جدتي العزيزة، لقد بقيت عكا كما تعهدينها!
فراس حج محمد
"لو عكّا بتخاف من الموج ما سكنت عالشَط"، مثل شعبي ما زلت أسمعه، أتذكر أن جدتي - رحمها الله- أول من قاله لي عندما أشعرتني في كل مواقف حياتها أنها مثل عكا قوية صلبة متحدية، بقيت روحها شامخة، لم تخضع في أي الموقف ولم تحنِ الهامةَ للظُّلام!
لم أتذكر يوما في تلك الأيام التي عايشت فيها جدتي وقد امتد بها العمر طويلا، أن رأيتها ضعيفة باكية. كانت موجوعة وفقيرة، ولكنها لم تكن شاكية، كانت تحب الأرض وتحب البحر، ولكنها كانت تتعامل مع الطبيعة بحدّة، كأنها وإياها في صراع دفين، كنتُ أجهل أسبابه، لم تكن تحبّ المطر، ولكنها كانت تحبّ العشب الأخضر النابت من خلل أحجار سور عكا، لقد كانت تهوى مدينة للبحر وللموايل!!
هل كانت جدتي عكاوية؟ لا أعتقد أنها في يوم من الأيام على امتداد عمرها الذي ناف عن المائة سنة أنها زارت عكا، ولا هي من عكا، ولكن تربة جلدها الممسوس بحب عكا كان مجبولا برمل شاطئ بحر عكا، لا أدري لماذا كانت تحب هاتيك الصبية الزاهية الذي يطلق عليها المجد اسم عكا، وهي ليست من بناتها الجميلات؟؟
لم تكن جدتي قارئة أو كاتبة، كانت بوضعها العادي جدا وقتذاك أميّة في كل الأبجدية إلا أبجدية تاريخ الأرض، وكانت لا تفكّ الحرف إلا حروفا رسمتها الشمس على جدران بيوت عكا، فهل كانت عكا ملهمة لجدتي لتعطيها قوة السحر لتقرأ فصولا من التاريخ، تاريخ عكا!
جدتي رحمها الله شهدت أمجاد عكا، وكانت ترمق فتيانها بإعجاب شديد، وكانت تتعانق روحها مع أرواحهم الشامخة في سماء عكا، لكن ذكرياتها الخصيبة لم تكن تقولإنها وقعت في حبّ أحدهم، لأنها كانت تردد على مسامعي: "يا ستي المشغول لا يُشغل"، كأنها تريد أن تقرر أنها كانت تحبّ عكا، فكيف لامرأة تحبُّ أن تحبّ ثانية؟!
إنها جدتي التي أخلصت لعكا ولذكرى عكا ولتاريخ عكا، منها فقط وليس من كتب التاريخ المزور، ولا من أحداث الحاضر المشوه، تعرفت إلى فتاة جميلة وأبية، نائمة بهدوء جم بين أزهار وشوك وطفيليات وأشجار وغبار، بين كل متناقضين، إنها عكا سطر من أغنية وبوح من حكاية وجنون من عظمة البقاء والخلود.
جدتي توفيت، ولكنّ عكا لم تمت، ولن تموت، ستظلّ صامدة تتحدى البحر وهدير البحر وتقهر الطغيان!! ليبقى تاريخها شاهدا على صبر مدينةٍ كأنها ياقوتة بحر ولؤلؤة بحّار، رحم الله جدتي حارسة الذكرى وحافظة موال الموج وهو يغسل أخمصيْ أقدام عكا، معانقا أبهتها في قوة لن تتضعضع، يا لك من أنثى أقوى من سواعد الرجال يا عكا!!