فراس حج محمد

موقع يختص بمنشورات صاحبه: مقالات، قصائد، أخبار

لكي تصبحَ الشّاعرةُ شاعراً كبيرا؟

فراس حج محمد

أعود مرّة أخرى لمناقشة موضوع شعر النّساء. ثمّة إجابة جديدة قد تخلّقت، وأنا أتأمّل المشهد الشّعريّ والظّروف المحيطة به. المناقشة معتمدة هُنا على الطّبيعة البيولوجيّة للنّفس الإنسانيّة، وأثر العوامل الاجتماعيّة والثّقافيّة فيما يُعرف في علم الإنثروبولوجيا الثّقافيّة بـ"سسيولوجيا الثّقافة". وسأكون مضطرا إلى المقارنة بين الرّجل والمرأة فيما يتّصل بالكتابة عموما، والشّعر على وجه الخصوص، غير مقتنع بما أورده "جايمس فنتن" في كتابه "قوّة الشّعر" عندما قرّر "أنّ هناك قدرا من الصّفة الذّكوريّة في النّموذج الأعلى للشّاعر، وهو ما يصعب على المرأة الانسجام معه"، ولكنّه باعتقادي كان على حقّ عندما أكّـد أنّ الشّاعرة "سليفيا بلاث" قد تخلّت "عن النّموذج الذّكريّ الأعلى، وأن تحاول أن تبعث من جديد معنى كلمة شاعرة" (قوّة الشّعر، جايمس فنتن، ترجمة: د. محمّد درويش، ط 1، 2009، ص 234)

روى ابن قتيبة في كتابه "الشّعر والشّعراء" عن الأصمعيّ قوله "الشّعر نكد بابه الشّرّ، فإذا دخل في الخير ضعف". (الشّعر والشُّعراء، ابن قتيبة، تحقيق: د. مفيد قميحة، ط 2، 1985، ص 188). وعلى النّاقد الحديث ألّا يتجاهل مثل هذا القول، ويمرّ عنه مرورا عابرا، بل عليه أن يقف مليّا عنده وأن يحلّل هذا الحكم النّقديّ المحيل إلى معارف شتّى، على أنّ هذا القول لا يعني بحالٍ من الأحوال أنّ الشّعر نبتٌ شيطانيّ إغوائيّ مُجَرَّم، كما يُشاع اعتمادا على النّصّ القرآنيّ المفهوم خطأً "والشّعراءُ يتّبعهم الغاوون، ألم ترَ أنّهم في كلّ وادٍ يهيمون" (القرآن الكريم، سورة الشّعراء، الآيتان: 224 و225)، وإنّما له دلالات أعمق معنىً من المعنى السّطحيّ الظّاهر، ويتفرّع من هذه المسألة المعقّدة، إبداعيّا وفكريّاً، عدّة أسئلة شائكة؛ لا يوجد لها بالفعل إجابات قاطعة ومحدّدة.

فهل الشّاعر مخلوق مختلف ذو ميّزات خاصّة واستعدادات فطريّة وُهِبها وحده؟ وهل ثمّة فرق بين الشّعر والحكمة المُدرَكة بالعقل؟ وهل العقل غائب أو مغيّب في العمليّة الشّعريّة؟ هل الشّاعر متمرِّد؟ هل الشّاعر فحل ضاجّ برجولته، عنيف في خيالاته، تأخذه إلى ما لا تأخذ غيره، فيَتْعَب ويُتعِب، أو لعلّه ينتشي وهو يمارس فعل الخلق الشّعريّ؟ إن كانت إجابة كلّ تلك الأسئلة كلمة "نعم". فهل المرأة الشّاعرة إذن مختلفة، متمرِّدة، لا عقلانيّة، ضاجّة بأنوثتها. مُتعبِة ومُتعبَة؟ وإن كانت كذلك فعلا، فلماذا لم تكن ذات حضور أسوة بهذا المخلوق المسمّى "شاعراً".

