نزار قبّاني يلقّن الشّاعرات قصائدهنّ
فراس حج محمد
هنا سأتوقف عند ملمح من ملامح الضّعف الّتي وقعت فيه كثير من الشّاعرات، وهو الدّوران حول الرّجل معشوقا صعب المنال لا يطال، لتبدو الشّاعرة أسيرة في مشاعرها وكلّ كينونتها لهذا المعشوق "الفريد المتفرّد" في كلّ آيات التّأثير والعشق الجنونيّ، وأظنّ أنّ هذا الملمح لم تسلم منه شاعرة؛ من الشّاعرات اللّواتي يمثّلن التّجارب الشّعريّة الّتي تحفل بها السّاحة الأدبيّة العربيّة سواء أكانت كبيرة مشهورة ذات تاريخ شعريّ كبير أم كانت ناشئة، إلّا فيما ندر.
وقبل أن أعرض لمجموعة من النّماذج ومناقشتها، أحاول الكشف عمّا يحكم تلك النّظرة النّسائيّة للرّجل، إذ يبدو لي أنّها وليدة "حرمان" المرأة من التّعبير والبوح في الحديث عن "الحبّ" فقد كان من "المعيب" عليها أن تبوح وتكتب فيه، فالمجتمع يتربّص بها، ويرجمها بطائفة من الصّفات، ويحشرها في زاوية "المتحرّرة" و"المتولّهة"، وربّما "المتهتّكة"، فجاءت معالجة الشّاعرات لهذا الموضوع كأنّه ثورة على ذلك المجتمع المتربّص المتوجّس منها ومن "جنونها" الّذي ترويه في قصائدها. وما زلنا نقرأ ما قيل في شاعرات "تجرأن" على فعل ذلك، من ذلك ما كتبه ابن دحية الكلبيّ صاحب كتاب "الفنّان من أشعار أهل المغرب" في معرض حديثه عن الشّاعرة ولّادة بنت المستكفي، بعد أن أفاض بذكر صفاتها الحسنة وأثنى على شاعريّتها وتأثيرها، استدرك بقوله: "على أنها- سمح الله لي ولها، وتغمد زللي وزللها- اطّرحت التّحصيل، وأوجدت إلى القول فيها السّبيل؛ بقلّة مبالاتها، ومجاهرتها للذّاتها"<!--.
وربّما ما زال بعضنا إلى الآن، يستنكر على الشّاعرة أن تتغزّل، وأن تعبّر كما يعبّر الشّاعر عما يجول في عقله وما يتردّد في صدره، فيعيد بصيغة أو بأخرى ما قاله "ابن دحية"، وربّما بصورة أشدّ وبتعبيرات لا تمتّ للجمال بأيّ صلة، وخاصّة في دوائر المثقفّين المغلقة، إذ إنّهم هم من يسوّق لتلك النّظرة متّهمين الشّاعرة باتّهامات أقلّها وصفا أنّها "عاشقة، شبقة".
وليس هذا التّعليل السّابق ذكره هو السّبب بحدّ ذاته في ضعف شعر الشّاعرات، وإنّما ذلك "الانجرار" وراء تلك التّعبيرات الّتي لم تكن في أغلب الأحيان تجسيدا لتجربة حقيقيّة واقعيّة، وإنّما هو الانسياق الخاوي من الهدف وصناعة الجمال الشّعريّ ليس إلّا، لمحاولة التّخلّص من تلك الهيمنة، لتثبت الشّاعرة "حرّيّتها" ومقدرتها وحضورها، فيأتي شعرها باهتا فجّا عديم التّأثير، ولعلّ الكيفيّة الّتي يتلقّاها بها الرّجل "الغريب" أو الشّاعر/ النّاقد من إطراء، إنّها كما يقول الغَذّامي "تطلب عبقريّة الرّجال لأنّها لا تمتلك نموذجا لشيء يمكن أن يسمّى بعبقريّة النّساء"<!--، ربّما يكون لذلك شعرها مزيّفا أو مبالغا فيه أحيانا، وإعلاء لهذه الشّاعريّة جعلها تتورّط في القول على هذا المنوال، ليصبح أشبه "بالموضة" الّتي تقبل عليها الشّاعرات دون أن تشعر بجماليّة الشّعر وعذوبة التّعبير، وطرافة الصّورة.
وربّما لا أكون مجافيا للحقيقة لو قلت إنّه كان لأشعار نزار قبّاني الّتي جاءت على لسان المرأة الدّور الكبير في ترسيخ هذه النّظرة، وخاصّة تلك القصائد الشّائعة المغنّاة؛ "لا تنتقد خجلي" و"أيظنّ" و"إلى رجل"، وغيرها، وربّما وجدت لها تلك الأشعار صدى كبيرا في شعر الشّاعرة الكويتيّة سعاد الصّباح، لا سيّما في قصيدتها المغنّاة أيضا "لا تسأل"<!--، ليصبح "لا شيء مهمّ إلّا أنت" و"كنوز الدّنيا من بعدك ذرات غبار".
لقد بدت الشّاعرة سعاد الصّباح في هذه القصيدة لا شيء دون ذلك الرّجل/ المعشوق، فقد صوّرته "قدرا يسكن روح الرّوح/ ويرسم شكل الوقت". وعلى الرّغم من جماليّة التّعبير الشّعريّ إلّا أنّ المرأة هنا قد بدت تدور في فلك الرّجل، فهو كلّ شيء في حياتها. وربّما هذا من مخلّفات اللّا وعي الّذي يحتلّ عقل المرأة ووجدانها بشكل عامّ، وليس الشّاعرة فقط، ويتماهى مع الأمثال الشّعبيّة، ألم تؤمن المرأة إلى الآن أنّه "ظلّ راجل ولا ظلّ حيطة" على رأي المثل المصريّ، إنّه رجْع ثقافيّ مترسّخ، ربّما لن تفلت منه المرأة بسهولة إلّا مكابرة أو معاندة.
