
في بيتنا مراهق: حكاية قلب بين الطفولة والشباب.
يواجه الشباب في البيئة الرقمية المعاصرة تحديًا غير مسبوق، يتمثل في سهولة الوصول، والانفتاح بلا حدود، والعلاقات السريعة بلا مسئولية، والمعلومات غير دقيقة، المليئة بالمؤثرات التي تخلق في الدماغ تعودًا وإدمانًا، حيث الهوية عند الطرف الآخر وهمية، والخصوصية غامضة وفردية، مع ضعف الحصانة النفسية، وغياب التوجيه الممنهج، حتى أصبح فتى تحت العشرين قنبلة موقوتة، وأصبح هو نفسه خطرًا يهدد مستقبله، وقد ظهر مؤخرًا إحصائيات مخيفة تدل على ذلك، مما استدعى فتح هذا الملف، لفهم التحديات التي تواجه الآباء والمربين، وتحليل جذورها، والتصدي لها، ومواجهتها بالمعرفة والإيمان، لنعلم كيف نحمي أبناءنا من براسن المواقع ونعيدهم إلى أمان الواقع.
تحت الـ عشرين..
سن المراهقة من أهم سنوات العمر، فيه شغف المعرفة وحب الاطلاع، فيه تفتح عيون المراهق على رؤية جديدة للحياة ولنفسه وذاته ومجتمعه، ويلحظُ تغيرات ظاهرية وداخلية تطرأ على جسده وتكوينه، يلاحظ تأثيرها في تصرفاته وأفعاله وأفكاره، فتثير في عقله تساؤلات كثيرة، حتى يُرِهقَ نفسه وغيره بالبحث عن إجاباتٍ تملأ فراغ شغفه.
أنهم يعيشون بهجة التغيير، ورهبة التغيرات وتأثيرها النفسيُّ، سعيدًا بها، يخاف عواقبها وآثارها، وتحكمها في ميوله ورغباته، فتأثر سلبًا على علاقته بمجتمعه، وتذير بوقوع المشكلات، والقيام بسلوكيات والقيم السالبة، فهو لا يعترف بالخطأ، ولا تقبل النقد، معجب بنفسه، ويتباهى بمظهره، وربما أساء بعضهم الاستهلاك، وأخذ يلهث نحو المكاسب المادية. تلك طبيعة المرحلة التي يمر بها المراهق؛ لقلة خبرته، فلا تجارب له، غرُّ بالكاد يفتح عيونه، منبهر بكل ما يرى.
آباء وأبناء.. من يربي من؟؟
بعض الأسر ترى المراهق- فتى أو فتاة- سبب كل معاناة، لا ينفع معه لين ولا شدة، إنهم يشكون من سوء تعامل الأبناء وقلة احترامهم؛ فهذه أم تشكو أن ابنتها عنيفة في ردودها، تسيء العبارات في حديثها، وإذا طالبتها بأمر تجاهلته، ومضت إلى جوالها.
وتلك فتاة تعامل أمها وكأنها مصباح علاء الدين، يجب أن تقدم لها ما تحتاج إليه، حتى ولو لم يكن بمقدورها ولا في نطاق إمكانياتها المادية.
وذاك أب يشكو من ولد لا يعيره اهتمامًا، ويقضي يومه مع أصحابه، وإذا عنَّفه تطاول عليه وأشاح بيديه وانصرف، دائم الاستياء من الحياة والبيت والمدرسة.
أنين الصمت في قلب الصغير... أنا لست مشكلة!!
إنه أنين التفاعل السلبي من الأسرة، والنظر إليه على أنه سبب كل مصيبة، وأنه جلاب المشاكل، وهي نظرة نهى الإسلام عنها، فيها سوء الظن؛ ينتج عنه زعزعة ثقته في نفسه وضعف إيمانه بمجتمعه.
تلك النظرة تحرمه من حقه في إثبات ذاته وقدراته، وتسلبه حرية التفكير والتعبير، وترسخ في عقله أنه ليس أهلا لأي شيء؛ بسبب ما يمر به في تلك الفترة من تقلبات مزاجية ونفسية وجسدية.
إن بعض الآباء يقعون في مزالق خطيرة لعدم فهمهم طبيعة المراهق؛ منهم من يدلل، ومنهم من يتشدد. غافلين عن أنه يعيش تلك الأزمة داخليًّا، وليس سببًا في وجودها.
