فراس حج محمد

موقع يختص بمنشورات صاحبه: مقالات، قصائد، أخبار

في تأمّل تجربة الكتابة:

تقنيّة الكتابة بالجملة الاسميّة

فراس حج محمد/ فلسطين

عندما أصدر محمود درويش ديوانه "لا تعتذر عمّا فعلت"/ يناير، 2004، تضمّن قصيدة قصيرة من (23) سطرا، بعنوان "هي جملة اسميّة"<!--، وجاء النّصّ في باب تحت عنوان "في شهوة الإيقاع". ماذا يعني كلّ ذلك من ناحية شعريّة ولغويّة؟

ثمّة أسئلة تثور في الذّهن عندما تجد نصّاً يتّخذ استراتيجيّة موحّدة، تشعر أنّ هناك عمليّة فنّيّة واعية جدّاً، هي الّتي تسيطر على الشّاعر، وهذا يؤكّد ما ذهب إليه درويش وغيره من المبدعين أنّ العمليّة الإبداعيّة لا تقف عند حدود الموهبة والدّفقة الفطريّة الأولى، بل لا بدّ من المراجعة والتّدخل الفنّيّ الواعي والهندسة اللّغويّة، لتظهر الصّنعة الأدبيّة في أعلى مستوياتها لتكون شاهدا شديد الدّلالة على أهمّيّة أن يكون هكذا.

لقد تناول درويش هذه المسألة في نصّ بعنوان "السّطر الثّاني"<!--، وقال فيه: "السّطر الأوّل هبة الغيب للموهبة، أمّا السّطر الثّاني فقد يكون شعرا أو خيبة أمل". وأغلب الظّنّ أنّ الشّاعر هنا ينحاز إلى "السّطر الثّاني" وليس الأوّل، فبه وفيه تظهر مقدرة الشّاعر الحقيقيّة، ولذلك تراه يعنْوِن النّصّ بـ "السّطر الثّاني"، فهذا السّطر الحادث بعد هبة الموهبة "لا يُوهب، بل يُصنع بكفاءة ترويض اللّامرئيّ". وتنبغي الإشارة إلى أنّ محمود درويش لم يقلّل من أهمّيّة الموهبة، فقد خاطب أيضا الشّاعر الشّاب في قوله: "لا نصيحة في الشّعر، لكنّها الموهبة"<!--. ولكن يجب ألّا يقف الشّاعر عندها.

أظنّ أنّنا متّفقون على أنّ الشّعر مزيج من الموهبة والصّنعة، ولنتذكّر مثلاً ما قاله الشّاعر الأمويّ عدي بن الرّقاع العامليّ في وصفه العمل على قصيدته حتّى تخرج قصيدة يفتخر بها:

وَقَصِيدَة ٍ قَدْ بِتُّ أَجْمَعُ بَيْنَهَا

           حتى أقومَ ميلها وسنادها

نظرَ المثقفُ في كعوبِ قناتهِ

                     حتى يقيمَ ثقافهُ منآدها

ولنتذّكر قبل ذلك القصيدة الجاهليّة وشروط بنائها الشّكليّة واللّغويّة والإيقاعيّة، وما عرف في العصر الجاهليّ من ظاهرة الشّعر الحوليّ المحكّك عند شعراء كأوس بن حجر وزهير بن أبي سُلمى والحطيئة، حتّى باتت تشكّل مدرسة مستقرّة في الشّعر العربي عرفت بـ "مدرسة الصّنعة".

وتعدّدت مجالات الصّنعة فيما بعد في تراث العرب الشّعريّة، فوجدت ظاهرة البديعيّات، والتزام الشّاعر بإيراد لون من ألوان البديع في كلّ بيت من أبيات قصيدته، وتقف قصيدة أبي تمّام في فتح عموريّة شاهدا قويّاً:

السّيْفُ أَصْدَقُ إِنْبَاءً مِنَ الكُتُبِ

في حدّهِ الحدُّ بينَ الجدِّ واللَّعبِ

إنّ أثر الصّنعة واضح فيها تماما، فهي لا تندفع اندفاع الموجة في صباح العاصفة الهوجاء. هذا أيضا يدفعني للتّذكير بصنيع المتنبّي الّذي حشد في بيت واحد أربعة عشر فعل أمر:

أَقِلْ أَنِلْ أَقْطِعْ احملْ علِّ سلِّ أعِدْ

زدْ هِشَّ بِشَّ تفضّلْ أَدْنِ سَرِّ صِلِ

وأعاد الكرّة مرّة أخرى، مع زيادة أفعال الأمر، فجمع أربعة وعشرين فعلا في بيت واحد، منتبها إلى فعل الأمر الّذي يتكوّن من حرف واحد ليزيد العدد:

عش ابق اسم سد قد جد مر انه ر ف اسر نل

غظ ارم صب احم اغز اسب رع زع دِ لِ اثن نل

فقد استثمر المتنبّي عبر توظيفه حساسيّة شعريّة وفنيّة لمّاحة كلّ الإمكانيّات المتاحة من اللّغة لصناعة هذين البيتين. من يقول بعد ذلك إن الشّعر فقط موهبة؟ إنّه نوع من الصّنعة المدروسة وبوعي مع توفّر إمكانيّات الحذق والمهارة وخصوبة اللّغة وحيويتها قبل خصوبة الخيال أحياناً.

إنّ هناك أيضا تجارب مشابهة ما زالت تحتفظ بها الذّاكرة الثّقافيّة؛ فالبلاغيّون ما زالوا مفتونين بقول الشّاعر يزيد بن معاوية في الغزل:

وأمطرتْ لُؤلؤاً من نرجسٍ وسقتْ

ورداً، وعضّتْ على العِنّابِ بِالبردِ

فقد جمع بتآلف وزنيّ ودلاليّ خمس استعارات فنيّة في بيت واحد<!--؛ (اللّؤلؤ، النّرجس، الورد، العنّاب، البرَد). جعلت هذه الاستعارات هذا البيت سيّدا في كلّ كتب البلاغة الّتي تناولت الحديث عن الاستعارة وإيراد شواهد لها من جيّد الكلام، وربّما دفع الآخرين إلى محاكاته كذلك.

والأمر نفسه يقال أيضا عن تجارب شعريّة متقدّمة وظواهر مميّزة، من "لزوم ما لا يلزم" عند أبي العلاء المعرّيّ، إلى الظّواهر الشّكليّة في الشّعر، من مثل "ما لا يستحيل بالانعكاس"، أو "ما يستحيل بالانعكاس"، أو تلك الأبيات الّتي يمكن قراءتها أفقيّا أو عموديّا، أو "التّأريخ الشّعريّ"، أو الأبيات الّتي يعتمد فيها الشّاعر على كلمات ذات الحروف المنقوطة أو المهملة، أو غيرها من توظيف الإمكانيّات اللّغويّة والفنّيّة في الشّعر، وفي كلّ ذلك توظيف لتلك القوانين اللّغويّة الّتي تنتظر من يستطيع الكشف عنها وإخراجها بشكلها المؤثّر.

علينا أنْ نقف إذن هنا ونفكّر، في عمليّة التّجريب الشّعريّة، والبحث في أفاق جديدة، وبغضّ النّظر عمّا يقوله بعض النّقّاد من التّقليل من شأن تلك الظّواهر الفنّيّة، وأنّها ذات شعريّة متدنّية، لأنّها موجّهة ويتحكّم فيها العقل، إلّا أنّها تكشف عن قدرة الشّاعر في التّلاعب باللّغة وتشكيلها، كما يتلاعب الخزّاف بالطّين، والحدّاد بالحديد، والنّجّار بالخشب، ليصنع كلّ منهم تُحَفَه الفنّيّة الّتي يتوخّى فيها الإبهار والإدهاش.

