من أين تأتيك القوة أيها الشعر؟
قراءة في كتاب "قوة الشعر" للإنجليزي جايمس فنتن
فراس حج محمد
يطرح كتاب "قوة الشعر" للناقد الإنجليزي جايمس فنتن، ترجمة د. محمد درويش سؤالا محوريا على امتداد مقالاته النقدية الإحدى عشرة، وهو أين تكمن قوة الشعر وعظمة الشاعر؟ هل يتبع ذلك صفات خاصة مستكنة في نفس الشاعر أساسا في حبه للتميز والفرادة؟ وهل تكون تلك القوة السحرية ناتجة عن عوامل خارجية سياسية واجتماعية؟ وهل هي حقيقة أم خيال؟ أسئلة متفرعة لن تنتهي في محاولة الإجابة عن سؤال فنتن، لقد حاول أن يجيب عن سؤاله، فبذر الإجابة هنا وهناك، وها أنا أحاول لملمتها في سياق متصل، ربما أنجح في هذا المسعى في السيطرة على جواب كبير لسؤال أكبر!
مصادر النقد في الكتاب:
بدا الناقد في مقالاته ناقدا اجتماعيا، يتوسل من أجل التفسير بكل ما يتصل بحياة الشاعر، باحثا في جذوره الاجتماعية والظروف السياسية التي أحاطت به أو أطاحت به، لعله يظفر ببعض حل للغز الشاعر الذي يستقرئ ذاته قبل أن يستقرئ نصوصه، ومستضيئا بآراء من كتبوا نقدا أو مقالا حول الشاعر وشعره منقبا هنا وهناك، ليقدم رأيا نقديا موضوعيا متصلا، بحيث شكلت كل مقالة من المقالات بحثا متعدد الوجوه في النقد، تطرح الأسئلة أكثر مما تجيب عنها، والناقد هنا معني بطريقة أو بأخرى تعليم الطلاب الذين كان يحاضر فيهم، ويلقي على مسامعهم هذه المحاضرات وتدريبهم على أصول البحث والنقد بموضوعية وتجنب القطع في الرأي، لأن القوة النقدية كالقوة الشعرية، هي القادرة على انفتاح السؤال وتفشي الإجابات وانفلاشها في مساحات متشابكة لأحداث متعددة.
لقد استفاد فنتن من كل الآراء وأعاد صياغتها نقديا، ليوجه كل تلك المصادر ليقدم الشاعر وشعره بقوة تليق بقوة الشاعر وحضوره، فاعتمد الكتاب على جملة من المصادر النقدية التي عرضها خلال مناقشاته الفنية والموضوعية، فكان فنتن أحيانا يعارضها، أو يؤيدها، وأحيانا يكتفي بتقديمها غير معنيّ بتفسيرها، وكأنه اعتراف منه بأنها تخدم هدفه في إبراز الشاعر وقوته، وانحيازه الموضوعي لهذا الشاعر أو ذاك.
الرجولة والنسوية:
يخصص الكتاب ثلاث مقالات لبحث الشعر النسوي، متجنبا عن وعي تام الخلط بين الشعر الرجولي والشعر النسوي، على الرغم مما يسود الوسط الشعري النسوي قبل الوسط الشعري الرجولي أن المرأة الشاعرة أضعف من الرجل الشاعر، فينقل عن جيرمين غرير قولها في شعر المرأة: "فهل في وسعنا الزعم أن صفة الأنوثة تعد عائقا أشد بؤسا من العمى" /ص161. متجنبا كذلك تحميل الظروف التي عاشتها المرأة مثل هذا الوهم "مما لا ريب فيه أن الظروف الاجتماعية غير المؤاتية التي كدحت في ظلها النساء لن توضح إذا ما أخذت منفردة هذا اللغز". ص/161.
ولا يستطيع مع كل الحذر الذي قدمه الناقد فنتن أن يحسم الأمر، ويخيل إليّ أنه كان مع ذلك الرأي الذي يقول إن المرأة أضعف شعريا من الرجل، معترفا "أن هناك شيئا ما كان يعوق النساء عن كتابة الشعر، وأن المشكلة قد تكون ذات صلة بعراقة هذا الفن ومزيته، قد يكون الأمر شئنا أم أبينا متمثلا في أن هناك قدرا من الصفة الذكورية في النموذج الأعلى للشاعر وهو ما يصعب على المرأة الانسجام معه". /ص 234.
