نظرات في المشهد الروائي
عن البوكر ومآلات كورونا الروائية
فراس حج محمد/ فلسطين
وأنا أفكر في الرواية وما وصلت إليه من حالة مرضية في الكتابة والقراءة والنشر والنقد والجوائز والترويج الإعلامي، واستغلال للراهن وإقحام الرواية فيه، واجتراح نصوص سردية تتمسح بالرواية فقط ليفوز كتّابها بصفة الروائي، ويفوز ذلك السرد بصفة الرواية. يغلب على ظني نتيجة هذا التفكير أن "الحالة الروائية" المشبع بها الفضاء الثقافي غدت ظاهرة مقلقة بالفعل.
أرى ذلك وأنا أتابع الروائيين والروائيات في شتى البقعة العربية وغير العربية، واستغلال الرواية لأي ظرف لتكتب فيه، فكانت الحرب السورية مثلا ظرفا حيا للرواية السورية في آخر تسع سنوات أو ثماني سنوات عند الكثير من الروائيين والروائيات، مع بروز ظاهرة الروائيات بشكل لافت، وظهر دالّ الحرب في عناوين روايات متعددة. كما كانت قبل ذلك الحرب اللبنانية عاملا مساعدا لإنتاج فيض روائي شكّل علامة بارزة في الرواية اللبنانية، والأمر يقال بالنسبة للرواية العراقية حيث تعيش العراق أزمة حرب حقيقية ما قبل الثورات العربية منذ العقد الأخير من القرن العشرين.
وقبل كل ذلك شكلت القضية الفلسطينية للكثير من الكتاب العرب والفلسطينيين مناخا مساعدا للكتابة الروائية المتناسلة، فقد غدت أكثر قضية سياسية ذات أبعاد أدبية شعرية وروائية أولا، ثم روائية ثانيا، حتى استولت الرواية على المشهد بكليته تقريبا ما خلا بعض الأصوات غير الروائية، شعرية وقصصية ومسرحية، ظلت تسبح في الظلال، ولم تستطع أن تكون في النور ولو لفترة بسيطة، لقد استفحلت الرواية بشكل طاغٍ، وصار كل إبداع عداها هامشيا، وهي وحدها المتن والجوهر.
ولم تسلم الرواية من الزج بنفسها أو بزجها عنوة إلى الراهن اللحظي، وإدخالها في سباق مع موجة كورونا، هذا الوباء العالمي، ليقترح بعض المثقفين مشاريع كتابية تختص بكورونا، ومنها بطبيعة الحال كتابة "رواية كورونية" كما دعا لذلك مثلا وزير الثقافة الفلسطينية السابق الدكتور إيهاب بسيسو على صفحته في الفيسبوك، فكتب في 23 مارس ما نصه "تروقني فكرة أن هناك من سوف يفكر في كتابة رواية عن هذا الوقت، فلسطين 2020، وقد يكون المدخل للرواية انتشار وباء كورونا في البلاد ما قد يحفز على حبكة روائية ببعدها الاجتماعي والسياسي وربما التاريخي أيضاً، وقد تنطلق الرواية من حدث متخيل أو عفوي في بيت لحم على سبيل المثال ثم يتسع فضاء المكان الروائي ليشمل رام الله أو ربما نابلس أو غزة"، ولم يكتف معالي الوزير بالإشارة للموضوع، بل أخذ يقترح سيناريوهات وحبكات روائية.
لم يكن وزير الثقافة هو الوحيد في هذه الدعوة، بل فعل غيره مثل فعله باقتراح مشابه. إن هذه الدعوات وأشباهها ما هي إلا حشر أنف للرواية وإجبارها على الدخول إلى معترك جديد لتكتب فيه، وكأنه لا بد من حضور الرواية على هامش الوباء العالمي الذي اكتسح الوجود العام والفردي لكل مساحات العالم البعيدة والقريبة.
