عن موضوع الاجتهاد بمعناه العام، وعن أقسامه التى ينقسم إليها، وهى تندرج تحت هَذَا التعريف.
وسوف أحاول هنا أن أقدم تعريفًا من وجهة نظرى أراه وافيًا بالغرض، فإن صلح إلى ما قصدت إليه كان ذلك ما أحب، وإن كان فيه شىء من القصور فليعتبره القارئ الحصيف مشروع تعريف قابل للكمال، بإضافة يضيفها العالم بأسرار هَذَا العلم إلى هَذَا التعريف، ويكون له من الله المثوبة.
والتعريف أو مشروع التعريف الذى أراه صالحًا من وجهة نظرى هو أن نقول:
تعريف الاجتهاد فى الاصطلاح هو: [استفراغ الفقيه طاقته ووسعه فى استخراج الأحكام الشرعية من أدلتها فيما لا دليل قطعى فيه، واستفراغ وسعه كذلك فى إنزال ما توصل إليه من أحكام عَلَى الوقائع عَلَى وجه يلزم المكلف أن يعمل به أولا يلزمه].
وكان لابد أن نذكر هنا قيد - الفقيه - لا ستبعاد غير الفقيه من ساحة البحث الاجتهادى احترامًا للعلم، وصيانة لمسائله.
وليس هَذَا قاصرًا عَلَى الاجتهاد فى مجال الشريعة الإسلامية، وإنما أنت لابد واجده فى كل علم من العلوم عَلَى مستوى بحث علمائه فيه، بقصد كشف الغطاء عن المستورد من مسائله.
فَلاَ يجوز مثلاً أن يجتهد فى علوم الكيمياء إلا الكيميائى، وَلاَ فى مجال وظائف الأعضاء من لم يكن من أهل الفن... والقول عام فى جميع الميادين، لا يستثنى ميدانا منها عَلَى ما تقضى به العادة، وما يشهد به العقل.
وكان لابد كذلك من قيد أن يستفرغ الفقيه وسعه وطاقته، ليخرج كل مقصر أو مستهتر فى مجال البحث لا يهتم ببذل مجهوده وَلاَ يعنى باستفراغ وسعه، فإن نتائجه مع هَذَا التقصير لا قيمة لها فى معيار العلم.
وهذا القيد والذى قبله يخرج بهما جميعًا جميع الأدعياء والدخلاء عَلَى الفن، فإن الواحد منهم حتى ولو استفرغ وسعه فى استخراج الحكم لا يسمى فى عرف الفقه الإسلامى مجتهدًا.
وكان لابد كذلك من أن نشترط أن يكون الاجتهاد فى غير ما فيه دليل قطعى، فكل حكم يكون دليله قطعيًّا لا يحتاج فيه إلى بذل المجهود أو استفراغ الوسع، كوجوب الصلاة والصوم والزكاة والحج... إلخ، وككون الظهر والعصر والعشاء أربعًا، والمغرب ثلاثًا، والصبح اثنتان.
وكل هذه أمور لو ادعى أحدهم بأنه بذل المجهود لاستخراج الحكم من النص فيها، فإن ادعاءه هَذَا يكون فى غير محله، وكان لابد من إضافة أن يكون الاجتهاد أيضًا فى إنزال الحكم عَلَى الوقائع، لكى نستكمل بذلك ميادين الاجتهاد.
فإن كان المجتهد الذى أنزل الحكم عَلَى الواقعة قد أنزله عَلَى وجه ملزم فهو القضاء أو الحكم، وإن كان عَلَى وجه غير ملزم فهى الفتوى أو الإفتاء.
وبفحوى هَذَا التعريف كله يخرج الاجتهاد فى الأمور العقلية واللغوية كما يخرج كل حكم لا يرتبط بعلته أو سببه، كالاجتهاد فى معرفة دخول الوقت، أو تحديد جهة القبلة، أو مايشبه ذلك مما لا يكون استخراجه من نص شرعى.
