السيد احمد عبد اللطيف حسين

خدمة طلاب العلم

كثر الحديث في الأسلوب والأسلوبية من منظور حداثي عن المفهوم، والاتجاهات، والأصول، والفروع، والأعلام، والأبحاث، والدراسات، والنقد، ونقد النقد، مع طرح بعض الموروث البلاغي العربي ضمن سياسات الأسلوبية الحداثية المعاصرة. لتكون المنهجية الغربية هي الميزان العدل الذي لا ينبغي التحيز عنه. وأقوال " سوسير" و "رولان بارت" تتصدر المقدمات والفصول الأولى من الأبحاث والمطبوعات العربية.
فعلم الأسلوب الحديث – في رأي شكري محمد عياد – هو جسر بين الأدب وعلم اللغة، أو بعبارة أخرى بين اللغة الطبيعية التي تؤخذ من أفواه أهلها وتضبط بالنحو والمعجم، وبين اللغة الفنية التي تتحكم فيها الثوابت والمتغيرات فيما نسميه الشعور الفني أو الشعور بالجمال.
ويتناول علم الأسلوب أنواع الأقوال إذا أخذنا اصطلاح "سوسير"، فهو بذلك يتحرك على مستوى بين اللغة كنظام عام ومجرد، وبين الأقوال كوقائع جزئية خاضعة لشتى العوامل المحيطة بالاستعمال اللغوي، فهو لا يرتبط فقط بالعلوم اللغوية الخالصة كالأصوات ونظم الجملة ودلالات الألفاظ فحسب بل يتناول العلامات المشتركة بين مرسلٍ ومستقبل (السيميوطيقا) حيث تندرج تحتها الأعراف اللغوية والأعمال الفنية وسائر النظم الرمزية، و (البراجماطيقا) حيث تتناول الفعل اللغوي ذاته باعتباره نوعاً من السلوك البشري المشترك بين المرسل والمستقبل. وتتميز الـ (البراجماطيقا) عن العلوم اللغوية الخالصة بأنها تتناول اللغة من زاوية الحدث وتبحث عن قوانين الحركة التي تحكم هذا الحدث لا عن النظام اللغوي في حد ذاته، فهي كالسيميوطيقا تشمل الأقوال من أبسط صورها ككلمة يقصد بها تأثير معين في تعبير جارٍ أو جملةٍ تقال في حديث عادي إلى عمل أدبي كامل. 
وكل من السيميوطيقا والبراجماطيقا يتشابك مع علم الاجتماع وعلم النفس، ويدفعان علم الأسلوب إلى توسيع مجاله من تحليل الأساليب اللغوية أو الأدبية إلى تفسير النصوص . وعلم الأسلوب يدرس اللغة الأدبية كما يدرس ظاهرة الانحراف أو الانزياح، أي مخالفة الطريقة العادية أو المتوقعة في التعبير.

