حوار: أشـرف التعلبـي

 

بينما يستعد الجميع لقضاء أجازة عيد الأضحى كان الشيخ محمد زكى ونفر من رجال فريق المصالحات وإنهاء الثأر فى الصعيد فى طريقهم إلى إحدى قرى أبوتشت شمال قنا للبدء فى جولة جديدة لإنهاء واحدة من أكبر الخصومات الثأرية فى الصعيد.

يتحرك الشيخ محمد زكى ومن معه فى سرية تامة من أجل انجاز المهمة، هكذا تعود منذ وهبوا أنفسهم ووقتهم لها، لأنهم يعلمون أن هناك من يقاتلون لاستمرار الخصومات والنزاعات الثأرية فى مقدمتهم أهل الفتنة وتجار السلاح الذين يتربحون من كارثة الثأر فى الصعيد .

حكاية الشيخ محمد زكى وإن كان واحدا من علماء الازهر المقدرين لكنه بحق يستحق لقب بطل معركة انهاء بالثأر فى الصعيد فقد جاب كل المحافظات من المنيا إلى أسوان بل وخرج إلى بعض محافظات الوجه البحرى وسيناء على مدى خمس سنوات ليشارك مع أعضاء اللجنة فى إنهاء أكثر من ٧٥٠ حالة ثأرية فى الصعيد كان ممكناً أن يسيل بسببها دماء كثيرة..


حكاية الشيخ زكى مع الثأر لها أصل يؤهله للقب بطل القصة، فالرجل تعرض لامتحان قاسٍ بعد أن قتل شقيقه وطالبته العائلة بالثأر، وهو رجل الدين الذى يعظ الناس بكلام الله عز وجل، غير أنه بمرور الأيام أبصر الحقيقة، وقرر عدم الإنصات للأصوات المطالبة بالأمر، ليس هذا فحسب، لكنه أخذ على عاتقه مسئولية توضيح المسألة لأفراد عائلته، وأبناء شقيقه تحديدًا الذين طالبوا بـ«ثأر أبيهم»، وبمرور الأيام تمكن من إقناعهم بالعفو بدلاً من الدم.


وانطلاقًا من تجربته الشخصية يسعى الشيخ محمد زكي، أمين لجنة المصالحات التابعة للأزهر الشريف إلى القضاء على ظاهرة الثأر المنتشرة فى مصر، مستعينًا فى مهمته بجميع الأطراف التى يمكن أن تمد يد المساعدة إليه، سواء زملاءه فى لجنة المصالحات، ولجانها الفرعية المنتشرة فى ربوع مصر، أو الجهات الأخرى ذات الصلة بالأمر.


الشيخ محمد زكى، يحكى تجربته الخاصة وحربه للقضاء على ظاهرة الثأر القاتلة، موضحًا الأسباب الرئيسية وراء تجذر ظاهرة الأخذ بالثأر فى محافظات المحروسة، ومبينًا فى الوقت ذاته الدور الذى تلعبه اللجنة فى المصالحة بين العائلات المتناحرة:



بداية نعرف أنك تعرضت وبشكل شخصى لأزمة «الأخذ بالثأر» حدثنا عن تفاصيلها وكيف استطعت التغلب على الأصوات التى طالبتك بالقصاص؟



إحقاقا للحق وتحدثا بنعمة الله، اعترانى فى بداية الأمر ما يعترى كل إنسان مكلوم سفك له دم، خاصة إذا كان هذا الدم هو دم الأخ الشقيق، لكن أكرمنى ربى بالنفس اللوامة، فقلت كيف يصح وأنا أدعو الناس إلى مكارم الأخلاق وفضيلة التسامح، وقال تعالى «مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أو فَسَادٍ فِى الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا»


فهدانى ربى لأن أكون فى جانب الصواب، وكان سبب الدم عتاب بين شقيقى وزميل له بعد صلاة العصر أثناء المرور بالسوق، ولم يكن خلاف له جذور، وكان يسير زميل شقيقى برفقة ابنه، غفر الله له، فلم يعجبه العتاب بين الرجلين الكبيرين، فغضب، فكان جواب شقيقى قاسيا، فغضب الابن، وأخرج من جيبه سلاحا أبيض «مطواه قرن غزال» وطعن شقيقى الذى كان يبلغ من العمر ٥٤عاما، فى صدره، فمات فى لحظتها، ولكل أجل كتاب.


