ينزع الناس في أي جماعة كانوا الى الامتثال و الالتزام بسلطة و فلسفة و اعراف مجتمعاتهم ، إذ تعد هذه الفلسفة و الأعراف بمثابة الميزان و المرجع الاجتماعي الذي يعرفون من خلاله مدى صحة سلوكهم ، و تصرفاتهم ، و أفكارهم الشخصية .أن هذه الظاهرة هي حدث عام و تقليدي نحسه ، و نشعر به ، و نألفه في حياتنا الاجتماعية ، حتى من دون وجود سلطة او رقيب اجتماعي ، قد يحاسبنا على أخطائنا و زلاتنا ان نحن انحرفنا قليلا عنها . لذا نحن نتلمسها في اعتقاداتنا ، و أحاديثنا ، و تعاملاتنا اليومية . و لكن أليس من الغريب أن ما نؤمن به ، و نستند عليه من معايير و أعراف اجتماعية ، نعمل بها دون ان تكون هنالك أية مراجعات عقلية و منطقية للبعض منها ، و كأننا نوافق على أنها ، خالية من العيب و الخطأ ، أو أنها حقيقة مطلقة ، و مقدسة لا تحتاج إلى أي برهان أو أثبات . بيد أن محاولات الإفراد للاعتراض عليها ،و تغييرها ، أو مجرد نقدها ، قد يعرضنا إلى مشاكل اجتماعية ، و عقوبات صارمة كثيرة ، تفرضها علينا الجماعة ، بالرغم من أن البعض منها قد كشف عن عدم أهليته ، و صدقه بمرور الزمن .أننا لا ننكر مصداقية الكثير من المواريث الاجتماعية ، فالبعض يمتلك نظرية و فلسفة تربوية صادقة و سليمة ، لكننا نتوجه نحو اخطاء المجتمع و عيوبه . فلم هذا التمسك الشديد بها ، و لماذا لا نراجع و نختبر صحة ما نحمله من قيم ، و عادات ، و عبادات ، رغم أنها لا تخضع للمعايير الإنسانية و السماوية الصحيحة و المنطق القويم ؟!! .
نظرية القرود الخمسة
حاول علماء النفس الاجتماعي أن يبحثوا ، و باستمرار عن فرضيات تحاول أن تفسر حراك و تفاعل الافراد داخل المجتمع ، كما حاولوا أن يفسروا كيف أن الفرد يتأثر بالجماعة ، و يخضع لقوتها و الامتثال لها ، ومن هذه المحاولات ظهرت نظرية القرود الخمسة للعالم النفس هاري هارلو .
و افكار هذه النظرية و تجربتها ، تتلخص بما يأتي :
• أحضر خمسة قرود، وضعها في قفص !، وعلِّق في منتصف القفص حزمة موز، وضع تحتها سلماً. بعد مدة قصيرة ستجد أنَّ قرداً لنسميه ( القرد 1 ) ما من المجموعة سيسارع الى ارتقاء السلم محاولاً الوصول إلى الموز. والآن !، كلما حاول القرد ( 1) أنْ يلمس الموز، ينبغي عليك أن تطلق رشاشاً من الماء البارد على القردة الأربعة الباقين في الأسفل وإرعابهم!! بعد قليل سيحاول قردٌ آخر ( القرد 2 ) أن يعتلي نفس السلم ليصل إلى الموز، والمطلوب منك أن تكرر نفس العملية، رش القردة الباقين في الأسفل بالماء البارد. كرر العملية أكثر من مرة! بعد فترة ستجد أنه ما أن يحاول أي قرد أن يعتلي السلم للوصول إلى الموز ستمنعه المجموعة خوفاً من ألم الماء البارد.
• الآن، أبعد الماء البارد، وأخرج قرداً من الخمسة إلى خارج القفص، وضع مكانه قرداً جديداً ( القرد 6)، هذا القرد لم يعاصر و يجرب حادثة الماء البارد ، ولم يشاهد شيئاً مما جرى داخل القفص. فسرعان ما سيذهب ( القرد 6 ) إلى السلم لقطف الموز، حينها ستهب مجموعة القردة المرعوبة سابقا من ألم الماء البارد لمنعه وستهاجمه. حينها ستجد أن ( القرد 6 ) مستغرباً من القرود، ولكن بعد أكثر من محاولة سيتعلم ( القرد 6 ) أنه متى حاول قطف الموز فإنه سينال عقاباً قاسياً من مجتمعه لا يعرف سببه ولا يتبينه .