لقد أتاح المجتمع والقانون والعُرْف وكلّ العوامل الاجتماعيّة والثّقافيّة مجالا فسيحا للشّاعر أن يكون شاعراً، غير خاضعٍ للقوانين والنّواميس الاجتماعيّة، والثّقافيّة الدّينيّة، حتى اخترعوا للشّاعر أعذارا لغويّة ومنطقيّة، مجازيّة وحقيقيّة، وتمرُّدا مباحا مشروعا في الخلق والصِّناعة، فقالوا: "يحقّ للشّاعر ما لا يحقّ لغيره". وهنا يجب أن نتأمّل من هو غيره، فصيغت من أجل الشّاعرِ الضّرورات الشّعريّة، والشّواهد اللّغويّة، نحويّة وصرفيّة ودلاليّة، ونادرا، بل ربّما انعدمت أمثلة على تلك الشّواهد من شعر النّساء. فلماذا الشّاعر تحديدا؟ لماذا يحقّ له الاختراع والخلق والتّجلي والتّغني والتّسامي وحده دون الشّاعرة؟ فلم يلاحظ مثلا أنّ شاعرة ما كان لها شاهد بلاغيّ أو نحويّ، وهل فعلا لم يوجد شواهد على المسائل اللّغويّة من شعر النّساء؟ وهل كانت الشّاعرات إلى هذا الحدّ مدجّنات اللّغة ليتّسق شعرهنّ تماما مع كلّ فرعيّات منظومة القواعد اللّغويّة بكلّ مستوياتها المشار إليها أعلاه.

مسألة أخرى متّصلة بالعلاقة بين الشّاعرة والشّاعر. وتشير إلى أنّه لم يحتمِ شاعر بشاعرة على مدى التّاريخ، واحتمت شاعرات كثيرات بشعراء وكتّابٍ كبار. وقد اتّهمت شاعرات كثيرات في العصر الحديث أنّ الشّاعر المعروف والمشهور هو من يرعاها، وربّما كتب لها قصائدها أو على أقلّ تقدير راجعها معها نصّا نصّا وعدّل فيها حذفا وإضافةً، فرضي عنها واطمأنّ قبل أن يطلق عصافيرها بين يدي القرّاء والنُّقاد، فشكلّوا ثنائيات علائقيّة، وربّما أفاضوا فيما هو أبعد من علاقة الكتابة إلى علاقات أكثر حميميّة، على اعتبار أنّ الشّاعر فحل له ما له، وليس عليه ما على الشّاعرة من إثم أو حرج، فكثرت الشّائعات الثّقافيّة الّتي لا تخلو من سوء النّيّة الثقافيّة والاجتماعيّة كذلك.

في مقابل كلّ ذلك، ولتكون الشّاعرة شاعرا أيضا. وأؤكد أن تصبح الشّاعرة شاعرا، لا بدّ لها من أنْ تحصل على كلّ امتيازات الشّاعر الممنوحة له، عرفا ولغة وواقعا وقانونا ثقافيّا واجتماعيّا. ولا بدّ من أن تمارس "فحولتها" وتمرُّدها، وتعيش حرّة، تمارس نفسها شعرا، وتتيح لكلّ تلك العوالم الّتي تمور داخلها أن تتفجّر لتغرق كلّ من حولها، وتَخرج كما ينبغي لها أن تخرج دون أن تفكّر بالشرّ والنّكد اللذين أشار لهما الأصمعيّ، ودون أن تستسلم لنظريّة جايمس فنتن الّتي تعيق الإبداع فطريّا لدى المرأة، ودون أن تفكّر النّساء كذلك إلا شعريّا، بعيدا عن حُجُب المجتمع والأفكار الحاجزة، العاجزة عن صنع الشّاعرة كما ينبغي أن تكون، ولا تفكّر لا خيرا ولا شرّا، فليس مطلوبا منها أن تكون مريم العذراء، ولا فاطمة الزّهراء. ولا تفكّر بالتّعب، ولا بالرّاحة، أو تعديل أمزجة الرّجال حولها.