اجتمعت الأسرة وفكرت فى الأخذ بالثأر، وعندما درست الموضوع فى حيدة وتجرد لله، فما كان منى إلا أن قلت هذا أخى وابن أبي، وأنتم قدمتم الواجب وبارك الله فيكم على مشاعركم، وأنا المسئول عن دم شقيقي، وأخبركم بأن القتل لم يكن عمدًا، وإنما كان القتل شبه عمد، وشبه العمد لا قصاص فيه، وبدأت فى إقناعهم فى عدة جلسات، وقلت والله ليس لنا عند هؤلاء دم، فحتى لو كان لنا دم فنحن لسنا أهل الاختصاص بتوقيع القصاص على الجانى.



فى إجابتك السابقة ذكرت أنه «لا قصاص فى شبه العمد» إذن هل توجد درجات من القصاص والدم؟



القتل ثلاثة أنواع هناك قتل عمد مع سبق الإصرار والترصد، وهذا يجب فيه أمران، أولهما إما أن نقتص من الجاني، حتى تنضبط حركة المجتمع، والمنوط به أخذ القصاص ولى الأمر من خلال المؤسسات المعنية قضائية وتنفيذية وتشريعية، فنحن لا نعيش فى غابة وكل شخص يأخذ القصاص بنفسه، فمن اعتدى على من قتل أخاه أو ابنه أو أبيه بالقتل يكون معتديا وآثما، لأنه خول لنفسه أمرا لم يخوله الله له، وبالتالى أخذ الثأر فيه حالة من تغييب للقانون وتضليل للعدالة، حتى لا تصل العدالة لمن قتل.



ثانيا هناك القتل شبه العمد، ويُنظرونه فى القانون، تحت مصطلح «ضرب أفضى إلى موت»، وهذا فيه الدية أو العفو.



ثالثا هناك القتل الخطأ، وهذا ليس فيه إلا الدية أو العفو، والدية كما قلنا فيها تعويضا رمزيا عن أثر المصيبة، وتطيب للخاطر، وهذا ما رغب الله إليه وحض عليه وكان مرادا لتحقيق أمن المجتمع.



بالعودة للواقعة التى عايشتها فيما يتعلق بالثأر كيف أقنعت عائلة شقيقك بالتراجع عن الأمر؟



جمعت أبناء شقيقى وقلت لهم «والله أنا بريء من هذا الدم، والله كل من يعتدى على هذا الولد آثم، لأنه من الأساس لم يكن لنا دم عندهم، وما حدث قتل شبه عمد، ولو كان عمدًا فالمنوط به أخذ القصاص ولى الأمر فى محكمة وقسم شرطة وطبيب شرعي، ولا يتم القصاص إلا إذا وثقت كل الأدلة، فالإبقاء على الحى خير من الإبقاء على الميت، والخطأ فى العفو أفضل من الخطأ فى تنفيذ العقوبة»، قال رسول الله «ادرَؤُوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مَخرج فخلُّوا سبيلَه، فإن الإمام أن يُخطئ فى العفو خير من أن يُخطئ فى العقوبة، إن كان هناك من الأدلة ما يعادل ٩٩ فى المائة إدانة وهناك شبه بنسبة ١ فى المائة، فالحكم لن يكون إلا على يقين، واليقين له أركانه وشروطه.



وماذا كان رد فعلهم؟



ثاروا وغضبوا وفكروا أننى أميل إلى تحقيق أمنى وسلامتي، فقلت إن كانوا يظنون هكذا فبها نعمة، والله أريد أمنى من النار وسلامتى من عذاب الله، فما بالكم بالقتل إن لم يكن القتل بالعمد مع سبق الإصرار، ثم عملت على مجاهدة النفس مع الترغيب، ولا أكتمكم سرًا كانت وصيتى وربى أعلم بصدقى والمجتمع عندنا يعلم ما أقوله، أن يكرم القاتل ونساعد أهله لحين خروجه من السجن، ولا أقول هذا مجاملة أو تزكية، وهذا من فضل الله علينا، وكان هناك نفور من أبناء شقيقى إلى أن شاء الله ولكل نعمة أجل، ولكل أجل كتاب، ولكل نعمة كما يقول الإمام الشعراوى ميلاد، فيسر الله لهذا الصلح، وبهذا الصلح أصبحت مدينة طهطها أول مدينة فى مصر خالية من الثأر، وهناك لجنة مصالحات غاية فى الاحترام والصدق بطهطها وبكل المحافظات، وبصدق النوايا تتحقق المعجزات، و«من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل به إلى يوم القيامة»، فما بالكم أن كانت هذه السنة الإبقاء على دماء الناس.



