بين خيبة الكاتب وخيبة القارئ، سقط النّصّ
قراءة في سلسلة "يوميّات خائب" للكاتب الفلسطيني "فراس حج محمد"
مادونا عسكر/ لبنان
لمن كتب الكاتب القدير "فراس حجّ محمد" هذه السّلسلة، لنفسه أم للقارئ؟ وهل أتت هذه النّصوص تعبيراً عن الذّات وبوحاً وجدانيّاً فاض من روح متعبة ومتألّمة، أم اتّسمت بطابع استئثاريّ غلب عليه أسلوب محاورة الذّات بغض النّظر عن حضور القارئ؟
"ما يقتل الكاتب هو القارئ الّذي لا يسمعه. القارئ الّذي يقول له: قرأتُ ولم أفهم. قارئٌ لا يقرأ." (أنسي الحاج). وأمّا ما يفني الكاتب في غياهب اللّغة فهو القارئ الّذي يقول: "قرأت وفهمت ولن أعود". فقد ينتابه في هذه الأثناء شعور بالملل والرّتابة الّتي خلقها أسلوب الكاتب مع عدم يقينه أنّه مرتهن للقارئ لا لنفسه، وعدم إدراكه أنّ استمراريّة كلّ كاتب مرتبطة بالقارئ .
جبل الكاتب نصوصه بالخيبة والهزيمة والاستسلام، ولا ضير في ذلك إذا ما أتت اللغة في سياق يستفزّ القارئ للتّفاعل مع النّص وليس للتّعاطف مع الكاتب. فالفرق شاسع بين التّعاطف والتّفاعل. التّعاطف يتأتى عن قراءة عابرة لنصّ يطرح إشكاليّة الحزن والوجع، يتذكّر القارئ من خلالها بعضاً من أوجاعه إلّا أنّه لا يندهش! أمّا التّفاعل، فهو لحظة الاتّحاد بين الكاتب والقارئ، فينطق الأوّل ويندهش الثّاني ويدخل إلى أعماق ذاته ليبحث فيها عن لغة يحاكي بها الكاتب. افتقدت هذه النّصوص لعامل الدّهشة، فأتت رتيبة خالية من تطوّر إبداعي يبلّغنا ذروة إحساس الكاتب. ما جعلنا نشعر وكأنّنا أمام مياه راكدة لا تتجدّد ولا توحي بالحياة.
- افتتاحيّة ضعيفة:
لعلّه كان من الأفضل على الكاتب أن يصوغ نصّاً كاملاً متكاملاً، يعبّر فيه عن وجعه وشعوره بالخيبة، بدل أن يجهد نفسه في كتابة سلسلة من النّصوص افتقرت لعنصر التّشويق وحثّ القارئ على تتبّع الأحداث. ويتبيّن لنا من الجزء الأول من السّلسلة أنّ الكاتب مارس فعل كتابة بعيداً عن الاحتراف، فأسقط عن النّص إبداعه الافتتاحيّ، الّذي يُفترض أن يكون العنصر الأوّل في جذب القارئ وأسره في سلسلة من إحدَ عشر نصّ. (احتقرَتْني أمسِ، واحتقرتُ نفسي، وانتهى بنا الطريق الطويل بجملة "سامحني قسيت عليك"! عادي جدا، ما أنا على رأيك "مش أول مرة بصير فيي هيك"!). إنّ تداخل اللّهجة العاميّة مع فخامة اللّغة الفصحى، أضعف النّص وأحدث خللاً في عمقه الوجداني. ما أبعدنا عن ملامسة وجع الكاتب، وخلق هوّة بين عالم الكاتب وعالم القارئ.
- خيبات تتكرّر:
يستقطع الكاتب نصوصه النّثريّة بقصيدة بدت وكأنّها مغرّدة خارج سرب السّلسلة، وما شكّلت جزءاً لا يتجزّأ من السّلسلة. فلو قرأنا تلك الأبيات على حدة، ما وجدنا لها صلة أو رابطاً لما ورد بالأجزاء السّابقة أو اللّاحقة. أو لعلّ الكاتب استدرك ملل القارئ وربّما خيبته، فابتنى له عالماً حاول من خلاله استدراجه لمتابعة القراءة.
لا تكرهوا الشعر إن الشعر غضبانُ
إذ كيف يكتب عند الموت هيمانُ
حلفتك الله إن جاءتك قافيةٌ
فاصمت بحر الجوى والقلب حيرانُ
أنا المخيّب في فكري وملهمتي
والليل مستعر والروح نيرانُ.