• الآن أخرج قرداً آخر ممن عاصر حوادث رش الماء البارد غير( القرد 6) ، وأدخل قرداً جديداً عوضا عنه، ليكن ( القرد 7 ). ستجد أن نفس المشهد السابق يتكرر من جديد. سيذهب ( القرد 7) إلى الموز بكل براءة وسذاجة، بينما القردة الباقية تنهال عليه ضرباً لمنعه. بما فيهم ( القرد 6 ) على الرغم من أنه لم يعاصر رش الماء، ولا يدري لماذا يعاقبه أبناء مجتمعه، كل ما هنالك أنه تعلم أن لمس الموز يعني عقاب المجتمع. لذلك ستجده يشارك، ربما بحماس أكثر من غيره بكيل اللكمات والصفعات للقرد الجديد ( القرد 7 ) وربما يعاقبه كي يشفي غليله من عقاب المجتمع له.
• استمر بتكرار نفس العملية، أخرج قرداً ممن عاصر حوادث رش الماء، وضع قرداً جديداً. النتيجة : سيتكرر الموقف. كرر هذا الأمر إلى أن تستبدل كل المجموعة القديمة الجيل الأول/ القديم ممن تعرضوا لرش الماء حتى تستبدلهم بقرود جديدة! الجيل الثاني/الجديد في النهاية ستجد أن القردة ستستمر بالانهيال ضرباً على كل من يجرؤ على الاقتراب من سُلم الموز. لماذا ؟، لا أحد منهم يدري!!، لا أحد من أبناء المجتمع يدري حقيقة ما يجري، لكن هذا ما وجد المجتمع نفسه عليه منذ أن تَكَوَّن !.
وقفة
قد تكون هذه النظرية فسرت كيفية توراث القرود المعايير التي يجب التصرف بها ، إلا أن النظرية قد طرحت سؤال مهما و تركت الإجابة مفتوحة امام الباحثين الآخرين ( لا أحد من أبناء الجماعة يدري حقيقة ما يجري ، لكن هذا ما وجد المجتمع نفسه عليه منذ أن تكون ) ، و سيحاول الباحث ان يجد بعض الإجابة على هذا الطرح . فضلا ان الباحث سيحاول تحليل فلسفة هذه النظرية ، و ما ركزت عليه من عمليات اجتماعية مهمة .
لماذا الامتثال لسلطة المجتمع
أن للجماعة أهمية كبيرة في حياة أي شخص ، فالإنسان يأتي الى هذا العالم ، و يجد نفسه وسط محيط اجتماعي معين ، يحتضنه و يشربه مختلف العادات و التقاليد التي يؤمن بها ، و يأكد عليها . بالإضافة الى ما توفره الجماعة للفرد من اشباعات بيولوجية و نفسية عميقة . لذا يحاول الفرد أن لا يفقد ما قد يوفر له الأب الأكبر ( المجتمع ) من اشباعات . كما أن الفرد يلجأ إلى الجماعة و معاييرها و أعرافها ، لأنها تشكل دليل له ، يستند عليها في تفسير سلوكه ، و أفكاره عبر عملية المقارنة الاجتماعية بين سلوكه و معايير مجتمعه ، لأن من دون ذلك سيتيه الفرد ، و سيصبح مشوشا و قلقا حول عدم معرفة ملائمة سلوكه مع المحيط العام . و هذا ما قد نجده عندما يسافر الفرد الى مجتمع أجنبي تختلف أعرافه عن ما قد آلفه في مجتمعه ، فنجده قد يحاول معرفة عادات و تقاليد هذا المجتمع الجديد و الانسجام في وسطه ، في حين ان الغموض يعزل الفرد و يشعره بالاغتراب ، و بذلك فان الجماعة قوة تمنح الفرد الامان و الانتماء و الحب .
العقاب و الثواب أداة للمحافظة على الجماعة
في اي جماعة كانت هناك مجموعة من الضوابط و القوانين التي تستخدمها الجماعة من اجل المحافظة على تماسكها و عدم انهيارها ، فتستخدم الجماعة الوسائل المكافئة و الرادعة في السيطرة على الافراد و تقويمهم ، و تهذيبهم ، و ان تعودهم على طاعتها . لذا نجد أن المكافأة و العقاب أداة للمحافظة على الموروث الاجتماعي ، و نقله من جيل إلى جيل أخر .
و تختلف المكافأة و العقوبة في الجماعة حسب قوة و حرمة الموروث الاجتماعي ، فالبعض قد يعاقب عليه بالتوبيخ و النقد ، في حين قد يصل انتهاك البعض الأخر الى عقوبة الطرد و القتل . كذلك تختلف المكافأة و العقوبة من مجتمع الى أخر ، فعلى سبيل المثال يعد موروث الاختلاط في مجتمع ما بين الرجل و المرأة أمرا خطيرا و سيئا ، في حين ان مجتمعات اخرى تحبذ و تشجع ممارسة هذه الظاهرة .