ولم تكن سعاد الصّباح وحدها من وقعت في هذا الشّرك العاطفيّ، فها هي الشّاعرة العراقيّة لميعة عبّاس أيضا تعبّر بالطّريقة ذاتها. أختار من قصيدة لها بعنوان "شهرزاد" مقطعين، كفيلين بإعطاء صورة للشّاعرة في نظرتها للرّجل/ المعشوق، وكيف ترى نفسها مأسورة في كيانه<!--:
ستبقى، ستبقى شفاهى ظماء
ويبقى بعينى هذا النّداء
ولن يبرح الصّدر هذا الحنين
ولن يخرس اليأس كلّ الرّجاء
هكذا تستهلّ قصيدتها معلنة الضّعف والانكسار، بكلام شائع عاديّ لا شعر فيه، مفتقر للصّور الطّريفة وجمال التّعبير، فجاء التّعبير باهتا مفخّخا بمشاعر امرأة تعاني ما تعانيه من ألم الحبّ، دون أن تجد طريقة شعريّة للتّعبير المدهش الّذي يصنع الشّعر في لحظة وجد عاطفيّة إنسانيّة، تجعلها مميّزة في الأداء الشّعريّ.
وتتابع الشّاعرة هذا "النّواح" الأنثويّ الفجّ في المقطع الثّاني، لتظلّ تحوم حول الفكرة ذاتها بكلام بسيط يفتقد الشّعر والشّاعريّة والجمال اللّغويّ، مع إعلان الانقياد التّامّ لذلك الرّجل "المتفرّد" ليس واهب الحبّ فقط، وإنّما واهب الحياة المتمنّاة الّتي تنسى فيها الوجود/ وجودها وكينونتها:
سيبقى لكفّي هذا البرود
ولن تعرف الدّفء حتّى تعود
عناق الأكفّ آثار الدّماء
وعلّمنى كيف ينسى الوجود
إنّها مركزيّة الرّجل الّتي تدور حولها المرأة، في أحيان كثيرة، وتلحّ عليها في اللّا وعي، لتعيد الشّاعرة هذه المعاني في قصيدة لها بعنوان "العشاء الأوّل"، مجسّدة لحظة لقائها العابر المبنيّ على الصّدفة "القدريّة"، وأختار مقطعا واحدا فقط، يحيل إلى ما قاله يوما نزار قبّاني على لسان المرأة في قصيدة "لا تنتقد خجلي":
من أين تأتي بالفصاحة كلّها
وأنا يتوه على فمي التّعبير؟
أنا في الهوى لا حول لي أو قوّة
إنّ المحبّ بطبعه مكسور
يا هادئ الأعصاب إنّك ثابت
وأنا على ذاتي أدور أدور
فرق كبير بيننا يا سيدي
فأنا محافظة وأنت جسور
تقول الشّاعرة لميعة عبّاس:
خرساءَ كنتُ
وضحِكتَ واثقاً
زعزعْتَـني
ضِـحْـكتُـكَ الشَّمْـسُ بُعَيْـدَ مطرٍ تَـغْـمُـرُني
عَـجِـبتُ كيفَ لم أذُب
بدفئها
وكيفَ رجلي لم تزلْ تحملني
إنّها المعاني نفسها، إنّها الصّورة النّمطيّة الّتي رأى فيها الرّجل/ الشّاعر نزار قبّاني المرأة؛ امرأة لا تقاوم سحر الرّجل، واثق من نفسه وهي ضعيفة مستسلمة، مع أنّ هذا المعنى في حدّ ذاته ليس عيبا وليس محظورا على المرأة أن تقوله، ولكن ما يلفت النّظر فيه، أنّه ترداد للنّظرة الذّكوريّة عن المرأة، فما أنطقه بها نزار نطقت به، دون أن يكون هناك إضافة شاعريّة حقيقيّة من صورة أو تعبير، أو دهشة، عدا ما فيه من سرديّة مشهديّة لمشهد قد يتكرّر مع كلّ امرأة مصابة بعقدة الذّكر إلى هذا الحدّ السّاذج.
هذه النّماذج الّتي وردت أعلاه والمقتبسة من شاعرتين "مكرّستين"، يجد لها الدّارس أمثلة كثيرة من شاعرات أخريات، يفضّلن أن يكنّ ضحايا الرّجل ونظرته الخاصّة بالمرأة مع عدم قدرة تلك الشّاعرات على الإتيان بما هو جديد، لا في الصّورة الشّعريّة، ولا في التّعبير الشّعريّ المعبّأ بالدّهشة والجمال، فيبقى هذا الشّعر يدور في حلقة التّفريغ العاطفيّ الذّاتيّ، ولا يتعدّى البوح والبكاء والاستسلام.
<!--[endif]-->
<!-- الفنّان من أشعار أهل المغرب، ابن دحية، تحقيق: إبراهيم الأبياري وزملاؤه، دار العلم للجميع، لبنان، بيروت، د.ت، (ص8)
<!-- المرأة واللّغة، مرجع سابق، (ص47)
<!-- غناء الفنّانة اللّبنانيّة ماجدة الرّومي، وألحان مروان خوري وتوزيع الموسيقار ميشال فاضل
<!-- المقاطع الشّعريّة هنا جميعها مأخوذة من (فيديوهات) مسجلّة للشّاعرة أو للشّاعر نزار قبّاني مغنّاة، منشورة في موقع (اليوتيوب)