وهكذا يظهر لك هَذَا التعريف عامًا شاملاً بحكم جنسه، ضابطًا مانعًا بحكم قيوده التى أضيفت إلى هَذَا الجنس.
والتعريف بِهَذَا الجمع والمنع يصلح لاندراج أقسام الاجتهاد تحته.
شروط الاجتهاد
ومما سبق يتبين لك أن ميدان الاجتهاد وموضوع البحث فيه لا يُترك للعشوائية غير المنضبطة، وَلاَ للعفوية الفجة، وإنما هو ميدان منضبط وموضوع مقيد.
وهو مقيد لأنه خاضع لشروط صارمة شأنه فيها كشأن أى علم له ميدان يعمل فيه المتخصصون فيه، وله موضوع للبحث لا يدرك مسائله إلا من أريد له أن تتكامل فيه شروط البحث وأدوات النظر.
ونحن الآن سنذكر قائمة من الشروط لسنا فيها مبتدعين وَلاَ مخترعين، وإنما ذكرها العلماء الأوائل وسار عليها من جاء بعدهم، وهى فى جميع الأحوال مقبولة فى العقل يجيزها كل منطق سليم، وَلاَ يعترض عليها إلا صاحب هوى.
ولقد صدق الأستاذ السنهورى أحد عمالقة العلم فى مصر حيث قال: [إن القول فى دين الله وفى شرائع الأحكام بمجرد استحسان العقل، وما يقدره العقل من المصلحة من غير استناد إلى دليل، لا يكون اجتهادًا فقهيا، وما هو إلا قول بالهوى والتشهى... وما كان اجتهاد السلف الصالح إلا فيما بين أيديهم من نصوص القرآن والسنة، وإذا قرر أحدهم حكما فإنما يقرر ما هداه إليه فهمه وما رأى أنه حكم الله] (1).
ومن خلال هذه النظرة أجدنى مطالبًا أن أضع بين يديك هذه القائمة من الشروط التى يجب توافرها فى المجتهد، والتى تعد ضوابط تصون عملية الاجتهاد.
1- والشروط الأول من هذه الشروط: أنه ينبغى أن يكون المتصدى لعملية الاجتهاد فقيها.
والفقيه لا يكون فقيها إلا إذا كان بالغًا عاقلاً قادرًا عَلَى استفراغ الوسع والطاقة فى مجال بحثه.
وهذه القدرة تلفتنا إلى الحديث عن صفة هامة يجب توفرها فى الفقيه المجتهد، وهى أنه يجب أن يكون صاحب ملكة كونتها فيه الدربة وطول المران.
والملكة كما هو واضح إنما هى حالة للنفس تتصل هنا بالفكر، تعينه عَلَى أداء ما يطلب منه بيسر وسهولة.
وكثير من الناس يدّعون فى مجال الاجتهاد أنهم أصحاب ملكة.
وهذه الدعوى تبقى لونًا من الشقشقة الفارغة ما لم يؤيدها الدليل، وتحسمها البينات، إذ الملكات لا تنشأ فى فراغ، وإنما هى حالة للنفس تنتجها أسبابها.
وأسبابها هنا تأتى فيما نذكره من بقية الشروط التى يستلزمها الاجتهاد باعتبارها أدوات له.
2- ومن الشروط التى لا يستغنى عنها الاجتهاد وَلاَ المجتهد، أن يكون المجتهد عالمًا بنصوص الكتاب الكريم علمًا تامًا، خاصة ما يتصل بآيات التشريع.
ومن هَذَا الشرط يتبين: أن مدعى الاجتهاد دون أن يكون له بصر بنصوص الكتاب، يكون ادعاؤه هَذَا فى حيز الدعاوى المفتقرة إلى أدلتها، لأنه فى مثل هذه الحال فاقد لأهم أدوات الاجتهاد.
