كتاب اللفة الشيخ طه الحبيشي


إن قيل زرتم فيما رجعتم   ؟     يا أكرم الخلق ما نقولُ
قولوا رجعنا بكل خيرٍ          واجتمع الفرع والأصول

تأملات تحت سماء المدينة المنورة


لقد من الله علينا حيث قبل النبي ضيافتنا في المدينة المنورة بدءاً من يوم الأحد الحادي والعشرين من شهر مايو بعد أن من الله علينا قبل ذلك بزيارة بيته الحرام.
ولم يشأ الله أن يكون لدينا من الفراغ وسعة الوقت ما نكتب من خلاله تأملاتنا ونحن في أم القرى، وكان ذلك لضيق الوقت الذي قضيناه ونحن ضيوف على الله في بيته الحرام، حيث شاء الله أن تمتلئ أوقاتنا بأمور يعلمها هو ونسأله المثوبة عليها.
شاء الله أن نصل إلى حرم رسول الله وفي ضيافته مساء يوم الأحد في التاريخ المذكور أعلاه.
وما من أحد يدعوه رسول الله إلى ضيافته إلا ويجد التيسير بصاحبه إذا أخلص النية لله، وإذا امتلأ قلبه بالمحبة لله ولرسوله .
وإن المرء الذي هذه صفته ليجد في المدينة منذ أول عهده بها هذا الأنس الذي لا يخطئه شعوره، وهذا الود الذي لا تخطئه نفسه، وهذه الطمأنينة التي لا يخطئها قلبه.
فالمرء الذي هذه صفته إذا نزل إلى المدينة لأول عهده بها لا يجد غرابة في هذا البنيان الذي يحيط به ، ولا في هذه الطرق التي يَدْرَج عليها، ولا في هذه السماء التي تظله، ولا في هذه الأرض التي تقله.
ومع أن الطبيعة مختلفة من حيثيات كثيرة عن الطبيعة التي نشأ عليها هذا الزائر، وتربى بين أحضانها، إلا أن الأنس، وهذه الطمأنينة، وذلك الود أمور لا يختلف عليها اثنان من زوار هذه البقعة التي يعرفها المسلمون باسم المدينة المنورة، وحقيقة أنوارها ليست تتمثل في هذا النور المادي الذي للبشر فيه دخل، وإنما حقيقته في هذا النور الذي نستشعره في القلوب وتتمتع به الأرواح، وإذا رضى الله عن قوم متعهم في دنياهم وأخراهم.
1ـ التأمل الأول
المدينة بين الاسم والصفة
وإذا كان لي أن أعرض تأملاتي وأنا تحت سماء طيبة وعلى أرضها، فإني أبدؤك وأبدأ نفسي بهذا التأمل الذي أخذني إلى موضوعه أخذاً شديداً.
وموضوع هذا التأمل هو هذا الاسم من أسماء يثرب وهو: ( المدينة ).
والمدينة كلمة قد عرفها علماء الاجتماع، وعلماء السياسة، والإداريين في كل دولة أو أمة، هؤلاء جميعاً قد عرفوا كلمة (المدينة) وصفاً يقابله القرية، أو النجع، أو الكفر، أو ما شئت أو شاء لك هواك من الأسماء التي تطلق على التجمعات ناقصة الخصائص والخدمات التي يحتاج إليها أبناؤها.
إن ( المدينة ) في مفهوم الباحثين والإداريين، إنما تطلق على نوع من التجمع العمراني اكتملت فيه خصائص معينة اشترطها هؤلاء المتخصصون، بحيث إذا اجتمعت لنوع ما من التجمع العمراني على أرض معينة استحقت هذه البقعة وصف (المدينة).
واللغة العربية تقسم الأسماء من حيث دلالتها على معانيها إلى ثلاثة أقسام.
فإذا وضع الاسم ليدل على خسة أو رفعة، كان هذا الاسم لقباً .
وإذا بدئ الاسم بأب أو أم ، أو بنت أو ابن ، كان هذا الاسم لقباً .
وهذان الاسمان على كل حال يندرج تحتهما أفراد كثيرون، بحيث لا يصح لفرد واحد أن يدعي حيازته لهذا الاسم، واختصاصه بمسماه.
ومع ذلك فإن اللغة العربية قد اتسع صدرها لنوع آخر من الأسماء، كل واحد منها يُعين مسماه بغير واسطة لاختصاصه به، ودورانه معه، وكأن المسمى قد حاز هذا الاسم وتملكه.
وهذا النوع من الأسماء يسمى ( علماً ).
وفي إطار هذه المعاني اللغوية يمكن أن ندرج اسم (المدينة) وأن نصنِّفه ضمن قسم اللقب، فهو يفيد رفعة هذا المكان الذي يُطلب عليه، لأنه قد جمع مجموعة من الخواص لا توجد في غيره من التجمعات الأخرى.
هكذا يفهم اللغويون، وهكذا يقدر اللغويون على نظم اسم (المدينة) في سلك نوع اللقب.
ولم يفعل اللغويون ذلك، ولم يذهب اللغويون إلى هذا المذهب، إلا بعد أن قدم لهم علماء الاجتماع، وفقهاء السياسة، ومجموعة الإداريين هذا الاسم مرتبطاً بمسماه الذي يدل عليه.
أما مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد تأبت وترفعت على ما فهمه اللغويون، وعلى ما فهمه علماء الاجتماع، وفقهاء السياسة ، وأساتذة النظام من الإداريين.
لقد شاء الله لمدينة رسول الله أن تشارك جميع المدن على وجه الأرض وعبر التاريخ، ف أن يكون اسم (المدينة) لها لقباً، ولكنها في نفس الوقت انفردت بأن يكون اسم المدينة لها علماً مشُخَّصا حازته هذه البقعة من الأرض وتملكته، بحيث إذا أطلقت كلمة (المدينة) فإنها تعين مسماها بغير واسطة.
وهكذا تكون (المدينة) قد استحوزت على عالمية الاسم، لا يشاركها فيه غيرها.
وهكذا تكون (يثرب أو طيبة) قد شاركت جميع المدن في اسم (المدينة) باعتباره صفة.
ولكن ، لو أن كل مدينة قد ألقت بما أهلها لاستحقاق اسم المدينة صفة، وألقت بأسباب الحضارة ضمن ما تجمعه من خواصها، وجدنا طيبة تأتي بكل الخواص التي هي للمدن الأخرى، والتي جعل الله لها منها نصيباً، فاستحقت بذلك المشاركة في الوصف.
ولكن مدينة رسول الله قد أظهرت في محافل التقييم بين المدن خاصية أخرى، دارت على أساس منها هذه الحضارة التي تقوم على ساقين، وتبصر بعينين، وتزن نفسها وغيرها على ميزان الشعرة الدقيق المعتدلة كفتاه، والمنضبط لسان الميزان فيه بضوابط العدل الإلهية.
لقد أخرجت مدينة رسول الله خاصية طاولت بها السماء، وفاقت بها كل بقعة على الأرض.
لقد أظهرت طيبة في محافل التقدير أن فيها قبر ضم أفضل روح وأطهر جثمان، هذا القبر قد أجمع العلماء جميعاً على أنه أطهر بقعة في الأرض، وأطهر بقعة في السماء، ومحتوى هذا القبر من الجسد والروح (إن صح التعبير) مخلوقٌ لربه، ولكنه مخلوق قد أوحى الله إليه بما به تسمو البشرية " قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويديهم إلى صراط مستقيم " (المائدة).