- بين خيبة الكاتب وخيبة القارئ:
شكّل الجزء التّاسع من السّلسلة ذورة الخيبة! إذ اعترف الكاتب علناً أنّه يوجّه رسالة خاصّة جدّاً ويستبعد القارئ.!
تؤكّد لنا الجملة الأولى من النّصّ استمرار الكاتب في استئثار النّصوص: (عليكِ أنتِ إيقاف النزيف. اقرأي ولا تمرّي عنها مرور الساهرين غير العابئين!) لكنّه لم يقف عند هذا الحدّ، بل تخطّاه ليلوم على القارئ استنزاف طاقته في قراءة خيبات لا صلة له فيها لا من بعيد ولا من قريب.
كلّ نصّ إبداعي يولد في ذات الكاتب هو بمثابة بحث عن القارئ. ومن يقل غير ذلك فهو إمّا يكتب لنفسه وسيقف عند هذه الحدود يوماً، وإمّا يكتب لنخبة معيّنة تستطيع استيعابه. إلّا أنّ الكاتب قيمة إبداعيّة ينبغي أن تصل إلى الجميع كما ينبغي أن يتفاعل معها العدد الأكبر من القرّاء. وهذا يعتمد على قدرة الكاتب على استفزاز كلّ قارئ ليسرق منه الوقت المطلوب لقراءة النّص حتّى وإن كان من معارضيه. لا شكّ أنّ قدرة الأستاذ "فراس حج محمد" لطالما كانت عظيمة على توصيل الفكرة والإحساس لشريحة كبيرة من القرّاء، إلّا أنه في هذا النّصّ استبعد القارئ صراحةً. وهنا تشكّلت الثّغرة الّتي أدّت إلى طلب إيقاف هذه النّصوص. (وردتني رسائل اعتراض كثيرة، مباشرة وغير مباشرة على ما أكتبه من هذه اليوميات الخائبة، إلى درجة أنني أصبحت مكتئبا. رسالة تصف نصاً من النصوص بأنه موجع، وأخرى تطالبني بكتابة شيء مختلف، فصاحب الرسالة لا ينقصه خيبة مضاعفة، ورسالة ثالثة تكشف عما يعتمل في النفوس من خيبات متكاثرة، وكأن هذه النصوص الخائبة خيبة صاحبها المدهوس بآلام لا حصر لها قد حركت أشجان النفوس المكدودة بآلام قلوبها. ولم تستطع أن تقول أو تبوح، فحضرت هامشا على متن النص، كما أنا تماما إذ أصبحت هامشياً في ذيل هامش مهمش، لا يستعمل ولا يلتفت إليه!)
يمكن للكاتب أن يعبّر عن نفسه وهذا أساس كلّ نص ومحور كلّ كتابة، إلّا أن قيمة الكاتب تكمن في التّعبير عن الآخر في نصّ نحاول فيه التّعبير عن أنفسنا. ولمّا وصلت رسائل عدّة للتّوقّف عن كتابة هذه النّصوص، تبيّن أن القارئ لمس أنّه غير معني ولم يُعَبَّر عنه، كما أنّه لم يشعر أنّ الكاتب يتوجّه إليه بشكل شخصيّ.
بالمقابل نلوم على الكاتب صياغة الفقرة التالية: (لا أطالب أحدا بقراءة هذه الخيبات، أو التأثر بها. عليه أن يتجاوز عنها سريعا إلى غيرها من النكت والصور البلهاء، أما أنا فسأكتب ما شاءت لي الخيبة أن أكتب حتى تقضي الخيبة ما هي قاضية في أمر النفس التي لم تقتنع بذلك الحدث الذي جعل النفس محصورة بين قوسين معقوفين كحالة دالة ليست فريدة ولكنها عقيمة.)
كلّ نصّ يُنشر يمسي ملكاً للقارئ، ويحقّ له أن يفهمه ويحسّه ويتفاعل معه كما يريد. ولمّا كان الأستاذ "فراس حج محمد" لا يطالب أحداً بقراءة النّصوص فلماذا تمّ النّشر؟ من ناحية أخرى، يُسقط استبعاد القارئ لقب "كاتب" عن صاحبه. لو عرف الكاتب أهمّية حضور القارئ، ما تجرأ على إظهار ردّة فعل أضعفت حضور الكاتب وعمق تركيبة النّصّ.
"أكذوبةٌ ساذجة ادّعاءُ الكاتب أنّه لا يكتب لأحد بل لنفسه. مثل قول حسناء إنّها لا تتبرّج لإعجاب أحد بل إرضاءً لنفسها." (أنسي الحاج)