وَلاَ يتشدد العلماء فى هَذَا الشرط بحيث يطلبون من المجتهد أن يكون حافظًا لآى القرآن الكريم عن ظهر قلب، وإنما هم يكتفون بأن يكون المجتهد ملمًا بمواقع الآيات التى لها صلة بموضوع بحثه، لا يغفل منها آية، وَلاَ يتعمد إغفالها.
وهنا يستطرد العلماء إلى موضوع طريف، حيث حاول بعضهم أن يذكر عَلَى سبيل الحصر، أن الآيات التى تناولت عملية التشريع فى القرآن الكريم قد انحصرت فى خمسمائة آية، عَلَى نحو ما ذكره أبو حامد الغزالى فى مستصفاه(1) وعلى نحو ما ذكره ابن العربى متابعًا للغزالى فيه.
ودعوى انحصار آيات التشريع فى خمسمائة آية لا تُقبل، إلا إذا كان المقصود هذه الآيات التى خصصت لتنص عَلَى قضايا التشريع عَلَى وجه ظاهر مقطوع به، وإلا فإن الفقهاء رأوا أن نصوص القرآن الكريم ملأى بقضايا التشريع، فمنها: ما يدل عَلَى موضوعه بالظاهر المقطوع به، ومنها: وما يدل عَلَى موضوعه بالفحوى والإشارة الدقيقة.
ولهذا السبب استدرك الشوكانى عَلَى ما ذكره الغزالى وابن العربى من دعوى الانحصار فقال: [... ودعوى الانحصار فى هَذَا المقدار إنما هى باعتبار الظاهر، لِلْقَطع بأن فى الكتاب العزيز من الآيات التى تستخرج منها الأحكام الشرعية أضعاف أضعاف ذلك، بل من له فهم صحيح وتدبر كامل يستخرج الأحكام من الآيات الواردة لمجرد القصص والأمثال، قيل ولعلهم قصدوا بذلك الآيات الدالة عَلَى الأحكام دلالة أولية بالذات لا بطريق التضمن والالتزام.
وقد حكى الماوردى عن بعض أهل العلم أن اقتصار المقتصرين عَلَى العدد المذكور، إنما هو لأنهم رأوا مقاتل بن سليمان أفرد آيات الأحكام فى تصنيف، وجعلها خمسمائة آية.
قال الأستاذ أبو منصور يشترط معرفة ما يتعلق بحكم الشرع وَلاَ يشترط معرفة ما فيها من القصص والمواعظ](1).
ونحن لا نريد مما ذكرناه سلفًا أن يفهم أحد أن الذى يُطلب من الفقيه المجتهد هو مجرد حصر آيات الأحكام والإحاطة بها حفظًا وتلاوة، وإنما هناك علوم للقرآن خادمة له لا يمكن فهم القرآن بدونها، فضلاً عن أن يكون المراد هو استخراج الأحكام الشرعية منها.
3 - وأما الشرط الثالث من شروط الاجتهاد والمجتهد، فهو أن يكون المجتهد عالما بنصوص السنة النبوية الشريفة.
فالسنة كما هو ظاهر هى المصدر الثانى من مصادر التشريع، وَلاَ يمكن فهم التشريع بدونها.
والسنة المنسوبة إلى النَّبِىِّ e سواء كانت قولاً أو فعلاً أو تقريرًا، وما نسب إلى الصحابة مما لا مجال للرأى فيه أمور كلها ترجع إلى الوحى الصحيح، كما يرجع القرآن إلى الوحى من حيث المصدر الحقيقى لهما.
ويجب أن ننبه هنا إلى أنه لما كانت للسنة هذه المكانة تلك الوظيفة، ذهب الشانئون عَلَى الإسلام مذهبًا لا يسعهم سواه، حيث إنهم قد عمدوا إلى السنة يشككون فيها، ويبذلون جهد طاقتهم فى تضليل الناس عن الطريق المؤدى للإيمان بها، والثقة فى حجيتها.
