فراس حج محمد

موقع يختص بمنشورات صاحبه: مقالات، قصائد، أخبار

في تأمّل تجربة الكتابة:

المُبْكِرون في رحلة الموت من الشّعراء

فراس حج محمد

في مقالة بعنوان "رحلوا في شبابهم ... شعراء ما زالوا بيننا!"* كتبها الشّاعر المصري عمرو العزالي، ونشرها في موقع الميادين بتاريخ 26 حزيران 2019 أتى فيها على ذكر أربعة شعراء لم يعمّروا طويلا، وهم السوري رياض الصالح حسين، والمصري أمل دنقل، والتونسي أبو القاسم الشابي، وشاعر العامية المصري مجدي الجابري، وركز الكاتب مقالته على فكرة حضور هؤلاء الشعراء واستدعاء القراء لهم، على الرغم من موتهم في سن الشباب، إلا أن حضورهم لافت للنظر، نحتاج في مواقف كثيرة لترديد أشعارهم وقصائدهم.

أرجعتني فكرة المقال إلى نص كتبته بعنوان "في الأربعين ثمّة ما هو جميل كذلك"، وإن لم أتحدث عن الفكرة إلا أن الموت قبل الأربعين كان هاجسا يسكنني، وكنت أفكر وأستحضر شعراء وكتابا رحلوا دون سن الأربعين تحديدا، وقد أعددت مرثيتي "شيء من رثاء النفس"من أجل هذا الغرض، وكنت مشغولا على نحو جدي بالموت، قبل بلوغي الأربعين، فلما تجاوزتها ولم أمت، توقفت عن التفكير في الأمر، وتوقفت عن فكرة أن أضيف بيتا للقصيدة كل عام في عيد ميلادي، فبلغت القصيدة أربعين بيتا وأنا تجاوزت سن الأربعين بسلام، وربما لحسن حظي أنني لم أمت إلى الآن.

يقفز إلى الذاكرة أيضا قول الشاعر العربي القديم: "وماذا تبتعي الشعراء مني// وقد جاوزت حد الأربعين؟ ماذا كان يقصد الشاعر بذلك؟ هل أفرغ كل ما بجعبته وشعر أنه لا جديد لديه؟ هل عليه أن يموت شعريا قبل أن يموت بيولوجيا؟ ما دخل سن الأربعين بالكتابة الشعرية؟ كيف يكون الشاعر قبلها وكيف يكون بعدها؟ لماذا أيضا النبي يصبح نبيا في الغالب بعد الأربعين؟ لماذا قال القرآن الكريم "ولما بلغ أربعين سنة قال ربي أوزعني أن أشكر نعمتك"؟ هل تتناقض الهداية وشكر النعمة مع الشعر؟ هل للشعر شياطين فعلا تجعلك بعيدا عن أن تشكر نعمتك؟

ربما بدت هذه الأسئلة من باب الاستطراد على هامش مقال الشاعر المصري عمرو العزالي، ولكنها دفعتني لأستذكر مجموعة من الشعراء الذين لم يذكروا في المقال، وكان لهم بصمة في عالم الشعر، إذ لا يمكن أن يمر عن تجاربهم مرور الكرام، ففي التراث العربي تذكر المصادر التاريخية أن الشاعر الجاهلي طرفة بن العبد لم يعمَّر طويلا، وأكرم الروايات تعطيه عمراً 26 عاماً، وأشدها بخلا لا يتجاوز عمره فيها عشرين عاما. لقد ترك بصمته الواضحة كونه كان واحدا من شعراء المعلقات، وسجلت قصيدته "لخولة أطلال ببرقة ثهمد" حضورا في المجاميع الشعرية والمصنفات التي تناولت ترتيب الشعراء في طبقات، وكان يحتل مكانه في الطبقة الأولى.