لكننا لا نعدم وجود الأبحاث والدراسات والمؤلفات والأعلام والاتجاهات في الأسلوبية العربية، إذ حري بنا أن تكون لنا شخصيتنا النقدية والبلاغية؛ فتراثنا يزخر بمبادئ نظريات فنون الأدب واتجاهاته ونقده وبلاغته، والتي تصلح أن تكون تنظيراً للأسلوبية العربية.
لقد تحدث بلاغيونا ونقادنا العرب المتقدمون عن الأسلوب والأسلوبية، فورد – على سبيل المثال – عند السكاكي في مفتاح العلوم تحت باب الأسلوب الحكيم هو أن " يلقى المخاطب بغير ما يترقب ... أو السائل بغير ما يتطلب " ، وهو عنده سحر البيان ومن أرقى الأساليب البلاغية، "فالأسلوب الحكيم لربما صادف المقام فحرك من نشاط السامع"، وأثر فيه فعمل بمقتضى الحال، فرغب فيه أو عنه.
وأدرك عبد القاهر الجرجاني تعدد الأساليب في العربية في دلائل الإعجاز، فترك للمبدع الحرية في اختيار الأسلوب الذي يناسب موضوعه، فالأسلوب يجيء على وجوه شتى وأنحاءٍ مختلفة. فالنظم يقتضي الدقة في الاختيار الأسلوبي الذي يوازن بين عناصر العمل الفني في ضوء المعنى الذي يريد المبدع التعبير عنه.
إن نظرية النظم عند عبد القاهر الجرجاني في جوهرها صورة مبكرة لما قدمه المنهج الجمالي لاحقاً بتحدثه عن شبكة العلاقات بين العلامات على المحور الأفقي، وهو ما أسماه من قبل بعلاقات المجاورة، وعن شبكة العلاقات التي تربط بين العلامات على المستوى الاستبدالي، وهو علاقات الاختيار، ومدار الجمال يظهر في الكلام بالنظم على طريقة مخصوصة تتكئ على المبدع في اختيار كلامه وإجادة سبكه وحوكه، الذي به تظهر المزية ليست إلا الإبدال الذي تختص به الكلمات، أو التقديم والتأخير الذي يختص به الموقع أو الحركات التي تختص الإعراب.
فالنظم انسجام وتلاحم في صورة جميلة تناسب الذوق في غاية إبداعها، ويتم النظم بأن تأخذ الكلمة مكانها المناسب مع السياق في إحكامٍ تتداعى له الظلال النفسية، مما يُحدثُ تناسباً بين مفردات الجملة يفضي إلى تسلسل المعنى، وتوظيف القيم التعبيرية المناسبة في تناسق دلالي يبنى على تتابع الألفاظ، ويألف هذا الانسجام تجاوباً عميقاً تبعاً لمضمون العبارة، فيضع اللفظ الموضع الذي يجب أن يكون فيه، ويأتي المعنى متدرجاً وفق الحالة النفسية.
وإذا كانت اللغة مجموعة من العلاقات تقوم على صحة التركيب وقوة العلائق ومتانة الربط، فإن منهج الجرجاني هو المنهج المعتبر اليوم في العالم الغربي، وما أصّله الجرجاني للنقاد اللغويين يكاد يظهر في كتاب " معنى المعنى" لـ "ريتشاردز"، كما يقرر ذلك محمد مندور.
فالجمال في نظرية النظم عند الجرجاني يكون في تعالق الألفاظ والجمل وملاءمتها للمعاني. ولا فضل للفظ وحده من حيث هو لفظ إلا في السياق أو في التركيب اللغوي وصياغته، ومن ثم في النص كلاً متكاملاً.
وقبل الجرجاني كان الجاحظ يرى في الصياغة مقوماً حقيقياً في الأدب، لتكون في صحة الطبع وجودة السبك، لأن الشعر في رأيه صياغة وضرب من النسج وجنس من التصوير.
وتعد ظاهرة الاختيار من مكونات النظم عند الجاحظ لما تقدمه من تناسبٍ دلاليٍ بين اللفظ والموقف المناسب. فكل كلمة تحمل دلالة تناسب المقام الذي تقال فيه تحقيقاً لمبدأ الاختيار الذي يضع الكلمة في مكانها اللائق بها، وهذا يدخل في سياق مراعاة حال المنظوم بعضه ببعض.
وابن سنان الخفاجي في سر الفصاحة يوضح أهمية الاختيار عند تعريفه للبلاغة بأنها "اختيار الكلام وتصحيح الأقسام". ولحازم القرطاجني في منهاج البلغاء آراء قد تعد أساساً لنظرية التلقي في الأدب والنقد والبلاغة وفنون القول عامة؛ فثمة رسالة ومرسل ومرسل إليه. والرسالة إنما تكون في سياق، وهذا السياق إن أحسن سبكه وصياغته بما يلائم نفسية المتلقي كان له الأثر والتأثير المرجوان من قيمة الأدب الخاصة أو فنون القول عامة. وفي قمة هرم هذه الفنون القرآن الكريم المعجز ثم الحديث الشريف ثم كلام البلغاء والفصحاء والأبيناء.
وإنما اختلاف الأساليب تكون في عملية الصياغة الأدبية، وتندرج ضمنها الفنون البلاغية المتنوعة، من تشبيه واستعارة وكناية ومجاز، ... . 
والمجاز هو كل لفظ نقل عن موضوعه، أي أنه حدث انزياح أو انحراف عن المعنى الحقيقي للفظة أو الجملة أو التركيب. وكان المبرد في كامله يقول عن العرب "التشبيه أكثر كلامهم"، والعسكري في الصناعتين كان يقول "الاستعارة أبلغ من الحقيقة"، والسكاكي في مفتاح العلوم يذكر مثل هذا، فكلما كان الكلام خافياً في الدلالة كان أبلغ، فالمجاز أبلغ من الحقيقة، والاستعارة أقوى من التصريح بالتشبيه، والكناية أوقع من الإفصاح بالذكر.
فماذا تختلف أقوال هؤلاء المتقدمين عن قول رولان بارت – مثلاً – في الأسلوب بأنه " ليس أبداً أي شيء سوى الاستعارة ". مع ملاحظة أن الاستعارة عنده قد تضم فنوناً بلاغية عديدة.