ومهما كان الجهد المبذول من هؤلاء، فإنه فى الحقيقة جهد يبذل فى ميدان لا يصل بهم إلى غايتهم، فالسنة والقرآن معًا داخلان فى مفهوم القول الكريم: ?إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا ?لذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَـ?فِظُونَ? { الحجر: 9 }.
ولقد سبق لنا أن ناقشنا هَذَا الموضوع فى نشرات لنا سبقت قبل ذلك التاريخ بما يغنينا عن الإطالة فيه هنا، وبما يغرينا بالإحالة عليها (1) .
فلننصرف عما قالوه والتعليق عليه، ولننشغل بما نحن منشغلون به.
والسؤال المهم هنا ونحن نعالج قضية السنة باعتبار أن معرفتها وتحصيلها من الأمور المهمة فى تحقيق معنى الاجتهاد فى شخص المجتهد هو أن نقول: ما الذى يجب توافره لدى الفقيه من المعرفة بالسنة كى يعد مجتهدًا؟
وفى الإجابة عَلَى هَذَا السؤال وجدنا العلماء قد اتخذوا طرائق مختلفة وسلكوا مسالك متعددة.
فمنهم من ركز عَلَى حفظ الفقيه لأحاديث الأحكام.
ومنهم من ركز عَلَى إحاطة الفقيه بالكتب الحاوية لأحاديث الأحكام، والخبرة باستعمالها، واستخراج ما يريده منها حين يريد استخراجه.
ومنهم من ركز عَلَى الملكة القادرة عَلَى استنباط الأحكام من الأحاديث الدالة عَلَى هذه الأحكام، والتى هى موضوع استخراج الأحكام الشرعية.
وسوف نحاول أن نخص كل اتجاه من هذه الاتجاهات ببعض العبارات التى تجليه أمام القارئ الحصيف، من غير إطالة مملة أو اختصار مخل.
أما الذين اعتمدوا عَلَى حفظ الفقيه للسنة، واعتبروه شرطًا لحصول الفقيه عَلَى درجة الاجتهاد المعتمدة فى الأمة، فقد اختلفوا فى الكم الواجب حفظه من أحاديث الأحكام لتحقيق مرتبة الاجتهاد.
فأنت ترى كتب أصول الفقه تبين لك أن العلماء من أصحاب هَذَا الاتجاه قد [اختلفوا فى القدر الذى يكفى المجتهد من السنة.
فقيل خمسمائة حديث.
وهذا أعجب ما يقال. فإن الأحاديث التى تؤخذ منها الأحكام الشرعية ألوف مؤلفة.
وقال ابن العربى فى المحصول: هى ثلاثة آلاف.
وقال أبو عَلَى الضرير قلت لأحمد بن حنبل: كم يكفى الرجل من الحديث حتى يمكنه أن يفتى، يكفيه مائة ألف؟
قال: لا
قلت: ثلاثمائة ألف؟
قال: لا
قلت: أربعمائة (يعنى ألفا)؟
قال: لا
قلت: خمسمائة ألف؟
قال: أرجو.
قال بعض أصحابه: هَذَا محمول عَلَى الاحتياط والتغليظ فى الفتيا، أو يكون أراد وصف أكمل الفقهاء].
وأما ما لابد منه من وجهة نظر الإمام أحمد بن حنبل، فقد صرح به تصريحًا جاذمًا حيث قال: [الأصول التى يدور عليها العلم عن النَّبِىِّ e وآله وسلم ينبغى أن تكون ألفًا ومائتين] (1).
وأما الرأى القائل باكتفاء الفقيه بما يجوزه من الكتب التى تحتوى أحاديث الأحكام، وقدرته عَلَى استخراج الأحاديث التى تتصل بمسألة بحثه منها، فهم كثيرون.
والذى يظهر لنا من عبارات الرازى أنه من القائلين بِهَذَا الرأى، الآخذين بِهَذَا الاتجاه، حيث قال معلقًا عَلَى وجوب الإحاطة بأحاديث الأحكام: [لا يشترط استحضار جميع ما ورد فى ذلك الباب إذ لا يمكن الإحاطة به ولو تُصورّ لما حضر فى ذهنه عند الاجتهاد جميع ما روى].