وفي الشعر الفلسطيني يبرز الشاعر إبراهيم طوقان الذي ولد عام 1905 وتوفي في 1941، وكان يعاني من المرض، وتتشابه قصته في جانب منها مع قصة أبي القاسم الشّابي. كان طوقان ثالث ثلاثة من شعراء فلسطين قبل نكبة عام 1948، وهم عبد الرحيم محمود وأبو سلمى وطوقان نفسه. لم يخلّف طوقان وراءه إلا ديوانا واحدا لكنه كان ذو بصمة لا تمحى في الشعر العربي والشعر الفلسطيني، وما زالت قصائده الثلاثاء الحمراء والحبشي الذبيح وموطني والشهيد، وأبيات متفرقة أخرى حاضرة تستعاد في مناسبات متعددة، ويصدق الأمر على الشاعر عبد الرحيم محمود الذي لم يتجاوز عمره خمسة وثلاثين عاما، صاحب القصيدة المشهورة "سأحمل روحي على راحتي"، تلك القصيدة أو بيتاها الأوّلان على أقل تقدير يحفظهما كل أبناء الشعب الفلسطيني تقريبا دون أن يدروا ربما أنها للشاعر الشهيد عبد الرحيم محمود الذي استشهد مقاتلا في معركة الشجرة عام 1948.

ومن باب الاستطراد أيضا الخارج عن نطاق الشعر أذكر بالكاتب الشهيد غسان كنفاني الذي لم يتجاوز عمره الستة وثلاثين عاما عندما اغتالته العصابات الصهيونية المجرمة في بيروت عام 1972، وقد أنجز الكثير من الروايات والقصص والمسرحيات، وكان فاعلا في الحركتين السياسية والثقافية، فعدّه فاروق وادي علامة من علامات الرواية العربية الفلسطينية مع جبرا إبراهيم جبرا وإميل حبيبي.

ومن الشعراء الفلسطينيين الذين رحلوا في الأربعينيات من عمرهم الشاعرة منال نجوم، فقد خطفها الموت مبكرا، فقد عاشت سبعة وأربعين عاما (1972-2019)، وعانت في حياتها كثيرا وخلّفت وراءها أربعة دواوين شعرية، وكانت وما تزال صوتا شعريا نسويا متفردا في سياق الشعر الفلسطيني، وتتمتع بلغة شفافة وصور ذات حساسية جمالية عالية. وأذكر كذلك بالشاعر راشد حسين الذي لم يتجاوز عمره واحدا وأربعين عاما، والشاعر الريادي توفيق صايغ الذي رحل ولم يتجاوز ثمانية وأربعين عاما، وترك بصمته في التجديد الشعري في مجموعته الشعرية "ثلاثون قصيدة"، وفي أعماله الأخرى، حيث كتب مبكرا قصيدة النثر، ويعرّج عليه الدارسون بوصفه أحد الأصوات الشعرية التي أخرجت القصيدة العربية من قالبها التقليدي، ثائرا على عمود الخليل والتفعيلة العروضية.

وأما عربيا فقد كان هناك شعراء كثر لم يعمروا طويلا. فالشاعر العراقي بدر شاكر السياب لم يتجاوز عمره 37 عاما، وكان يعاني من المرض. وارتبطت الحداثة الشعرية الحقيقية به، ليس في ريادته للشعر الحر، تلك الريادة التي تنازعها مع الشاعرة العراقية نازك الملائكة، بل تخطت الحديث عن الشكل إلى قضايا فنية أخرى تمسّ القصيدة المعاصرة، وأهمها توظيف الأسطورة، وطبيعة اللغة الشعرية القائمة على التكثيف والرمزية وتعدد الرؤى.

ومن الشعراء العرب الذين أنهوا حياتهم بأنفسهم، بالانتحار بطلق ناري وهو ما زال شابا، الشاعر الأردني تيسير السبول الذي انتحر بتاريخ 15 تشرين الثاني عام 1973 بعد مروره بحالة نفسية سيئة بدأت معه منذ هزيمة عام 1967، ويعد الشاعر السبول أحد الشعراء الذين توقفوا عند مساءلة جدوى الكتابة وأثرها، فتوقف فترة وجيزة عن الكتابة، ثم عاد. ويشترك مع الشاعر خليل حاوي في أن انتحارهما كان ردة فعل سياسية لما حدث من هزائم، فخليل حاوي انتحر وهو ابن 63 سنة عندما دخلت قوات الاحتلال الإسرائيلي بيروت عام 1982، وكان انتحار السبول ردة فعل رافضة لما حدث عام 1973 من مفاوضات بين الإسرائيليين والمصريين، وعرفت بمحادثات خيمة الكيلو (101).

