قراءة في نَصّ: (درس خصوصيّ في الجغرافيا) للأستاذ فراس حج محمد
قراءة: عمر غوراني
أولاً: النصّ
1 - صباحكِ موشى بعبير طهر الحب الجاري في نهر الروح العاشقة، صباحك وردة تفوح عطرا في الروابي التي تختال نشوى بعناقك كل يوم، صباحك جملة شعرية لا تصلح أن تصاغ إلا لك، وليس مسموحا لها أن تقال إلا من أجل عينيك الفاترتين ولها وحبا.
2 - صباحك درس في الفلسفة وتحديد المواطن الفكرية عندما تجوبين عقلي باحثة عما يختبئ فيه من فكرة من ممارسة الحب في ربوع الجغرافيا- جغرافيا الجسد، أراكِ على غير عادتك، غير منتبهة مشتتة هنا وهناك، بين إقناعي بالروحيّ من الوصال، وبين تعلقي بالجسد، فأيهما كنتُ أرغبُ؟ وأيهما أحبك من أجله؟ أكنتُ فقط لاهث الروح من أجل النزهة في ربوع جغرافيا الجسد، فصورتها لك، ونقلتها وأسبغت عليها صفة "الشكولاتة"؟ أدخلتني في وهم من المفاضلة التي لم تكن يوما في محلها؟ ما هو الجسد؟ وما هي الروح؟ وهل يتكون الإنسان جسدا بلا روح؟ وما نفع الجسد إن غادرته الروح؟
3 - هل كنتُ أحب جسدك على ما فيه من لذة، يكاد القلب يصاب بالدوار كلما شعر بحاجته ليكون وجبته ذات مساء أو صباح؟ وهل لو كنتِ جسدا مجردا عن الروح هل ستحدث تلك النشوة التي نسعى لإعدادها في بهجة الحياة؟ إن موازنة الجسد والروح تفضي إلى الانفصام، فكيف بكِ أن تقولي إنك فقط جسد، أو إنك فقط روح؟ إنك ذلك الجسد الذي عمّرته الروح فأصبحت أنت، بكامل كينونتك الجسدية والروحية، وهذه الكينونة المتوازنة هي التي أريد، فلا الروح وحدها تقنعني ولا الجسد وحده يسد جوعي أو يشفي أوجاع الروح الباحثة عنك في كل كلمة تستعد الروح أن تكتبها.
4 - ها أنتِ الآن في فكري على هذه الشاكلة، جسد وروح وجغرافيا، قرأتك ذات نص على هدي من علوم السياسة والأرض، قرأتك سطرا سطرا، وتنزهت في مناطقك الأنثوية، فكنت درسا خصوصيا لي، ولم يقرأك القراء كما قرأتك، فحجبت النص، لأنني أعرف طهارة روحك.
5 - كنتِ لي في ذلك الفصل من دروس الحبّ، فهل ستقرئينني وحدي ووحدك، بدرس خصوصي في جغرافيا الجسد، لأكون لك وحدك، كتابك الذي تؤلفينه، ولحنك الذي تعزفينه، ورقصتك التي تتقنينها في معادلة الحب الكاملة؟ وهل سنشرح للروح تفاصيل أفكارنا؟ علينا أن نعدّ للأمر عدته فقد أزفت اللحظة، وانفطر الفؤاد من الانتظار، فهاتِ كتابكِ وهيئيني كتابا للقراءة، فقد أعددت لك كل ما تطلبينه في درس خصوصي من جغرافيا الجسد.
6 - إني أنتظركِ فلا تتأخري، فالعمر يسابقنا ويكاد يتلاشى ونحن عطشى جائعون!!
ثانياً: قراءة في النصّ
طريف، جدّ طريف أن يطلعنا عاشق على تفاصيل خطّة عشقه، بل طريف كذلك أن يتداول مع معشوقته خطّة ذلك العشق: "علينا أن نعدّ للأمر عدته، فهاتِ كتابكِ وهيئيني كتابا للقراءة، فقد أعددت لك كل ما تطلبينه في درس خصوصي من جغرافيا الجسد".
غنيّ عن القول، أنّ الكلام فيما يجمـُل أو يليق بالشرع أو المجتمع من مضامين النصّ - أيّ نصّ - في المعتقد أو الرأي أو الاحتشام لا مجال له ولا صلة بالقراءات الفنيّة للنصوص، إلاّ ما اتّصل منها بالفنّ نفسه، مهما بلغ من إسراف صاحبه في البعد عن المنظومة القيميّة السائدة.
وقد أدهشني صديقنا فراس أيّما دهشة في نصّه، وهو يستخدم تعبير: "ممارسة الحبّ" المعروف بالمصطلح الإنجليزي للتعبير عن العمليّة الجنسيّة (Making love): "تجوبين عقلي باحثة عما يختبئ فيه من فكرة من ممارسة الحب في ربوع الجغرافيا- جغرافيا الجسد"، وقد كنّا نعيب على الإنجليز هذا المصطلح للتعبير عن مضمونه الذي أرادوا، وحسبناه من التقزيم لمفهوم الحبّ المقدّس، وحصرٍ لرحيبه في هذه البؤرة الضيّقة.