ويعد الغزالى هو صاحب هَذَا الاتجاه والذى تحمس له تحمسًا شديداً.
فهو يرى أن الفقيه المجتهد يكفيه أن يحوز الكتب التى تحتوى أحاديث الأحكام، ويعفيه من الحفظ لهذه الأحاديث، كما يعفيه من باب أولى من حفظ أو حيازة الأحاديث التى لا صلة لها بالأحكام أو التشريع.
ودونك عبارته التى شرح بها رأيه، وأبان بها عن اتجاهه.
قال: [... وأما السنة فلابد من معرفة الأحاديث التى تتعلق بالأحكام، وهى وإن كانت زائدة عَلَى ألوف فهى محصورة وفيها التخفيفان المذكوران، إذ لا يلزمه معرفة ما يتعلق من الأحاديث بالمواعظ وأحكام الآخرة وغيرها، الثانى لا يلزمه حفظها عن ظهر قلبه، بل أن يكون عنده أصل مصحح لجميع الأحاديث المتعلقة بالأحكام كسنن أبى داود، ومعرفة السنن لأحمد والبيهقى، أو أصل وقعت العناية فيه بجميع الأحاديث المتعلقة بالأحكام، ويكفيه أن يعرف مواقع كل باب فيراجعه وقت الحاجة إلى الفتوى وإن كان يقدر عَلَى حفظه فهو أحسن وأكمل].(1)
ولقد قال الشوكانى معلقًا عَلَى ما ذكره الغزالى: [.. وتبعه عَلَى ذلك الرافعى.
ونازعه النووى وقال: لا يصح التمثيل بسنن أبى داود فإنها لم تستوعب الصحيح من أحاديث الأحكام وَلاَ معظمها.
وكم فى صحيح البخارى ومسلم من حديث حكمى ليس فى سنن أبى داود؟‍
وكذا قال ابن دقيق العيد فى شرح العنوان: التمثيل بسنن أبى داود ليس
بجيد عندنا لوجهين:
الأول: أنها لا تحوى السنن المحتاج إليها.
الثانى: أن فى بعضها ما لا يحتج به فى الأحكام.
وإننا حين نتأمل فيما ذكره النووى وابن دقيق العيد فى التحفظ عَلَى ما ذكره الإمام الغزالى، لا يسعنا إلا أن نقول: إن فى كلام العالمين الجليلين نظر.
ذلك أن ما ذكره النووى وابن دقيق العيد لا يتصل بالمبدأ أو الرأى الذى ارتآه الإمام الغزالى، وإنما اتصل كلامهما بما ذكره من كتب للتمثيل.
وكنا نود أن يكون التعليق عَلَى ما ارتآه الإمام الغزالى من رأى فى الإجابة عَلَى السؤال القائل: ما الذى يحتاج إليه الفقيه لكى يكون مجتهدًا؟
ورأى الإمام الغزالى فى هَذَا الشأن واضح.
ولو أنه أخطأ فى ذكر كتاب للتمثيل فإن الخطأ فى المثال لا يعنى رفع القاعدة، وَلاَ يستلزم خطأ الأصل الذى يريد أن يشرحه بما يريد من مثال.
والشوكانى يعلق عَلَى الاتجاهين السابقين بعبارة موجزة يقول فيها: [وَلاَ يخفاك أن كلام أهل العلم فى هَذَا الباب بعضه من قبيل الإفراط، وبعضه من قبيل التفريط] (1).
وهذه العبارة عَلَى إيجازها تحكم عَلَى الاتجاه الأول الذى يتزعمه الإمام أحمد بن حنبل بالإفراط، ربما لما يعتقده الشوكانى وغيره من أن رأى أحمد بن حنبل لا يتحقق إلا فى آحاد من الناس، قد لا يتوفرون فى كل عصر، الواحد بعد الواحد.