هذا المناخ الذي يبدو أنه مشجع على كتابة الرواية بسبب حالة الفوضى السياسية العارمة في البلدان العربية، وليس بعيدا عن حالة الحيرة العالمية والعزلة الجديدة بفعل الوباء، حاولت وستحاول الرواية أن تعيد تنظيمه سرديا، وتقرأ مشهديته المتصاعدة، لتفكك ما وراء الظاهرة السياسية والاجتماعية والوبائية من أسباب وعوامل، أو تحاول أن تفهم الظاهرة برؤيا الكاتب لعله يرتاح من قلق الواقع الممتد والمفخخ بالموت. هكذا جاءت الرواية في دافعها الأساسي عند كتابها الموهوبين متطلبا إبداعيا ضروريا، وليست ترفا بطبيعة الحال، فتبعهم فريق من الكتاب الموهومين الذين لم يفهموا قدرة الرواية الفلسفية والفكرية والإبداعية في قراءة الواقع أو محاولة تأطيره وفهمه. فتكاثرت الروايات بعجرها وبجرها في المشهد الثقافي، عدا ما للجوائز من دافع للكتابة الروائية وتجريب الحظ فيها، فاتسم بهذه الصفة كثير من الساردين الحكّائين الذين ما زالوا في مرحلة تعلّم أبجديات السرد، فكيف وقد خطت الرواية خطوات واسعة في الشكل والتقنيات ومعالجة المواضيع؟
لقد تضخمت الرواية إلى تلك الدرجة التي تشهد فيها كل دورة من دورات الجوائز الكبيرة في الوطن العربي كمّاً هائلا من الروايات التي أصبح من شبه المؤكد أن لجنة التحكيم لم تقرأها جميعها وتمر على بعضها بالتصفح العابر، وربما أقل من ذلك كما قال الناقد اللبناني عبده وازن.
لقد تحدثت عن مأزق لجان تحكيم الجوائز في وقفة سابقة، وشككتُ في قدرتها على قراءة هذا الكم الهائل من الروايات حسب إحصائيات أوردتها المواقع الإخبارية، وقد تجاوزت في إحدى الدورات لجائزة ما الألف رواية، حتى وإن كان ثلث هذا العدد، فالأمر لا يستقيم في النظر، ولا يحتاج إلى دليل قوي ليقول الباحث أن اللجنة لم تقرأ كل الروايات فعلا، "فليس يصح في الأفهام شيءٌ، إذا احتاج النهار إلى دليلِ".
هنا صار لا بد من البحث عن حل لإمكانية تحكيم أكثر عدلا، غير ما تلجأ إليه لجان التحكيم من ضبط الروايات المشاركة عن طريق سنة النشر، فتفكر اللجان القائمة على الجوائز مثلا بضرورة دفع اشتراك مالي من المؤلف أو دار النشر من أجل السماح لهم بالمشاركة في الجائزة عند تقديم "طلب الاشتراك"، تحدده اللجان المنظمة، ويختلف باختلاف المتقدم، سواء أكان دار نشر أم المؤلف ذاته.
إن هذه العملية مشروعة لعدة أسباب وجيهة، فالكاتب ودار النشر، لن يجرؤا على تقديم عمل غير منافس، وسيفكران مليا بعملية التقديم للجائزة، إذن سيصل إلى لجان التحكيم عدد أقل من الروايات، ولكنها روايات منافسة وجيدة بل ممتازة، ساعتئذ سيكون للتنافس طعم، فالكاتب الفائز يفوز بين جمع من الكتّاب الموهوبين الحقيقيين الجديرين بالجائزة، ويخف "السُّعار الروائي"، وتصبح العملية أكثر جدية وليست مجرد ضربة حظ. عدا أنها ستضبط إيقاع الكتابة غير المنضبطة وغير المكترثة وغير المسؤولة في إلصاق كل كتاب لا جنس له بالرواية من أولئك الكتاب الموهومين الواقفين على أبواب الجوائز، متلهفين للشهرة والمال.
