فراس حج محمد

موقع يختص بمنشورات صاحبه: مقالات، قصائد، أخبار

في تأمّل تجربة الكتابة

كيف يصنع القرّاء الصورة؟

فراس حج محمد/ فلسطين

في مقال للكاتبة اللبنانية سوسن الأبطح ورد هذا الحكم على الكتابة والقراءة [*]: "الكتابة عناء، والقراءة حرفة. وأكبر ظلم يرمى به الأديب هو اختصاره بجزئية صغيرة، أو حبسه في قمقم ضيق، بينما هو يرى وسع الفضاء". تشير هذه الفقرة إلى معاناة الكتّاب مع القرّاء، هؤلاء القراء الذين لم يكونوا بطبيعة الحال يرون الصورة الكاملة للكاتب. إنهم يكوّنون انطباعاتهم عن الكتّاب من خلال جزئيات معينة.

في لقاء جمعني ببعض المعلمين على هامش إحدى الدورات التدريبية، يضعني أحدهم، وكثيرون معه، في خانة الكاتب "الأيروسي"؛ قليل الحياء والدين، وأنني مجرد شخص باحث عن الشهرة والنساء، فأنا باختصار كاتب "جنسي نسونجي". وبذلك اتخذت صفة الكاتب سيّئ السمعة الذي لا يكتب سوى في النهدين وفي الكلوت والكمامة وفي التفاحة وفي الأعضاء الجنسيّة. إن هؤلاء لم يطلعوا على كل ما كتبت، ولا حتّى على بعضه. نشرت مئات المقالات السياسية والاجتماعية والفكرية والدينية والنقدية، والقصائد السياسية، والقصص الاجتماعية، وأصدرت أربعة وعشرين كتاباً ليس فيها شيء مما يدّعون.

من كل هذا الإنتاج الضخم المتنوع لم يرَ هذا المعلم إلا "الكمامة والكلوت" و"النهدين" و"التفاحة ومركزها". وعندما سألته ألم تقرأ لي شيئا غير هذا؟ قال: أنا لا أدخل صفحتك، ولا أقرأ. هم يرسلون لي هذه المواد وأقرؤها. فإذا لم يقرأ  المقالات والمواد الأخرى المنشورة في صفحتي على الفيسبوك، فهل سيقرأ كتبي أو مقالاتي في الصحف والمجلات والمواقع الإلكترونية الوازنة؟ أنه يقرأني فقط ليعزز الصورة التي شكلها عني في ذهنه المريض.

إذاً، كما تقول سوسن الأبطح في المقال ذاته: "فالحكم على الأدباء غالباً ما يلتصق بهم بسبب كليشيهات تدور حول كتاباتهم، أو لغاية في نفس جماعات سياسية أو دينية، تثير الغبار من حولهم". حدث مثل هذا مع طه حسين ومع نجيب محفوظ ومع حيدر حيدر ومع آخرين.

إنه لأمر مزعج بالتأكيد، ويشعر الكاتب أنه ضحية للانتقائية والشعبوية المؤذية وللصورة النمطية عنه، تلك الصورة التي كوّنتها العقلية المنحازة التي تحاربه في الخفاء وفي العلن.

أذكر أنّ شيئا من هذا تم توظيفه من أجل تشويه صورتي ككاتب جادّ، فعلى الهامش من هامش كتابتي لمقال نقدي عن بعض الكتّاب، وقد أصدر كتاباً تعيسا ورديء الأفكار، ولم يعجبه ما كتبته عنه، فلا يعرفني بهوامش هوامشه في رده على واحد من تعليقات القراء، قرائه المنحازين معه،  إلا بقوله عني "صاحب الكلسون والكمامة". لكم أن تتصوروا هذا الاختزال المخلّ بشرف الكتابة من شخص يفترض أنه يفهم ما معنى الكتابة.