وبالعودة إلى موضوع درويش والجملة الاسميّة؛ فبعد أن حاولت تفسير القصيدة ضمن سياق العمل الفنّيّ الواعي، ما دلالة هذا الفعل شعريّاً؟

ليس سهلا أوّلاً أن نتخلّى عن الفعل في القول أو في الكتابة، فنحن كائنات ساردة، والسّرد يحتاج للفعل. وإسقاط الأفعال من الكلام مع بقاء المعنى حاضراً يحتاج قدرة ما، فالمتحدّث عندما يريد التّنازل عن الفعل في الحديث هو تنازلٌ عن الخطوة الأولى، لذلك ترى أن من يعانون من الحبسة أو التّردّد أو الخوف أو التّوجّس يستخدمون أفعالا للتّعبير عن حالتهم. إذن هي قفزة نحو المجهول، لتبدأ من الخطوة الثّانية، وهي الاسم، متنازلاَ، أو متجاوزا الخطوة الأولى.

هذا ما حدث مع درويش. لقد التزم النّصّ الجملة الاسميّة كاملة، مع إمكانيّة تعويض الاسم باستخدام المشتقّات الّتي تتّفق مع الفعل في حملها للحدث، واستخدم "ليت" ثلاث مرّات، وهي حرف مشبّه بالفعل، ويذكر ابن منظور في "لسان العرب": "أَنّ بعض العرب يستعملها بمنزلة وَجَدْتُ، فيُعَدِّيها إِلى مفعولين، ويُجْريها مُجْرَى الأَفعال". أمّا الأمر الثّاني فقد وظّف درويش السّؤال، وخفّف من وطأة الجملة الاسميّة الحادّة باستخدام "أين" ستّ مرّات، ويحتال حيلة أخيرة بأنْ يذكر كلمة "الفعل" في النّصّ أيضا أربع مرّات، "لا فعل فيها أو لها: للبحر رائحة الأسرّة بعد فعل الحبّ..."، و"ليت للفعل المضارع موطئاً للسّير خلفي أو أمامي"، و"فليت للفعل المضارع موطئاً فوق الرّصيف...".

هكذا بنى درويش نصّه، متخلّصاً من الفعل المباشر، لكنّه لم يتخلّص من الفعل في وعي الشّاعر، فاستحضره في المفهوم مع غيابه في النّصّ بوصفه مسندا لمسندٍ إليه (فاعل أو نائب فاعل).

وأودّ أنْ أشير إلى أنّ الشّاعرة والكاتبة اللّبنانيّة مادونا عسكر الّتي قدمت قراءتين لمقطوعتين من مقطوعات هذه القصيدة، قد جرّبت أيضا بناء نصّ قصير مبتعدة عن الأفعال، مع أنّها وظّفت حرف الاستدراك "لكنّ"، وهو مثل "ليت"؛ كلاهما من أخوات "إنّ"؛ حروف مشبّهة بالفعل<!--:

الحجاب المنسدل بيننا

سراب

لكنّ

الأنامل متشابكة

الصّوت المشتعل فينا

خمر

لكنّ

الصّدى ثمالة

نزف الحضور

أعظم من الحضور

يتكوّن النّصّ هنا من ثلاث جملٍ، فصل بينها الحرف "لكنّ"، والنّصّ مكتوب بكثافة عالية، معتمد على المشتقّات بشكل كبير، فعلى الرّغم من قِصَر النّصّ إلّا أنّ الشّاعرة وظّفت (المنسدل، المتشابكة، المشتعل، أعظم)، وجاء المصدر "نزْف" ليعوّض النّصّ عن غياب الفعل بشكل واضح.

ومن يتأمّل الشّعر الحديث سيلاحظ أنّ هناك الكثيرين ممّن بدأوا قصائدهم بمقاطع شعريّة معتمدة على الاسم فقط، ومن أطرف ما لاحظته أنّ الشّاعر المصريّ بشير رفعت في أحد حواراته يجنح إلى اللّغة الشّعريّة، معتمدا الجملة الاسميّة، فقد جاءت إجابته في المقارنة بين الشّعر والتّرجمة على هذا النّحو: "الشّعر فرضُ عينٍ في حياتي. التّرجمة سُنّة. الشّعر ضروريّ كالماء والهواء والطّعام. التّرجمة فنجان قهوة الصّباح"<!--.