فلماذا نستشهد بكلام بارت في الاستعارة ولا نعتد بكلام علماء تراثنا العربي، فالكلام هو هو، بل الأجدر بنا أن نشير إلى أن بارت قد أخذ فلسفته النقدية في الأسلوبية من تراثنا، وطبقه على أدب قومه، أو لنقل على الأقل هي التقاء الآراء والفلسفات والتعريفات والخبرات وتوارد الخواطر.
والدراسات النفسية التي قام بها علماؤنا المتقدمون كثيرة، فكلام ابن قتيبة مشهور ومشهود له بالصحة والثبات في علاقة الأدب بالمجتمع والدراسات النفسية عندما علل النسيب في مقدمات القصائد.
فدراسة فنون القول والقيمة الجمالية والفنية والخلقية والنفسية لهذه الفنون، وملاحظة الانزياح أو الانحراف في النصوص، وفن الاختيار، والتأثر والتأثير، وحدود التلقي، ودراسة الأساليب الأدبية والنحوية والنقدية والبلاغية قد تصلح عناوين تكون مداخل نظرية للأسلوبية العربية بشكل تنظم فيه العلاقات بينها وتطبق على النص القرآني والحديثي والشعري والنثري. ولسنا بحاجة إلى استيراد مصطلحات جديدة قد لا تكون إلا معاداً ومكرراً لما ألفناه ولم نألفه عند البلاغيين والنقاد عرباً وعجماً.
إن دراسات الأستاذ الدكتور محمد بركات أبو علي دليل واضح على ما ذكرناه من إمكانية التنظير والتطبيق للأسلوبية العربية، ولهذه العناوين التي أعطاها فضيلته موضعها اللائق بها في تراثنا البلاغي والنقدي مع توافر الخبرة في قراءة القرآن وعلومه المتنوعة، وقراءة الحديث وعلومه.
فتهدف مادة الأسلوبية العربية إلى الوقوف على الأسس المشتركة بين مناهج البحث في أسلوبية النص، وتعالج النظريات التطبيقية لقراءة النصوص انطلاقاً من البحث البلاغي والنقدي العربيين، ولفت الانتباه إلى الأهمية الجمالية واللغوية والصوتية والصرفية وتراكيب الجمل ودلالاتها وما فيها من روابط.
إن آراء الأستاذ الدكتور أبو علي لها أهميتها؛ إذ يدعو إلى إعادة النظر في التراث البلاغي، والإفادة من النافع، والانتفاع بالجيد من طرائق الدرس الحديثة ومناهج الدرس اللساني والصوتي واللغوي والنقدي، وإبراز وظيفة البلاغة في إظهار جماليات فن القول العربي، وبلاغة الحديث الشريف. فكانت البلاغة العربية معبرة عن الإنسان وهمومه وآماله وثقافته وحضارته، فالبلاغة بتعريفها " مطابقة الكلام الفصيح لمقتضى الحال " تعني نقل الكلام المعبر عما في نفس المتفنن إلى المتلقي بتأثير. والحال الإنسانية ثلاثة أقسام: حال المتفنن، وحال المتلقي، وحال الاثنين معاً. وهناك حال واحدة من كلام الله تعالى "القرآن الكريم"، وهي سعادة المتلقي في الدارين.
كما يدعو فضيلته إلى التقليل من تفريع المصطلحات البلاغية، والإفادة من شواهد الأدب الحديث بفنونه المتنوعة بشرط السلامة اللغوية والصحة النحوية وعفة المضمون، داعياً إلى ربط المادة البلاغية بعضها ببعض ومتابعة الأفكار عند البلاغيين لتكون حلقةً متصلة، فاللاحق يفيد من السابق، ولابد من اكتمال العدة للناقد البلاغي، والناقد الأدبي والمفسر والفقيه، من معرفة وجوه إعجاز البيان القرآني والحديثي. ولابد من تربية الذوق البلاغي في أعلى طبقة من مجالات فن القول العربي.
ويفصح الأستاذ عن أسلوب تدريس البلاغة العربية عبر نفقين متصلين متداخلين:
البلاغة القاعدية والبلاغة القيمية ليحصل التذوق الجمالي من خلال المادة وأسلوب العرض. فالبلاغية القيمية تتحدث عن المعنى العام للشاهد البلاغي، والأثر النفسي والاجتماعي والحضاري والبيئي لدى المتلقي. وهذه هي القيمة الخاصة التي تتولد عنها قيمة القيمة.
من هنا يدعو فضيلته إلى أن يكون الحديث الشريف – الذي سنثبت نصه – بأن يكون عنواناً للأسلوبية العربية، وربطه بآراء فقهاء الدين عن اليقين وعين اليقين وحقيقة اليقين، لتتحقق نظرية دراسة الأسلوبية العربية في دوائر ثلاث.
قال صلى الله عليه وسلم : "مثل ما بعثني به الله من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً فكانت طائفةٌ منها طيبةً قبلت الماء فأنبتت الكلأ، والعشبَ الكثير، وكان منها طائفة أخّاذات أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا، وكان منها طائفة أخرى قيعان، لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ. فذلك مثل من فقه في دين الله ونفَعَهُ ما بعثني الله به فعَلِمَ وعَلَّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به".
رواه البخاري ومسلم.

  • Currently 15/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
5 تصويتات / 1604 مشاهدة
نشرت فى 25 إبريل 2011 بواسطة elsayedahmed

ساحة النقاش

السيد احمد عبد اللطيف حسين

elsayedahmed
اهتم بالكتب والمقالات والروابط وكل مايخص طالب العلم »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

125,057