إنه مخلوق قد خلقه الله نعم. ولكن الله قد خلقه ، وجعل له الساميات من الأخلاق مركباً يزهو به مركبه " وإنك لعلى خلق عظيم " وما أجمل هذا العلو وما أسمى المعلو عليه، ولما لا. وهو الذي
تتباهى ربك العصور وتسمو بك علياءٌ بعدها علياء
لك ذات العلوم من عالِمَ الغيب ومنها لآدم الأسماء
أخرجت المدينة خاصيتها تلك بعد ما وقفت جميع المدن على خط الانطلاق عند السباق، وغازت الرّكب.
فمن يطاول المدينة في خاصيتها هذه حين اجتمعت المدن في معارض التقدير والترجيح.
لقد حازت مدينة رسول الله قصب السبق حين عُرض اسم (المدينة) وصفاً ولقبا، حيث شاركت جميع المدن في خواصها الخيرة، ونفضت عنها السيئ من الخواص، ثم انفردت بما يخصها حيث قالت : عندي نبيٌ هو خاتم المرسلين ، وسيد الخلق أجمعين، وباعث الحضارة في كل أمة، ولها ساقان، وهي تتمتع بعينين تبصران.
تراجعت جميع المدن أمام سبق مدينة رسول الله .
فماذا عسى أن يكون لطيبة في معارض السباق، إذا عرضت كلمة (المدينة) علماً ؟
حين عُرضت كلمة (المدينة) على أنها علم يعين مسماه من غير واسطة، لم تتقدم بقعة من الأرض قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم ، تدعى حيازة هذا الاسم لها.
وحين عُرضت كلمة (المدينة) على أنها علم يعين مسماه من غير واسطة لم تتقدم بقعة من الأرض بعد هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، تدعي ملكية هذا الاسم واختصاصه بها.
وسيدوم هذا الحال بمشيئة الله إلى أن تقوم الساعة أبداً بغير انقطاع.
وسيبقى هذا الاسم (المدينة) لا يُعَين إلا مسمىَّ واحد يكون علماً عليه، إلا هذه البقعة من أرض العرب بين هاتين اللابتين المعروفتين، وما عسى أن يكون لها من توابع فوق هاتين اللا بتين أو خلفهما.
وبناءً على هذا النوع من الاختصاص فإنه إذا أُطلقت كلمة (المدينة) علماً في أي مكان من أرض الله، فإن الذهن ينصرف تلقائياً على مدينة رسول الله.
وتلك ميزة لها نظائر وأشباه، ولها أمثال في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تزيد على أن تكون خصائص قد اختصها الله بها وحجبها عن غيره.
فأنت تستطيع مثلاً أن تتأمل في أسماء رسول الله ، وأنت واجدٌ إن شاء الله حين تتأمل في أسماء رسول الله أن أكثر أسمائه شهرة قد احتجزها الله عز وجل له.
وأنت واجد إن شاء الله كذلك أن هذه الأسماء الشهيرة من أسمائه صلى الله عليه وسلم، إنما نقلت من العلمية إلى الصفات .
ودونك هذه الأمثلة من أسمائه الشريفة.
فمن أسمائه أنه (محمد).
و (محمدٌ) اسم مفعول من الحمد.
واسم المفعول هو اسم يدل على الذات وعلى وصف وقع على هذه الذات، أي أنه باختصار شديد اسم يدل على ذات وصفة.
و(محمد) بهذا المعنى من الأسماء الشريفة، فالموصوف به ذاتٌ محمودة.
وأنا وأنت وغيرنا نعلم من التاريخ أن جدَّه (عبد المطلب) حين سماه بهذا الاسم، التفت إلى ما فيه من معنى الصفة، فلما اندهش قومه لغرابة هذا الاسم، وأنه اسم جديد لا نظير له في الآباء ولا الأجداد، وكلموا جده في ذلك، لم يزد على أن لفتهم إلى ما في هذا الاسم من معنى الصفة، فقال: "سميته محمداً ليكون محموداً في الأرض محموداً في السماء " ، أو قال : " سميته محمداً ليحمده أهل الأرض وأهل السماء " .
وهذه الصفة الآن ربما يشارك النبي فيها غيره، ولكن النبي ينفرد بأنه إذا حمد في الأرض على اختلاف أنواع الموجودات فيها، حمد حقيقة ولم يُحمد نفاقاً ، ثم إنه ينفرد بعد ذلك بمحامد أهل السماء، وبمحامد رب الأرض والسماء، وبمحامد غير المكلفين من الموجودات أو الأشياء.
ثم يبقى أن يكون لفظ (محمد) علماً على النبي قد احتجزه الله عز وجل له، من يوم أن خلق الأرض والسموات إلى يوم أن سُمى النبي بعد ميلاده به.
وأنت تعجب غاية العجب أن العرب والعجم جميعاً يعرفون مادة الحمد، ولم يلتف أحد من الناس إلى أن يشتق لنفسه أو لعقبه منها اسم (محمد)، ولم يعرف واحد منهم أن هذا الاسم إنما قد احتجزه الله لنبيه، لم يتسمَ به أحد قبله، فيما عدا من سنشير إليهم قريبا.
أما بعد أن تسمىّ به النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما بعد أن أذن النبي صلى الله عليه وسلم للناس أن يتسموا به، حيث جاء فيما هو المشهور عنه: " خير الأسماء ما عبِّد أو حمدِّ " .
أما بعد هذا فقد صار يسمي الواحد منهم ابنه محمداً تفاؤلاً وبركة وأسوة.
ولقد شهد التاريخ فترة قبيل مولد رسول الله نشط فيها أهل الكتاب، يبشرون بنبيٍ طلع نجمه، وقرب زمانه، واسمه (محمد)، حينئذٍ طمع بعض الحالمين من العرب أن يكون هذا النبي في عقبه، فسمى ابنه محمداً.
ولقد كان هؤلاء الذين تسموا محمداً قبل ميلاده في حكم الندرة أوصل عدَدَهم بعض المؤرخين في أقصى ما احتملوه ستة عشر رجلا، أكثرهم من الذين لا تشهد لهم سيرتهم.
ومن أسماء النبي المشهورة : (أحمد).
وهو اسم علمٌ كذلك من مادة (الحمد) ، وهو على هيأة الصفة المُشَبهَة.
و (أحمد) هذه صفة تدل على ذات وقع منها الحمد كثيراً، بحكم الوزن الذي صيغت عليه (أحمد).
والنبي بحكم هذا الاسم قد يشاركه غيره، ولكن يبقى النبي ينفرد بأنه ما من أحد في الوجود كان له عليه يدٌ إلا وقد كافأه بها، واستثناء أبي بكر كان من باب جبر الخاطر، وإلا فإن أبا بكر نفسه يعلم بأنه قد كوفئ بما لا مزيد عليه.
ويبقى النبي صلى الله عليه وسلم أكثر الناس حمداً لربه، ورعاية لشرعه، وتقديراً لخالقه حق قدره.