ولا بدّ من الإشارة إلى أنّه نادرا ما يوجد شاعر عظيم، وأشدّ ندرةً أيضا أن توجد شاعرة عظيمة في كل زمان، ولذا فإنّ من مصلحة الشّعر قبل المصلحة الذّاتيّة أن تدرك الشّاعرة المؤهّلة لمثل هذا الدّور تلك المسؤوليّة، فتنظر إلى نفسها خالقةً لغة جديدة من عوالم أنوثتها، فما دام الرّجل يتغنّى بفحولته دون أن يجد من يلومه. فالمرأة كذلك لها ما للشّاعر وليس عليها أيّ إثم أو حرج. يكفيها الشّعر يرفعها إلى مصافّ الابتكار. ويحميها من التّدحرج إلى قعر بركة، ماؤها ضحل، لتستحقّ لقب الشّاعرة المتفرّدة المتمرّدة غير الكائنة في جلباب الشّاعر الكبير والمعروف والسّاعي ليكون إمبراطورا أو شهريارا، وربّما مارس الدّورين معاً. ليس ردّا للتّهمة عنها فقط، بل لأنّ ما فيها من كوامن إبداع فطريّ تستحقّ أن تبدو ناضجة دون أن تُهَدْهَدَ مقهورة أو محشورة خوفا من مجتمع ما زال يقدّس التّاء المربوطة من أجل أن يمارس فحولة زائفة في الأسرّة الباردة الخاوية من متعة الشّهوة الرّوحية المقدّسة للفعل الإنسانيّ الجسديّ.

 

فمتى استقلّت الشّاعرة بنفسها وابتعدت عن فلك البطاركة المحتالين ستلتفت إلى ذاتها وتُخْلِصُ، فتَخلُصُ لقصيدتها، فكما ترى الشّاعرة اللّبنانيّة مادونا عسكر، وهي السّاعية بجدّ لامتلاك ناصية الشّعر بلغة جديدة مختلفة عن السّائد البوحيّ، وتؤكّده في قصائدها المنشورة: "الشّعر يفترض انعزالاً داخليّاً بمعنى ابتعاد ضمنيّ عن الأضواء وحبّ الظّهور والمجاملات، وكلّما انعزل الشّاعر لمس الجمال وأبدع"، وهذه العوامل المانعة من لمس الذّات من الداخل في المقتبس السّابق، هي ما تجعل الشّاعرة- والشّاعر كذلك- واقعة أحيانا تحت تأثير المدح الزّائف، فتحوز ألقابا فضفاضة كبرى، لا تجعل منها شاعرة كبيرة بقدر ما يجعلها أضحوكة أمام ذاتها قبل القرّاء والنّقاد. فإن انتبهت الشّاعرة لهذه المصيدة الذّكوريّة سيّئة النوايا، وأخذت بالحسبان كلّ تلك العوامل المشار إليها أعلاه، ساعتئذٍ لا سلطة سترفعها سوى سلطة النّصّ الخالدة، ولتغدوَ الشّاعرة شاعرة عظيمة ملحقة بكلّ "قوّة شعرٍ" تاء التّأنيث لهذا الكائن اللّغويّ المحدّد بالشّعر، فما زال ينتظر الشّاعرة المؤنّثة بعد أنّ ملّ من استقبال الشّاعر الفحل وتمدُّد سلطته الجماليّة.

المصدر: فراس حج محمد
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 331 مشاهدة
نشرت فى 31 يناير 2017 بواسطة ferasomar

فراس عمر حج محمد

ferasomar
الموقع الخاص بــ "فراس حج محمد" »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

725,579

فراس حج محمد

نتيجة بحث الصور عن فراس حج محمد كنانة أون لاين

من مواليد مدينة نابلس في فــلسطين عــام 1973م، حاصل على درجة الماجستير في الأدب الفلسطيني الحديث من جامعة النجاح الوطنية. عمل معلما ومشرفا تربويا ومحاضرا غير متفرغ في جامعة القدس المفتوحة. 

عمل محررا لغويا في مجلتي الزيزفونة للأطفال/ رام الله، وشارك في إعداد مواد تدريبية في وزارة التربية والتعليم الفلسطينية، وكان عضوا في هيئة تحرير مجلة القانون الدولي الإنساني/ الإصدار الثاني الصادرة عن وزارة التربية والتعليم في فلسطين.

