هل يوجد دولة في الدين الإسلامي؟
فراس حج محمد
يأتي هذا المقال رغبة في تحقيق النقاش الموضوعي والهادف والمستند إلى الحقائق الفكرية والتاريخية، وليس ردا على الكاتب سعيد ناشيد فقط، الذي كتب مقالته "لا دولة دينية في الإسلام"*، ونشرها في صحيفة العرب اللندنية بتاريخ: 25/11/2013، والتي يقرر فيها خلو الدين الإسلامي من أي فكر متعلق بالدولة، ولا يوجد أي نص في القرآن الكريم أو السنة النبوية "يدعم مشروعية أيّ نظام سياسي كيفما كان نوعه"، عدا ما كان من عصبية قبلية بنيت عليها الدولة الإسلامية بعصورها المختلفة، فقد عمم الكاتب وقرر، وبعد ذلك طلب أن يناقشه الكتّاب في فكرته!
في البداية أوكد للقارئ الكريم أنني لست ممثلا لأي حزب أو جماعة، ولست ناطقا رسميا أو إعلاميا لأي فكرة سياسية إسلامية أو غير إسلامية، فأنا في هذا المقال أبين وجهة نظري الشخصية فيما عرفته وخبرته من أحكام الإسلام ومقرراته الفكرية، فلستُ تابعا لأحد، ولست مدافعا عن أي جهة مهما كانت!!
لعلي أتفق مع الكاتب ناشيد في أنه لا يوجد دولة دينية في الإسلام، مركزا على صفة "الدينية"، بمعنى عدم تحقق صفة الدينية للدولة الإسلامية مع تحقق وجود دولة في الإسلام، حتى لو جاءت بوصفها إسلامية، فوصفها بالإسلامية، لا يعني أنها دينية بالمفهوم المعاصر لمعنى الدينية في الفكر السياسي الحديث، والمستند إلى التجربة التاريخية للدولة في عصور الغرب السابقة لعصر النهضة، حيث كانت الكنيسة هي المتحكم في شؤون الناس، وجعل الحكام ورجال الدين أوصياء على الناس، وارتبط الحكم بفكرة الألوهية وتمثّل الرب في شخصية الحاكم ورجل الدين، فالدولة في الإسلام بهذا المفهوم غير موجودة أصلا، وليس لها أدنى شرعية، فالدولة في الإسلام رجالها الحكام بشر يصيبون ويخطئون ويحاسبون، ويقفون أمام القضاء، وتصدر عليهم الأحكام القضائية المتبعة، وأمثلتها في تاريخ الدولة الإسلامية أكثر مما يحصى أو يعدّ، فما علينا إلا استنطاق التاريخ برواياته التي تحفظها الكتب.
وهنا أقرر شرعية وجود دولة وكيان سياسي منبثق من المصادر الإسلامية المعتبرة، وهذا الكيان السياسي ليس كما أسلفت دينيا كهنوتيا، فمن يطلع على الفكر الإسلامي من مظانّه الأصلية، بعيدا عن أي فهم حزبي للدين سواء أكان فهما حزبيا إسلاميا أو علمانيا، فإنه سيجد مجموعة من النصوص تؤسس لوجود دولة إسلامية بسلطاتها الثلاثة: التنفيذية والتشريعية والقضائية، فثمت نصوص قرآنية ونبوية تخص السلطة التشريعية، والتي تبين كيفية التشريع وكيفية التعامل مع المستجدات العصرية، وارتباط حركة التشريع بالدائرتين الأخريين القضائية والتنفيذية، وكل السلطات خاضعة لدستور وقواعد عامة، لا يحق لأي جهة خرقها، وإلا كانت المحاسبة القانونية والقضائية اللازمة التي يقررها الدستور والقواعد العامة، فليس بدقيق قول الكاتب ناشيد عندما قرر "لا وجود آخر للدولة لا في السنة ولا في القرآن"، وعليه أن يعود إلى النصوص ويعيد قراءتها بعيدا عن أي فكرة مسبقة في النفي أو الإيجاد، فإنه لو فعل ذلك، فسيجد في الآيات القرآنية والأحاديث النبوية آلاف النصوص التشريعية التي ترسم معالم الحياة السياسية، ولا تكتفي أحيانا برسم معالم وخطوط عامة، بل كانت تفصيلية، فسيجد نصوصا في نظام العقوبات والنظام الاجتماعي والنظام الاقتصادي والنظام السياسي فيما يتعلق بأحكام تخص الحاكم، وسيجد كذلك أسسا متكاملة لكيفية عيش الناس في ظل الدولة الإسلامية، ولست بمستغرب أن يقول الأستاذ ناشيد ذلك فلعله معذور لم يقرأ ولم يبحث، ولكنه سمع وبنى مقالته على ما هو سائد في الإعلام من طروحات تلتقط الأفكار المجزأة من هنا وهناك، ولكن ليس له العذر بعد الآن فعليه أن يقوم بما يجب عليه ككاتب أن يقوم به وهو البحث والاستقصاء حتى لا يقع في فخ الخطأ الذي لا يغتفر، ولعل القضية تستحق الجهد والعناء لأنها قضية شائكة ومعقدة وتحتاج لوقفات جادة وعلى بصيرة.