فلما تحول هذا الاسم (أحمد) من الصفة إلى العلم، احتجزه الله عز وجل من أول الوجود إلى مولد حبيبه ( محمد) للنبي ، لم يتسمَّ به أحد قبله، ثم أذن ـ على ما رأيت ـ للناس بعد ذلك أن يتسموا بهذا الاسم.
ولقد حاول علماء التاريخ أن يبحثوا عمن اسمه أحمد قبل النبي ، فلم يجدوا من ذلك شيئاً، إلا أن يكون بعضهم قد تعلق بجد الخليل صانع علم العروض، والذي نعرفه باسم الخليل بن أحمد، وقالوا: إن جدّه هذا (أحمد) كان قبل أن يولد النبي (محمد).
غير أن المقياس العلمي الدقيق ازور عن هذا الرأي ازوراراً جعله أقرب إلى الاندثار، وأبعد من الانتشار.
ولو قد صح هذا الرأي، لكان ما ذكر عيسى بن مريم من القول الحق في الإخبار عن النبي واسمه يمكن أن يكون عرضة للتشويش.
وما ربك بفاعل مثل هذا، ولا شيئاً منه.
وتبقى بشريات الأنبياء السابقين من نحو قول عيسى عليه السلام، " ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد " (الصف).
أرأيت إلى هذه (المدينة المنورة) حين اختصت باسمها هذا علماً، وشاركت غيرها في هذا الاسم صفة، فلم يشاركها أحد في عَلَميته، ثم هي قد تفوقت بما لها من خواص على من شاركوها فيه وهو صفة أو لقب ؟ !
أرأيت إلى (المدينة) حين كان هذا مع اسمها ووصفها قد تلاءمت وانسجمت مع بعض ما للنبي من خواص وأسماء ؟
ألا فلتهنأ طيبة بما لها من تميز.
وألا فلتهنأ المدينة المنورة بما لها بالنبي من صلة.
2ـ التأمل الثاني
المدينة كما ورد اسمها في القرآن
عجيبٌ أمر هذه المدينة المنورة.
وعجيبٌ أمر ساكنيها.
نعم عجيب أمر المدينة المنورة، فما من مدينة تقع على هذا الكوكب الأرضي، إلا ويكون ساكنوها بين شقي وسعيد، يستمتع كل واحد من هؤلاء السكان بحياته التي كتبت له على نحو ما يشاء أن يستمتع بها، فمنهم من يضيع حياته كلها في اللهو واللعب، ومنهم من يعرف طريقه إلى الجد الذي يطبع به سلوكه، فيملأ حياته بما يفيده ويفيد غيره من معاصريه، ومن الأجيال التي تأتي بعد.
وقد تضم المدينة من المدن أناساً يملأ الصفاء قلوبهم، وتملأ الرحمة وجداناتهم، ظاهرهم كباطنهم لا يختلف هذا عن ذاك ، لا ولا قيد أنملة.
ومن سكان هذه المدينة أو تلك من يكون له ظاهر وباطن، يظهر الخير تحقيقا لمنافعه ومنافع أهله وذويه، ويبطن الشر حقداً على الناس على ما آتاهم الله من فضله، وعلى ما هم فيه من بحبوحة العيش، أو راحة البال، أو محبة الناس لهم واحترامهم إياهم.
تكون المدينة من المدن على كل حال على هذا النحو، أهلها ليسوا على منهج واحد، لا في الاعتقاد، ولا في السلوك، ولا حتى فيما يتبادلونه من أسباب المعايش.
ومدينة النبي صلى الله عليه وسلم قد يبدو من ظاهرها أنها على هذا الحال، فيها الشقي وفيها السعيد، فيها المستقيم وفيها المنحرف، فيها المحب وفيها الشانئ.
فيها هذا وفيها ذاك، وفيها ما هو على نظائر هذا وذاك.
لكن المدينة المنورة مع هذا قد حباها الله بأمور ذكرها في القرآن.
فأنت حين تقرأ القرآن ستجد المدينة قد ذكرها الله في بعض آياته، ولكن ذكرها ليتحدث عن ساكنيها.
ومن أوائل ساكنيها هو النبي صلى الله عليه وسلم ، فيها محياه، وفيها مماته وحياته بعد مماته.
وحين يتكلم القرآن عن ساكني المدينة، يتكلم عنهم على حسب أحوالهم مع النبي .
وأحوال ساكني المدينة مع النبي هي التي تحدد مصيرهم في الدنيا والآخرة على السواء.
وأحوال سكان المدينة مع النبي على أساس منها سيتحدد علاقاتهم بالله سبحانه.
وسوف أحاول وأنا أتأمل ما أسمعه يُتلَى في الحرم النبوي في أثناء الصلوات الجهرية على لسان الأئمة، أو ما يقرأه ضيوف النبي في مسجده، وهم جالسون بين الصلاة والصلاة، شاكرين لربهم أن وفقهم لأداء الصلاة الأولى، ومنتظرين على شوق الصلاة الثانية، يقضون هذا الوقت كله في قراءة القرآن الكريم.
وأنا أسمع لهذا وذاك أتأمل حديث القرآن عن المدينة كلما مرت بنا آية فيها ذكر المدينة.
وأنا الآن سأحاول كما قلت أن أعرض إلى نماذج من تأملاتي فيما سمعت من آيات تتحدث عن المدينة المنورة.
1ـ جاء في سورة التوبة هذا النص الكريم " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين * ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله ولا يطئون موطئاً يغيظ الكفار ولا ينالون من عدو نيلاً إلا كتب لهم به عمل صالح إن الله لا يضيع أجر المحسنين* ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة ولا يقطعون واديا إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون" ( التوبة :119 ـ 121 ).
ونحن حين نتأمل هذا النص نجد فيه خطاباً أو حديثاً عن أهل المدينة ومن حولهم من الأعراب، تتصل بعلاقاتهم بالنبي صلى الله عليه وسلم ، وهو حديث من الله جاد على هيئة الخبر، لكنه في الحقيقة تكليف ، فهم مكلفون بمقتضى هذا النص لأمرين:
أولهما: أنه لا يجوز لهم مجتمعين، كما لا يجوز لأفرادهم كل على انفراده أن يتخلف عن رسول الله إذا دعاه لأمر ما، سواء أدرك خطر هذا الأمر بالنسبة للجماعة والأفراد أو لم يدركه.
وهذا الأمر هنا قد ورد بصورة التعميم لجميع المسلمين في آية أخرى من الكتاب العزيز "يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه وأنه إليه ترجعون " ( الأنفال : ).