التغيير و المقاومة الاجتماعية
أن اي جماعة مهما كانت درجة استقرار و قوة معاييرها الاجتماعية ، فهي معرضة من وقت لأخر الى حركات ( فردية أو جماعية ) فكرية ، و إصلاحية ، او دينية تنادي بالتغيير ، و كن يبقى أثر هذه الحركات مرهون بمدى قوة الموروث الاجتماعي و إيمان إفراد الجماعة به . فبالرغم من تصادم و تعارض بعض المواريث الاجتماعية مع ما تجيء به الحركات الأيدلوجية الجديدة من أفكار ، فأن البعض قد يقاوم تلك الحركات ، و يبقى راسخا لدى الإفراد . لذا فمهما حاولت بعض التيارات الجديدة أن تغير ما كان موجود سابقا ، فأن هناك مقاومة اجتماعية تحاول ان تعيدها الى الوضع السابق ، لأن هذا التغيير يمثل تهديدا لهوية الجماعة و بنائها الاجتماعي . نتيجة لذلك ستجابه هذا التهديد بالرفض و العقوبات الصارمة . فعملية التغيير شاقة ، و تحتاج الى تأييد عام يفوق نصف الجماعة ، أما التيارات الصغيرة ، فهي لا شيء أمام تأييد المجتمع الأكبر .
سيكولوجيا القرد السادس
حاولت بعض الدراسات النفسية الاجتماعية البحث عن مسالة خضوع الفرد الاعمى أمام الجماعة ، و حاولت هذه الدراسات أن تحلل شخصيات هؤلاء الافراد ، و ما يتمتعون به من سمات و خصائص نفسية . من هذه الدراسات ، دراسة كرتشفيلد Crutehfiled حيث وجد ان الافراد الذين يطبقون أوامر جماعتهم دون مراجعتها ، و تحليل منطقها ، هم اشخاص خاضعون ، ولديهم انا ضعيفة ، و غير متعاونين ، و اقل قدرة على القيادة ، و محدودي التفكير، و غير ناضجين في علاقاتهم الاجتماعية ، و يشعرون بالدونية و قلة الثقة ، و اكثر جمودا أو تسلطا ً ، و اكثر ضبطا ، و قليلي الكفاءة الذاتية ، و قليلي البصيرة بشخصيتهم الداخلية . في حين يعلل بعض الباحثين و منهم ووكر Waker و هانز Henys أن هؤلاء الأشخاص لديهم حاجات قوية للانتماء ، و ان المسايرة للجماعة تساعدهم بأن يكونوا محبوبين و مقبولين من الجماعة ، كما وجدا ان مسايرة الإفراد للجماعة يعتمد على مدى قوتها و جاذبيتها و المكافآت الاجتماعية التي تقدمها من اجل الانتماء لها .
مجتمع القرود
على الرغم من وجود ايدولوجيا و رسالات سياسية و دينية و اجتماعية صالحة للعيش و التعامل بين افراد المجتمع ، إلا أن هناك بعض الإفراد او الجماعات الفرعية في وسط هذا المجتمع ، تتخذ من الأعراف و التقاليد الاجتماعية البالية والعنيفة مهجا لها ، رغم عدم صلاحيتها للبقاء الانساني . فنجد أن هذه الجماعات تحاول أن تحافظ عليها ، و أن تدعم وجودها ، و تطبيعها الى الأجيال الاخرى . لذا يرى هؤلاء الإفراد او الجماعات أن هذه المعايير هي قيم ليست صالحة لهم فقط ، بل الى المجتمعات كافة ، فمن الواجب إتباعها ، و تطبيقها ، و عدم رفضها ، أو نقدها ، مما يشجع على ظهور تيارات متشددة و عنيفة ، قد تتخذ من الإعمال الاجرامية و الارهابية الوسيلة الرادعة للافراد او الجماعات الاخرى .
لذا فمن المهم الرجوع الى حكم العقل و المعايير الإنسانية و السماوية العادلة ، التي تؤكد على الرخاء و التقدم و العيش الإنساني ، بدلا من التقليد الاعمى الذي لم يترك سوى المشاكل الاجتماعية الكثيرة ، و المؤلمة ، جيل بعد جيل ، فمن الواجب أن نفكر قبل اتخاذ أي حكم ، لماذا ، و لما نفعل ذلك ؟!!
المصادر
لامبرت ، وليم . و لامبرت وولاس ( 1993 ) : علم النفس الاجتماعي ، ترجمة : سلوى الملا ، ط 2 ، دار الشروق ، عمان .
. موسوعة ويكيبيديا 2010 : نظرية القرود الخمسة ، الموسوعة الحرة ، بريطانيا .
. Crutehfield , R. S ( 1955 ) : Conformity and Character . American Psychologist . vol 10 . No . 11
نشرت فى 21 نوفمبر 2011
بواسطة hany2012
هـانى
موقعنـا موقع علمى إجتماعى و أيضاً ثقافـى . موقع متميز لرعاية كل أبنـاء مصر الأوفيـاء، لذا فأنت عالم/ مخترع/مبتكر على الطريق. لا تنس"بلدك مصر في حاجة إلى مزيد من المبدعين". »
ابحث
تسجيل الدخول
عدد زيارات الموقع
1,793,242
ساحة النقاش