<!--[endif]--><!--[if !mso]-->
|
<!--<!--الصياغة في الخطاب النبويِّ
بينَ بلاغة التعبير وروعةِ التأثير (2/5)
عوداً على بدءٍ فإنَّ الصياغةَ في الخطاب النبويِّ – ذاك النبع الثريّ الذي لم تصهرجْ قنواتِه أو جملةُ سياقاتهِ بعدُ - لا تعدو أن تكونَ سوى بنيةٍ لغويةٍ ومعرفيةٍ وجماليةٍ تقدمُ أنساقَها ، وجملةَ تعابيرِها وتصاويرها في إطارِ ما هو إنشائيٌّ ، أو جماليٌّ بمعناه الحقيقيِّ في الإرثِ العقديِّ ، والسياقِ المجتمعيِّ بكلِّ توجهاتهِ ، وجملة إشاراتهِ الذهنيةِ والقيميةِ بشكلٍ إلهاميٍّ ، وهذا المفهومُ الحدِّي من شأنهِ أنْ يقدمَ الخطابَ ثانيةً بوصفهِ نصًّا له كينونتُه وخصوصيتُه الإبداعيةُ ، هذا فضلاً عن سياقاتهِ الحاضرةِ من خلالِ مرتكزاتهِ ، وجملةِ مفرداتِه ، وأدواتِه التشكيليةِ ؛ لنجدَ أنفسنا أمامَ طرحٍ فنيٍّ ، لواقعٍ معرفيٍّ جديدٍ ...؛
إنها – في اعتقادي ، وكما وطنَ في أخلادِ كلِّ مَنْ جابَ بقاربهِ في ذاك البحرِ النبويِّ الطامي - تمثلُ حالةً تميُّزيةً واستثنائيةً غايةً في التفرديةِ لذاك الخطابِ النبويِّ - المفاعلِ الأدبيِّ والسمتِ الإبداعيِّ الولاَّجِ الذي يمتلكُ طاقةً مذخورةً من طبيعةِ وفنياتِ الأداءِ ، وجمالياتِ التعبيرِ ....؛ إنَّها القادرةُ بحقٍّ على هتكِ الأقنعةِ التي تتسَّترُ خلفَها تهرؤاتُ الواقعِ الأدبيِّ المهيضِ ، وإضاءةِ السبيلِ المفضية إلى الخلاصِ من إشكالياتِ وتعرجاتِ اللفظِ والمعني ، وتقعراتِ الأساليبِ السامدةِ ، والمواضعاتِ التعبيريةِ الجامدةِ ، فضلاً عن حالة الحَوَلَ اللغويِّ التي قادت المعنى إلي المصيرِ المهلكِ ، إذ كان بإمكانها العدولُ عنها ، لو كانَ هناك سبيلٌ للخلاصِ منها ...؛
ولأنَّ وظيفةَ التعبيرِ الجيدِ تتمثلُ في إيصالِ المعنى إلى القلبِ في أحسنِ صورةٍ جماليةٍ ، وأعلى قيمةٍ لغويةٍ وفنيةٍ ، وأتمّ وأسمى حالةٍ فكريةٍ سبيلاً إلى حسنِ الإفهامِ - وهذه فضيلةٌ كبرى تحسبُ للخطابِ النبويِّ في تاريخِ الأفكارِ والحسِّ ؛ لذا فإنَّ مفرداتِه - وجملةَ أنساقِه التركيبيةِ ، وخواصِه الموافقةِ للعرفِ اللغويِّ ، وسننِ البلاغةِ - قدمت محصولَها القيميَّ والإشاريَّ في أعلى مستويات اللغةِ التقريريةِ ، ليتأكدَ لنا بوضوحٍ أن لغةَ الخطابِ النبويِّ لغةَ تنويرٍ ، وفكرٍ ، وإشعاعٍ ، وقيمٍ ، ومثلٍ عليا .