وهذا ما لم تنفه بطبيعة الحال لجنة تحكيم الجائزة عند الإعلان عن الفائز بالجائزة في 14/4/2020 في دورتها الثالثة عشرة التي تمت افتراضيا؛ "نظرا لتعذر عقد حفل للإعلان كما هو معتاد في مدينة أبو ظبي بسبب تفشي فيروس كورونا"، حيث أشار محسن جاسم الموسوي رئيس لجنة التحكيم إلى ذلك بقوله خلال فيديو الإعلان عن فوز الرواية التي كانت من نصيب الجزائري عبد الوهاب عيساوي عن روايته "الديوان الإسبرطي"[1]: "ومن المثير أن نرى هذا العدد الكبير من المشاركين الذين قدموا من خارج مجال الرواية، من شعراء ودارسين ومثقفين، كما قدم إلى هذا المجال من استهوته حرية التجريب وطلب الشهرة التي توفرها الجائزة".
إن بإمكان لجنة الإشراف على الجائزة أن تقرر مثلا إعادة رسوم الاشتراك في الجائزة أو نصفها في حال وصلت الرواية إلى القائمة الطويلة، وإعادتها جميعها حتما إن وصلت إلى القائمة القصيرة في حال كانت الجائزة لا تمنح جوائز مالية للرواية الواصلة إلى القائمة القصيرة. وربما تعيد لبعض الكتاب هذه الرسوم إن وجدت رواياتهم تستحق المنافسة، لكن هناك ما هو أجود وهكذا.
ربما سيعترض الكتاب والناشرون على هذا الاقتراح، ولكن من كان ذا نص جيد فليغامر بدفع مبلغ ما؛ دلالة على ثقته بنصه، لعلمه لو كان جادا أن سيعود إليه إن فاز أو وصل إلى إحدى القائمتين الطويلة أو القصيرة.
لعل عملية دفع رسوم للاشتراك في جائزة غير مبرر في عالم الإبداع، ولكنها طريقة مثلى لضبط هذا التدفق المحموم من الروايات وجعله أكثر عذوبة وصفاء ونقاء. علما أن الكتاب يدفعون اشتراكات من أجل الحصول على نسخهم من المجلات الثقافية، والمشاركة في بعض المؤتمرات العلمية، فلماذا لا يدفعون رسوما من أجل المشاركة للحصول على جائزة إن كان المتحكم في النهاية التفكير الرأسمالي واعتبار كتابة رواية والمشاركة في نيل الجائزة مصدر رزق مشروع للكاتب، فكله واقع في باب الاستثمار؟
هذه هي إحدى المقترحات لتطوير العمل وتحسينه، حتى لا يقع القارئ والكاتب والناشر تحت طائلة تضليل لجان التحكيم في إبراز روايات وحجب أخرى دون وجود آلية عادلة وتطمئن إليها الأطراف المشاركة في مهرجان الرواية السنوي، وتخف حدة الجدل بين النقاد على أن رواية ما هي الأولى بالفوز. أظن أن الأمر وفداحته واستفحال أمر الرواية كلها أسباب تدعو إلى أن نفكر بالحلول جديّاً، ربما استطعنا جميعا إيجاد مناخ أدعى للتجويد وولادة روائي عظيم ورواية خالدة.
ومع كل ما يقال حول تلك الدعوة، تبقى دعوة إقحام الرواية في لجة البحر مع فايروس كورونا أمرا غير محتوم النتائج الإيجابية أيضا، فثمة قواعد وقوانين للرواية الجيدة ستخرج حتما عن دائرة سيناريوهات وزير، يتأمل أفكاره الإبداعية في حجره المنزلي، فهل سينجح الروائيون في كتابة رواية ضمن هذا السياق المستجدّ بفعل فايروس كورونا المستجدّ؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] فيديو الإعلان عن الجائزة في اليوتيوب: https://youtu.be/jOJlymTzTMk. صدرت الرواية عام 2019 عن دار ميم في الجزائر، وتقع في (384) صفحة، وتعود في الزمن إلى أيام احتلال فرنسا للجزائر، رواية تاريخية تدور أحداثها بين عامي 1815 و1833.