والآية هنا خاصة بأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب، تسوق المعنى نفسه، لكنه في سياق عجيب، إذ بين الله لهم أن التخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم لا ينبغي أن يكون طبعًا من طباع ساكني المدينة، ولا صفة من صفات أهلها، بل ولا يجوز أن يكون خاطراً من الخواطر التي تعرض للقلوب فينحيها أصحابها عن قلوبهم مستعينين بالله على ذلك الإقصاء، وانظر إلى هذا السياق مرة أخرى في الآية الكريمة تجد المعنى ظاهراً أمامك " ما كان لأهل المدينة " على معنى أنه ما ينبغي لأهل المدينة، كما لا ينبغي لهؤلاء الذين تربطهم بأهل المدينة صلة، ما ينبغي لهؤلاء ولا لهؤلاء أن يتخلفوا عن رسول الله في موقف من مواقفه أو في شئ يدعوهم إليه، أو في حالٍ من أحواله يؤذن لهم فيه أن يلتفوا حوله.
وهذه الصياغة على هذا النحو تكون على أعلى درجات البلاغة في صياغة النصوص التكليفية؛ إذ مآل القول أن يكون الله قد كلف أهل المدينة بهذا الأمر، ثم هم قد أسرعوا بالإجابة والاستجابة، فأخبر الله عنهم أن ما قاموا به من سرعة الاستجابة أمر يوافق طباعهم، ويساوق خلائقهم، في حين أن ضده ما ينبغي أن يعبر عن طبع من طباعهم، ولا خليفة من خلائقهم.
وثانيهما: أعني ثاني الأمرين اللذين ينبغي لك أن تقف عليهما، وأنت تتأمل النص الذي تلوته بين يديك من جديد.
ثاني هذين الأمرين هو أنه بمقتضى هذا النص لا يجوز لأهل المدينة، ولا لمن لهم بأهل المدينة صلة، إنه لا يجوز لهؤلاء ولا لهؤلاء أن يفضلوا ذواتهم، ولا حياتهم ، ولا أعز ما يملكون على رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث يقول القرىن " ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه " .
وهو سياق كما ترى قد وقع في إطار الخبر المذكور، وهو طلبٌ بصيغة الإخبار، وقد علمت قريباً أن الأمر صيغة الخبر، يكون في أعلى درجات البلاغة المتصلة لصياغة هذا النوع أو ذاك من أنواع التكليف.
وأنت خبير ولا شك بأن المسلمين جميعاً مكلفون بأن يكون النبي عندهم مقدم على الآباء والأبناء والأموال والممتلكات، ثم هو مقدم قبل ذلك وبعده على النفس التي هي بين جنبي صاحبها.
فماذا لو قال عمر بن الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم في حالة من حالات ارتفاع درجات الوعي بالإيمان، وهما سائران في الطريق، أو جالسان معاً : " يا رسول الله إنك لأحب إلىَّ من والدي وولدي والناس أجمعين" أو قال له: " إنك لأحب إلىَّ من كل شئ إلا من نفسي " .
تُرى هل يقبل النبي صلى الله عليه وسلم ذلك ؟
إن النبي لو قبل منه ذلك لكان مخالفاً للنص القرآني (وحاشاه).
فتوجه النبي صلى الله عليه وسلم لعمر يعينه على نفسه، فلمس صدره بيده ضارباً عليه قائلاً : " لا يا عمر حتى أكون أحب إليك من نفسك التي بين جنبيك " فقال عمر: ( الآن يا رسول الله ).
وأنت وأنا لا نستغرب هذا التحول السريع في فؤاد عمر، إذ لي ولك أن نلتفت مرة أخرى إلى قصة إسلام عمر، فلن نجد في بعض رواياتها إلا هذا التحول السريع نفسه.
فالله قد عود عمر أن يقتلع من قلبه في لحظة أموراً لا يرتضيها منه، ولا يحبها له، وهو في نفس الوقت يغرس له في سويداء فؤاده ما تكمل به شخصيته.
وخلاصة الأمر كله أن المسلمين جميعاً مكلفون بأنهم أولا: إذا دعاهم الله ورسوله، يجب عليهم أن يلبوا هذا النداء، وثانيا: إن المرء لا يكمل إيمانه إلا إذا كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وإلا أن يكون النبي أحب إليه من نفسه التي بين جنبيه.
والمرء أمام التكليف قد يأتي منه على قدر عزيمته، ويقصر في أداء باقيه.
أما أهل المدينة، فالصياغة في حقهم تختلف، " إذ ما ينبغي لهم أن يتخلفوا عن رسول الله، وما ينبغي لهم " أن يرغبوا بأنفسهم عن نفسه " .
لا يجوز لهم هذا، ولا يجوز لهم ذلك، والسبب فيما أذهب إليه أنهم أهل المدينة، أو أنهم لهم علاقة بأهل المدينة.
وهذا السبب إنما يلفتنا إلى أن المدينة حرم رسول الله ، لها ما لمدينة إبراهيم عليه السلام من الحرمة والقداسة.
فإذا كان العمل في حرم إبراهيم عليه السلام مضاعف الأجر إن كان حسناً، مضاعف العقاب إن كان سيئاً، فإن الأمر نفسه يكون في المدينة على هذا النحو.
والذي حملني على هذا الفهم ما جاءت به الآيات تعلل هذين الأمرين التكليفيين اللذين جاءا على هيأة الخبر.
فهيا بنا نتأمل بقية النصوص، وفي التأمل بركة.
إن الآيات تسترسل في شئ من التفصيل الذي يكاد يصل إلى حد الاستقصاء، وهي تعلل أو تسبب الأمر التكليفي الذي جاء في سياق الخبر، مراعاة لأعلى درجات البلاغة في الأداء.
وهذا التفصيل الذي يكاد أن يصل إلى حد الاستقصاء، إنما يجيب على تساؤل هام وهو: أن تكليف أهل المدينة على هذا النحو لا يخلو من وجود شئ من الصعوبة في الأداء، فما مقابل هذه الصعوبة.
وقبل أن أجيبك عما طرأ في مخيلتك من خلال هذه الآية التي نحد بصددها، سألفتك إليك موقف قد سجله التاريخ للأنصار أول عهدهم بالنبي، وقد سجله لهم عند العقبة على أرض منى في موسم من مواسم الحج، قبل أن يتشرف الأنصار بهجرة رسول الله وارتباطه بهم على هذا النحو الذي حازوه من الشرف.
إنه في بيعة العقبة الثالثة وفيها رجال ونساء، وفيها شباب وكهول، وفيها من تحركهم عواطفهم، وفيها من يخضعون لضوابط الحكمة.
إنها بيعة العقبة الثالثة التي لا تخطئك ، بل إنها لا تخطئ واحداً من أبنائنا في أوائل الطلب.
لكن الذي ينبغي أن ألفتك إليه هنا هو أن أحد هؤلاء المبايعين للنبي حين أراد النبي أن يأخذ عليهم العهد والميثاق ، جذب يده من يد النبي، يريد أن يستوثق، أو يريد أن يستبين، ثم قال يا رسول الله: إننا والله بيننا وبين القوم (يعني اليهود) حبال من العلاقات موصولة، وبيننا وبين إخواننا العرب خاصة القرشيين قناطر ودٍّ ومصالح، وإن لنا أبناء وذرية هم أعز علينا وأوقع في نفوسنا، وإن لنا أرضاً تحتاج منا إلى جهد وعرق، وإنا والله لو عاهدناك واستقدمناك لانقطعت بنا حبال العلاقات مع اليهود، وتهدمت قناطر الود بيننا وبين العرب، واشتعلت بيننا وبين الجميع حروب، يفقد فيها الفتيان زهرة شبابهم حين يسقطون شهداء، وتبقى الأرض تصرخ بنا تحتاج إلى من يثيرها ويغمرها بالماء حتى يُؤتى بالزروع والثمار.