وأما الشعراء الغربيون، فسأكتفي بذكر مثالين، الأول الشاعرة الأمريكية سليفيا بلاث التي عاشت ثلاثين عاما، وماتت منتحرة بالاختناق، وكانت زوجة الشاعر تيود هيوز، وشكلت الشاعرة بلاث حالة فريدة في الشعر الغربي الأمريكي، وتناول الحديث عنها الناقد جيمس فنن في كتابه "قوة الشعر"، والشاعر الآخر الذي أحب لفت النظر إليه الشاعر الفرنسي آرثر رامبو الذي لم يطل عمره أكثر من سبعة وثلاثين عاما، وتوفي بعد صراع مع مرض سرطان العظام، ويذكر أن رامبو كتب الشعر وهو ابن أربعة عشر عاما، ووصفه فيكتور هيجو بأنه "طفل شكسبير" لبراعته الشعرية وعبقريته الظاهرة، واللافت في سيرة هذا الشاعر توقفه عن الكتابة قبل أن يبلغ الحادية والعشرين من عمره.

وظاهرة الشعراء الكبار الذين ماتوا شبابا لافتة للنظر، تطرح سؤال الإبداع والشهرة، لماذا؟ وكيف؟ وسبق أن تناولها الكتاب غيري، وأشاروا إلى شعراء آخرين، أو ربما تناولوا في حديثهم بعض هؤلاء الشعراء الذين تحدثت عنهم في هذه الوقفة.

ولم أقصد هنا أن أستقصي كل تلك النماذج، ولكن من يتتبع حياة الشعراء سيكتشف كثيرا من الأمثلة، وسيلاحظ أن الإبداع سمة تبدو في الشاعر منذ سن مبكرة، وكأن هذه الظاهرة ترجمة عملية لما قال الشاعر العربي: "وماذا تبتغي الشعراء مني وقد جاوت حد الأربعينِ؟"، ولكن هل قال كل هؤلاء الشعراء كل ما يجب أن يقولوه؟ ولو طال بهم العمر، هل سيكون لهم المزيد من الإبداع أم أن الأمر لا يعدو كونه قدرا مقدورا؟ ربما استطاعوا أن يراكموا مزيدا من الشعر على هامش ما أنجزوه وعرفوا به، وكانوا من أجله شعراء كبارا.

وفي ختام هذه الوقفة التأملية، يبدو لي أن تراكم الكتب، كتابا يتبعه كتاب لا يجدي نفعا في أن تحوز المكانة التي تطمح إليها، فبعد أن أنجزتُ سبعة عشر كتابا مطبوعا، وبضعة كتب أخرى ما زالت مخطوطة، معدة للطباعة، وغيرها ما زال ينتظر الترتيب والتحرير، ونشرت في الكثير من الصحف والمجلات الأدبية، وتخطيت منتصف الأربعين من العمر، ولم أبدُ ذا بصمة في الحركة الشعرية والنقدية والثقافية عموما، بعد أن غرقت في بحر الكتابة لأكثر من خمس وعشرين سنة، ربما كانت وهما، وأنا أطارد الضوء على أجنحة الفراشات. هل تكون لي شجاعة آرثر رامبو وأتوقف كلية عن الكتابة، وكما قالوا: "ويا دار ما دخلك شر"، وأكتفي بما اكتفيت به؟

ربما لن أستطيع اتخاذ مثل هذا القرار، فأنا ما زلت جبانا وصغيرا على اتخاذ القرارات المصيرية كهذا القرار، ومع هذا لن أنتظر أن أحصل على أكثر مما حصلت عليه من العيش ظلا في ظل عتمة باهرة تدعوني لأظل أمارس وهمي الذي أحبّه رغما عن ألم الموت في دياجير هذا الدهليز اللولبي الذي لن ينتهي إلا بانتهاء الأجل. ولعله أطول مما قد يرغب إنسان في أن يعيش أربعينيتين بوتيرة واحدة، ستصبح مملة، ومملة جدا بلا شك.

____________________

* مقال: رحلوا في شبابهم...

 

المصدر: فراس حج محمد
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 178 مشاهدة

فراس عمر حج محمد

ferasomar
الموقع الخاص بــ "فراس حج محمد" »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

726,859

فراس حج محمد

نتيجة بحث الصور عن فراس حج محمد كنانة أون لاين

من مواليد مدينة نابلس في فــلسطين عــام 1973م، حاصل على درجة الماجستير في الأدب الفلسطيني الحديث من جامعة النجاح الوطنية. عمل معلما ومشرفا تربويا ومحاضرا غير متفرغ في جامعة القدس المفتوحة. 