وهى حاكمة عَلَى الاتجاه الثانى الذى يتزعمه الإمام الغزالى بالتفريط والتساهل، الذى يفتح الباب أمام الأدعياء الذين يدعون أنهم من أهل الاجتهاد، وهم فى الحقيقة من الذين قلت بضاعتهم فى العلم، وعجزت ملكاتهم عن أن تصل بهم إلى أول عتبات الاجتهاد.
أما أصحاب الرأى الثالث: فهم أولئك النفر الذين يهتمون بالملكة التى تتكون عند صاحبها من طول المران وكثرة الدربة، عَلَى استخراج الأحكام من النصوص.
وقد تحدثنا سلفًا عن أن كثيرًا من العلماء فى هَذَا الفن يهتمون بهذه الملكة اهتمامًا شديدًا، باعتبارها أحد الشروط الفاعلة فى الوصول بالفقيه إلى مرتبة الاجتهاد.
ومن أصحاب هَذَا الاتجاه الإمام الشوكانى نفسه فهو القائل: [والحق الذى لا شك فيه وَلاَ شبهة أن المجتهد لابد أن يكون عالما بما اشتملت عليه مجاميع السنة التى صنفها أهل الفن كالأمهات الست وما يلحق، بها مشرفًا عَلَى ما اشتملت عليه المسانيد والمستخرجات، والكتب التى التزم مصنفوها الصحة وَلاَ يشترط فى هَذَا أن تكون محفوظة له مستحضرة فى ذهنه بل يكون ممن يتمكن من استخراجها من مواضعها بالبحث عنها عند الحاجة إلى ذلك، وأن يكون ممن له تمييز بين الصحيح منها والحسن والضعيف، بحيث يعرف حال رجال الإسناد معرفة يتمكن بها من الحكم عَلَى الحديث بأحد الأوصاف المذكورة، وليس من شرط ذلك أن يكون حافظًا لحال الرجال عن ظهر قلب، بل المعتبر أن يتمكن بالبحث فى كتب الجرح والتعديل من معرفة حال الرجال، مع كونه ممن له معرفة تامة بما يوجب الجرح وما لا يوجبه من الأسباب، وما هو مقبول منها، وما هو مردود، وما هو قادح من العلل وما هو غير قادح] (1).
وكلام الشوكانى لو لم نقرؤه عَلَى هَذَا النحو الذى قرأته به لما كان فيه أى جديد يذكر، بل إنه سيكون مجرد رجع لصدى صوت صدر عن الإمام الغزالى من قبل، يحمل عبارات تصور رأيه وإجابته عن السؤال المطروح وهو: (ما الذى يجب عَلَى الفقيه أن يكون عليه من السنة لكى يكون مجتهدًا؟)
على أننى حين قرأت عبارة الشوكانى وتحملت منها ما تحملت من الفهم لها، لم أكن مجاملاً للرجل أو منقذًا له من تهمة ادعاء أن له موقفًا جديدًا، وهو قائل برأى بعض القدماء، فعبارته ظاهرة الدلالة عَلَى ما ذهبنا إليه من الفهم.
وما ذكرته هنا متصلاً بعبارة الشوكانى لا يعنى أنى أتحمس لرأيه، كما لا يعنى أنى رافض له.
لكنى لا يفوتنى هنا أن أقول: إن الملكة عنصر فى مكونات شخصية المجتهد، يتقدم هذه الشروط التى نشترطها كى تكون أدوات للمجتهد، لا يستطيع أن يشغل درجة الاجتهاد بغياب شىء منها حتى ولو توفرت الملكة له.
ولو أننا أسقطنا من عبارات الشوكانى هَذَا التركيز الشديد عَلَى الملكة لجاء حديثه مركزًا عَلَى ما يطلب من الفقيه أن يكون عليه من السنة النبوية الشريفة، ويكون رأى الشوكانى فى هذه الحال عَلَى علاقة التطابق مع رأى الإمام الغزالى، بقطع النظر عن هذه الملاحظات التى تتصل بما ذكره الإمام الغزالى من التمثيل ببعض الكتب، كسنن أبى داود وغيره.
