قراءات
الكلمة والحرف في "شهية فعل الأمر" لـ فراس حج محمد
رائد الحواري
شهيّة فعل الأمر
ظلّي هنا عندي وعندي ثرثري
سيلي على شفتي ككأس مسكرِ
واطوي الحنينَ هناك سفر غوايةٍ
وتبتّلي
وتعرّفي
وتغرّبي
وفي ضلوعي غرغري
وتنافسي على وقتي الفسيحِ
تقاسمي لغتي مع ياسمينٍ أخضرِ
ولتغسلي وجع الغبار
إليّ هيّا فاعبري
وعلى ربوعيَ انتشري
حلمي شهيٌّ طازج لم يبدُ منه سواكِ
هيّا فسّري
أنا ههنا أنتِ الهناكَ
كشقّ نفسِ بالتحامِ الأسطرِ
هناك علاقة بين الفكرة والكلمة والحرف، بحيث تتآلف العناصر الثلاثة لخدمة الفكرة التي يراد تقديمها، وفي هذه الحال يكون الشاعر قد تماهي مع القصيدة، فهما معا يكوّنان كيانا واحداً، القصيدة كتبت الشاعر، والشاعر كتبها، فخروجها للحياة يتماثل مع حالة الولادة، ولو بقيت داخله لتأذى، ـ ورغم أنها كائن فيه شيء من الاستقلالية، إلا أنها تحمل شيئا من كيان/ شخصية/ أفكار الشاعر ـ
سنحاول اعطاء صورة التماهي بين القصيدة وفكرة الشاعر من خلال اعتمادنا على الكلمة والحرف اللذين استخدما في القصيدة، (متجاهلين) الفكرة، فهل يمكننا الوصول إلى الفكرة من خلال الكلمات والحروف المجردة؟
بداية نتحدث عن العنوان "شهية فعل الأمر" والشاعر يستخدم أول لفظ في القصيدة "ظلي هنا" وهذا الترابط بين العنوان وفاتحة القصيدة يشير إلى (طازجية) وسخونة القصيدة، ولم يتوقف الأمر عند الفاتحة، فنجد مجموعة من أفعال الأمر: "واطوي، وتبتلي، وتعرفي، وتغربي، وتنافسي، ولتغسلي، فاعبري، فسيري"، وإذا ما توقفنا عند هذه الأفعال، نجدها متواصلة ومتكاملة وسريعة من خلال حرف الواو والفاء، وهناك أفعال جاءت خالية من الواو أو الفاء: "سيلي، ثرثري، تقاسمي، غرغري"، لكن بعضها سبقتها حرف واو العطف/ الوصل "وعندي ثرثري، وفي ضلوعي غرغري"، فيبقى فعلان "سيلي، تقاسمي" دون الواو والفاء، وهذا له مبرر منطقي؛ ففعل "سيلي" يأخذنا إلى السيلان، والسيلان فعل بطيء، وبحاجة إلى وقت، فلا مجال لإضافة حرف السرعة إليه، من هنا نجد مبرر لخلوّه من الفاء والواو، وفعل "تقاسمي" جاء مقرونا "بلغتي" وهذا الفعل أيضا يحتاج إلى وقت، فاللغة (شاسعة) وكبيرة وليس من السهل تقاسمها، وبهذا تكون أفعال الأمر قد جاءت لتخدم فكرة (حامية/ مستعجلة) يريدها الشاعر، وتريدها القصيدة، فالقصيدة من خلال أفعال الأمر وحروف الواو والفاء تشير إلى رغبة جامحة عند الشاعر، وعلى سرعة خروجها للحياة.
ويستخدم الشاعر حرف "على" ثلاث مرات، ونحن نعلم أن حرف "على" له معنى (فوق)، لكن هذا (الفوق) يأتي بمعنى الملامسة، (الكأس على الطاولة) وهذا أيضا يخدم فكرة التلاحم والتواصل في القصيدة،.
أما بخصوص الألفاظ المجرة، هناك أكثر من لفظ يخدم فكرة التواصل والتماثل والتكامل: "ثرثري، ككأس، غرغري" فتماثل الحروف في اللفظ والواحد، يخدم فكرة التلاحم والتوصل، الثاء والراء، الكاف، الغين والراء.
وإذا أخذنا معنى فعل "ثرثري، وغرغري" نجد أن لهما علاقة بالفم، الأول يعني الكلام الكثير الذي فيه (التكرر) لكن دون تقديمه معنى واضحاً، بمعنى عدم كماليته ونقصانه، وصاحب (الثرثرة) يبقى مستمرا فيها ليوضح ما يريد لكنه لا يستطيع، لا يصل إلى الكمال، ففعل الثرثرة، يحمل الاستمرارية، والثاني له علاقة بالماء الذي يبقى في الحلق يخرج ويدخل، لكنه يستمر بقاؤه في الفم، وإذا ما توقفنا عند لفظ ومعنى (غرغرة) سنجده يحمل شيئا من الوجع، لكنه وجع يريده (المتغرغر) ليشفى، فهو فعل فيه (وجع) لكنه وجع للشفاء، كما أن لفظ (غرغرة) فيه شيء من التعب، لأنه خارج من جوف الحلق، وبهذا يكون الشاعر قد أوّل لنا الفكرة من خلال الألفاظ والحروف.
والشاعر لا يكتفي بهذه الألفاظ، فنجده يكرر بعض الألفاظ: "عندي/ وعندي، ههنا/ الهناك" كل هذا يجعنا نشعر/ نحس أن هناك علاقة حميمية موجودة في القصيدة، حتى لو لم نأخذ معنى الألفاظ والعبارات المستخدمة في القصيدة.
من هنا يمكننا القول إن "فراس حج محمد" كتب القصيدة والقصيدة كتبته، فالسرعة والحميمية اللتين جاءتا بها تشير إلى أنها كانت كالجنين الذي آن له أن يخرج للحياة، فإن لم يخرج، مات وقتل حامله.
القصيدة منشورة على صفحة الشاعر