في تأمّل تجربة الكتابة
الأثر السّيّئ في النّصّ للمرأة الرّديئة
فراس حج محمد
كل صديقة من الصديقات اللواتي مررن بي، وكنّ على تواصل شبه يومي معي كادت كل واحدة منهن تصبح حبيبة محتملة، هذا الأمر كان يجعلني على أهبة الاستعداد للتورط مع نساء كثيرات يوميا. بقيت على هذا زمنا طويلا، قابلت بعضهن لمرة أو مرتين، شربنا القهوة، وأكلنا الآيسكريم، وتبادلنا الهدايا، أنا لم أكن أستطيع تقديم هدايا باذخة، بعضهن قدمن لي هدايا أقلاما وتحفا وكتبا، وبعضهن كانت ترى أن وجودها معي هو أثمن جائزة يمكن أن تقدمها امرأة لكاتب يبحث في كل امرأة يصادفها عن سر قديم ضاع منه. أما أنا فكل ما كنت أستطيع تقديمه هو مشاركة هذه المرأة أو تلك وجبة طعام في مطعم محترم. وأحيانا كنت أقدم لهن نسخا من كتبي الكاسدة. لا أدري ماذا صنعن بتلك الكتب. ثمة نساء أخريات قابلتهن على عجل في أمسية شعرية أو فعالية ثقافية. نتعارف سريعا، وبعد أن ينفض الحفل أنسى الاسم والشكل ولم يعد لهؤلاء العابرات وجود إلا كطيف بعيد في كتابة ربما بدت رديئة نوعا ما.
هؤلاء النساء كنّ يشعرنني دوما بالتفاهة، نساء من المفترض أنهن ناصجات واعيات. لا أدري لماذا اخترنني أنا لأكون حبيبا محتملا- أظن أن أغلبهن خاب ظنهنّ فيّ- أو هدفا مقصودا لعملية تسلية ما. من هنا جاء شعوري بالتفاهة؛ لأن كل هؤلاء النساء ذهبن بالمطلق حتى أنهن مسحن من ذاكرتي أسماءهن وملامحهن. لقد استنزفن وقتي الذي يجب أن أخصصه لما هو أكثر فائدة من أن يضيع هكذا. بضع سنين عجاف استهلكتها وأنا أحرث الماء وأشرب من سراب تلك العلاقات المقيتة.
بصفتي كاتبا ماذا استفدت من وجود مثل هؤلاء النساء؟ وماذا شكلن لي من تجارب؟
في الحقيقة كنّ نساء فقيرات في الخيال والرؤى والحب والطقوس التي تشجع كاتبا على الكتابة، لم يجعلنني أحيا سوى على ظلال الخارجيّ منهنّ. أو ربما هن كنّ كذلك فعلاً، وأنا كنت أفتش عن أشيائي الضائعة فيهن فلم أجدها. كنّ نساء ساذجات يدّعين المعرفة والحكمة. وكن أكبر مني سنا في غالب الأحيان. ربما إحداهن أرادتني أن أراها عمتي أو أختي الكبرى أو خالتي التي عثرتُ عليها بعد شتات طويل. كأنها كانت في هجرة وعادت فجأة إلى البلد معبأة بالحكمة والمثاليات. لذلك وبصراحة كنت أراهنّ تافهات وسيئات ومليئات بالأنانية وحبّ التشفي.
في كتابي المخصص للنساء "نسوة في المدينة" لم أتحدثن عن هؤلاء النساء، وبقيت أبعد عنهن؛ لأنني كلما تذكرتهن أصاب بالاشمئزاز. لكن ربما تسللت بعضهن إلى قصيدة شعرية على اعتبار أن مجال الخدعة الأولى كانت دائما وأبدا هي القصيدة الشعرية. كتبت لإرضائهن أو إغوائهن قصائد كثيرة. إنها في الحقيقة ليست قصائد. إنها نصوص رديئة بالمطلق، لأنني لم أكن مخلصا للنص بقدر ما أنا كنت مهووسا بإرضائهن. كنت أكتب وفكري مشغول بغير الكتابة.
كانت مرحلة من الكتابة سيئة جدا، خلّفت كثيرا من النصوص الميتة التي غدت عبئا شديد الوطأة عليّ؛ لاسيما أن أغلبه تفلّت من يديّ وضاع والتصق بفضاءات النشر الإلكتروني، وبعضه انزلق على حين غفلة من المحرّر إلى الصحف الورقية. إنها بقعة سوداء لن تطهر بسهولة وبسرعة على المدى القريب أو البعيد، إذ إن تلك المنصات الإلكترونية تتمتع بالتأبيد. إن تلك النصوص أبناء حرام، عاقّون، وشرسون، لكنني أنا من أنجبتهم وأستحق ما أستحق من شتائم نقدية وأخلاقية بسببهم، فقد عققت النص قبل أن يعقّني، يعضّني وينبح في وجهي كلما تجرأت وعدت لقراءته من أجل تهذيب طباعه الشاذة، وهل تفلح عمليات التجميل الواعية في إنقاذ نص مشوّه خِلقةً؟
ماذا سيقلن لو قرأت إحداهن هذا الاعتراف؟ وهل ستجرؤ على مراجعتي والاستفسار إن كانت هي إحداهن؟ ربما كتبت كاذبة تعليقا ترد التهمة عن نفسها، وتعتذر بطريقة غير مباشرة عن علاقتها بي. على كل حال أحاول أن أداوي مرض الكتابة بالكتابة نفسها، وأفتح جعبتي على كل ما فيها، فلعلني أستطيع التخلص من تلك الأمراض المزعجة التي أفسدتني خُلقا وأسلوبا، وشوهت صورة الكاتب المحترم الذي يجب عليه أن يترفّع عن كل رديء في التجربة وفي الكتابة معا.
وأخيرا: كم امرأة بقيت منهن لتستطيع أن تقرأ هذه الشهادة على تلك المرحلة من الكتابة؟ لست أدري، ولا أريد أن أدري. يكفي أنني استطعت الكتابة بهدوء في موضوع مزعج جدا.