إن ذلك كله تعلمه أنت ونعلمه نحن، فماذا لو حدث ذلك؟ مع أنه لو حدث لكنا به راضين بعد هذه المقابلة معك.
ولكن يا رسول الله نريد أن نعلم ما الذي سيكون لنا كفاء ذلك حتى نقارن بين البذل والعطاء من جهة، وبين الأجر والثواب من جهة أخرى؟
ولم يزد النبي صلى الله عليه وسلم على أن قال: إن جزاءكم على ذلك الجنة
وكأني بجواب النبي صلى الله عليه وسلم قد صافح قلوب القوم، فنسى كلَّ واحدٍ منهما ثِقَل التكليف وعِظَم المهمة.
إنك إن علمت ذلك الموقف، وفهمت منه ما أردت أن أُفهمك إياه، ثم جئت معي وقفت على هذه المعاني التي ذكرها القرآن الكريم في تفصيل يكاد يصل إلى حد الاستقصاء، يذكره سببا لما توجه به إلى أهل المدينة من تكليف يبدو في ناظريك ذا ثِقل من نوع ما ، إنك إن فهمت الموقف في العقبة، ووقفت معي على أعتاب هذه المعاني تذكرها هذه الآية الكريمة، لعلمت أنها شجرة واحدة تُسقى بماء واحد، تتعدد ولكنها لا تُؤتي من الأكل إلا ما كان من هذا النوع.
فأهل المدينة:
أ ـ " لا يصيبهم ظمأ " وهو شدة العطش لأي سبب من الأسباب في الحرب أو في السلم.
ب ـ " ولا نصب " وهو التعب من أي نوع كان في الدفاع عن الدين ونشر الدعوة، أو في تحصيل المعايش، أو في غير ذلك.
ج ـ " ولا مخمصة في سبيل الله" على وجه الخصوص بعد أن وجد سبيل الله طريقه إلى الدخول في المعاني السابقة عليه.
د ـ " ولا يطأون موطئا يغيظ الكفار" في حرب باردة أو في حرب ساخنة.
هـ ـ " ولا ينالون من عدوٍ نيلاً " في نفس أو جسد، أو مصلحة اقتصادية أو اجتماعية.
إن الأنصار لا يقع منهم شئ من ذلك " إلا كتب لهم به عمل صالح ". لأن الله "لا يضيع أجر المحسنين " .
ثم هم في مجال الاجتماعيات لهم أعمالهم لا يضيع منها شئٌ :.
و ـ " ولا ينفقون نفقة صغيرة ولا كبيرة " ولا ما بين ذلك ما داموا على هذه الدرجة من الوعي بالتوحيد، والحرص على الالتفاف حول النبي ، وفدائه بأنفسهم.
ز ـ " ولا يقطعون واديا " في تحصيل معايشهم، أو نشر دعوتهم وإلا كُتب لهم " .
وما ذلك كله إلا لأن الله يريد ، وإرادته خير "ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون" .
ولك أن تتأمل هذا الإغفال المتعمد لتحديد قيمة هذا الجزاء، فهم فقط يُكتب لهم العمل الصالح، وهم فقط معرضون إلى أن يجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون.
وما ذلك إلا لأن الكريم إذا أخفى وفّى .
فاهنأوا معاشر الأنصار برضى ربكم عنكم.
2 ـ وجاء في سورة التوبة كذلك هذا النص الكريم " وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم " (التوبة: 101).
لقد سمعنا النص الأول، وهو نص يُتلى في مدينة رسول الله فترتفع المشاعر الإيمانية عند من يسمعه في المدينة ، سواءٌ كان مواطناً أو مقيماً بها إلى حين.
لقد سمعنا النص الأول، وهو نص يتلى في مسجد رسول الله فتهتز به أعطاف كلَّ مُخَاطبٍ به ، وتهيج به مشاعر كل من لم يكن من سكان المدينة، ولا من عقب سكان المدينة الذين سمعوا النص يُتلى لأول مرة.
والجميع يتمنى أن يكون ضمن المخاطبين بهذا النص.
والجميع يتمنى أن يكون من الذين وفقهم الله لأداء الواجب الذي تضمنه هذا النص.
هذه المشاعر المزدحمة المتنوعة تكدست كلها حول سماعنا للنص الأول.
وها أنا أنتقل بتأملي إلى نص آخر نسمعه ونقرأه، ونجد فيه لفظ (المدينة) علماً عل هذه البقعة من الأرض ـ زادها الله شرفاً ـ .
ولكن هذا النص يخاطب الناس خطاباً آخر، إنه يرفع وعى المسلمين بمن حولهم من المحبين والشائنين على السواء ، وإنه يحذر المؤمنين بدءاً من إمامهم صلى الله عليه وسلم من أناس لهم دِرْبَة على الشر، والكيد للآخرين، بحيث لا يكاد الآخرون أن يعرفوهم بطباعهم، وصفاتهم ومكايدهم.
وهذا النص الثاني كما ترى يخبر فيه رب العزة النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين أن هؤلاء الأعراب حول المدينة، والذين دخلوا معه في معاهدات سلم وعهود مودة، ليسوا كلهم على طريق واحد في الإخلاص للعهود، والعزم على تنفيذ الوعود.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد عقد معاهدات سلام مع بعض الأعراب من نحو: جهينة، وأسلم، وأشجع، وغفار، ولحيان، وعصيـة.
وهؤلاء على الجملة قد أخلصوا للنبي فيما أعطوه من عروض ووعود، وهو إخلاص يدعو إلى الارتياح والسرور، إذ لا يتوقع أن يأتيه شر من قبل هؤلاء الناس، فأعلمه ربه أن هذا الذي شعر به صحيح ولكنه ليس على إطلاقه، بل إن هؤلاء الأعراب من بينهم أناس مردوا على الرذيلة، وتمرسوا على الكيد بليل، وإن كنت لا تعلمهم فالله يعلمهم.
وهذا النص الثاني الذي نحن بصدده يرفع وعي المسلمين بدءاً من إمامهم صلى الله عليه وسلم بسكان المدينة نفسها، على أساس أنهم وإن كانت غالبيتهم قد التفت حول النبي تسرع في تلبية ندائه إذا ناداهم، وتُسرع بأفتدائه بأنفسهم إذا اقتضى الأمر أن يفتدوه بأنفسهم .
إذا كانت غالبية أهل المدينة على هذا النحو ، فإن فيهم هم الآخرون مجموعة قد مردوا على النفاق، ودربوا عليه، تدريباً يمنحهم القدرة على التمويه، وإخفاء مقاصدهم خلف سلوكهم المزيف الذي يدق فهمه، وفهم المقاصد من خلفه، حتى على النبي نفسه وهو الفطن الثقف اللقن ، صاحب التجربة التي تمنح صاحبها قدرة على فهم ما دق من الأمور، وصاحب الفطنة التي تُلقي بصاحبها مباشرة إلى ملاحظة ما لم يلحظه غيره.