لا بأس في ذلك، فإن عذرت القراء، وما يُصبّ في عقولهم وما يتسرب إليهم بالعمد أو بالمصادفة من مواد، لا يمكن أن يكون هذا الكاتب معذوراً؛ فهو يعرفني جيّدا، ويعرف ماذا أكتب. فكيف له أن يختزلني بهذه الصورة التي تحمله هو أولا على الإخلال بالمنطق والانفعال؟ إنه عيب ثقافي وأخلاقي مزدوج، ومثله كثيرون في المجتمعين الثقافي والتربوي ينطبق عليهم قول الشاعر:

إن يسمعوا ريبة طاروا بها فرحا ** مني وما سمعوا من صالح دفنوا

صم إذا سمعوا خيرا ذكرت به ** وإن ذكرت بسوء عندهم أذنوا

أعود لمقال الدكتورة سوسن الأبطح، ولما نقلته عن الكاتب عبد الرزاق قرنح، قوله: "اقرأوني لعلكم وجدتم شيئاً آخر". لقد مورس على قرنح ما يمارس على الكتاب أجمعين من حصر وتشويه. هذا القول ليس موجّها للكاتب الذي تعمد تشويه الصورة، لكن للقراء جميعاً.

لكنني أعتقد أن القارئ ليس باحثاً، ليستقصي الكاتب وكتاباته كلها، بل يظل خاضعا- شئنا أو أبينا- إلى تلك الصورة التي رُسمت له، رسمها الــ "هم" عنه، دون أن تكون صحيحة، إذ إن عرض جزء من الصورة والتركيز عليه هو نوع من التشويه. علينا أن نرضى به ونتعامل معه باحتمال، لكن أين الكتّاب الآخرون، والباحثون، والنقاد؟ لماذا لا يقدمون الصورة كاملة عن الكاتب؟

أعتقد أننا في ظل هذه المنظومة التي تحكمها السرعة، والأهواء، والتكنولوجيا، والشللية الثقافية، كلها عواملُ ووسائلُ لن تساهم في رسم الصورة الكاملة لأي كاتب مهما كان، "لقد وقعنا في الفخّ" فعلاً، ولا منجاة من ذلك، وتم تأطيرنا في إطار لا أظن أن أحدا كان قادرا على كسره، وكما يقول المثل الشعبي الفلسطيني "إن طلع صيتك حط راسك ونام"، فها هو نزار قباني، كتب في السياسة أكثر مما كتب في الغزل، لكنه محشور ومحصور في زاوية المرأة ونهديها. ولن تنجح قراءات القراء في شعره السياسي ومؤلفاته الأخرى إلا أن تراه شاعرا للمرأة، كما لن ترى محمود درويش إلا شاعرا للمقاومة على الرغم من أنه ابتعد منذ مدة طويلة في أشعاره وحياته ونهجه وأفكاره عن أن يكون شاعر مقاومة، بل ربما أصبح أقرب إلى الشاعر المدجن والمطبّع الذي يسير في جادّة لا تسير معه فيها الجماهير الباحثة عن التحرير والمقاومة. هذه الصورة وإن وجدها القراء في درويش أو في نزار أو في غيره من الكتاب، لا تستقر في مخيلتهم ولا على ألستنهم عندما يريدون الحديث عن أحدهم وتصنيفه ضمن الصورة المستقرة في الأذهان.

يا ليتنا نستطيع تغيير الصورة أو تحسينها على أقلّ تقدير. ويا ليتنا قادرون على الوقوف في وجه الغوغائية الثقافية والشعبوية القرائية والعبثية في التصنيف. إنها إحدى المعضلات الثقافية التي ليس لها حلّ على ما يبدو، عندنا وعند غيرنا، فكأنّ هذا التبسيط وهذا الاختزال مريح من أجل ألا يذهب العقل بعيداً في التفكير.

=================
[*] من مقال بعنوان "لماذا لا يفوز العرب بالجوائز؟"، الموقع الإلكتروني لجريدة الشرق الأوسط، نشر بتاريخ: 12/11/2021.
المصدر: فراس حج محمد
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 221 مشاهدة
نشرت فى 20 نوفمبر 2021 بواسطة ferasomar

فراس عمر حج محمد

ferasomar
الموقع الخاص بــ "فراس حج محمد" »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

724,304

فراس حج محمد

نتيجة بحث الصور عن فراس حج محمد كنانة أون لاين

من مواليد مدينة نابلس في فــلسطين عــام 1973م، حاصل على درجة الماجستير في الأدب الفلسطيني الحديث من جامعة النجاح الوطنية. عمل معلما ومشرفا تربويا ومحاضرا غير متفرغ في جامعة القدس المفتوحة. 