ويتبين من خلال قراءاته لشعر الشاعرات: ماريان مور في المقالة السادسة، وإليزابيث بيشُب في المقالة السابعة، وليعود ليقرأ الشاعرتين مع الشاعرة سليفيا بلاث في المقالة الثامنة التي عنوانها ب "ليدي لعازر"، وهو عنوان قصيدة للشاعرة سليفيا بلاث كتبتها عام 1956، يتبين منهج الناقد في الكشف عن الخصائص النفسية والشعرية التي تمنح تلك الشاعرات القوة المطلوبة ليكنّ ضمن الشاعرات الأكثر موهبة في عصرهن، واستطاعتهن التمرد على التقاليد الشعرية السائدة يومئذٍ، وهي سمات وخصائص ذكورية على ما يبدو، مبرزا ما أطلقه جون آشبري على إليزابيث من صفة "أديبة أديبات الأديبات"/ص 200، على الرغم من أن هذا الوصف يحصر الشاعرة في نطاق المنافسة مع بنات جنسها، وليس مع الشعراء كذلك، ولعل هذا ما دفع سليفيا بلاث إلى "أن ترتدّ أو تتخلى عن النموذج الذكري الأعلى"/ ص234.
ويسجل الكتاب موقف الشاعرة "إليزابيث بيشُب" في رفضها أن يكون شعرها مع النساء فقط، بل كانت تسعى أن يكون مساويا للرجل، وأن يكون مع شعر الشعراء جنبا إلى جنب رافضة هذا الفصل التعسفي، يقول فنتن عن ذلك: "فعندما كانت شابة، رفضت أن تنشر قصائدها في مجموعة من القصائد بعد أن عرفت أن تلك المجموعة تحتاج إلى إحدى الشاعرات لإكمال العدد، كما أنها رفضت طوال حياتها أن تكون أشعارها جزءا من دواوين شعرية مكرسة لشعر النساء فقط"./ ص199
وفي المقالة الثامنة المشار إليها آنفا، يكشف عن كثير من الخصائص النفسية للمرأة، والتي تؤهلها لتكون شاعرة مساوية للشاعر، وأهم تلك الخصائص هي الاستعداد النفسي للتميز، فينقل عن بلاث قولها: "عنيدة، أعتقد بأنني كتبت أبياتا شعرية تؤهلني لأن أكون شاعرة أمريكا" /ص228.
ويبدو أن هذه المسألة الإبداعية مسألة إنسانية يكشف عنها النقد كشفا موضوعيا مبهرا، فقد عانى الأدب العربي شعره ونثره من افتقاره لقامات أدبية شعرية في المقام الأول كأسماء شعرية لامعة، ليس في العصر الحديث وحسب، بل منذ أقدم عصورنا العربية، فهل كانت هناك شاعرة من شاعرات المعلقات، أو في العصر الإسلامي أو ما تلاه من عصور، وكم حظيت الشاعرة العربية من وجود في المنتخبات والمختارات الشعرية، وليس الأمر متعلقا بالمرأة والمجتمع، ومن يحاول تفسيره بناء على ذلك يصيبه الوهن والإعوجاج، فالأمر ليس من السهل تفسيره، فهو عام عند العرب وغير العرب.
إذن، تصبح المسألة الشعرية واقفة على حد مرهف من التصنيف بين القوة والضعف في الشعر النسوي والشعر الرجولي، متخذا هنا مصطلح الرجولة، ومبتعدا بكل قصد عن مصطلح الذكورة ذي السمات البيولوجية ليس إلا، وعلى ذلك قد تكتسب الشاعرية ملامح قوة ما يكون مصدرها الجنس أحيانا، على ما في هذا الرأي من بعض الصدمة أو ربما التطرف، ولكنه بالمجمل لا بد له من وقفة تأمل.
حاول الكتاب من خلال الحديث عن الشعراء الكبار الإجابة عن سؤال قوة الشعر، لتكون هذه القوة في نهاية الرحلة كما استطاع الفكر أن يلم متصلة بعدة أمور، أولها القوة النفسية والاستعداد الفطري والموهبة الحقيقية، والبحث عن التفرد والتميز مع الذاتية والغوص في تفاصيل الأشياء، والاستمتاع بالوقت الشعري والمنجز الشعري والاحتفال فيه والرقص في مجالاته رقصة التانغو الأصيلة البكر، عند ذلك فلتنبحث عن قوة الشعر بعيدا عن لمعان اسم الشاعر أو خفوته، غير غاضٍ بالتأكيد من أهمية عوامل أخرى في صناعة القوة الشعرية، ولكنها قد لا تكون إلا قوة وهمية تزول بزوال المؤثر، وها هو الزمان شاهد على خلود شعر الشعراء الأقوياء المبدعين في كل لغة وفي كل قوم، لأن وظيفة الشعر الأساس كما يرى (أودن): "شأنها شأن وظائف كل الفنون الأخرى، جعلنا نعي أنفسنا والعالم من حولنا وعيا أكبر"/ ص339.