إنّني متأكّد أنّ الشّاعر لم ينتبه لذلك، ولكنّها هي طبيعة الشّاعر ولا وعيه الّذي ينحاز للجملة الاسميّة أكثر ممّا ينحاز للفعليّة. وتأسيسا على ذلك، فإنّ الشّاعر الّذي اعتمد السّرد في شعره كان في الحقيقة يُضعف شعره، ويجرّه إلى منطقة ليست له. مع أنّ الأمر لا يخلو من بعض النّماذج عالية المستوى، وهذا له وقفة أخرى.

وأمّا فيما يتّصل بالجملة الاسميّة وتوظيف القرآن الكريم لها في بناء النّصّ خالية من الأفعال، فقد لاحظت ذلك في قوله تعالى: "اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ، الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ، الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ"<!--، فقد تتابعت في هذا الجزء من الآية أربع جمل اسميّة بتناسقٍ تامّ، يمنح الآية إيقاعا خاصّاً بها، وقبل الخروج من نسق الجملة الاسميّة إلى الجملة الفعليّة جاءت الجملة الرابعة معتمدة على حرف التّشبيه "كأنّ"، وهو من الحروف العاملة عمل إنّ، وتشترك معها في كونها من الحروف المشبّهة بالفعل، فكأنّ هذه الجملة جاءت توصل ما قبلها بما بعدها ليحدث التّآلف والانسجام.

وأمّا الحديثُ النّبويّ الشّريف فلم يخلُ من نماذج مصوغة كلها بتوظيف تقنيّة الجملة الاسميّة، وخاصّة تلك الأحاديث القصيرة الّتي تدعو بقليل الألفاظ إلى عظيم المعاني، كما في حديث الرّسول الكريم، ﷺ، "للصّائم فرحتان؛ فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربّه"*، وكما في قوله أيضا: "المتحابّون في الله على كراسيَّ من ياقوت حول العرش"، وأخيرا أذكر قوله ﷺ: "المسلمون إخوة، لا فضل لأحد على أحدٍ إلّا بالتّقوى". وليس فقط الأحاديث القصيرة، بل إنّ هناك أحاديث تجاوزت الجملتين إلى عدة جمل اسمية، مصوغة بأسلوب واحد، ما يمنح الحديث الشريف إيقاعا موحّداً، مثل قوله عليه الصّلاة والسّلام: "تبسُّمك في وجه أخيك لك صدقة، وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقة، وإرشادك الرّجل في أرض الضّلال لك صدقة، وبصرك للرّجل الرّديء البصر لك صدقة، وإماطتك الحجر والشّوكة والعظم عن الطريق لك صدقة، وإفراغك من دلوك في دلو أخيك لك صدقة". وهناك لا شكّ عشرات الأحاديث الّتي تتبع النّحو نفسه في توظيف الجملة الاسميّة، لما لهذا التّوظيف من دلالة سياقيّة، وما يتبعه أيضا من التّخفف من الزّوائد اللّفظيّة الّتي لا تضيف جديدا لمعنى النّصّ ولا لجماليّاته الأسلوبيّة.

أنا والجملة الاسميّة:

لقد استهوتني لعبة الشّاعر درويش في نصّه القصير هذا، فأخذت أجرّب إمكانيّات الاسم ليحلّ محلّ الفعل، فما حاجتي الشّعريّة للفعل؟ هذا كان سؤالاً ذاتيّاً مقلقاً.

يعود استخدامي الواعي للجملة الاسميّة إلى كتابي "من طقوس القهوة المُرّة"، وإنشاء نصّ بعنوان "هي امرأة ومعنى ورؤى" خالٍ من الأفعال تماماً. وعند العودة إلى النّصّ مرّة أخرى، وقراءته بعد بضعِ سنوات من كتابته، وجدت أنّني استفدت من عدّة إمكانيّات لغويّة اسميّة، لها اتّصال بالفعل، وهي المشتقّات، وخاصّة الصّفة المشبّهة الّتي تصاغ من فعل لازم، واسم الفاعل المصوغ من فعل لازم أو متعدٍ مبنيّ للمعلوم، واسم المفعول الّذي يُغني عن الفعل المبنيّ للمجهول.

