فراس حج محمد

موقع يختص بمنشورات صاحبه: مقالات، قصائد، أخبار

أنا وصديقي حسن عبّادي وثالثنا النبيذ

فراس حج محمد| فلسطين

هذا العنوان ليس مجرد استعارة من الحديث الشريف حيث ما اجتمع اثنان إلا والشيطان ثالثهما، بل أبعد من ذلك، فقد اجتمعنا أنا وديوان "وشيء من سرد قليل" على مائدة القراءة للصديق حسن عبادي. الملاحظة التي دفعت عبادي أن يتصل بي ليلا ليخبرني بها بعد أن قرأ الديوان خلال إحدى رحلاته الاستجماميّة إلى "إيلات"، حيث كان الديوان برفقته. الملاحظة التي التقطها حسن هي كثرة ما في الديوان من ذكر للنبيذ.

لماذا أذكر النبيذ والخمر كثيرا في نصوصي الشعرية؟ على وجه الحقيقة لست أدري ولا أملك تفسيراً. لم أشرب أي نوع من أنواع المشروبات الكحولية في حياتي إطلاقاً. بل في العمق أنفر منها، ومن مشاهدتها في الأفلام وفي المسلسلات وفي بعض البرامج اللبنانية الحوارية التي صاروا يتحدون فيها الضيوف بشرب "العرق". فلا يمكن أن يكون ذلك تعويضا نفسيا عما أريده ولا أستطيع الوصول إليه، كما قد يفسر القرّاء والنقّاد البُعْد الأيروتيكي في النظرة إلى الحبيبة التي أرغب بها جنسيا بكل تأكيد، لكن لم أستطع نيل هذه الشهوة التي عذبتني، وبقيت تطحن في دمائي حتى بعد رحيل "الحبيبة" النهائيّ وانعدام الأمل في تحقيق هذه النشوة.

تعود بي الذاكرة إلى نص قديم جدا نشرته في مجلة تتغنى بقريتنا، كان النص مليئا بالخمر، وأثار سخرية أحد الزملاء المعلمين. فمن يقرأ القصيدة سيكتشف أنني "سوكرجي". النص كان عن القرية ولم يكن غزليا. أظن أنه من النصوص الضائعة المطمورة في أكوام الورق المكدس في مكتبتي.

على إثر ملاحظة الصديق حسن عدت إلى الديوان لأحصي نبيذي وخمري وكؤوسي وأقداحي المسكوبة في النصوص، فهالني الأمر. فقد أحصيت (76) موقعاً ذكرت فيها: الخمر والنبيذ والكأس والكؤوس والسكر والقدح والأقداح. عدا موضعين استخدمت فيهما "الخمريّ" للدلالة على اللون. وربما هناك ألفاظ أخرى لها ارتباط بالخمر لم أنتبه لها خلال عملية الإحصاء.

لم تكن ملاحظة عبادي مزعجة بالتأكيد، ولا سخرية زميلي المعلم مني سيئة أيضا، إنما هما إشارتان لأنتبه. ولم أنتبه. في الديوان الجديد "على حافة الشعر... ثمة عشق وثمة موت" انتبهت للخمر وللنبيذ وللكؤوس وللسكر، فعاجلت القصائد بالحذف والتقنيب والتشذيب والتطهير، ليس خوفا من الصديق حسن عبّادي، وإنما لأبعد هواجس التكرار عن هذه النصوص.

أعتقد من باب آخر أنني كنت أضلل القارئ. أغرقه في الخمر والنبيذ وأضعه في فضاء ليس لي فيه أي خبرة أو معايشة. لعل هذا هو الكذب بعينه. هل للأمر علاقة بالتخيل؟ كيف أتخيل أمرا مثل هذا؟ أتخيل طعم شراب لا أعرفه. لا يحسن بالنقاد هنا أن يقولوا: "أعذب الشعر أكذبه". إنه ليس ذلك الكذب المغفور لشاعره فنيا في عرف الإلهام لدى حُذّاق الشعر وعظيمي الموهبة ويعرفه النقاد جيّداً، ويقع في باب المجاز وصناعة العبارة الشعرية والصورة الأدبية المدهشة وطاقة الخيال الشعري الحيويّة.

ثمة ادّعاء كاذب في الديوان، هو هذا الذي اقترفته في هذه النصوص الخادعة. إنني بالفعل أقول ما لا أفعل، هل يقدح هذا في أخلاقياتي العامة؟ ربما وجد القراء صورة صادمة لي في هذا الديوان المحرج والمتحرش بالقراء والخادش للحياء.

