فراس حج محمد

موقع يختص بمنشورات صاحبه: مقالات، قصائد، أخبار

في تأمّل تجربة الكتابة

أدباء قضوا نحبهم بالمعديات من المرض وآخرون نجَوْا

فراس حج محمد/ فلسطين

ربما لن تكون أخبار الأدباء الذين قضوا نحبهم بالجوائح الكبرى محل اهتمام كبير للصحف والفضائيات، إلا في حالات نادرة، فحياة كثير من الأدباء وموتهم لا تكون بؤرة الأخبار عموما، فالإعلام بطبيعته سياسي واقتصادي، ويأتي رصد الحالة الثقافية على الهامش، بل هامش الهامش، لذلك رصد حالات موت الأدباء في ظل الجوائح الكبرى قد لا يجدها القارئ أو المشاهد العربي إلا في الأخبار الطريفة، بل كم من خبر طريف غطى على خبر مهم كوفاة أديب أو عالم، فخبر قطة هائمة، أو دبّ باندا مريضة، أو ربما عنكبوتة في حالة ما، أهم من تتبع أخبار الكتاب والأدباء.

يُذكّر هذا الموضوع بأدباءَ وشعراءَ ماتوا في الجوائح، وربما يقف على رأس هؤلاء جميعاً الشاعر العربي "ابن الوردي" الذي مات جراء إصابته بالطاعون عام 749هـ، واستعادت قصته بعض الفضائيات العربية والتقارير الصحفية الثقافية مؤخرا بفعل أخبار فايروس كورونا، هذا الوباء العالمي المستجدّ. فقد تحدى الشاعر ابن الوردي، الطاعون ببيتين من الشعر، ولم يهمله طويلا حتى توفي، فقد قال قبل موته بيومين:

ولستُ أخاف طاعوناً كغيري

          فما هو غير إحدى الحسنيينِ

فإن متُّ، استرحتُ من الأعادي

          وإن عشتُ، اشتفتْ أذني وعيني

وربما كان المتنبي سيواجه المصير نفسه وقد أصابته الحمى، وربما كانت حمى المتنبي عرَضا لمرض آخر، ولكنه بطبيعة الحال كان يعاني كثيرا، فكتب حول تلك المحنة:

وملَّنيَ الفراش وكان جنبي

          يملّ لقاءه في كلّ عامِ

عليل الجسم ممتنع القيام

          شديد السكر من غير المدامِ

وزائرتي كأن بها حياءً

          فليس تزور إلا في الظلامِ

ولم يقف المتنبي عند توصيف المرض، بل إنه أخذ يتأمل العلاقة الإنسانية مع المريض، من خلال علاقة الآخرين به، وعلى ما يبدو أنها كانت علاقة بائسة، فقد تخلى عنه الآخرون، وأفرد إفراد البعير المعبّد كما قال الشاعر القديم طرفة بن العبد، وهو يتحدث عن ذلك البعير المصاب بالجرب الذي يُطلى بالقار ويترك وحيدا خوفا من العدوى، ولا بد أيضا من أن هناك من كان يصاب بالجرب أو الجذام في البيئة العربية ويترك وحيدا محجورا، فقد ورد عن الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام "فُرّ من المجذوم فرارك من الأسد".

لقد وضع المتنبي في ذلك السياق من الإهمال، وفرّ منه الآخرون، وها هو يشير إلى أثر ذلك، ولكن نفس المتنبي العالية تأبى الرضوخ لثقل الحالة النفسية، فأخذ يكابر خالطا الحالتين معا، حالة الشعور بالضعف نتيجة الحمى، وحالة الكبرياء الذاتي التي كانت حاضرة دائما في أشعاره:

قليل عائدي سقم فؤادي

          كثير حاسدي صعب مرامي

فلما صار ود الناس خبا

          جزيت على ابتسام بابتسامِ

وصرت أشك فيمن أصطفيه

          لعلمي أنه بعض الأنامِ

حالة نفسية صعبة، وصل فيها الشاعر المتنبي إلى فقدان الثقة بالبشر، كونهم بشراً، كما يشير البيت السابق.