وبما أنَّ الكلماتِ هي التي تعربُ عن نفسِها حيثُ تتكونُ منها الجملُ ، وتتألَّفُ منها التعابيرُ ، وتصدرُ عنها التصاوير من خلال التراكيبِ ، لتكشف ببراعتها عن المعني المراد ، وتزيده بهاءً وحسناً ورونقاً ، فإنَّ نقاءها وحسنَ جمالِها لعبا دوراً كبيراً في التكييفِ الصياغيِّ والتكثيفِ الدلاليِّ معاً ....؛
من هنا فإنها جاءت مؤسسةً لمركزيةِ البناءِ اللفظيِّ للتعبيرِ الأدبيِّ في عوالمِ النص النبويِّ الفسيحةِ ؛ لتظهرَ بجلاء من خلال استقرائنا للأحاديثِ النبويةِ ، وآيةُ ذلك أننا حينَ نستعرضُ طرفاً أو لمعاً من هذهِ الأحاديثِ سنجدُ ما يدللُ على صدقِ ما ذهبنا إليه يقيناً وصدقاً ...؛ حيثُ نذكرُ منها قولَهُ r عَنْ أبي هريرةَ t تَجِدُون النَّاس معادنَ ، خيارُهم في الجاهليةِ خيارُهم في الإسلامِ إذا فقهوا ، وتجدون خيارَ الناسِ في هذا الشأن أشدّهم له كراهيةً ، وتجدون شرَّ الناس ذا الوجهين الذي يأتي هؤلاءِ بوجهٍ وهؤلاءٍ " متفق عليه .
حيثُ نجدُ أن اختيارَ الكلمات - الذي جاءَ توفيقاً وتوقيفاً لرسولنا r من عندِ اللهِ سبحانَه وتعالي - قد لعبَ دوراً مهماً في التشكيلِ اللغويِّ ، وبالتالي في التعبيرِ الصياغيِّ والدلاليِّ هنا ، ليؤكدَ على التزامها بالواقعِ ، وسيرِها في مساربِ الصدقِ ، ومثالُ ذلك أنَّ حالةَ التآلفِ والتعاطفِ والتكاثفِ والتحالفِ الدلاليّ بينَ " تجدون ، ومعادن ، خيار، ذا الوجهين " قد ظهرت بجلاء ، لتصادقَ على أنَّ بناءَ الواقعِ الإسلاميِّ ينبغي أنْ يكونَ بناءً قائماً على فهمِ الجوهرِ الإنسانيِّ بكلِّ عوالمِه المفتوحةِ والمرموزةِ ، وآيةُ ذلك أن الأولي : قدمت قيمةً تقريريةً ، أو يقينيةً ، إذ لا تفضي إلى حتميةِ الانتظار ، وإنما تصادقُ على حسن التوقعِ وجدية الإخبار ، وروعة التحققِ في تراكيب المفردات وسلامة التُبصُّر ، وعمق التغلغلِ في الذواتِ الإنسانيةِ لسبرِ الأغوارِ ....؛ من هنا فمن الضروري الأخذُ في الاعتبارِ أن ما ذهبَ إليه عقلُ مرسلنِا رسولنِا r من اقتراعِ الأبكارِ ، وافتراع الأفكارِ في الموضوعات يقدم حقّاً أسمي الجماليات ، وأدقَّ الفنيات ، وأبلغَ التعبيراتِ .