ربما للأمر علاقة بالتأثر بالشعر الذي أقرأه. هل ذاق الشعراء الصوفيون الخمرة؟ وهل فعلا سكروا وانتشوا عندما تحدثوا عن الخمرة؟ لماذا يقولون في الأغاني "خمرة الحب اسقنيها"؟ ما الذي يسكن في لغتي لأنجرّ إلى كل هذه اللغة غير الواقعية؟ هل سيشفع لي ذكر الخمر في القرآن الكريم وفي الحديث الشريف، حيث ارتبط بالمتع الآخروية في الجنة الموعودة للمؤمنين المتقين حيث قال: "وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ"؟ فإذا كان فيها لذة للشاربين كما قال القرآن الكريم، فلماذا لا أنهل منها ولو تخيّلا شعريا، ممتعا وظريفاً؟ هل سيبعدني هذا عن الإيمان والتقوى إذاً؟ المسألة تحتاج إلى مزيد من التأمل على ما يبدو.

أعتقد أن بعض النساء اللواتي أحببنني وأحببتهن كنّ يشربن الخمر بلذة كبيرة. الملاحظة التي قفزت إلى ذهني الآن هي أنني في كتبي السردية، بما فيها "نسوة في المدينة" لم أذكر الخمر إلا نادرا، ربما مرة أو مرتين. هل يمكن أن يكون لذلك علاقة بالشعر فقط، فالخمر ليست مفردة نثرية في أغلب الظن، يحل محلها في السرد الشمبانيا والفودكا والعرق والأسماء الأخرى المحددة للمسكرات الكحولية. أما الخمر والنبيذ والكأس والأقداح والسكر فكلها ألفاظ لها إيقاع سحري داخل نصوصها، تُغرق القصيدة وشاعرها في متعة خاصة، وغير مدركة تماما إلا للشاعر الغارق في تلك اللحظة.

 على أية حال، لقد حدثتني إحدى هؤلاء النساء- ولم أذكر ذلك في كتب السرد والقصص- أنها تحب أن تغسل نهديها وفرجها بالخمر قبل أن تمارس الجنس، وتشرب أيضاً حنى تنتشي، وكانت تتعمد أن تغمس قضيب رجلها بالكأس قبل أن يغمسه فيها، أو أن تتذوق الخمر منه وهو في فمها. أو كما كان يفعل "هو" بتذوّقه الشراب من حلمتي نهديها، كانت تجد في ذلك متعة كبيرة، كانت تقول إنها تريد أن تختمر كالشراب نفسه وتذوب في الكأس ليشربها في ضجعة واحدة. كانت كثيرا ما تشبّه الحفلة الجنسية بحفلة الشراب، يا لها من مجنونة! لم أكن أستوعب شطحاتها ولا أصدق تصوراتها. مجرد خيال جموح. هكذا كنت أقنع نفسي. ربما كانت تفعل أكثر من ذلك لكنني لا أستطيع أن أصدق كل هذا الذي كانت تغرقني فيه.

شرب الخمر انتهاك صارخ اجتماعيا لكنه محبب شعرياً، وممارسة الجنس انتهاك صارخ شعريا واجتماعيا معاً، لكنّ شرب الخمر بالنسبة لي أشد خطيئة من ممارسة الجنس، ولا بد لي من أن أكون منتهكا لكل تلك القواعد المستقرة. كأنني أريد أن أكون ثائرا ونبيا، ولكنني في الحقيقة ثائر ونبي كاذب وجبان ولا أستطيع أن أفعل شيئا، لا أن أشرب الخمر ولا أن أمارس الحب كما شطحت وعبرت عنه في ديوان "وشيء من سرد قليل".

أمارس شهواتي الضالة على الورق فقط، المرأة التي رحلت وقد كتبت لها هذا الديوان ونحن في عز الوهج العاطفي تعرف ذلك جيّدا مني، كنت أخاف كثيرا من الاقتراب منها، كنت أتعمّد البعد حتى لا أنزلق وأغرق وأسكر فأضيع فيها إلى غير رجعة.

إحدى القارئات كشفت هذا الجبن فيّ منذ زمن بعيد، فكل معاركي ورقيّة، وليس لي إلا "الصيت القذر" و"السمعة السيئة"، فما أنا سوى كاذب صغير ليس إلا. وزملاء العمل ورؤساؤه يتتبعونني في ذلك ويزيدون من محاصرتي وحصري في خانة الخطر، هذه الخانة "الزنزانة" التي ما زالت تزداد ضيقا يوما بعد يوم. ألا قبح الله الخمر، فلا تأتي بخير مطلقاً. فعلا إنها "أمّ الكبائر" والشرور، والضبُع الذي يسرق عقول الشعراء ليطوطح بهم في مهاوي الردى. لقد صدق الحدس يا حسن عبّادي. فيا ليتني أستطيع العودة إلى براءتي الأولى دون خمر وشعر وقرّاء وحبيبة!