استجار من الرمضاء بالنار!!
لا عجب أن يلجأ المراهق حينئذ إلى (السوشيال) يحادث الغرباء عن صدع أمانه، ويبث نجواه التي لا يجرؤ على البوح بها لأهله، يرى بعضهم أنه قد أصبح ملكية خاصة لوالديه يتصرفون في حياته ومستقبله. وبعضهم يرى أن مهمته في الحياة هي أن يسمع ويطيع وينفذ الأوامر بلا مناقشة بلا فهم بلا شعور.
ولا عجب أن يفتح الغرباء لهم باب المودة، يستدرجونهم، يعرفون دوافعهم وهمومهم، ويطمئنون، وينصحون!!
لا عجب إن يكون (شات جي بي تي) وغيره من برامج الذكاء الاصطناعي نافذة الحرية والأمان، والناصح الحنون.
مسكين الفتى الذي انصرف يبث همومه لآلة استشعر فيها حنانا لم يجده عند أبيه، ومودة لم يرها في عين أمه.
على حافة الخطر:
أبنائنا صيد ثمن لمن يتربص بهم، يتلقفون طموحاتهم وحماسهم ويشبعون رغباتهم التي لم يضبطها ضابط التكليف بعد، مستغلين الفجوة التي تنشأ بين المراهقين وبين الأهل؛ فيدسون السم في العسل، ويقدمون من وسائل الترفيه ما يتيح للمراهق الابتعاد عن الأسرة، وتنزع منه القيم، وتغرس الشهوات والفساد، وربما تم هذا تحت سمع وبصر الآباء الذين شغلتهم المادية عن أحلام أبنائهم وهمومهم وطموحاتهم. والأمثلة أكثر من أن تحصى.
خطاب مودة وحفاوة:
للمراهق في الإسلام خطاب حظي فيه بالحفاوة والمودة والحنان، حين قال لقمان لابنه: ﴿يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: 13]. في قوله: (يا بني)؛ يشعره بقربه لقلبه، وثقته في عقله. ثم تتوالى النصائح لترسيخ الإيمان في نفسه، يتبعها ما يبث في قلبه سلامًا؛ نصحه بالتخلي عن الغرور وما يوغر الصدور، نهاه عمَّا يسبب التجافي؛ كالتعالي والتكبر، ورفع الصوت، فقال: ﴿وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ، وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ﴾ [لقمان: 18- 19]. قاعدة أخلاقية تمهد للفتى اندماجًا في مجتمعه، وتحدو به بعيدًا عن المشكلات.
فن الاحتواء.. كيف نعامل الأبناء؟
<!--في الصبا يعامل معاملة الكبار، بالحوار والإقناع.
<!--الإشادة بالسلوك الإيجابي، والتلقي الحسن لأفعاله.
<!--البعد عن التعنيف واللوم والعقاب الذي ربما يزيد الأمر سوءً.
<!--ضبط النفس والتماس الأعذار؛ كحداثة السن وانعدام الخبرة وغيرها.
<!--قبول الرأي الآخر والاستماع إليه لمعرفة وجهة نظرة، وتصويب ما فيها.
<!--تعليمه كيف يصلح ما تسبب في إفساده.
جسر العبور إلى طريق النور:
حين يتقن الآباء والمربينَ فن احتواء الأبناء، وينتقلون بهم تدريجيًا من الصبا إلى المراهقة، من خلال التكاليف الشرعية، حتى إذا ما وصلوا إلى تلك المرحلة وجدوا كفايتهم في دينهم، ووجدوا آباءهم في انتظارهم، متفهمين لحاجاتهم النفسية والأخلاقية.
يحتاج المراهق إلى قلب رحيم ويدٍ حانية، تصاحبه وتلاعبه؛ ليتحقق له التوازن النفسي، ولا تخل بتربيته وإصلاحه؛ ذلك يشعره أن له دوره في مجتمعه، يشعره بثقة الآخرين في عقله وتصرفاته وأفعاله، فيوقن بأنه عضو ناجح مفيد لمجتمعه.
ولنا في رسول الله r أسوة حسنة، حين ربى صغار الصحابة على مكارم الأخلاق، فجاهدوا وصبروا، فكنا خير أمة أخرجت للناس.


