في تأمل تجربة الكتابة:
ماذا يعني أنّهم نشروا لي مقالا؟
فراس حج محمد
لا أحد مهووس بالنّشر في الصُّحف والمجلّات الورقيّة قدر ما أنا مهووس به، وربّما مثلي كلّ الكتّاب حتّى المقلّون أو الأنانيّون أو المثاليّون، أراقب الصّحف الّتي من المحتمل أن تنشر لي مقالا بعثته على حين نشوةٍ طاغية، "أمنّي النّفس بالآمال أرقبها"، يوماً فيوما حتّى إذا استيأستُ من النّشر أطوي الصّفحة والصّحيفة، وأكتم الرّغبة، وأصغر "أمام بلاط أعتاب" تلك الصّحف، وأشتم المحرّرين وآخذ بقراءة ما نشر من مقالات بدلا عن مقالتي تلك، وأحاول أن أرى ما لا يراه المحرّرون الأعزّاء، وأمارس شهوة الانتقاد بعين السّخط الّتي تحرص على إبداء كلّ المساوئ المُحتملة وغير المُحتملة، الصّحيحة وغير الصّحيحة، المعوجّة والمستقيمة، الواعية وغير الواعية، المحقّة والمتجنّية، وأطعم شهيّة النّقد الجارح طعاما أسود؛ لتصبح متخمة!
منذ عرفتْ مقالاتي مكانها في الصّحف، وخاصّة الكبرى، وأنا أرى نفسي جديرا أن يتصدّر اسمي الصّفحات الثّقافيّة على طول الرُّقعة العربيّة المرقّعة، لا أهدأ ولا أملّ، ولا حتّى أشعر بالضّجر أو الخجل من أنانيّتي المفرطة، هكذا بنيت وهمي الخاصّ على أنّني "أنا النّبيُّ لا كذب". لا أرعوي عمّا فعلتُ أو سأفعلُ في قادم ما تبقّى من عمري، وأستمطرُ الحقد الشَّهيّ على المحرّرين البارعين، إذا ما أحجموا عن النّشر متآمرين على شموخي الأدبيّ، فكيف لا تنشر مقالتي، وهي وحي الله المُنْزَل؟
ولكنْ، ماذا يعني أنّ هؤلاء الأفذاذ قد نشروا لي المقال؟ سأفرح بالتّأكيد فرحة أمّ موسى بموسى الرّضيع، عندما أرى اسمي الجليل، حفظني الله ورعاني، وقدّس الله العظيمُ سرّي أنّني صرتُ في لُبّ الحياة الثّقافيّة، وليس على محيط الدّائرة أو في قشرة البرتقالة، سأباهي بهذا المقال محبوبتي على الطّرف الآخر من هذا العالم، وأدخل السّرور إلى فؤادها المضنى، وسأزهو بنفسي مختالا كأنّني طاووس لغويّ أو سماء أفكار هلّت لينعم العالم في دوحتها الوارفةِ الظّلال. سأجلب لي معجبات كثيرات على صفحة "الفيسبوك" وأنا أنشر صورة المقال السّعيدة الّتي ابتسمت لي كأنّها الحظّ السّعيد، والقدر المقدور، سأقول إنّني هنا، فإيّاكم والعشى اللّيليّ أو الغباش النّهاريّ أو حتّى التّشويش الفكريّ، هيّا استفيدوا يا معشر القرّاء من متعة الفكر المقطّر شهدا في جُملي الإلهيّة؛ إنّها ستنعشكم وتسعدكم، وتفرحكم، وتنقذكم من الضّلال وتخرجكم من الظُّلمات إلى النّور، كلّ ذلك كائن، وسيكون، وإنّه قد كان، كان…!
يا لهذا الّذي ينتظر نشر مقالته حتّى ساعة متأخّرة من اللّيل؛ ليفرك عينيه غير مصدّق ما يرى مذهولا من روعة رؤياه المقدّسة، كم هي الحياة جميلة، وأنت تعيش على أمل أن تنشر لك صحيفة ما مقالتك، ولا سيما إن كانت صحيفة كبرى تتناقل العامّة قبل الخاصّة اسمها، واسم محرّرها المسؤول، إنّك حيّ إذ أصبحتَ فيها اسما بألف لقب، "من سادةٍ نُجِبِ"، وعليك أن تعدّ وليمة أخرى للوقت شهيّة، لنفسك أوّلا قبل أن تعدّ احتفالا ضخما لعائلتك، أو لزملاء العمل الّذين سينظرون إليك بعين الحسد قبل أن يقولوا لك جملة طيّبة يتحدّون فيها ما جبلوا عليه من طباع لئيمة، أو ربما قابلوك بضحكة ساخرة صفراء كتلك الّتي تكون على شفاه إحدى النّساء في حالة الغيظ الشّديد، وهي تكظم زفرات غيرتها الطّبيعيّ من أناقة زميلتها في العمل أو من روعة جمال حذائها الجلديّ الجديد، أو لعلّها تتميّز لهبا من جمال صدرها؛ لأنّها تلبس صدريّة، يبدو فيها ثدياها بشكل مغرٍ أكثر من مقال أدبيّ في صحيفة كبرى!!
ولأجل هزيمة كلّ ذاك الخواء العبثيّ الكائن في عقولهنّ جميعاً أوّلا، وعقول الزّملاء ثانيا، ولانتصار قيم الحق والخير والجمال والإنسانيّة قاطبة الّتي أمثّلها خير تمثيل، أحرص أن ينشر لي المقال حرص الأغنياء على الرّبح الفاحش الجميل، أو كحرص الشّيوعيّين على حياة الكادحين، وإن كانت بحجم فرحة كاتب مهووس ينتظر بشوق نشر مقالته الأخيرة الّتي يدّعي أنّها ستغيّر التّقويم والكون برمّته إن حدثت تلك المعجزة المرتقبة ونشرت…!
نابلس، كانون الثاني، 2019