مما لا شك فيه أنه لا بد من مراعاة المريض ومشاعره، وزيارته الدائمة، وألا يكون وحده في مرضه، يواجهه وحده، حتى وإن كان في حجر صحيّ، في بيته أو في المشفى، فإنه لن يفكر إلا بالمرض وهو وحيد، وسيكون أسرع فتكا به، ويستطيع المرض، أي مرض، أن يحطّم المريض مهما كانت استعداداته الجسمية ومناعته قوية إذا ترك وحده في المواجهة. لذلك حثّ الطب النفسي على مواساة المريض وأن يظلّ الناس على تواصلٍ معه بأي وسيلة كانت، فهذا الدور لا يقل أهمية عن دور العلاج بالعقاقير، وقد أخذ الإسلام هذه الناحية في الاعتبار عندما أكد أهمية عيادة المريض، ومواساته ومحادثته والتسرية عنه، وعدم تخويفه من مرضه، بل على العكس، يجب رفع معنوياته، وألا يُذكّر المريض بأشخاص قضوا نحبهم بالمرض نفسه، وما إلى ذلك، فوجد في المدونة الفقهية باب خاص بـ "آداب زيارة المريض" لأهمية ذلك اجتماعيا ونفسيا.

وغير المتنبي وابن الوردي حفلت المدونة الثقافية بأسماء أدباء واجهوا أمراضا وظروفا متعددة، فهذا امرؤ القيس الذي حلّ التعب بجسده، وهو عائد من مقابلة القيصر في "بلاد الروم"، فيصاب بالجدري الذي تمكن منه وصرعه، ويقال إنه مات بحلّة مسمومة بقصة تبدو أنها ملفقة وغير صحيحة، واجه الشاعر موته بقوله:

أجارَتنا إن المزار قريبُ

          وإني مقيم ما أقامَ عَسيبُ

أجارتنا إننا غاريبان ههنا

          وكل غريب للغريب نسيبُ

ولَيْسَ غريباً مَن تَنَاءَتْ دِيَارُهُ

          ولَكنَّ مَنْ وَارَى التُّرَابُ غَريبُ

لقد كان امرؤ القيس واحدا من شعراء واجهوا الموت، ووصلوا إلى مرحلة اللا عودة، فرثوا أنفسهم بقصائد مفجعة ظلت دليلا على موتهم في ظروف كانت في المجمل غير إنسانية، وخلقت نوعا من التوتر العاطفي المليء بالحسرة والتوجع، فقد كانت من أصدق الشعر وأحزنه.

وفي هذه الجائحة المعاصرة التي عرفت بكورنا، كوفيد 19 المستجد، تتسلل الأخبار الخجولة لتعلن عن وفاة أديبين، أحدهما العراقي صباح علي الشاهر، الذي توفي بلندن، وقد عرف الكاتب بالعديد من الروايات والمجموعات القصصية القصيرة والمقالات السياسية، وأما الكاتب الآخر فهو الروائي التشيلي لويس سيبولفيدا، وتعتبر روايته "العجوز الذي يقرأ الروايات الغرامية" أهم أعماله الأدبية، وتمت ترجمتها لأكثر 35 لغة مختلفة، وترجمها إلى اللغة العربية المترجم عفيف دمشقيّة، ونشرتها دار الآداب عام 1993، وتقع في (148) صفحة.

في حين نجا من براثين هذا الفايروس بلا شك أدباء كثيرون، وإن لم تذكر الصحف أخبارهم، وكان من بين هؤلاء الكاتب والروائي المغربي الطاهر بن جلّون الذي بشّر أصدقاءه ومتابعيه بشفائه من خلال رسالة وجهها لصديقٍ له ونشرها على صفحته في الفيسبوك. وقد طال الفايروس أيضا مقربين وأحبابا لأدباء وشعراء وفنانين، فقد أعلن الفنان مارسيل خليفة على صفحته على الفيسبوك أيضا عن تعافي ولده رامي، واصفا تلك اللحظات التي اجتاحته من الخوف جراء أن يكون لهذا الفايروس مضاعفات على ولده لا تحمد عقباها، فقد قال مارسيل: "كل شيء كان يتسلّل إلى ليلنا: القلق، الشك، السؤال، الغبار، الديار، وبقية خيوط عالقة في ذيل النهار الطويل".

 

المصدر: فراس حج محمد

فراس عمر حج محمد

ferasomar
الموقع الخاص بــ "فراس حج محمد" »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

580,690

فراس حج محمد

نتيجة بحث الصور عن فراس حج محمد كنانة أون لاين

من مواليد مدينة نابلس في فــلسطين عــام 1973م، حاصل على درجة الماجستير في الأدب الفلسطيني الحديث من جامعة النجاح الوطنية. عمل معلما ومشرفا تربويا ومحاضرا غير متفرغ في جامعة القدس المفتوحة. 

