يميل الإنسان عادة لمعايشة ما هو مألوف في بيئته ، و مخالطة الأشياء الحياتية و الاجتماعية التقليدية و المتكررة ، هذا الميل ينبع من رغبته في تفسير هذه الأشياء ، و فهمها ، و اختصار الوقت و الجهد في تعامله و تفاعله معها . لذا فالإنسان كائن لا يميل بدرجة كبيرة إلى الغموض ، و إنما إلى الأشياء المألوفة ، و التقليدية ، و الواضحة . على الرغم من أن هناك دراسات أثبتت وجود بعض الأشخاص الذين يعشقون الغموض ، و البحث عن الأشياء الغريبة ، و أحيانا ابتكارها . و بذلك تشكل الأشياء الغريبة و النادرة اهتمام الكائن ، و تثير لديه مشاعر الاستغراب و الدهشة، و وضع علامات التعجب حول ماهيتها ، و كيفية حدوثها ، و ما العوامل التي سببت ظهور هذا الشيء الغريب. فلا عجب ! أن نجد أن ظاهرة ما ـ كالإرهاب أو انتشار الوبائيات مثلا ـ تثير تساؤلات و قلق الرأي العام ، و أن تحاول استضافة أحدث الخبراء و المختصين ، من أجل تفسيرها ، و تعليلها . و أحيانا قد نقف متحيرين و عاجزين دون جدوى أو نفع ؟ أو قد ننسبها إلى ظواهر غيبية و روحية . و سبحان الله الذي اعجز عبده ، و أوقفه حائرا أمام نقص قدراته و إمكاناته العظيمة .
الغرابة عبر تاريخ الإنسان
منذ زمن بعيد ، يرجع إلى ألآلاف السنين ، كانت الغرابة تشكل أحدى مسببات قلق الإنسان ، و خوفه من المستقبل ، فكانت الظواهر الطبيعية كالرعد ، و الزلازل ، و الإمطار ، و الفيضانات تشكل أكثر الحالات الوجودية استغرابا ، مما دفعته إلى عبادتها ، و تقديم القرابين إليها ، و تفسيرها بأسباب قد لا يتحملها العقل المتمدن الآن . على سبيل المثال : ما نجده في الكتابات القديمة من أسماء آلهة متعددة ، كالآلة ( أدد ) أله الطقس و العواصف ، و ( اوتو ) آله الشمس عند البابليين و الأشوريين . أما عند المصريين القدماء ، فكان آله ( أمون ) آله الريح و الخصوبة ، ( أوزيريس ) آله البعث و الحساب ..الخ . وبمرور الوقت شكلت الغرابة أحد أهم المحركات في دفع الإنسان وراء ايجاد الأجوبة المناسبة في تعليل هذه الظواهر . وعلى الرغم من بدائية البعض منها ، فما زالت بعض هذه التعليلات ترافق عقول الكثير منا ، و تعشش أفكاره و أساليب حياته ، على سبيل المثال ، ان سبب الامراض النفسية و العقلية ، أروح غريبة تسكن جسم المريض !! و ما يضحك أحيانا ، فمن غرابة الأمور أننا نتعامل مع بعض الأشياء الجامدة ، على أنها أشياء حية ، تفكر و تشعر مثلنا ، على سبيل المثال : ضرب المفك ، و شتمه عندما لا يفك أحد البراغي ، أو ضرب الحجر الذي نعثر به في الشارع !!!