عمل محررا لغويا في مجلتي الزيزفونة للأطفال/ رام الله، وشارك في إعداد مواد تدريبية في وزارة التربية والتعليم الفلسطينية، وكان عضوا في هيئة تحرير مجلة القانون الدولي الإنساني/ الإصدار الثاني الصادرة عن وزارة التربية والتعليم في فلسطين.

نشر العديد من المـقالات والقـصائد في مـجالات النشر المختلفة الإلـكترونية والصحف والمجلات في فلسطين والوطن العربي وبريطانيا وأمريكا وكندا والمكسيك. وشارك في ندوات وأمسيات شعرية ومؤتمرات في فلسطين.

الكتب المطبوعة: 

رسائــل إلى شهرزاد، ومــن طقوس القهوة المرة، صادران عن دار غُراب للنشر والتوزيع في القاهرة/ 2013، ومجموعة أناشيد وقصائد/ 2013، وكتاب ديوان أميرة الوجد/ 2014، الصادران عن جمعية الزيزفونة لتنمية ثقافة الطفل/ رام الله، وكتاب "دوائر العطش" عن دار غراب للنشر والتوزيع. وديوان "مزاج غزة العاصف، 2014، وكتاب "ملامح من السرد المعاصر- قراءات في القصة القصيرة جدا- دار موزييك/ الأردن وديوان "وأنت وحدك أغنية" عن دار ليبرتي/ القدس وبالتعاون مع بيت الشعر في فلسطين، وكتاب "يوميات كاتب يدعى X"، وكتاب "كأنها نصف الحقيقية" /الرقمية/ فلسطين، وكتاب "في ذكرى محمود درويش"، الزيزفونة 2016، وكتاب "شهرزاد ما زالت تروي- مقالات في المرأة والإبداع النسائي"، الرقمية، 2017، وديوان "الحب أن"، دار الأمل، الأردن، 2017. وكتاب "ملامح من السرد المعاصر- قراءات في الرواية"، مكتبة كل شي، حيفا، 2017. وكتاب "ملامح من السرد المعاصر- قراءات في متنوع السرد"، مؤسسة أنصار الضاد، أم الفحم، 2018، وديوان "ما يشبه الرثاء"، دار طباق للنشر والتوزيع، رام الله، 2019، وكتاب "بلاغة الصنعة الشعرية"، دار روافد للنشر والتوزيع، القاهرة، 2020. وكتاب "نِسوة في المدينة"، دار الرعاة وجسور ثقافية، رام الله، وعمّان، 2020. وكتاب "الإصحاح الأوّل لحرف الفاء- أسعدتِ صباحاً يا سيدتي"، دار الفاروق للنشر والتوزيع، نابلس، 2021. وكتاب "استعادة غسان كنفاني"، دار الرعاة وجسور ثقافية، رام الله، وعمّان، 2021، وكتيّب "من قتل مدرّس التاريخ؟"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2021. وديوان "وشيء من سردٍ قليل"، وزارة الثقافة الفلسطينية، رام الله، 2021. وديوان "على حافّة الشعر: ثمّة عشق وثمّة موت"، دار البدوي، ألمانيا، 2022. وكتاب "الكتابة في الوجه والمواجهة"، الرعاة وجسور ثقافية، رام الله وعمان، 2023. وكتاب "متلازمة ديسمبر"، دار بدوي، ألمانيا، 2023. وكتاب "في رحاب اللغة العربية"، دار بدوي، ألمانيا، 2023، وكتاب "سرّ الجملة الاسميّة"، دار الرقمية، فلسطين، 2023. وكتاب "تصدّع الجدران- عن دور الأدب في مقاومة العتمة"، دار الرعاة وجسور ثقافية، رام الله وعمّان، 2023، وديوان "في أعالي المعركة"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2023، وكتاب "مساحة شخصية- من يوميات الحروب على فلسطين"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2024، وكتاب "الثرثرات المحببة- الرسائل"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2024، وكتاب "فتنة الحاسة السادسة- تأملات حول الصور"، دار الفاروق للثقافة، نابلس، 2025. 

حررت العديد من الكتب، بالإضافة إلى مجموعة من الكتب والدواوين المخطوطة. 

كتب عن هذه التجربة الإبداعية العديد من الكتاب الفلسطينيين والعرب، وأجريت معي عدة حوارات ولقاءات تلفزيونية.