"مثقفة" بدوي الدقادوسي على المحكّ
صورة المثقف الذي يعاني من الانفصامات الفكرية والسلوكية!
فراس حج محمد/ فلسطين
"ألهبت ظهرها سياط الوحدة, طاردها شبح العنوسة. دعت بضرورة التعدد. تزوجت. شهرت سيفها في وجه المجتمع الذكوري الذي يسمح بالتعدد"، هكذا بدت صورة تلك المثقفة، متناقضة، لم تستفد شيئا من ثقافتها غير أنها شيء مزيد عن الحاجة، لم تثبت على موقف واحد، تميل حيث المصلحة، لماذا كلّ هذا؟ تعالوا نر ما أحدثت هذه المثقفة!!
في هذه القصة القصيرة جدا رجع أصداء لثقافة غير متوازنة، فما الذي يجعل الإنسان متقلبا في مواقفه ومبادئ؟ غير محصورة القضية بموضوع النص، ولكن يصحّ التعميم في كلّ المواقف السياسية والاحتماعية والثقافية.
إنها قصة امرأة أو نساء كثيرات في مجتمعاتنا العربية يعانين من الوحدة، يطاردهن شبح العنوسة، ماذا تفعل لتتخلص من هذا المارد النفسي القاتل، ومن أجل أن تتزوج تقع في تناقضها الذي أشرت إليه سابقا، صارت تدعو لضرورة تعدد الزوجات من أجل أن تحوز زوجا متزوجا أصلا، وبعد أن حصلت على مرادها وتزوجت عادت لتحارب بشدة قضية التعدد، وتتهم المجتمع بأنه مجتمع ذكوري، هذه هي صورة مثقفة بدوي الدقادوسي، فما هي ظلال تلك القضية أولا، وظلال تلك القصة ثانيا؟
بدت المرأة هنا حريصة على أن تتزوج نتيجة ما تعاني من قسوة الوحدة، ويا لها من قسوة فعلا، وهنا تبدو المرأة وهي مثقفة ويفترض أنها واعية، تبحث عن زوج أي زوج ليكون شريكها، ويخلصها من الوحدة، وبدت امرأة بلا مشاعر وبلا قلب ولم تظهر عليها سوى لغة العقل والمنطق تحت وطأة الواقع الأليم الذي تحياه، فأين الحبّ؟ وأين بحثها عن الحب في سنواتها الخداعات التي مرت؟ فهل كانت مغرورة، لا تهتم بأمر الرجال، ولا تريدهم؟ ولكن ما الذي جعلها تطلبهم وقد تراءى لها شبح العنوسة؟ هل تدنى سقف مطالبها في زوج المستقبل، وأصبحت تطلبه تحقيقا للمثل الذي يقول "ظلّ راجل، ولا ظلّ حيطة"، واقعان مؤلمان جدا، ولكنهما حقيقيان، تعاني منهما كثيرات.
إن هذا يفتح القضية على مصراعيها في مدى احتياج المرأة للرجل، وقد حصلت ما حصلته، أم أنها لم تحصل شيئا ذا بال، وظلت تحتاج للرجل؟ أمور كثيرة بحاجة لمراجعة على ما يبدو، يظهر أننا لم نراوح مكاننا، وما زلنا نعالج القشور، وانطلت علينا حيل متعددة من وهم التغيير.
لا أحد ينكر على المرأة بحثها عن زوج ليكون شريك حياتها، وتقبل به حتى وإن كان متزوجا، ويريد التعدد، على أن لا تمثل تلك المرأة مثالا للتناقض السلوكي الفكري البائن بينونة كبرى في منطق الأعراف والتقاليد، فلم تبدُ هذه المثقفة امرأة عادية، بل أقل من عادية، إنها تفكر بانفصام فكري واضح، وهنا مشكلة ثقافية عامة عند المثقف بشكل عام، سواء أكان رجلا أم امرأة، ولذلك تصلح القصة نموذجا للتعميم على التناقض الفكري عند المثقفين البراغماتيين الانتهازيين الباحثين عن مصالحهم.
والآن فلندخل إلى تركيب القصة وبنيتها السردية وتحليل الجملة فيها، فقد بنيت القصة على خمسة أفعال شكلت البنية الأساسية للنص، وفعلا سادسا جاء ملحقا (يسمح)، جاء جملة صلة الموصول، والأفعال الخمسة جاءت ماضية إلا الفعل السادس جاء مضارعا، وهذا يعمق الفكرة ويدل عليها بشكل كامل، وترسم تلك الأفعال الماضية صورة العيش بالماضي ومشحونة بالكثير من التوتر النفسي، ويشكل الفعل (تزوجت) حدا فاصلا بين زمنين في القصة قبل زواج المثقفة وبعده، فيكون البناء الفني للقصة موفقا في التعادل، فعلان قبل الزواج وفعلان بعده، وفعلان أوسطان محايدان (دعت، تزوجت)، والفعل (تزوجت) يمثل فترة انتقالية، وما بين القائمة الفعلية السابقة واللاحقة من صراع فكري وزمني كبير، يكشف عنه الفعل السادس (يسمح)، وهنا تجلت براعة الكاتب في قصته القصيرة جدا.
كانت الأفعال المستخدمة لرسم النفسية في مرحلة ما قبل الزواج أفعالا أليمة وقاسية تختزن كثيرا من العذاب (ألهبت، طارد)، وكذلك الكلمات الأخرى (سياط، شبح)، مما يشير إلى بعض تعاطف الكاتب مع هذه القضية أساسا، والتي تؤرق بلا شك أفكار الكثيرين، ويقع على الطرف المقابل الفعل (شهرت) المحمل بالعنف المصطنع، ومعه كلمة (السيف)، ليضعنا في أجواء أخرى مختلفة، وهنا تبدو المفارقة، فبدلا من أن تناصر تلك المثقفة التعدد وتكون متفقة الفكر والشعور، حاربت القضية مرددة التهم نفسها (المجتمع الذكوري).
تبدو الإدانة المبطنة للكاتب لمثل هذا السلوك المتناقض باستخدامه فعلا واحدا في مرحلة ما بعد الزواج، في حين أنه استخدم فعلين يرسمان الحالة ما قبل الزواج ليظهر تعاطفه كما سبق وذكرت، ولم يبدِ الكاتب اتهماما للتعدد، ولكنه ظهر بكل وضوح أنه ضد التناقض الفكري والشعوري للمثقف، الذي هو أوعى الناس عقلا وأهدأ نفسا، وأقدرهم على التوازن النفسي والعاطفي، فالقضية ليست قضية التعدد أو لا، وإنما هو الانسجام مع الذات والابتعاد عن المفارقات الحادة التي تشرخ مواقف المثقف وتجعله كالريشة في مهب رياحٍ ليس لها مصدّات بعدئذٍ، إن وقع المثقف في انفصاماته الفكرية والسلوكية!
لقد نجحت هذه الومضة باستدراجنا للحديث حول قضايا كثيرة في الفكر والثقافة والمجتمع والسلوك، وهذه بلا شكّ ميزة النصوص الجيدة، ولا تكتمل القصة في دائرتها إلا بقارئ مثقف محمل بكل تلك الإشارات في المفاهيم الواردة فيها (مثقف، مجتمع ذكوري، العنوسة، التعدد)، وعلى ذلك تكون القصة القصيرة جدا، هنا، مستندة إلى إشارات معرفية متعددة الحقول الثقافية، وتدل على وعي الكاتب بقضيته وتشعباتها الفكرية.