هل الغرابة نزعة فطرية
يولد الإنسان وفي بيئته اشياء و معارف و معتقدات يؤلفها و يتطبع عليها تدريجيا ، مما تصبح لديه تقليدية و عادية جدا ، و لكن الشيء الجديد يثير استغرابه ، و يحرك فيه نوزاع الفضول و المعرفة . فهل هذه السلوكيات فطرية أم مكتسبة ، يقول علماء النفس : أن الأنسان يولد و تاتي معه دوافع و نزعات فطرية عديدة ، و من ضمن هذه الدوافع العديدة ، الحاجة للامان و الحماية من الأشياء الغريبة و الخطرة ، و الحاجة إلى المعرفة ، و الاكتشاف ، فيمكن عد الغرابة أحد المظاهر الخارجية لهذه الدوافع الفطرية . فتشكل الغرابة أحد سلوكياتنا الدفاعية في وقاية أنفسنا مما قد يؤذينا أو يسبب لنا الآلم . كما تشكل الغرابة نزعة في الكشف عن غموض الاشياء و تجنب مساوءها ، و استخدامها في ما قد ينفعنا منها . فلولا هذه النزعة لبقي الكثير من البشر متخلفا ، يطارد الحيوان يعبده ، و يقدم القرابين له ، و يطلب رضاه ، و أذا جاع يأكله !! ففي الديانة المصرية القديمة كانوا المصريين يعبدون الثور ، الذي يسمى الإله ( تياح ) ، و أبن أوى أو الذئب الإله ( انوبيس ) . أما الهندوس ، فكما نعلم يعبدون ( البقر ) و ( الفأر ) الذي يعدوه من نسل الإله.
أهمية الغرابة في حياتنا النفسية و الاجتماعية
نجد مما سبق أن للغرابة أهمية كبيرة في حياتنا اليومية ، فقد تشكل دافعا نحو كشف اسرار الكون ، و اختزال القلق و الخوف ، و طلب الآمن ، و دافع للسيطرة على البيئة ، و التخلص من عجزنا ، و رد الأشياء الى أسبابها الطبيعية و الفيزيائية ، أو قواها الروحية الحقيقية . فضلا عن ذلك تدفعنا الغرابة الى تحذير الآخرين ، و تنبيههم ، و التكاتف معهم ضد ما قد نجهله أو يفتك بنا . أو بالعكس قد ينجرف بنو البشر نحو ظلمات جهلهم ، و خوفهم ، فتفسر الأشياء الجامد بالحية ، و المظاهر الحية بأكثرها جمودا و تخلفا . مما تجعل الجهل يلون حياتنا و تعاملنا مع الأشياء و الظواهر المحيطة بنا . و ذلك عبر سوء استخدامها ، و الخطأ في تفسيرها و تعليلها ، و جعلها عدو يفتك بنا . على سبيل المثال : تفسير الوبائيات و الزلازل و الفيضانات بأنها غضب من الله ، و لكن أليس الله رحيم بعباده ، حتى لو لم يعبدوه . فنرد بذلك جهلنا و سوء استخدامنا للبيئة و عدم وقاية أنفسنا الى الله سبحانه ، و حاشى الله أن ينتقم من أحد . فنحن ننتقم من أنفسنا .
متى يستغرب الإنسان
ترجع أولى مظاهر الاستغراب لدى الإنسان ، في الأشهر الأولى من الحياة ، و هذا ما اكتشفته تجارب علماء نفس النمو ، في دراساتهم حول نظرية العقل لدى الرضيع . إذ تقوم هذه الدراسات عبر مجموعة من التجارب التي تختبر قدرات الرضيع الذهنية في معرفته للتحول الفيزيائي للبيئة ، أوجدت هذه الدراسات أن الرضيع يبدأ بالاستغراب بعمر 5ر2 شهر ، عند رؤيته لمظاهر غير مألوفه لديه . على سبيل المثال : أختفاء جسم يتحرك خلف جدار ، ثم يظهر بعد ذلك جسم أخر . أو وضع لعبة داخل وعاء في أقصى اليسار ، ثم تحريك هذا الوعاء الى القصى اليمن ، و عند رفعه لا يجد الرضيع اللعبة في داخله . هذه الظواهر كانت على خلاف توقعات الرضيع ، مما أثارت لديه مشاعر من الاستغراب و الدهشة ، و كانت التعابير الاولى للإنسان في مرحلة الرضاعة ، تظهر على شكل تأمل الرضيع للظاهرة المثيرة فترة اطول عن حالتها الطبيعية ، و اتساع حدقة عينه . و بمرور الوقت يتعلم الإنسان المعارف و العادات السلوكية و الاجتماعية التي يقيم بها الظواهر المحيطة ، و التعبير عن استغرابه . فقد يستغرب الإنسان أن رأى زيد من الناس مشهور بسلوكه الطيب و الحسن ، يفعل شيئا منكرا و قبيحا . أو قد نستغرب الاعمال الغبية لبعض الحكومات مثل امريكا عند استخدامها للقنبلة النووية ضد اليابان ، أو عندما نسمع أغنية عاطفية يقول فيها المغني بسبس بسبس ميو !!!