في المدينة المنورة إذاً على نحو ما في غيرها ممن حولها من الأعراب، صفات سيئة يجسدها أناس أكثر سوءاً ، قد دربوا على الكيد للآخرين في ظلمة ، ونصب الشباك لهم بليل.
وقد يظن بعض الظانين أن النفاق حين يوجد في المدينة المنورة فإن مجرد وجوده فيها يعيبها، والآية تؤكد ولا شك وجود النفاق في المدينة وفي المحسوبين على المدينة من المحيطين بها " وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم " .
وقد يظن بعض الناس لأول وهلة أو وجود النفاق في المدينة ينتقص من مكانة المدينة.
والأمر على خلاف ما يظنه هؤلاء.
فالنفاق إذا وجد في مجتمع، دل ذلك على أن المجتمع الذي وجد النفاق فيه، فيه قوة من نوع ما ، إذ القاعدة أن المنافق ضعيف لا يقوى على المواجهة فيلجأ إلى الحيلة والخداع.
وأنا لا أريد أن أدخل في تفاصيل القوة التي تُنَافق ، فمنها حَسَن وقبيح، ومنها العالي الذي لا ينال إلا ببذل المجهود، ومنها الهابط الذي يصل إليه صاحبه بأساليب لا يقرها دين ولا خلق.
أما ما نحن فيه، فالمدينة قد قويت بوجود النبي فيها، والتفاف المسلمين حوله، والمدينة قد قويت بوجود النبي فيها وتصميمه على صناعة أمة تكتمل فيها عناصر الأمة الرشيدة، والمدينة قد قويت بوجود النبي فيها يُراعي جماعة من البشر يضعهم على الطريق الصحيح بمنهج قويم لم يشهد التاريخ لهم نظير ولا شبيه.
ومن أجل هذه القوة التي ظهرت كان من الطبعي أن يلجأ الشائنون والذين في قلوبهم مرض إلى النفاق على مواصفات النفاق.
وبمقابلة بسيطة يندفع هذا الظن عن أصحابه، وتتضح الرؤية بغاية الجلاء والظهور.
والمقابلة يمكن أن نعقدها بين فترة مقام النبي في مكة، وفترة مقام النبي في المدينة المنورة.
ففي مكة لم يكن للمسلمين سطوة ولا سلطة، ولا دولة ولا سلطان.
وفي مكة قد بدأت الدعوة توجه من قِبَل النبي إلى عامة الناس، فازور عنها أصحاب المصالح غالباً ، وهم علية القوم بمقاييس البشر، وبقى الذين اتبعوا الإسلام واعتنقواه، وهم في الأغلب من المستضعفين.
والأمر على خلاف ذلك في المدينة كما نعلم.
من أجل ذلك لم يكن في مكة نفاق ولا منافقون.
أما المدينة فالمنطق يقول: إنها كانت بيئة مناسبة لظهور النفاق، لا لشئ إلا لأن المنهج فيها صار قويا، وللسلطان فيها مقدرة على الردع والزجر، وللقائد فيها أمره ونهيه، وللجميع فيها عزتهم المستمدة من اعتزازهم بالله وبالإسلام.
ألا فلننحي عنا هذا الظن، ولنتجه إلى تأمل آخر أهم، وهو تأمل متصل بالنص الذي سطرناه بين يديك.
وهذا التأمل الذي أعنيه هو ما رتبه الله عز وجل على فعال هؤلاء القوم السيئة من جزاء.
ولو أننا تأملنا هذا الجزاء الذي رتبه الله على فعال القوم لعلمنا قيمة المدينة، بوصفها حرم لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأنت خبير ولا شك أن الجزاء يرتب على قيمة الأشخاص والأمكنة ومقاديرهما.
فزوجات النبي مثلاً ، لو أن الواحدة منهن أخطأت (وحاشاها) ، كان عقابها على قدر مكانتها " يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين وكان ذلك على الله يسيرا " (الأحزاب).
ولو أن الواحدة من زوجات النبي توجهت بأعمال الخير إلى الله قانتة راغبة في محبته، كان جزاؤها لا يعلمه إلا الله " ومن يقنت منكن لله ورسوله نؤتها أجرها مرتين وأعتدنا لها رزقاً كريماً " ( الأحزاب ).
والحرم المكي مكان له قداسته، فمن ارتكب المعصية فيه، أو أراد ارتكابها كان عذابه أليما، " ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم " (الحج).
أما العمل الصالح فيه كالصلاة مثلاً ، فإن الفريضة فيه تكون بمقدار مائة ألف فريضة فيما سواه.
إذا كان الأمر كذلك ( وهو كذلك طبعاً ) فإنه طبقاً لهذا الذي تأملناه، نجد المدينة نفسها لا تخرج عن هذا السياق على هذا الميزان الدقيق.
وأنت واجد ذلك في النص الذي بين يديك " وممن حولكم من الأعراب منافقون ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم " ( التوبة : 101).
أرأيت إلى المنافقين في المدينة وفيمن حول المدينة من الأعراب ؟ !
لقد أخبر الله أولاً أنه سيعذبهم مرتين.
ورجال التفسير قد فهموا العدد على حقيقته، وذهبوا يبحثون عن المرة الأولى والمرة الثانية، وما استطاع واحد منهم فيما أرى أن يحسم القضية على وجهها، لا لشئ إلا لأنه افترض أن العدد على حقيقته، ولو أنهم فهموا أن كلمة ـ مرتين ـ إنما جاءت لتأكيد العقوبة ، وتكرارها ، ومضاعفتها، لكان ذلك أجدى وأولى.
وللمسألة نظائر كقوله تعالى: " ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئاً وهو حسير " ( الملك ).
ولا شك أن الاثنينية غير مقصودة، وإنما المقصود هو تكرار إرجاع البصر المرة بعد المرة يؤكده " ينقلب إليك البصر خاسئًا وهو حسير" .
والعرب يقولون : ( لبيك وسعديك ).
فاسم التثنية نائب مناب إعادة اللفظ. والمعنى: سنعذبهم عذاباً شديداً متكررا مضاعفاً، كقوله تعالى: " يضاعف لها العذاب ضعفين ".
وهذا التكرر تختلف أعداده باختلاف أحوال المنافقين واختلاف أزمان عذابهم.
وهذا ما ينبغي أن نفهمه من قوله تعالى: " سنعذبهم مرتين " لأنه هو المناسب للسياق، والأوقع في إبراز مكانة المدينة من طريق الاعتداء على حرمتها.
ومع هذا العذاب الدنيوي نجد القرآن الكريم يؤكد : أنهم بعد ذلك سيردون إلى عذاب عظيم.
والوصف بالعظمة إنما يُفهم دائماً على قدر الوصف وما يُباح له.
فإذا كان الله مع طلاقة قدرته، وعموم إرادته، وانحياز كل شئ في ملكه قد وصف هذا الذي أعد للمنافقين في الآخرة بأنه عظيم، فإن هذا الوصف نفسه يجب أن يكون رادعاً لكل إنسان ، بحيث يقهر عوامل الشر في نفسه، ويلزمه أن يكون عند حدود الله عز وجل حين يأمره وحين ينهاه.