عمل محررا لغويا في مجلتي الزيزفونة للأطفال/ رام الله، وشارك في إعداد مواد تدريبية في وزارة التربية والتعليم الفلسطينية، وكان عضوا في هيئة تحرير مجلة القانون الدولي الإنساني/ الإصدار الثاني الصادرة عن وزارة التربية والتعليم في فلسطين.

نشر العديد من المـقالات والقـصائد في مـجالات النشر المختلفة الإلـكترونية والصحف والمجلات في فلسطين والوطن العربي وبريطانيا وأمريكا وكندا والمكسيك. وشارك في ندوات وأمسيات شعرية ومؤتمرات في فلسطين.

الكتب المطبوعة: 

رسائــل إلى شهرزاد، ومــن طقوس القهوة المرة، صادران عن دار غُراب للنشر والتوزيع في القاهرة/ 2013، ومجموعة أناشيد وقصائد/ 2013، وكتاب ديوان أميرة الوجد/ 2014، الصادران عن جمعية الزيزفونة لتنمية ثقافة الطفل/ رام الله، وكتاب "دوائر العطش" عن دار غراب للنشر والتوزيع. وديوان "مزاج غزة العاصف، 2014، وكتاب "ملامح من السرد المعاصر- قراءات في القصة القصيرة جدا- دار موزييك/ الأردن وديوان "وأنت وحدك أغنية" عن دار ليبرتي/ القدس وبالتعاون مع بيت الشعر في فلسطين، وكتاب "يوميات كاتب يدعى X"، وكتاب "كأنها نصف الحقيقية" /الرقمية/ فلسطين، وكتاب "في ذكرى محمود درويش"، الزيزفونة 2016، وكتاب "شهرزاد ما زالت تروي- مقالات في المرأة والإبداع النسائي"، الرقمية، 2017، وديوان "الحب أن"، دار الأمل، الأردن، 2017. وكتاب "ملامح من السرد المعاصر- قراءات في الرواية"، مكتبة كل شي، حيفا، 2017. وكتاب "ملامح من السرد المعاصر- قراءات في متنوع السرد"، مؤسسة أنصار الضاد، أم الفحم، 2018، وديوان "ما يشبه الرثاء"، دار طباق للنشر والتوزيع، رام الله، 2019، وكتاب "بلاغة الصنعة الشعرية"، دار روافد للنشر والتوزيع، القاهرة، 2020. وكتاب "نِسوة في المدينة"، دار الرعاة وجسور ثقافية، رام الله، وعمّان، 2020. وكتاب "الإصحاح الأوّل لحرف الفاء- أسعدتِ صباحاً يا سيدتي"، دار الفاروق للنشر والتوزيع، نابلس، 2021. وكتاب "استعادة غسان كنفاني"، دار الرعاة وجسور ثقافية، رام الله، وعمّان، 2021، وكتيّب "من قتل مدرّس التاريخ؟"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2021. وديوان "وشيء من سردٍ قليل"، وزارة الثقافة الفلسطينية، رام الله، 2021. وديوان "على حافّة الشعر: ثمّة عشق وثمّة موت"، دار البدوي، ألمانيا، 2022. وكتاب "الكتابة في الوجه والمواجهة"، الرعاة وجسور ثقافية، رام الله وعمان، 2023. وكتاب "متلازمة ديسمبر"، دار بدوي، ألمانيا، 2023. وكتاب "في رحاب اللغة العربية"، دار بدوي، ألمانيا، 2023، وكتاب "سرّ الجملة الاسميّة"، دار الرقمية، فلسطين، 2023. وكتاب "تصدّع الجدران- عن دور الأدب في مقاومة العتمة"، دار الرعاة وجسور ثقافية، رام الله وعمّان، 2023، وديوان "في أعالي المعركة"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2023، وكتاب "مساحة شخصية- من يوميات الحروب على فلسطين"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2024، وكتاب "الثرثرات المحببة- الرسائل"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2024، وكتاب "فتنة الحاسة السادسة- تأملات حول الصور"، دار الفاروق للثقافة، نابلس، 2025. 

حررت العديد من الكتب، بالإضافة إلى مجموعة من الكتب والدواوين المخطوطة. 

كتب عن هذه التجربة الإبداعية العديد من الكتاب الفلسطينيين والعرب، وأجريت معي عدة حوارات ولقاءات تلفزيونية.