وهكذا يتضح أن العلماء جميعًا عَلَى رأى واحد جازم خلاصته: أن السنة مصدر من مصادر التشريع، ولها مكانتها العليا التى تلى القرآن فى المرتبة، وتشارك القرآن من حيث أن مصدرهما جميعًا هو الوحى الإلهى.
فيجب أن نتنبه إلى ذلك فى عصر ارتعدت فيه ضمائر المسلمين فرقًا مما يقوله أناس صفتهم الأساسية أنهم شانئون عَلَى الإسلام، وأنهم يعملون لحساب جهات استعملتهم عَلَى ملء البطون والجيوب، وإشباع الغرائز والعواطف.
والله المستعان.
4 - وأما الشرط الرابع من الشروط التى يجب توفرها فى المجتهد، فهو أن يكون عالما بمواضع الإجماع ومواضع الاختلاف.
وهذا شرط ينبغى تحققه فيمن يتصدى لعملية الاجتهاد، سواء كان من القائلين بحجية الإجماع، أم كان من الذين لا يقولون بذلك.
ونحن لا نلتفت إلى القيد الذى ذكره صاحب إرشاد الفحول هنا حيث قال: [الشرط الثانى: أن يكون عارفًا بمسائل الإجماع حتى لا يفتى بخلاف ما وقع الإجماع عليه، إن كان ممن يقول بحجية الإجماع ويرى أنه دليل شرعى](1).
إننا لا نلتفت إلى هَذَا القيد لأن معرفة مواقع الإجماع شرط فى المجتهد، سواء أكان من القائلين بحجية الإجماع، أم كان ممن لا يقولون بذلك.
لأننا حين نشترط معرفة الفقيه المجتهد بمواقع الإجماع لكى يكون مجتهدًا، إنما نقصد بذلك أن يتحقق المجتهد عند الفتيا أنه لا يخالف فى مسألة أجمعت الأمة عليها، فإن وقعت له المخالفة فعليه أن يدافع عن رأيه وأن يبرر لِهَذَا الرأى ارتآه فى مواجهة الإجماع الصارم.
الأمور التى وقع الإجماع عليها كثيرة، وهى لا تخفى عَلَى المجتهد.
ومن أمثلتها:
أصول الفرائض، فإن الأخبار قد تواترت بالإجماع عليها.
وأصول المواريث، فإن الإجماع قد انعقد عليها.
والمحرمات التى جاء بها القرآن وجاءت بها السنة، قد انعقد الإجماع عليها.
إلى غير ذلك من الأشياء التى أجمع العلماء عليها فى عصر الصحابة وما تلاه من العصور.
وأنا أحب أن أسجل هنا أمرين:
أحدهما: أن كثيرين من العلماء قد خففوا عَلَى المجتهد فى وجوب إحاطته بما أجمعت عليه الأمة، فقالوا: إنه لا يشترط أن يحفظ مواضع الإجماع عن ظهر قلبه، وإنما يكفيه أن يكون عليما بها، قادرًا عَلَى استحضارها من أماكنها
حين يحتاج إلى استحضارها، خاصة فيما يتصل بالمسألة أو المسائل التى يريد بحثها.
قال فى المستصفى: [والتخفيف فى هَذَا الأصل أنه لا يلزمه أن يحفظ جميع مواقع الإجماع والخلاف، بل كل مسألة يفتى فيها فينبغى أن يعلم أن فتواه ليس مخالفًا للإجماع، إما بأن يعلم أنه موافق مذهبًا من مذاهب العلماء أيهم كان، أو يعلم أن هذه واقعة متولدة فى العصر لم يكن لأهل الإجماع فيها خوض] (1).