عمل محررا لغويا في مجلتي الزيزفونة للأطفال/ رام الله، وشارك في إعداد مواد تدريبية في وزارة التربية والتعليم الفلسطينية، وكان عضوا في هيئة تحرير مجلة القانون الدولي الإنساني/ الإصدار الثاني الصادرة عن وزارة التربية والتعليم في فلسطين.

نشر العديد من المـقالات والقـصائد في مـجالات النشر المختلفة الإلـكترونية والصحف والمجلات في فلسطين والوطن العربي وبريطانيا وأمريكا وكندا والمكسيك. وشارك في ندوات وأمسيات شعرية ومؤتمرات في فلسطين.

الكتب المطبوعة: 

رسائــل إلى شهرزاد، ومــن طقوس القهوة المرة، صادران عن دار غُراب للنشر والتوزيع في القاهرة/ 2013، ومجموعة أناشيد وقصائد/ 2013، وكتاب ديوان أميرة الوجد/ 2014، الصادران عن جمعية الزيزفونة لتنمية ثقافة الطفل/ رام الله، وكتاب "دوائر العطش" عن دار غراب للنشر والتوزيع. وديوان "مزاج غزة العاصف، 2014، وكتاب "ملامح من السرد المعاصر- قراءات في القصة القصيرة جدا- دار موزييك/ الأردن وديوان "وأنت وحدك أغنية" عن دار ليبرتي/ القدس وبالتعاون مع بيت الشعر في فلسطين، وكتاب "يوميات كاتب يدعى X"، وكتاب "كأنها نصف الحقيقية" /الرقمية/ فلسطين، وكتاب "في ذكرى محمود درويش"، الزيزفونة 2016، وكتاب "شهرزاد ما زالت تروي- مقالات في المرأة والإبداع النسائي"، الرقمية، 2017، وديوان "الحب أن"، دار الأمل، الأردن، 2017. وكتاب "ملامح من السرد المعاصر- قراءات في الرواية"، مكتبة كل شي، حيفا، 2017. وكتاب "ملامح من السرد المعاصر- قراءات في متنوع السرد"، مؤسسة أنصار الضاد، أم الفحم، 2018، وديوان "ما يشبه الرثاء"، دار طباق للنشر والتوزيع، رام الله، 2019، وكتاب "بلاغة الصنعة الشعرية"، دار روافد للنشر والتوزيع، القاهرة، 2020. وكتاب "نِسوة في المدينة"، دار الرعاة وجسور ثقافية، رام الله، وعمّان، 2020. وكتاب "الإصحاح الأوّل لحرف الفاء- أسعدتِ صباحاً يا سيدتي"، دار الفاروق للنشر والتوزيع، نابلس، 2021. وكتاب "استعادة غسان كنفاني"، دار الرعاة وجسور ثقافية، رام الله، وعمّان، 2021، وكتيّب "من قتل مدرّس التاريخ؟"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2021. وديوان "وشيء من سردٍ قليل"، وزارة الثقافة الفلسطينية، رام الله، 2021. وديوان "على حافّة الشعر: ثمّة عشق وثمّة موت"، دار البدوي، ألمانيا، 2022. وكتاب "الكتابة في الوجه والمواجهة"، الرعاة وجسور ثقافية، رام الله وعمان، 2023. وكتاب "متلازمة ديسمبر"، دار بدوي، ألمانيا، 2023. وكتاب "في رحاب اللغة العربية"، دار بدوي، ألمانيا، 2023، وكتاب "سرّ الجملة الاسميّة"، دار الرقمية، فلسطين، 2023. وكتاب "تصدّع الجدران- عن دور الأدب في مقاومة العتمة"، دار الرعاة وجسور ثقافية، رام الله وعمّان، 2023، وديوان "في أعالي المعركة"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2023، وكتاب "مساحة شخصية- من يوميات الحروب على فلسطين"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2024، وكتاب "الثرثرات المحببة- الرسائل"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2024.

حررت العديد من الكتب، بالإضافة إلى مجموعة من الكتب والدواوين المخطوطة. 

كتب عن هذه التجربة الإبداعية العديد من الكتاب الفلسطينيين والعرب، وأجريت معي عدة حوارات ولقاءات تلفزيونية.