وربما وقع الكاتب في شيء من الخلط عندما أخذ يقيس الإسلام بحركته الفكرية المتكاملة بأفهام الحركات الإسلامية السياسية الراهنة والعاملة في الساحة، وهنا أوكد أن الصورة التي عليها الكتّاب اليوم صورة معكوسة تماما ليس عند سعيد ناشيد وحده بل عند الغالبية العظمى، في تقزيم الإسلام ومحاكمته بناء على تجارب تاريخية هنا وهناك، واعتبار التجربة التاريخية للأحزاب هي الأساس، فيتم محاكمة الإسلام بناء عليها، والأصل أن ينظر إلى أنها أفهام متباينة لحركة الأسلام السياسية، وعلى الإسلام يجب أن تقاس كل التجارب التاريخية السابقة والمعاصرة، فليس الإسلام إخوانيا ولا تكفيريا ولا وهابيا ولا قاعديا، وليس الإسلام إرهابيا، يشرع القتل ويحمي القاتل لمجرد أنه ذو لحية كثيفة، وعدد ما شئت من الحركات بعدها، فالإسلام ليس هؤلاء، بل الإسلام حركة فكرية سياسية تقوم على مجموعة قواعد كلية لتنظيم شؤون المجتمع، فخطأ الحزب أو الجماعة أو الفشل في الحكم يجب أن لا يحمل وزره الإسلام، على الرغم من أنني على قناعة أن بعض تلك الحركات لم تكن فاشلة في الحكم، ولكن سعت كثير من الجهات إلى إفشالها ووضع العراقيل في طريقها، فما بوسع المرء أن يفعل مهما كان حكيما إذا كان محاطا بمخططات لإفشاله، وهذا ليس وهما أو هروبا أو اتكاء على نظرية المؤامرة، ولكن لنا في التاريخ عبرة، فقد أفشل حكم علي بن أبي طالب، عندما تكالبت عليه كثير من الظروف الموضوعية فأفشلته، وهو من هو مكانة وعلما وحكمة!
إن ما جاء من مقولات استند عليها الكاتب من فكر الخوارج السياسي أو فكر ابن خلدون، فإن الخوارج كما طرح الكاتب يبحثون في الإمامة، وهي رئاسة الدولة، وهي عامة عندهم للجميع وليس شرطا أن يكون الإمام قرشيا، وما ورد في حديث الرسول الكريم يؤكد ذلك "اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة"، فأين القرشية وأين العصبية في هذا القول؟
كما أن ابن خلدون عندما تحدث عن الموضوع القبلي والعصبية كان يحاكم سلوكا بشريا للحكام الذين ابتعدوا عن الصواب في الحكم سواء عند الأمويين أو حتى العباسيين، فخطأ هؤلاء القوم لا يتحمله الإسلام، كما أن المسيحية لا تتحمل سلوكيات الحكام والقساوسة الذين حكموا حكما كهنوتيا وساموا الناس البؤس والعذاب في الدولة الكائنة في عصور ما قبل النهضة الغربية الحديثة.