وقد أفشى لنا الأستاذ فراس مع بدايات نصّه ما كان من قلق إلفه، وتساؤلها عن ماهيّة ما يشدّه إليها: الروح أم الجسد، وهو قلق مشروع، وقد أجاب عن هذا القلق بخير جواب فيما نرى؛ أنه لا انفصام بينهما مثلما لا قيمة للجسد إذا انفصل عن روحه، غير أنّه لا النصّ ولا عنوانه يسعفاننا في تصديق ذلك، حين أضاف "الجغرافيا" إلى الجسد، فباستثناء التنظير الذي نقلناه وأبدينا الإعجاب بحسن جوابه، نرى النصّ أقرب إلى صراخٍ متضوّر من نداء الجسد!
وعليه، فإنّ فراسا، مرّة أخرى لا يعيننا على فهم لـتعبيره: "ممارسة الحبّ" متناغما مع نظريته، أو عقيدته المعلنة بخصوصه، بل يأخذنا النصّ وعنوانه إلى الجسد المحض، وإلى المفهوم الإنجليزيّ لهذا التعبير.
ولا زلنا مع الأستاذ فراس نعاني من ترهّل النصّ، لا بالنظر إلى مساحته الزائدة عن طبيعة لونه الكتابيّ وحسب - وإن كانت مساحة هذا النصّ تحديدا معقولة قياسا إلى نصوص الأستاذ الأخرى من اللون الأدبيّ ذاته - بل إلى مساحة الفكرة الواحدة ومسافاتها في الصياغة كذلك، وفي تماسك النصّ وتناسقه، وفي ازدواج لغتي: الفكريّ والأدبيّ في النصّ الواحد.
فقد انصرف للفكرة يفلسف فيها: الحبّ بين الروح والجسد، في الفقرتين الثانية والثالة، وهما تعادلان نصف مساحة النصّ بل أكثر، وكان يمكنه أن يوجز ذلك كما يلي: " (كنت) غير منتبهة مشتتة هنا وهناك، بين إقناعي بالروحيّ من الوصال، وبين تعلقي بالجسد، فأيهما كنتُ أرغبُ؟ وأيهما أحبك من أجله؟ ... "(وقد) أدخلتني في وهم من المفاضلة التي لم تكن يوما في محلها؟ ما هو الجسد؟ وما هي الروح؟ وهل يتكون الإنسان جسدا بلا روح؟".
وقد بدا لي سبب نفسيّ رأيته مسؤولا عن تفكيك يعبث بتماسك نصوص "الهمسات الصباحية وقهوتها المرّة"، وقد ذكرته غير مرّة. ذلك أنّ أخانا فراسا يشعر بتفرّد تجربته العاطفيّة، وأنها ليست كسواها من التجارب، فهو يذهب مع تجربة حبّه يفلسفها، ومع عمق أحاسيسه يذهب بفكرته، فيعمّقها ويشقّقها، ومع التشقيق تنشأ إشكالات متعددة لا إشكال واحد!
منها، خروجه بتشقيقه هذا عن مسار واضح بيّن للنص يسيره، وخطّة ناظمة تنتظمه في نسق فنّي واحد، ولا أدلّ في النصّ هذا على خطّة مفقودة، من درس فلسفيّ بدأ به : "صباحك درس في الفلسفة ... " .. لينتهي بنا مع إلفه إلى "درس في جغرافيا الجسد"!
وهو مع تعميقه للفكرة - وهي في النصوص الأخرى غير هذا النصّ من الهمسات الصباحيّة أوضح - محتاج إلى لغة الفكرة الفلسفيّة، فتجده مضطرا إلى لغتها وحتى مصطلحاتها، كالكينونة والصيرورة، فينشأ من ذلك لغة في النصّ مختلفة عن لغة الفنّ الأدبيّ، لا سيما لنصوص في العشق كهذه ولعله يتنبّه إلى اللغة الأمّ للنص؛ وأعني لغة النصّ الأدبيّ، بتوصيفها السهل القريب، وظلالها الوارفة، وسلسالها العذب فيعاودها أحياناً.
وهو على لغة التعبير الأدبيّ الرائع ذو اقتدار، ولا أدلّ في النصّ من الفقرة الاستهلاليّة الأولى، غير أنه أسير في أدائه التعبيريّ لهذه الإزدواجيّة المسيئة إلى جماليّاته الأدبيّة، والتي هي بدورها ناشئة عن تعميق الفكرة، التي لا تصنع ازدواجيّة في الأداء التعبيريّ وحسب، بل واتّساع فضلة في مساحتي الفكرة والنصّ الكامل، وفي ضعف في تماسك النصّ وتناسقه معاً.