تربويّات
التقييم بين عامين: لا موضوعية فيه أو ثقة
فراس حج محمد
أجد نفسي مهووسا، ولأول مرة وربما لآخر مرة أيضا، بالكتابة في موضوع "تقييم الأداء" ليس اعتراضا على شخص أو غضبا أو حردا أزعر، كما قد يفكر البعض، وليس من باب "تقييم الولاء وليس تقييم الأداء" كما يروج الساخطون، لكنه من باب أن أقول هذه الكلمة التي تضغط على أعصابي منذ عرفت ما عرفت من أمر هذا العبث الذي يمارس علينا، ضمن منظومة ليس فيها شيء قد يشكل مرجعية تستطيع أن تستند عليها، فالكل، أو صاحب الشأن على الأقل، سيستأسد في الدفاع عن نفسه، وإثبات نظرياته التي هي أصلا من حيث منطقيتها لا تنتمي إلا إلى اللامنطق.
في تقييم العام الماضي عندما فاحت رائحة التقييمات قبل أن تصلنا نحن الموظفين بشكل رسمي، كما هو معتاد، وهذا خلل فاضح، يعاقب عليه القانون، يسارع ناقل الخبر إلى إخباري بالتقييم المهول، على اعتبار أنه صدمة، أو مناسبة لإحداث مشكلة كبرى، وعندما اطمئنّ إلى أنني لن أقوم بأي حركة هوجاء رعناء كما كان يبغي ربما، كتب الرقم بإصبعه على سطح مكتبه وضغط على الصفر بعد ذلك بعنف (70). للأسف مرتين؛ الأولى لا تستطيع الكتابة تصوير الحركة المسرحية ليده وهو يرسم هذا الرقم وخاصة هذا الصفر المقدس، والثانية أنه لم يكن (70) بالضبط. لقد كان (69.5).
لن أدعي المثالية وأقول إنني لم أتأثر، بالعكس تماما، وجمت وجوم المغضوب عليهم، وبهت كما لو أنني ضالّ عقور، لم أنبح على المقيّم، بل انسللت، منحني الرأس أعاني من الخذلان, نعم أعاني من الخذلان، من نفسي أولا فقد خدعتها جدا، تلك النفس التي كانت تعدّ نفسها (Super)، وإذا بها تقع في ذيل قائمة مشرفي الوطن جميعا. كان تقييما قاسيا، بلا شك في ذلك. ولكنني عندما استدعيت استدعاء المخابرات لتسليمي التقييم، رفضت استلامه أو التوقيع على أنني استلمته، فمن تلك اللحظة فقدت الثقة بكل الأرقام والتقييمات، مهما وقفت أرقامها في طرفي الخيط، تميّزا، أو تدهورا، لأنها لم تعكس الحقيقة.
هنا عليّ أن أقول لماذا هي لم تعكس الحقيقة، أولا: لأنني عندما كنت متميزا لم يختلف أدائي عما أصبحت عليه مرذولا في ذيل قائمة المشرفين التربويين، وأنا من أنا، وهنا عليّ أن أفاخر بهذه الـ "أنا" التي أراها أكبر من أنا المتنبي وأعظم، بالنسبة لكل من أحاط بي أو زاملني. وهذا ليس غرورا أو تبجحا بل إنها حقيقة تحدث عن نفسها بلسان عربي مبين. وثانيا: لم يكن أحد ممن يعملون معي وشاركني العمل وحصل على التقييم المدهش، أنه أتى بالذئب من ذيله، أو أجرى الله على يديه معجزة، على الرغم من أننا، ونحن جميعا أبناء الميدان، نرى ونشاهد ونتابع أخطاء بعضنا، وقدرات بعضنا، وإمكانياتهم وحدود طاقاتهم. هنا على الجميع أن يحترم هذه الحقيقة. وثالثا أيضا: أنني في هذا التقييم المتدني كنت الوحيد المتسيّد في الإشراف على مبحث اللغة العربية، ولم يشاركني أي زميل أو زميلة، وقمت ليس بما يتوجب عليّ في القانون بل أكثر من ذلك بكثير إلى ما يقارب ضعف الطاقة. ولكن على ما يبدو لكل مجتهد نصيب. ونصيب هذا الجهد أن أصبح مركونا في ذيل القائمة، بوصفي أسوأ من قام بالعمل.