لعل ما طرحه الأستاذ ناشيد في نهاية مقاله حول حق الاقتراع والانتخابات الحرة، فإن الإسلام يؤكد هذا الحق، انطلاقا من القاعدة السياسية العظيمة التي تبين أن "السلطان للأمة"، بمعنى أن للأمة أو الشعب الحق في اختيار حكامه، ولا يحق لأحد كائنا من كان أن يحكم أمة غصبا عنها، وعليها أن تقف ضده، وتنزع سلطانه، فالانتخابات شكل مقرر ومقبول في الحركة السياسية في الإسلام، وهو أسلوب اتبعه المسلمون في بعض تجاربهم التاريخية، وإن كان بشكل بدائي متوافق مع ما كان متاحا في ذلك الوقت، وهذا أمر متطور حسب الظروف والمستجدات.
وعليه، فإن الدولة في الإسلام ليست دولة دينية كهنوتية، أو دكتاتورية مبنية على أمزجة الحكام وأهوائهم، بل هي دولة بشرية، الحاكم فيها يصيب ويخطئ، وعلى الناس أن يحاسبوا حكامهم، وليسوا معذورين في صمتهم، فالدولة في أصل فلسفتها الفكرية في الإسلام وغيره جاءت لخدمة الشعب، وليس لمص دمائهم والتحكم فيهم، فلا يجوز استعباد الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا، مهما كانت الحجة في ذلك، ولو أدى الأمر بالناس إلى استعمال القوة بأشكالها المتعارف عليها، ليس قوة السيف وحدها ما أقصده هنا.
أما مدنية الدولة في الإسلام فإن لها مفهوما قد يكون مختلفا أو متفقا إلى حد ما مع المفهوم المتعارف عليه في الفكر السياسي المعاصر، فليس استناد الدولة إلى مجموعة قواعد مأخوذة من الإسلام يجعلها دينية، بل إنها كغيرها من الدول المبدأية تستند إلى مرجعياتها التي آمنت فيها، والتي تسعى من خلالها إلى تحقيق العدل البشري الممكن، وبهذا المعنى فلكل دولة مرجعياتها المقدسة سواء أكانت إسلامية أو غير إسلامية، ولا يجوز العبث بتلك المرجعيات، وهذا الأمر ليس حكرا على الدولة في الإسلام، بل إننا نجده عند كل دولة، فإن تلك المرجعيات تمثل الأساس التي تقوم عليه، وهي بمثابة المصدر والنبع الذي يستقي منه المشرّع القوانين وهذا لا حدال فيه ولا عيب! وعلى ذلك قامت الدولة الديمقراطية الرأسمالية والدولة الشيوعية، وليس العيب في المرجعيات التي تتخذها الدولة، بل يجب البحث في صوابية تلك المرجعيات أو خطئها، فالقوانين في الدولة الإسلامية عندما تطبق تطبق على الجميع وبالطريقة نفسها لا فرق بين مسلم أو غير مسلم، ولا يوجد أصلا أحكام خاصة بناء على الدين إلا فيما تقرره القواعد السياسية في احترام عبادات الناس وما يتصل بطعامهم وشرابهم، وللكل الحق فيما يعتقد أو يأكل أو يشرب وليس مطلوبا من الدولة أن تفتش عن عقائد الناس ومحاسبتهم عليها، ما داموا ملتزمين بالظاهر بأخلاقيات المجتمع المتعارف عليها والذي يقررها القانون والدستور، أليست هذه هي المواطنة التي تنادي بها النظرية السياسية المعاصرة؟ فالكل أبناء للدولة سواء بسواء، لهم نفس الحقوق وعليهم نفس الواجبات.
وأخيرا أقول: لا أحد يستطيع امتلاك الحقيقة المطلقة، وما هي إلا وجهة نظر، وأعيد ما قاله القرآن الكريم في محاججة المنكرين له: "وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين".
<!--[endif]-->
* رابط مقال الأستاذ سعيد ناشيد في موقع صحيفة العرب اللندنية: http://www.alarab.co.uk/?id=9120