وثانيها: أن اشتراط إحاطة المجتهد بمواضع الإجماع يعتبر محل اتفاق بين جميع العلماء.
يقول الشيخ محمد أبو زهرة: [إن معرفة مواضع الإجماع شرط بالاتفاق](2).
هذا وإن كثيرين من العلماء يشترطون فى المجتهد أن يكون عالما بمواضع الاختلاف عَلَى ما هو ظاهر لعنوان الذى وضعناه لهذه الفقرة.
ومعنى أن يكون الفقيه عالما بمواضع الاختلاف، خاصة فى المسألة التى هى موضوع بحثه، أن يكون الفقيه المجتهد قد وقف عَلَى الآراء المختلفة فى المسألة الواحدة، كما يكون قد وقف عَلَى الأدلة المسانده لكل رأى، وعلى كيفية استنباط الحكم المؤيد لِهَذَا الرأى من الأدلة الشرعية.
ووقوف المجتهد عَلَى الرأى والرأى المخالف فى المسألة الواحدة يزيد الحق ظهورًا وجلاءً كما يزيد الفقيه المجتهد نوعًا من الدربة ترفع درجة الاستعداد فى ملكته، فترتفع لذلك بصيرته.
قال الشافعى: [لا يمتنع من الاستماع لمن خالفه، لأنه كان يتنبه بالاستماع لترك الفعلة، ويزاد به تثبيتًا فيما اعتقد من الصواب، وعليه فى ذلك بلوغ غاية جهده والإنصاف من نفسه، حتى يعرف من أين قال ما يقول وترك ما يترك، وَلاَ يكون بما قال أعنى منه بما خالف، حتى يعرف فضل ما يصير إليه عَلَى ما يترك إن شاء الله].
ولقد كان الإمام أبو حنيفة حريصًا كل الحرص عَلَى أن يستوعب رأى مخالفه، ويقف عَلَى دقائقه، ليستنير به الحق أمامه، وليطمئن إلى سلامة رأيه، إن لم يجد فى رأى مخالفه ما يستحق الرد.
[وكان الإمام مالك إذا التقى بتلاميذ أبى حنيفة سألهم عما كان يقول أبو حنيفة فى المسائل التى تعرض فى أثناء دراسته] (1).
وهكذا يتبين لنا حرص علماء الأمة الإسلامية عَلَى احترام الرأى المخالف، لا باعتبار هَذَا الاحترام سلوكًا خلقيا فحسب، ولكنهم اعتبروه ضرورة، وشرطًا اشترطوه لكى يعين الفقيه عَلَى تصفية نفسه، ويساعده أن يحملها عَلَى الدربة التى تؤدى إلى زيادة كمال فى الملكة.
وبحمد الله وتوفيقه للأمة قد تهيأ لها أن خلف علماؤها كتبًا كثيرة فى الفقه المقارن، تذكر المسألة وتذكر المختلفين فيها، تعرض آراءهم وتسوق أدلتهم، ويحاول صاحب كل كتاب أن يرجح بين هذه الأدلة ليترجح له الرأى المختار.
وأنت واجد هذه الكتب فى المكتبات بغير حصر، كالمغنى لابن قدامة الحنبلى، وبدائع الصنائع ومؤلفه حنفى، وغير ذلك مما لا نطيل الكلام به.
على أن هناك كتبًا ألفها الحنفية يبينون فيها الخلاف الواقع بين علمائهم وعلماء الشافعية فى جميع المسائل

المصدر: كتاب اللفه الشيخ /طه الحبيشي

التحميلات المرفقة

hazemabdrad

حازم ابوحبيشي

  • Currently 20/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
6 تصويتات / 1067 مشاهدة
نشرت فى 20 إبريل 2011 بواسطة hazemabdrad

ساحة النقاش

حازم علي بكرحبيشي

hazemabdrad
الباحث الاجتماعي/حازم ابوحبيشي »

تسجيل الدخول

ابحث

عدد زيارات الموقع

595,908