لقد جاء النّصّ مؤلّفاً من مجموعة أوصاف، لا تشكّل جملة اسميّة إلّا مع العنوان. ولتوضيح المسألة أورد هذه الفقرة<!--: "كقصيدةٍ، نصٌّ غريب قابل للاشتعال مجنّحٌ، جملة علويّة مصنوعة ببراعة الفنّان، لوحتها مرسومة بعناية في لونها، منحوتة عطرا شجيّا هائما في عوده وكمانه، قيثارة، نايٌ كليم شارح من وِردها متوالدٌ، ألحانها سرّ الغناء معلّقٍ في حرفها متسابقٌ في القافيات كأغنية".

فالمقطع السّابق في جُمله كلّها، إلّا جملتين، يعتمد على مبتدأ مقدّر مأخوذ من العنوان، ولا يوجد جملة اسميّة كاملة إلّا في "ألحانها سرّ الغناء معلّقٍ في حرفها متسابقٌ في القافيات كأغنية"، و"لوحتها مرسومة بعناية في لونها".

إنّ ما لاحظته على النّصّ أيضا أنّ هذه التّقنيّة غير نثريّة، لا تصلح للسّرد غالباً، ربّما ظهر النّصّ كأنّه خارج نطاق السّرد في الكتاب كلّه، ومن هنا أدركت أنّ الجملة الاسميّة أصلح للشّعر من النّثر، وقد تبيّن ذلك من طبيعة البناء والتّركيب الظّاهرين في المقتبس السّابق، فهو جزء من نصّ طويل، يميل إلى جمع الأوصاف لموصوف واحد بلغة شعريّة لا سرديّة، مع ملاحظة أنّ مفردات الشّعر الدّلاليّة واضحة فيه (القصيدة، اللّحن، القافيات، الغناء، الأغنية، الكمان، العود).

يبدو لي أنّ الجملة الفعليّة هي جملة محايدة، والجملة الاسميّة جملة ذات انحيازات فنّيّة خاصّة. هنا أتذكّر بعض الأكاديميّين الجامعيّين الّذين كانوا يرشدوننا إلى استخدام الجمل الفعليّة في كتابة الأبحاث والمقالات، ويصحّحون لنا ما كنّا نقعُ فيه من اختيارات الجملة الاسميّة. هل كنّا وقتذاك نحمل بذرة الشّعر ونحن لا ندري؟ ربّما.

عدا أنّ اللّغة تميل أحيانا من خلال بعض الأساليب اللّغويّة إلى حذف الفعل في سياق الجمل الفعليّة، كأسلوب الاختصاص، وأسلوبي التّحذير والإغراء، أو التّخلّي عن الفعل ليحلّ محلّه مجموعة من الحروف كما هو الحال في أسلوب النّداء وأسلوب القسم، فكلّ هذه الأساليب تنويعات عالية المستوى، شعريّة، ترفع الجملة الفعليّة من مستواها العاديّ النّثريّ السّرديّ إلى المستوى الشّعريّ عبر تخلّيها عن الفعل أو استبداله.

لقد استرعى انتباهي أيضا في هذا السّياق أنّ القرآن الكريم يعتمد كثيرا على هذه الأساليب؛ للتخفّف من الفعل، وخاصّة في بداية العديد من السّور القرآنيّة، فوظف كثيرا أسلوب القسم بحرف الواو في سور متعدّدة، بل إنّ القرآن الكريم، نحا نحو استخدام الحروف المقطّعة في فواتح سورٍ مكيّة ومدنيّة، في رمزيّة ذات دلالة واضحة في استخدام اللّغة وإمكانيّاتها، ومهما قيل عن تلك الحروف ووظيفتها وتأويلاتها إلّا أنّ توظيفها في نصّ دينيّ موجّه لفصحاء القوم كان لفتا للنّظر واستدعاءً للتّفكير في هذا الأسلوب.