هذا وقد تُسول لبعض المنافقين أنفسهم أن الذي يكيدون له بليل، سواءٌ كان هو النبي أو غيره ما دام لا يعلمهم، فقد خرجوا من دائرة العقاب.
وهذا أمر نفته الآية نفيَّا قاطعاً حين قال الله لنبيه : " لا تعلمهم نحن نعلمهم" ، وإخبار الله أنه هو الذي يعلم يترتب عليه ما ذكرته الآية بعد من إيقاع العذاب بهم "سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم " .
3ـ وفي سورة الأحزاب يقول الله عز وجل حديثاً عن المدينة وعن بعض سكانها "لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يحاورونك فيها إلا قليلاً * ملعونين أين ما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا * سنة الله في الذين خلوا من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلاً " ( الأحزاب : 60 ـ 62).
وفي هذا النص الكريم يأتي اسم المدينة علماً على هذه البقعة من الأرض كسابقَيّه من هذه الجهة، غير أن الكلام يكون فيه بعض الاختلاف عن سابقيه لاختلاف الموضوع بين هذه المواضع الثلاثة.
ففي الموضوع الأول تكليف لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب بألا يتخلفوا عن رسول الله ، وبألا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه.
وفي الموضوع الثاني إخبار من الله لرسوله وللذين آمنوا معه بأن الذين اطمأن إليهم الرسول ومن معه من المؤمنين من الأعراب حول المدينة، ومن سكان أهل المدينة فيهم ما يدعو إلى القلق، وأخذ الحيطة والحذر، وهم هؤلاء الذين مردوا على النفاق، وظنوا أنهم إن خفى أمرهم على النبي فقد نجوا، فبين الله للنبي ولهم أنه إذا لم يكن يعلمهم فالله يعلمهم، ويترتب على علم الله لهم أنه سيعذبهم في الدنيا، ويلجئهم إلى عذاب الجحيم في الآخرة.
أما هذا الموضوع الثالث لهذا النص الذي معنا، فقد ذهب في التصعيد إلى غايته، ودخل من باب التهديد يملأ مصراعيه.
وعند التأمل الأولى في هذا النص من سورة الأحزاب، يقع في ذهن المتأمل أن ما ذكره الله عز وجل عن المنافقين، ربما لم يؤثر فيهم، أو أنهم لم يكونوا قد التفتوا إليه بالقدر المناسب من الالتفات، وظلوا على منهجهم في الكيد للنبي، وربما يكون قد انضم إليهم من هم على منهجهم من اليهود أو غير اليهود، بحيث يجمع الجميع أوصافاً واحدة، تجعل الفؤاد لا يخطئهم لو قدر أراد التعرف عليهم.
لقد جاء النص هذه المرة شديد ا لوقع عظيم التأثير تكاد يد القدرة تتراءى لكل سامع، وتكاد عصى الاقتدار عُـس يدركها سليم الحواس ومن كان في حواسه عطب على السواء.
ومطلع الآية هكذا " لئن لم ينته المنافقون "
واللام التي وقعت في أول الكلام هي دلالة على قسم مطوي أو محذوف، يقدره من شاء أن يقدره من الألفاظ التي تناسب المقام، مختارة من بين صفات الجلال، الخاصة بالله، أو تُختار من بين الألفاظ الدالة على طلاقة القدرة وعموم الاقتدار.
وتقدير الكلام مثلاً أن يكون الله قد قال: " وعزتي وجلالي لئن لم ينته المنافقون" أو يكون قد قال: " وبالذي رفع السماء بلا عمد وبيده ناصية الكون كله لئن لم ينته المنافقون " أو يكون التقدير على غير ذلك من أشباهه ونظائره.
وأنت خبير يا صاحبي : أن الإنسان منا يُقسم لو أن كلامه يتسرب إليه احتمال الكذب، فيزيل المُقسم هذا الاحتمال بقسمه.
أما واجب الوجود أو الموجود المطلق الذي هو الله، فليس قسمه من هذا الباب و (حاشاه) ، وإنما قسمه يكون فيه دلالة على هذه العظمة المطلقة, والقدرة المسيطرة، والاقتدار العام، إذا كان الموقف يحتاج إلى ذلك من نحو هذا الموقف الذي تعالجه هذه الآية.
وقد يكون لإبراز الرحمة والشفقة إذا كان الموقف على غير ذلك.
ثم إن الله إذا أقسم في مثل هذا الموقف، فاعلم أن هذا القسم يدل على أنه قد غضب، وهي دلالة لا تخفاك يا صاحبي، بل ولا تخفى غيرَك.
وإنه لا تغيب عني ولا عنك قصة هذا الأعرابي الذي تحركه فطرته حين جلس يستمع إلى القرآن والقارئ يقرأ في سورة الذاريات ، فلما وصل القارئ إلى قوله تعالى: " وفي السماء رزقكم وما توعدون فورب السماء والأرض إنه لحق مثلما أنكم تنطقون" قام الأعرابي ويده على رأسه يتأوه وهو يقول: من أغضب الحليم حتى أقسم.
النص الكريم على كل حال بدأ هكذا يشيع الرعب في قلوب من أراد الله أن يتوجه إليهم بالخطاب " لئن لم ينته"
والمخاطبون أناس تجمعهم صفات ثلاث تتحقق هذه الصفات في كل فرد منهم، وهي النفاق، ومرض القلوب، والإرجاف في المدينة.
والمرء حين يسمع هذه الصفات ، ربما يقع في صدره أنها تُقَّسم الناس الذين يخاطبهم الله بهذا النص إلى أنواع ثلاثة، وربما يقع في صدره أن النوع واحد من حيث ذوات المخاطبين وإنما التعدد في الصفات لا في الذوات.
وسواءٌ ملت إلى هذا الخاطر يقع في صدرك أو ذاك، فإن النص يتناول من تحققت فيهم هذه الصفات الثلاث " لئن ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة " .
والنفاق إظهار للإيمان وإخفاء للكفر على نحو ما بينه النص السابق على هذا النص، والذي اقتبسناه من سورة التوبة.
وأما المرض الذي يقع في القلوب فهو داء عضال لا يسببه فيرس، ولا ميكروب ، ولا خلل دوري أو ميكانيكي في الجسم، وإنما هو مرض يعرض للقلب، لصاحبه فيه مدخل وإرادة ورغبة.
وإذا كان الله قد وعد أنه يتكفلُ بإبراء المريض إن شاء إبراءه، مادام مرضه جسميا، فإنه قد قطع بأنه لن يتدخل لإبراء مرض القلوب، بل إنه سيتركهم يزدادون مرضاً على مرض " في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً " (البقرة).