إن الحجة التي يتحجج بها المقيم هي أنني لم أصل إلى هذا المستوى إلا بفعل ما كتبت يداي من ذلك المقال الذي غدا لعنتين: لعنة في العمل، ولعنة في الكتابة، وأصبحت موسوما بكل الألقاب الموحشة وتلتصق بي الرذيلة ولا تريد أن تحررني من قيودها، على الرغم من أنه تم إداريا حسب اللوائح المرعية، التحقيق معي، وتم توجيه عقوبة لي. ولكن تأبى اللعنة إلا أن تمتد لسنتين متتاليتين، ولأول مرة يكون للفعل عقابان، وكأن المقيّم يخاف إن لم يدخل في هذا السياق، فهذا السياق يعطيه حصانة في الدفاع عن قراره بوضعي في ذيل قائمة الزملاء. وللتذكير فإن تلك اللعنة المقصودة حدثت في الفترة الواقعة بين 13-15/3/2016، ولم يكن بعد قد شرع المقيم في التقييم. وقد استمرت لعنتها الوظيفية إلى الآن.
نصل إلى هذا العام، وهو تقييم 2017/2018، حصلت على تقدير لا بأس به، والله أخجل من ذكره على الرغم من أنه رقم كبير، مخجل بالفعل، أتدرون لماذا؟ لأنه لم تحدث معجزة حقيقية لتنقلني من ذيل القائمة لأحتل مكانة أفضل، كنت في ذلك العام أنا كما أعرف نفسي، وبقيت أنا هو، كما أعرف نفسي أيضا، ولم يختل ميزان القوى لأصبح أفضل. فأنا أنا في كلتا الحالتين وفي الزمانين في ذات الموقع والأماكن التي زرتها. إلا أن شيئا واحدا قد تغير هو أنني لم أعمل بطاقة مضاعفة، لأن هناك زملاء شاركوني العمل، فالتزمت حدود نصابي المقرر.
لم أستلم التقييم هذا العام أيضا، ووعدت نفسي والمقيّم أنني لن أستلم تقييما ما دمت موظفا، ورفضت التوقيع، مع أنني "موافق" على ما فيه، ببساطة لأنه: غير موضوعي، لا ثقة فيه، فهو مجرد رقم، ارتفاعه لا يعني لي شيئا، وتدنّيه لا يعني لي شيئا أيضا، سيظل رقما خاضعاً للّعنات القادمة من الكتابة أو وجهات النظر التي يتمتع بها المسؤول الذي يمثل شئنا أم أبينا تجلّيا آخر من تجلّيات الدكتاتور، يرفع ويضع، كما يحلو له، أو على رأي الست الله يرحمها "تنعم وتحرم زيي هواك"، وفي نهاية المطاف: لم يطل عليّ الليل مهموما بل مهووسا وممسوسا بلعنة الكتابة مرة أخرى. مع أنني أرجو ألا تلاحقني مرة أخرى.
عليّ أن أضيف فقرة أخرى ملحقة وضرورية في هذا المجال، شاملة لعملي الوظيفي وكوني كاتبا معترفا به من الدولة، فخلال هذا العمل بشقيه؛ كاتبا ومشرفا تربويا، ومن قبلُ معلما حريص دائما على أن أصنع تاريخا مشرّفا، ليكون اسمي خالدا، كهؤلاء التربويين المهمين، والكتاب المميزين، وكنت حريصا دوما على أن يذكرني الآخرون بالخير حتى لو اختلفوا معي، وألّا يأتي يوم بعد الممات، طال العمر أم قصر، ليعيّر أحدٌ أحد أبنائي بأي منقصة في العمل أو الكتابة، فالكتابة، كالعمل، كلها شرف، فلم أشهّر بأحد، ولم أهجٌ أحدا، وموقفي هذا معروف، فعلى كثرة مشاكساتي مع رؤساء عمل كثيرين، لم أكتب في حقهم كلمة إساءة واحدة، إنه شرف الالتزام الأخلاقي باحترام الكتابة، فالكاتب، والمعلم ومعه المشرف التربوي شمعة مضيئة بما حمّله الله من فكر وموقع ومسؤوليّة لها جميعها حقوق مرعيّة. مؤمن بذلك إيمانا عميقا راسخا، أعمل بناء على هذه القناعة، رضي من رضي وسخط من سخط، فلا يهمني أي أحد. ولست عابئا بطبيعة الحال برأي من رآني في أحد وصفين لا ثالث لهما من وجهة نظره: إما كاذبا وإما فاجرا في كتاباتي، فهو لم ير أبعد من ظل قامته المتقلصة في عز الظهر، لا يتمتع إلا بقصر النظر، وعليه أن يفتّش عن علاج لنفسه أو يصمت، ألم يقرأ: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيرا أو ليصمت"؟ فهل سيعمل بهذه الحكمة النبوية الإنسانية البليغة؟ أتمنى ذلك.