وقد امتدّ هذا المنطق اللّغويّ القائم على الحذف والتّكثيف إلى السّاحة البلاغيّة، فكانت الاستعارة أعلى أنواع البيان؛ لأنّها تقوم على حذف أحد طرفيِ التّشبيه، والتّشبيه البليع أعلى أنواع التّشبيه المفرد، لأنّه أيضا يقوم على حذف أداة التّشبيه ووجه الشّبه، فكأنّه يزيل الفواصل الكلاميّة بين الطّرفين، فيوحّد بينهما، وهذا القانون ذو دلالة فلسفيّة بالغة القيمة، فكلّما كانت المسافة أقرب بين المتجاورين كان الامتزاج أكثر احتمالا ووقوعاً.

إنّ اعتماد الشّاعر على الجملة الاسميّة، والتّنازل عن الفعل يحقّق تلك الفلسفة المشار إليها آنفاً، ويحقّق مبدأ الاقتصاد اللّغويّ والتّكثيف، فيبدو النّصّ أكثر حيويّة، ويؤدّي رسالته المتوخّاة أسرع وأقوى. لكنّه قد يقع في فخّ رتابة من نوع آخر؛ نتيجة الاعتماد على نوعين من الكلام (الاسم والحرف)، ولعلّ المنجاة من هذه الرّتابة كائن في التّنوّعات الممكنة للاسم وتعدّد بنائياته الصّرفيّة.

لكلّ ذلك، وتوظيفا لتلك الإمكانيّات اللّغويّة جاءت قصيدة "هِيَ جملةٌ اسميّة" منتمية لكلّ ذلك الإرث من الفلسفة اللّغويّة والفكريّة، وما أنتجه كذلك الشّعراء السّابقون، وأمّا العنوان، وعلى الرّغم من تطابقه مع نصّ محمود درويش، إلّا أنّني تركته كما هو "هيَ جملةٌ اسميّة"<!--، وذلك لأمرين اثنين:

أوّلا: لأنّني لا أشعر بالخوف من أن يقول ناقدٌ أو قارئ أنّني متأثّر بدرويش وأقلّده. فكلّنا، سابق ولاحق، نتأثّر ولا مندوحة عن ذلك، فلا نصّ بريء إطلاقا من نصوص السّابقين، لا نصوص درويش، ولا حتّى أشعار عنترة العبسيّ الّذي صرح منذ زمن بعيد بقوله: "هل غادر الشّعراء من متردّمِ"، وأكّده زهير بن أبي سُلمى كذلك بقوله: "ما أرانا نقولُ إلّا معاراً// أو معاداً من قولنا مكرورا".

فكأنّنا منذ العصر الجاهليّ ونحن نكرّر الكلام نفسه، ونعيد المعاني ذاتها، وفي كتاب "المفصّل فى تاريخ العرب قبل الإسلام" وقف المؤلّف جواد عليّ عند هذه المسألة وأفاض فيها. عدا إشارات النّقّاد المحدثين لهذه المسألة، وقد أولوها عناية فائقة ضمن مبحث "التناص"، وما يتّصل به من مفاهيم المثاقفة والتّأثّر والتّأثير، وغيرها، بل ذهب أحد الكتّاب إلى أبعد من ذلك، عندما قرّر أنّه لا خشية من ضياع كتاب ما، فحتماً سيكتبه كاتب آخر في زمن آخر وفي مكان آخر. ما يعني أنّه لا تتشابه الأفكار فقط، بل إنّهم قد يقعون على الألفاظ نفسها، فيستخدمونها بالتّركيب ذاته.

وبالرّجوع إلى ما قاله المتنبّي، وكما أشار شارح ديوانه، فإنّه كان متأثّرا ببيت الشّاعر أبي العميثل في قوله: اصدق وعفّ وبرّ وانصر واحتمل// واحلم وكفّ ودار واصبر واشجعِ

وأيضا ببيت لامرئ القيس في اعتماده تقنية الأفعال، وقد حوّلها المتنبّي إلى أفعال أمر، وذلك في قول امرئ القيس: أفاد وجاد وساد وزاد// وذاد وقاد وعاد وأفضل.