والثانية : صدَّرَتْ ، بل صوَّرت دلالةً فكريةً تراهنُ على أهميةِ الأصولِ في التعاملات الحياتية ، وضرورة احترام سياقاتِها كظلالٍ وخلفياتٍ معرفيةٍ لكشفِ ماهيةِ الفروعِ ، إذ تصبحُ الفروعُ مرآةً ينعكسُ عليها مثلُ وقيمُ وآدابُ هذه الأصولِ ....؛ لذا فإننا ننعطفُ عليها تفهُّماً وإدراكاً عالياً حينَ نتعاملُ مع الناسِ سبيلاً للحكمِ عليهم ....؛ هذا بشكلٍ عامٍّ
وبشكلٍ خاصٍّ فإنَّ أصحابَ القيمِ والأحسابِ الكريمةِ ، والأنسابِ العريقةَ يبقون محافظين عليها ما بقيت الحياةُ ، إذ لا تغيِّرُهم أحوالٌ ، ولا تحيلهم أقوالٌ ، أو تغريهم ألوانُ، أو تنسخهم – بعدَ أن تسيلَ لعابُهم - أموالٌ ؛ لأنّ ميراثهَم من الأعرافِ والآدابِ ينأى بهم عن اقتراف الحماقةِ والنزق ، فضلاً عن أنهم يزِنُون الأمورَ بميزان العقلِ والحسِّ معاً ؛ لأنهم نتاجٌ مثمرٌ لتلاقحِ أحسابٍ ، وأنسابٍ احتقبت آثارهما أو مناقبهما ذواكرُ جمعيةٌ ، وعملت على تمددِّها وتعددها في الأخلاف .
أما الثالثةُ : فإنها تدللُ على صدقِ ما ذهبَ إليه الرسولُ r ، وهو أنَّ أصحابَ الأصولِ الكريمةِ - المولد الحقيقيّ لخلايا التعبيرِ الأدبيِّ في الحديثِ عن الجاهليةِ ، إنما يعرفون بثوابتهم ، بل يزيدونَ شرفاً ، على أصالةِ حينَ يتفقهوا أحكامَ الشرعِ بعد أن رفدتهم القيمُ الإسلاميةُ بوافرِ الهباتِ الربانيةِ ، وبالتالي إذا تولي أحدُهم منصباً وقفَ عندَ حدودِ اللهِ ، وكانَ حريصاً على إعمالها أو تنفيذِها ؛ لأنَّ أصلَه سيلعبُ دوراً كبيراً في إنجازِ المهمةِ التي أُسندت إليه بالشكلِ الذي يتسقُ مع القيمِ والآدابِ والتقاليدِ تلك التي تربّي عليها ، وعاش مخلصاً وفيّاً لها ومعنيّاً أو عاملاً على تنفيذِها .
الرابعة : " ذا الوجهين " التي تكنّي بها r عن آفةِ النفاقِ التي فتت في عضُدِ الإنسانيةِ حينَ ظهرت التعاملاتُ والحساباتُ الماديةُ والأغراضُ الشخصيةُ بجلاء ، إذ عانت البشريةُ طويلاً من ويلاتِها ، وكافٍ ما خلَّفته وراءَها من تصدُّعاتٍ في جدارِ العلاقاتِ الإنسانيةِ ، هذا ولقد جاءت مفعولاً ثانياً لتتضاهي مع طبيعةِ المنافق هنا ، على اعتبار أن الحدثَ الفعليَّ وقعَ على مفعولين ، وليس واحداً ، إذ أن المفعولين جاء في شكلين هنا لحدثٍ واحدٍ ...؛
ملاكُ الأمرِ فإنِّ الكلماتِ الممتلئة بوعي عالٍ للتراكيبِ الإنسانيةِ والمجتمعيةِ في الحديثِ السابقِ تلك التي – في اقتصادٍ لغويٍّ ممكنٍ - مثَّلَتْ ألواناً عدةً من الإيحاءاتِ والإشعاعاتِ التي لا يخبو بريقها اختياراً وانتقاءً - قدَّمَتْ القيمةَ الجماليةَ والفنيةَ لعوالمِ الخطابِ الذهنية ؛ ليتأكد لنا بجلاء أنَّ التراكيبَ والدلالاتِ في الحديثِ توافت مع تراكيبِ الإنسانيةِ وجواهرها الفعلية ....؛ وهذه غائيةُ الإبداعية هنا .