نشر العديد من المـقالات والقـصائد في مـجالات النشر المختلفة الإلـكترونية والصحف والمجلات في فلسطين والوطن العربي وبريطانيا وأمريكا وكندا والمكسيك. وشارك في ندوات وأمسيات شعرية ومؤتمرات في فلسطين.

الكتب المطبوعة: 

رسائــل إلى شهرزاد، ومــن طقوس القهوة المرة، صادران عن دار غُراب للنشر والتوزيع في القاهرة/ 2013، ومجموعة أناشيد وقصائد/ 2013، وكتاب ديوان أميرة الوجد/ 2014، الصادران عن جمعية الزيزفونة لتنمية ثقافة الطفل/ رام الله، وكتاب "دوائر العطش" عن دار غراب للنشر والتوزيع. وديوان "مزاج غزة العاصف، 2014، وكتاب "ملامح من السرد المعاصر- قراءات في القصة القصيرة جدا- دار موزييك/ الأردن وديوان "وأنت وحدك أغنية" عن دار ليبرتي/ القدس وبالتعاون مع بيت الشعر في فلسطين، وكتاب "يوميات كاتب يدعى X"، وكتاب "كأنها نصف الحقيقية" /الرقمية/ فلسطين، وكتاب "في ذكرى محمود درويش"، الزيزفونة 2016، وكتاب "شهرزاد ما زالت تروي- مقالات في المرأة والإبداع النسائي"، الرقمية، 2017، وديوان "الحب أن"، دار الأمل، الأردن، 2017. وكتاب "ملامح من السرد المعاصر- قراءات في الرواية"، مكتبة كل شي، حيفا، 2017. وكتاب "ملامح من السرد المعاصر- قراءات في متنوع السرد"، مؤسسة أنصار الضاد، أم الفحم، 2018، وديوان "ما يشبه الرثاء"، دار طباق للنشر والتوزيع، رام الله، 2019، وكتاب "بلاغة الصنعة الشعرية"، دار روافد للنشر والتوزيع، القاهرة، 2020. وكتاب "نِسوة في المدينة"، دار الرعاة وجسور ثقافية، رام الله، وعمّان، 2020. وكتاب "الإصحاح الأوّل لحرف الفاء- أسعدتِ صباحاً يا سيدتي"، دار الفاروق للنشر والتوزيع، نابلس، 2021. وكتاب "استعادة غسان كنفاني"، دار الرعاة وجسور ثقافية، رام الله، وعمّان، 2021، وكتيّب "من قتل مدرّس التاريخ؟"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2021. وديوان "وشيء من سردٍ قليل"، وزارة الثقافة الفلسطينية، رام الله، 2021. وديوان "على حافّة الشعر: ثمّة عشق وثمّة موت"، دار البدوي، ألمانيا، 2022. وكتاب "الكتابة في الوجه والمواجهة"، الرعاة وجسور ثقافية، رام الله وعمان، 2023. وكتاب "متلازمة ديسمبر"، دار بدوي، ألمانيا، 2023. وكتاب "في رحاب اللغة العربية"، دار بدوي، ألمانيا، 2023، وكتاب "سرّ الجملة الاسميّة"، دار الرقمية، فلسطين، 2023. وكتاب "تصدّع الجدران- عن دور الأدب في مقاومة العتمة"، دار الرعاة وجسور ثقافية، رام الله وعمّان، 2023، وديوان "في أعالي المعركة"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2023، وكتاب "مساحة شخصية- من يوميات الحروب على فلسطين"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2024، وكتاب "الثرثرات المحببة- الرسائل"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2024، وكتاب "فتنة الحاسة السادسة- تأملات حول الصور"، دار الفاروق للثقافة، نابلس، 2025. 

حررت العديد من الكتب، بالإضافة إلى مجموعة من الكتب والدواوين المخطوطة. 

كتب عن هذه التجربة الإبداعية العديد من الكتاب الفلسطينيين والعرب، وأجريت معي عدة حوارات ولقاءات تلفزيونية.