ويُرجع النّقّاد القدماء قول يزيد بن معاوية في الاستعارات في البيت الّذي استشهدت فيه آنفاً، وخاصّة قوله "وعضّت على العنّاب بالبرَد"، إلى بيت قاله أبو نُوَاس: يبكي فيذري الدّرّ من عينه// ويلطم الورد بعنّابِ، فأخذ عنه استعارتين وزاد ثلاثاً، وهكذا لا بدّ من إضافة اللّاحق على قول السّابق، كما قرّر النّقد قديمُه وحديثه.

والثّاني: الّذي جعلني أنحاز إلى العنوان وأستبقيه، هو أنّني عندما باشرت الكتابة، كان السّطر الأوّل "هيَ جملةٌ اسميّة" كأنّه "هبة الغيب" الأولى الّتي تشكّلت للوهلة الأولى. صحيح أنّني كنت قد قرأت نصّ درويش، ولكنْ منذ زمن طويل، حتّى كدت أنساه، ولم أعد إلى نصّ درويش إلّا بعد أن قطعت شوطاً كبيراً في تأليف هذه المقاطع. ولذا لا خوف من الوضوح والرّضوخ إلى شروط الكتابة، كما تتطلّب الكتابة ذاتها، ولعلّني استطعت أن أخطو أبعد ممّا خطا درويش في نصّه القصير إلى نصّ طويل، مفتوح على موضوعات متعدّدة.

تلفيت/ نابلس (أيار، 2019)

 

<!--[if !supportFootnotes]-->

<!--[endif]-->

<!-- صدر الدّيوان عن دار رياض الرّيّس، بيروت، والقصيدة (ص93-94)

<!-- أثر الفراشة، دار رياض الرّيّس، بيروت، ط1، 2008، (ص234-235)

<!-- لا أريد لهذه القصيدة أن تنتهي، رياض الرّيّس للكتب والنّشر، بيروت- لندن، ط1، 2009، (ص146)

<!-- البيت الواحد عند العرب هو مدار المقدرة والفنّيّة، فقد حفلت أقوال الشّعراء والرّواة والنّقّاد القدماء بمقدرة الشّعراء على استثمار البيت الواحد لعدّة متآلفات أو متناقضات.

<!-- النّصّ منشور على صفحة الشّاعرة على الفيس بوك بتاريخ: 28 مارس 2019.

<!-- مجلّة العربي، عدد (724)، آذار، 2019، (ص77)

<!-- القرآن الكريم، سورة النّور، الآية (35). ويلاحظ على بناء هذه الجمل القرآنيّة أنّ المبتدأ أو بعضه في الجملة التّالية مأخوذ من الجملة الّتي تسبقها.

* للحديث الشّريف عدّة روايات، هذه الرّواية تخلو من توظيف أيّ فعل، ويُعلمنا التّقابل بين روايات هذا الحديث كيف يمكن التّخلص من الفعل، لإنشاء نصّ ذي معنى يخلو من الأفعال والزّوائد أيضا.

<!-- من طقوس القهوة المُرّة، دار غراب للنّشر والتّوزيع، القاهرة، ط1، 2013، (ص23).

<!-- نُشر سبعة مقاطع منها في جريدة "الاتّحاد الاشتراكي" المغربيّة، بتاريخ: 25/9/2018.

 

المصدر: فراس حج محمد

فراس عمر حج محمد

ferasomar
الموقع الخاص بــ "فراس حج محمد" »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

696,820

فراس حج محمد

نتيجة بحث الصور عن فراس حج محمد كنانة أون لاين

من مواليد مدينة نابلس في فــلسطين عــام 1973م، حاصل على درجة الماجستير في الأدب الفلسطيني الحديث من جامعة النجاح الوطنية. عمل معلما ومشرفا تربويا ومحاضرا غير متفرغ في جامعة القدس المفتوحة. 

عمل محررا لغويا في مجلتي الزيزفونة للأطفال/ رام الله، وشارك في إعداد مواد تدريبية في وزارة التربية والتعليم الفلسطينية، وكان عضوا في هيئة تحرير مجلة القانون الدولي الإنساني/ الإصدار الثاني الصادرة عن وزارة التربية والتعليم في فلسطين.