لماذا نستغرب
يعيش الإنسان و يحمل معه افكار و معتقدات خاصة به ، و أخرى يتقاسمها مع أبناء مجتمعه ، و لكن ما قد يخالف هذه الافكار او التوقعات و يتعارض معها ، تدفع به الى مشاعر الاستغراب ، مما تثير في داخله عدم الارتياح و الاستقرار ، و نزوع نحو معرفة ذلك الشيء الذي خالفه . وجهة النظر هذه فسرها عالم النفس الاجتماعي ( فستنجر ) في التنافر المعرفي ، إذ يرى أن الفرد عندما تتعارض المواضيع التي يحملها و يؤمن بها مع مثيرات و مواقف جديدة ، تتولد لديه حالة من عدم التطابق و الارتياح و القلق ، مما يدفعه الى اختزال هذا القلق ، عبر محاولة التعرف عليه و تبنيه ، أو الغائه ، أو التقليل منه . على سبيل المثال : لو كان زيد من الناس معروف بدفاعه عن الحرية ، و التسامح ، و فجأة نجده يتخذ موقفا متشددا و محافظا خلاف ما هو معروف به ، هذا الموقف سيولد لدينا حالة من الارتباك و التشوش المعرفي تجاه زيد . فيدفعنا نحو ايجاد تفسير و تعليل نقتنع به لأختزال هذا الارتباك .
لماذا نحاول أن نكون غرباء عن العادة
يحاول بعض الناس أن يكونوا مختلفين عن المحيط الذي يعيشوا فيه ، فنجدهم أحيانا مندفعين نحو أبتكار الاشياء ، أو الافكار ، أو الآلات ، أو المصطلحات الجديدة و الغريبة ، التي تخرج عن ما هو مألوف . هذا النشاط يحدث من الرغبة في كسر التقليد و الروتين اليومي و الإنساني ، و الرغبة في كشف المجهول ، و فتح افاق جديدة من المعرفة ، مثل الاكتشافات العلمية لأجهزة التلفاز و الحاسبات و الاقمار الصناعية و الطائرات التي أوصلت الإنسان أبعد من القمر . و قد عمد الإنسان الى استخدام غرابته في تجارته و مصادر رزقه و الدعاية و الاعلان ، حيث استخدم الصوت و الصورة و المخيلة الإنسانية في جذب الكثير من الناس . و يعلل علماء النفس استخدام ذلك : بأن للإنسان نزعة لملاحظة الاشياء الغريبة بسرعة ، أكثر من الاشياء المألوفة . مثال ذلك : لو رأيت رجلا يلبس تنورة وسط مدينة بغداد ، للفت أنتباهك دون كل الرجال الموجودين في الشارع . كما انك تشاهد النشرة الضوئية المتحركة ، لأحدى المحال التجارية ، دون كل الاعلانات الساكنة للمحال الموجودة في نفس الشارع . و بذلك تكون الغرابة وسيلة نجذب بها أفكار الناس و مشاعرهم و أموالهم !!!
نشرت فى 21 نوفمبر 2011
بواسطة hany2012
هـانى
موقعنـا موقع علمى إجتماعى و أيضاً ثقافـى . موقع متميز لرعاية كل أبنـاء مصر الأوفيـاء، لذا فأنت عالم/ مخترع/مبتكر على الطريق. لا تنس"بلدك مصر في حاجة إلى مزيد من المبدعين". »
ابحث
تسجيل الدخول
عدد زيارات الموقع
1,767,904
ساحة النقاش