
فى البحر لا يمكن للمرء إلا أن يكون صادقًا
إعداد/محمد شهاب
كغيره من البحارة الماهرين، يُعانى «جان جومي» دوار البحر. لكن ذلك لم يمنعه من السفر عبر محيطات العالم.. من ضباب منصات النفط الأسكتلندية إلى صمت الأعماق. منذ طفولته، وهو يتنقل بين المدارس الداخلية، وعطلاته فى رويان (شارينت ماريتيم) أمام منارة كوردوان، واستكشافات الأحواض المهجورة فى مطحنة البارود السابقة فى تولوز (هوت جارون)، وُلد شغفه المزدوج. يقول جومي: «كنت أقضى ساعات تحت الأغطية أحلم بأننى فى غواصة. منذ سن السابعة، كنت قادرًا على قضاء أربع ساعات يوميًا فى صيد الأسماك فى أنهار أرييج. هناك، كطفل، أدركت عشقى للبحر»
وُلِد جومى فى 28 أغسطس 1948 فى رويان بونتاياك (شارينت ماريتيم)، بفرنسا. تلقى تعليمه فى تولوز وأورياك، ثم أكمل تعليمه العالى فى روان، قبل أن يعمل محررًا ومصورًا مستقلًا فى منطقة باريس، وفى ميناء فيكامب تحديدا، فى نورماندي، حيث عاش هو وعائلته أربعين عامًا فى أوقات فراغه. يُوضّح قائلًا: «المكان مُثير للإعجاب. إنه جزءٌ حيّ من التاريخ»، حيث يزخر بآثار سلسلة بشرية كاملة من حياة الصيد التى اختفت تقريبًا من فيكامب. ارتبط المصور ومخرج الأفلام الفرنسى بوكالة ماجنوم فوتوز منذ عام 1977 وتخصص فى تصوير المجتمعات والمجموعات المعزولة أوالمحاصرة.
رجال فى البحر
هل يُساعدنا تصوير البحر على فهم المحيط الشاسع المجهول بشكل أفضل؟ طُرح هذا السؤال على جومى مرارا، والذى صوّر البيئات البحرية لعقود، وهنا يقول: «أمام الكون والجلال المتسلط للمحيط، لا مفرّ، نخاطر باستمرار بدفع ثمن الخطر! ثم إن القارب غرفة مغلقة، وهذا يثير اهتمامى أيضًا، لأننا فى مواجهة تقلبات الطبيعة، مُلزمون بالشفافية. لا مجال للأكاذيب المهنية، والقواعد الاجتماعية السخيفة».
ويسترسل: «هذا ما يناسبني، ولأننى خجول جدًا، أقف على بُعد ثلاثة أمتار، فى مواجهة الأشخاص الذين يعرفون أننى أصورهم».
من المعروف أن جومى موجود حيث يشعر أن هناك ما يقوله. من حملة صيد إلى أخرى، نجح فى جمع صور قوية بالأبيض والأسود؛ لكنه كان يتجنب المبالغة فى تصوير الخطر أو الخوف لأن «من السهل للغاية جذب الزبائن من خلال ذلك!»، كما يقول.
وفى عام 1984، بدأ جومى سلسلة من الرحلات الشتوية على متن ما يُسمى بسفن الصيد «الكلاسيكية»، والتى استمرت حتى عام 1998، وأدت إلى نشر كتاب «رجال فى البحر» عام 2001. كان جومى يُدرك أن سفن الصيد ذات السطح المكشوف، وهى القوارب التى كان يصورها، فى طريقها إلى الزوال، مثل السفن الشراعية البرتغالية التى كانت تصطاد سمك القد فى جراند بانكس، حيث كان رجالها يصطادون بالخيط من قوارب صيد مفتوحة. كانت المنافسة من سفن الصيد فى أمريكا الجنوبية شديدة للغاية. لا شك أن كتاب «رجال فى البحر» يعتبر كتابًا نادرًا وجميلًا، وشهادة أرشيفية على عالم يتلاشى بسرعة أواختفى بالفعل.
لقد نجح جومى فى توثيق الحياة البحرية بكل تنوعها منذ أكثر من 40 عامًا، من جرينلاند إلى جزر الأنتيل، فى أعالى البحار، على الأرصفة وعلى الشواطئ.كما قام بتصوير البحار من نورماندى إلى اليابان، مرورًا بالأندلس ولونج آيلاند ومسقط رأسه فى الجنوب الغربي، صوّر جان جومى العديد من مجتمعات الصيد وأساليب صيدها التقليدية، والتى قد تكون متوارثة، فى جميع أنحاء العالم، وقد قادته أعماله الفوتوغرافية السابقة مع وكالتى جاما وماجنوم إلى توثيق السجون والمستشفيات حيث طور عاطفة معينة تجاه الحبس البشري، وهوالحبس الذى سيلتقطه لاحقًا على متن سفن الصيد فى أعماق البحار والغواصات، عوالم مغلقة على نفسها حيث ترتبط المصائر.
أفلام وثائقية
فى عام 1984، أنتج جومى فيلمه الأول «البوكان»، ورُشِّح لجائزة سيزار عام 1986 لأفضل فيلم وثائقي. ثم أتبعه بأفلام أخرى عُرضت جميعها على التليفزيونات الفرنسية والأوروبية، وحازت على جوائز أخرى. فى عام 1986، قام بأول رحلة له إلى إيران خلال الحرب، واستمرت زياراته إليها حتى عام 1997، كما صُوّر فيلمه الروائى الطويل «مارسيل، بريتر» (1994) فى راولهاك (أوفيرني، كانتال) على مدى عدة سنوات. فى عام 2005، بحث عن مواقع تصوير استعدادًا لفيلم «سوس مارين»، حيث أمضى أربعة أشهر تحت الماء على متن غواصة نووية، ومنذ ذلك الحين، اقترنت أعماله العديدة حول الحبس البشرى بنهج فوتوغرافى أكثر تأملًا.
بعد تصوير فيلمه على متن الغواصة، بدأ عام 2008 مشروعًا فوتوغرافيًا لاستكشاف المناطق الملوثة من بحار القطب الشمالى إلى الأراضى الملوثة فى تشيرنوبيل بأوكرانيا (2008، 2009) وفوكوشيما باليابان (2012). وفى الوقت نفسه، وفى إطار المشروع نفسه، بدأ سلسلة من المناظر الجبلية التى نشرت فى كتابه «بعد الطبيعة» (2010)، والذى نال عنه جائزة نادار الثانية.
فى منزل المصور الفرنسي، تكاد تخلو جدرانه من أى بصمات شخصية. فى ردهة المدخل، صورتان كبيرتان بالأبيض والأسود: إحداهما لسماء مظلمة تعبرها طيور النورس، والأخرى لسفينة صيد فى محنة فى منتصف الليل.
وفى قبو منزله، يُكدّس صناديق مليئة بآلاف الصور والأرشيفات، مُرتّبة بمهارة، ليُورثها تدريجيًا لمكتبة التراث والإعلام الفوتوغرافي. ليس الهدف إثقال كاهل ورثته، بل الأهم من ذلك الحفاظ على ذكرى جيل من المصورين فى طريقه إلى الزوال، ذكرى أسماء وكالة ماغنوم العظيمة التى عرفها، وكذلك ذكرى مبادئ التصوير الصحفى التى يجب الدفاع عنها اليوم.


ساحة النقاش