نشر العديد من المـقالات والقـصائد في مـجالات النشر المختلفة الإلـكترونية والصحف والمجلات في فلسطين والوطن العربي وبريطانيا وأمريكا وكندا والمكسيك. وشارك في ندوات وأمسيات شعرية ومؤتمرات في فلسطين.

الكتب المطبوعة: 

رسائــل إلى شهرزاد، ومــن طقوس القهوة المرة، صادران عن دار غُراب للنشر والتوزيع في القاهرة/ 2013، ومجموعة أناشيد وقصائد/ 2013، وكتاب ديوان أميرة الوجد/ 2014، الصادران عن جمعية الزيزفونة لتنمية ثقافة الطفل/ رام الله، وكتاب "دوائر العطش" عن دار غراب للنشر والتوزيع. وديوان "مزاج غزة العاصف، 2014، وكتاب "ملامح من السرد المعاصر- قراءات في القصة القصيرة جدا- دار موزييك/ الأردن وديوان "وأنت وحدك أغنية" عن دار ليبرتي/ القدس وبالتعاون مع بيت الشعر في فلسطين، وكتاب "يوميات كاتب يدعى X"، وكتاب "كأنها نصف الحقيقية" /الرقمية/ فلسطين، وكتاب "في ذكرى محمود درويش"، الزيزفونة 2016، وكتاب "شهرزاد ما زالت تروي- مقالات في المرأة والإبداع النسائي"، الرقمية، 2017، وديوان "الحب أن"، دار الأمل، الأردن، 2017. وكتاب "ملامح من السرد المعاصر- قراءات في الرواية"، مكتبة كل شي، حيفا، 2017. وكتاب "ملامح من السرد المعاصر- قراءات في متنوع السرد"، مؤسسة أنصار الضاد، أم الفحم، 2018، وديوان "ما يشبه الرثاء"، دار طباق للنشر والتوزيع، رام الله، 2019، وكتاب "بلاغة الصنعة الشعرية"، دار روافد للنشر والتوزيع، القاهرة، 2020. وكتاب "نِسوة في المدينة"، دار الرعاة وجسور ثقافية، رام الله، وعمّان، 2020. وكتاب "الإصحاح الأوّل لحرف الفاء- أسعدتِ صباحاً يا سيدتي"، دار الفاروق للنشر والتوزيع، نابلس، 2021. وكتاب "استعادة غسان كنفاني"، دار الرعاة وجسور ثقافية، رام الله، وعمّان، 2021، وكتيّب "من قتل مدرّس التاريخ؟"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2021. وديوان "وشيء من سردٍ قليل"، وزارة الثقافة الفلسطينية، رام الله، 2021. وديوان "على حافّة الشعر: ثمّة عشق وثمّة موت"، دار البدوي، ألمانيا، 2022. وكتاب "الكتابة في الوجه والمواجهة"، الرعاة وجسور ثقافية، رام الله وعمان، 2023. وكتاب "متلازمة ديسمبر"، دار بدوي، ألمانيا، 2023. وكتاب "في رحاب اللغة العربية"، دار بدوي، ألمانيا، 2023، وكتاب "سرّ الجملة الاسميّة"، دار الرقمية، فلسطين، 2023. وكتاب "تصدّع الجدران- عن دور الأدب في مقاومة العتمة"، دار الرعاة وجسور ثقافية، رام الله وعمّان، 2023، وديوان "في أعالي المعركة"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2023، وكتاب "مساحة شخصية- من يوميات الحروب على فلسطين"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2024، وكتاب "الثرثرات المحببة- الرسائل"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2024، وكتاب "فتنة الحاسة السادسة- تأملات حول الصور"، دار الفاروق للثقافة، نابلس، 2025. 

حررت العديد من الكتب، بالإضافة إلى مجموعة من الكتب والدواوين المخطوطة. 

كتب عن هذه التجربة الإبداعية العديد من الكتاب الفلسطينيين والعرب، وأجريت معي عدة حوارات ولقاءات تلفزيونية.