وننتقلُ إلى قولهِ r عن أبي هريرةَ رضيَ اللهُ عنه " إيَّاكُم والظنَّ ، فإنّ الظنَّ أكذبُ الحديثِ ، ولا تحسَّسُوا ولا تجسَّسُوا ولا تنافسوا ، ولا تحاسدوا ، ولا تباغضوا ، ولا تدابروا ، وكونوا عبادَ اللهِ إخواناً كما أمرَكُم ، المسلمُ أخو المسلمِ : لا يظلمُه ولا يخذلُه ولا يحقرُه ، التقوى ها هنا ".
حيثُ جاءَ الأمرُ النبويُّ بضرورةِ صونِ عرضِ المسلمِ ، وعدمِ الخوضِ فيه لمجردِ الظنِّ ، و تتبّعِ عوارتِه ، وكذا أهمية الحفاظِ علي الأخوةِ الإسلاميةِ سبيلاً لوحدةِ المسلمين ،ومراعاة آثارها العمليةِ ، تلك المتمثلة في عدمِ الظلمِ ، والخذلانِ ، والاحتقارِ ، حيث إن هذهِ العاداتِ السيئةَ مجتمعةً تُذْهبِ بوقارِ المسلم ، وتحيلُه إلى مسخٍ مشوَّهٍ ...؛
والمتأملُ في مفرداتِ [ الظن ، التحسس ، التجسس ، التحاسد ، التباغض ، التدابر ، التقاطع ، الظلم ، الخذلان ، الاحتقار ] التي جاءت أشبه بالجزئيات المتتابعة في مجرةٍ ، وكيفيةِ تسويغِها صياغيّاً ، وتكثيفها دلاليّاً – بما يمنحُها خاصيةَ التوجيهِ ، لما تمتلكُه من إرادةٍ فاعلةٍ - يلمسُ أنها اعتمدت على خاصيةِ المقاربةِ المعجميةِ أو الدلالية سبيلاً لإثراءِ الخطابِ الاجتماعيّ ، وتسيير العمليةِ التداوليةِ الموافقةِ لتحولاتِ هذا الخطابِ ؛ بما يواكبُ تراكيبَ المتلقي النفسيةَ والذهنيةَ والإشاريةِ ....؛ من جانبٍ
على الجانب الآخر فإنَّ غنى المفردات هنا ، وترادفَها في التشكيلِ اللغويّ كانَ من شأنه أنه أفضى إلى اكتنازِ الدلالاتِ التي تراكمت على إثرها طبقاتُ المعاني للعديدِ من الإشاراتِ والعلاماتِ بما يتواكبُ مع توفرِ فائضِ الدلالةِ هنا ....؛
وهذا بالطبعِ يدللُ – بشكلٍ أو بآخر – على خصوبةِ المبدع r وثراءِ عوالمهِ النفسيةِ والذهنيةِ والثقافيةِ ، والفكريةِ والمجتمعيةِ ...؛
وقبلَ أن نغادرَ النصَّ أو الخطاب النبويّ هذا نودُّ القولَ بأنَّ تكرارَ لا " الناهية بكلِّ توجهاتِها الإلزاميةِ ، وإشاراتِها الجبريةِ بضرورةِ ترك الفعلِ الحدثيِّ ؛ إنما يبرهنُ علي قيمةٍ استشرافيةٍ ، وهي أنَّ المبدعَ قارئ متميزٌ للواقعِ ، ومتنبّهٍ أو يقظٌ لتمدداتِه على صفحةِ المستقبلِ ؛ ليتأكدَ لنا أنَّ القيمةَ الجماليةَ لا تكمنُ في اللغةِ فحسب ؛ وإنما في الصياغةِ ، والتشكيلِ الفنيِّ للمعني عوداً ....؛
ما سبقَ من حديثٍ كانَ في عجالةٍ عن كلماتِ النصِّ النبويِّ المؤسسة لمركزيةِ التعبيرِ الأدبيِّ ، وعلائقيةِ النظام الدلاليّ بشكلٍ عامٍّ....؛ هذا وسنعرضُ في المقالةِ القادمةِ بمشيئة الله كيفية اختيارِ هذهِ الكلماتِ تناسباً في النسقِ التعبيريِّ .