والصفة الثالثة هي هذا الذي سماه الله بالإرجاف في المدينة.
والإرجاف هو هذه الزلزلة والاضطراب النفسي والاجتماعي، يقوم به المنافقون لإضعاف الروح المعنوية للمسلمين من الشباب، أو الذين دخلوا الإسلام حديثاً مستغلين نقص الخبرة عند هؤلاء وهؤلاء .
والإشاعات على كل حال مثلها في المجتمعات مثل الأرَضَة أو السوس تقطع أوصال الأشياء والعظام.
ثلاثة أوصاف على كل حال لو لم تختفِ من المجتمع لأنتجت فيه آثاراً سلبية، لها في جميع المجتمعات نتائج، لا يخرج المجتمع منها إلا الردع المناسب.
فإذا كانت المسألة تتصل بالمدينة المنورة، فالردع فيها يكون أشد، والتعامل معها يكون أعنف.
فماذا لو لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة، يقول الله عز وجل : إن هؤلاء لو لم ينتهوا فإن الله سيحبب إلى النبي وإلى المسلمين قتالهم، وإعمال السيف فيهم بشئ من الإغراء الذي سيحمل النبي والمسلمين على التعامل معهم بغير رحمة " لنغرينك بهم" ثم تكون نتيجة هذا الإغراء ما وعد الله بها، وهي إخراجهم من المدينة، وحرمانهم من جوار النبي ، وهي عقوبة ولا شك شديدة على كل حر أَبِّي ، إذ إن مغادرة الأوطان والنفي منها أشد على النفوس الحرة من القتل أو الموت : " ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلاً " .
ومع ذلك فإن الإغراء بهم سيستمر، فهم "أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلا " حيث سيُكلف النبي والمسلمون معه بالشرع تعضيداً للإغراء بهم، إنه والمسلمون معه كلما وجدوهم أخذوهم بعنف، وقتلوهم تقتيلاً لا هوادة فيه.
والسبب في ذلك أن جريمتهم على القمة، فالنفاق خيانة في العقيدة، ومرض القلوب والإرجاف في المدينة خيانة للأمة، ومنعاً لها من ممارسة أهم وظائفها، وتحقيق أهم خصائصها.
ولقد بين الله عز وجل أن هؤلاء القوم، سواءٌ في تلك الفترة القليلة التي سيجاورون فيها النبي في المدينة، أو بعد إخراجهم منها وسواء في حياتهم الدنيا أو في يوم القيامة، سواءٌ عليهم في هذا أو في ذاك، فإنهم في جميع ذلك سيكونون مطرودين من رحمة الله.
وأنا عندما أعيد التأمل في هذا النص المرة بعد المرة، كلما أعاد القارئ الإيمان في المسجد النبوي الشريف، أو المأموم الذي ينتظر الصلاة بعد الصلاة قراءة هذا النص.
إنني عندما أعيد التأمل المرة بعد الأخرى في هذا النص كلما سمعته، تظهر لي أمور لم أكن قد وقفت عليها من قبل.
فوجود لفظ (المدينة) ضمن هذا التهديد والوعيد، يعطي انطباعًا بِعِظَم الجرم الذي ارتكبه هؤلاء، كما يعطي إحساساً بمضاعفة العذاب تلو العذاب على مرتكبيه.
وحين قال التاريخ إنه لم يتم إجلاء أحد من المدينة عنها، ولم يحدث أن الله قد أغرى النبي بجماعة من الجماعات، علمنا علماً يقينيا إن هؤلاء المنافقين قد تزلزلت بهم أنفسهم، وخافوا العصي التي رُفعت عليهم، كما خاف اليهود من قبلهم الجبل الذي رفعه الله فوقهم يهددهم به ، إذا لم يستجيبوا أسقطه على رؤوسهم.
لقد ارتدع المنافقون، وقبضوا أيديهم عن سلوكهم، واحتفظوا بنفاقهم لهم، وبمرضهم في قلوبهم إلى أن يقذف بهم الله عز وجل في قعر جهنم " إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيراً " ( النساء: ).
ما أجمل التأمل في آيات كتاب الله.
ما أجمل التأمل في آيات كتاب الله، إذا كان التأمل في مدينة رسول الله.
ما أجمل التأمل في آيات كتاب الله ، إذا كان موضوع التأمل في آيات تأتي على ذكر اسم المدينة، والتأمل داخل حدود المدينة.
ما أجمل التأمل في آيات كتاب الله ، إذا كان التأمل في المدينة وفي آيات تأتي على ذكر اسم المدينة وإذا كان التأمل في مسجد رسول الله.
ومن ذاق عَرَف.
4ـ وفي سورة المنافقين يقول الله تعالى حديثاً عن بعض المنافقين: "هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا ولله خزائن السموات والأرض ولكن المنافقين لا يفقهون * يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العِزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون " (المنافقون: 6، 7).
وفي هذا النص الكريم يرد اسم المدينة المنورة علماً على هذه البقعة المعهودة من الأرض للمرة الرابعة في القرآن الكريم.
ولكنه في هذه المرة يحيط به حدث يعد في عرف الناظرين واقعة تطبيقية، يظهر من خلالها بشكل عملي سلوك الذين مردوا على النفاق، وهم الذين في قلوبهم مرض، وهم المرجفون في المدينة.
كما يظهر من خلال الواقعة التطبيقية هذه، رد الفعل لهذا السلوك الصادر عن المنافقين مرضى القلوب، والمرجفين في المدينة على أهل المدينة جميعاً من الأوس والخزرج، ومن المهاجرين الذين صارت المدينة لهم داراً.
وقبل ذلك وبعده سيظهر من خلال تأملنا لهذه الواقعة التطبيقية، والتي احتواها هذا النص الكريم كيف يتصرف النبي صلى الله عليه وسلم في عظائم الأمور، بحكمة لا يفقهها إلا نبي، وبحنكة لا يصل إليها إلا من كان ثقفاً لقناً فطناً، أميناً على رعيته من خلال أمانة عامة، تتوفر له وتكون صفة ملازمة لا تفارقه.
ومن أجل ذلك كله كان تأملنا لهذا النص آخاذاً يملأ إيهابنا بدرجة عالية من الانتباه والاهتمام.
وهذا كله إجمال يحتاج إلى تفصيل.
وتفصيل هذا الإجمال يأتي في سياق

المصدر: كتاب اللفة الشيخ /طه الحبيشي

التحميلات المرفقة

hazemabdrad

حازم ابوحبيشي

  • Currently 20/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
6 تصويتات / 610 مشاهدة
نشرت فى 20 إبريل 2011 بواسطة hazemabdrad

ساحة النقاش

حازم علي بكرحبيشي

hazemabdrad
الباحث الاجتماعي/حازم ابوحبيشي »

تسجيل الدخول

ابحث

عدد زيارات الموقع

592,371