 

المصدر: فراس حج محمد
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 186 مشاهدة
نشرت فى 26 فبراير 2022 بواسطة ferasomar

فراس عمر حج محمد

ferasomar
الموقع الخاص بــ "فراس حج محمد" »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

730,231

فراس حج محمد

نتيجة بحث الصور عن فراس حج محمد كنانة أون لاين

من مواليد مدينة نابلس في فــلسطين عــام 1973م، حاصل على درجة الماجستير في الأدب الفلسطيني الحديث من جامعة النجاح الوطنية. عمل معلما ومشرفا تربويا ومحاضرا غير متفرغ في جامعة القدس المفتوحة. 

عمل محررا لغويا في مجلتي الزيزفونة للأطفال/ رام الله، وشارك في إعداد مواد تدريبية في وزارة التربية والتعليم الفلسطينية، وكان عضوا في هيئة تحرير مجلة القانون الدولي الإنساني/ الإصدار الثاني الصادرة عن وزارة التربية والتعليم في فلسطين.

نشر العديد من المـقالات والقـصائد في مـجالات النشر المختلفة الإلـكترونية والصحف والمجلات في فلسطين والوطن العربي وبريطانيا وأمريكا وكندا والمكسيك. وشارك في ندوات وأمسيات شعرية ومؤتمرات في فلسطين.

الكتب المطبوعة: 

رسائــل إلى شهرزاد، ومــن طقوس القهوة المرة، صادران عن دار غُراب للنشر والتوزيع في القاهرة/ 2013، ومجموعة أناشيد وقصائد/ 2013، وكتاب ديوان أميرة الوجد/ 2014، الصادران عن جمعية الزيزفونة لتنمية ثقافة الطفل/ رام الله، وكتاب "دوائر العطش" عن دار غراب للنشر والتوزيع. وديوان "مزاج غزة العاصف، 2014، وكتاب "ملامح من السرد المعاصر- قراءات في القصة القصيرة جدا- دار موزييك/ الأردن وديوان "وأنت وحدك أغنية" عن دار ليبرتي/ القدس وبالتعاون مع بيت الشعر في فلسطين، وكتاب "يوميات كاتب يدعى X"، وكتاب "كأنها نصف الحقيقية" /الرقمية/ فلسطين، وكتاب "في ذكرى محمود درويش"، الزيزفونة 2016، وكتاب "شهرزاد ما زالت تروي- مقالات في المرأة والإبداع النسائي"، الرقمية، 2017، وديوان "الحب أن"، دار الأمل، الأردن، 2017. وكتاب "ملامح من السرد المعاصر- قراءات في الرواية"، مكتبة كل شي، حيفا، 2017. وكتاب "ملامح من السرد المعاصر- قراءات في متنوع السرد"، مؤسسة أنصار الضاد، أم الفحم، 2018، وديوان "ما يشبه الرثاء"، دار طباق للنشر والتوزيع، رام الله، 2019، وكتاب "بلاغة الصنعة الشعرية"، دار روافد للنشر والتوزيع، القاهرة، 2020. وكتاب "نِسوة في المدينة"، دار الرعاة وجسور ثقافية، رام الله، وعمّان، 2020. وكتاب "الإصحاح الأوّل لحرف الفاء- أسعدتِ صباحاً يا سيدتي"، دار الفاروق للنشر والتوزيع، نابلس، 2021. وكتاب "استعادة غسان كنفاني"، دار الرعاة وجسور ثقافية، رام الله، وعمّان، 2021، وكتيّب "من قتل مدرّس التاريخ؟"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2021. وديوان "وشيء من سردٍ قليل"، وزارة الثقافة الفلسطينية، رام الله، 2021. وديوان "على حافّة الشعر: ثمّة عشق وثمّة موت"، دار البدوي، ألمانيا، 2022. وكتاب "الكتابة في الوجه والمواجهة"، الرعاة وجسور ثقافية، رام الله وعمان، 2023. وكتاب "متلازمة ديسمبر"، دار بدوي، ألمانيا، 2023. وكتاب "في رحاب اللغة العربية"، دار بدوي، ألمانيا، 2023، وكتاب "سرّ الجملة الاسميّة"، دار الرقمية، فلسطين، 2023. وكتاب "تصدّع الجدران- عن دور الأدب في مقاومة العتمة"، دار الرعاة وجسور ثقافية، رام الله وعمّان، 2023، وديوان "في أعالي المعركة"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2023، وكتاب "مساحة شخصية- من يوميات الحروب على فلسطين"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2024، وكتاب "الثرثرات المحببة- الرسائل"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2024، وكتاب "فتنة الحاسة السادسة- تأملات حول الصور"، دار الفاروق للثقافة، نابلس، 2025. 

حررت العديد من الكتب، بالإضافة إلى مجموعة من الكتب والدواوين المخطوطة. 

كتب عن هذه التجربة الإبداعية العديد من الكتاب الفلسطينيين والعرب، وأجريت معي عدة حوارات ولقاءات تلفزيونية.