نعود إلى لجنة المصالحات الأخيرة هل هناك أسباب بعينها دفعتكم لإنشاء هذه اللجنة؟



كان تشكيل لجنة المصالحات فى يناير ٢٠١٥، حتى تكون تحت مظلة الأزهر وهو معبر عن ضمير الأمة، وأقصد بالأمة هنا «الإنسانية»، ومن هنا شكل الأزهر لجنة مصالحات تتبعها لجان فرعية فى المحافظات يختار لها من أبناء الوطن كل من له باع فى الخير والعطاء، ويحظى بحب وتقدير المجتمع له، وتم اختيارى كأمين للجنة العليا للمصالحات.



ومهمة اللجنة مشاركة جهود كل مؤسسات الدولة فى تحقيق أمن المجتمع والعمل على سلمه وآماله العليا وتنميته ورخائه، إلى جانب العمل على رأب الصدع وتوحيد الصف ولم الشمل وتحقيق الأمن فى مواجهة الترهل الفكرى الناجم عن تخلف ثقافي، ما يؤدى إلى مزيد من سفك الدماء والاعتداء على المؤسسات والممتلكات، ورأينا من يقطعون الطريق ومن يحرقون، والذين أقدموا على هذا العمل أصحاب ثقافة مشوهة ويعتقد أنه مخول له أنه يحسن صنعا، فقال تعالى فيهم «قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالا * الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِى الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا». فهل المنتحر يقدم خدمة للدين والدنيا، وقوله تعالى «وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أن اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا * وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا»، وكما أخبر عنهم الرسول بقوله «مَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ فَحَدِيدَتُهُ فِى يَدِهِ يَتَوَجَّأُ بِهَا فِى بَطْنِهِ فِى نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدا فِيهَا أَبَدا. وَمَنْ شَرِبَ سَمّا فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ يَتَحَسَّاهُ فِى نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدا مُخَلَّدا فِيهَا أَبَدا. وَمَنْ تَرَدَّى مِنْ جَبَلٍ فَقَتَلَ نَفْسَهُ فَهُوَ يَتَرَدَّى فِى نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدا مُخَلَّدا فِيهَا أَبَدا»، فهؤلاء ثقافتهم ثقافة مغلوطة ومشوهه، ومن مهام لجنة المصالحات محو هذه الثقافة الرجعية والجهل، وإحلال ثقافة التسامح والعفو والإحسان لمن أساء لتحقيق الأمن والاستقرار الذى يترتب عليه ازدهار ونهضة المجتمع ورقية، فقوله تعالى «فليعبدوا رب هذا البيت الذى أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف».



ويساعد الأزهر فى ذلك رجال الأمن الساهرون على ذلك فهم يقدمون دعماً كبيراً لإنهاء هذا الملف ومعهم شرفاء مصر المحروسة الطيبون، فإن هذا العمل لم يتم من خلال علماء الأزهر وحدهم، وقال تعالى «وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إن شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ»، ووضح بعض المفسرين المراد بدخول مصر العيش فى ربوعها وفى كنف أهلها الطيبين الصالحين، فحضارة مصر المتجذرة فى أعماق التاريخ أنهم أهل سماحه وصفح وعفو، ويقدمون مراد الله من تسامح على مراد أنفسهم من بطش وانتقام مما أنزل بهم سوأ أو أضر بهم، كان الإضرار إزهاق للروح أو انتهاك للأعراض، وقوله تعالى «وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم» و«مَنْ عُفِى لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ»، فكان للجنة المصالحات أهداف مهمة فى ظل الظروف العصيبة التى يمر بها المجتمع، ليس فقط المواعظ غير المفعلة وأمامه الناس فى الصلاة وخطبة الجمعة، بل يكون العطاء من خلال مشاركة الناس فى الأفراح والأحزان وكشف الضر وإصلاح ذات البين.



ماذا عن الهيكل الداخلى لـ«لجنة المصالحات»؟



اللجنة الرئيسية التابعة للأزهر الشريف لها لجان فرعية فى كل محافظة، واللجنة تتكون من المحافظ رئيسا للجنة فى محافظته ومدير الأمن ومدير البحث الجنائى ومفتش الأمن العام ورئيس المنطقة الأزهرية ومدير عام الوعظ، وشخصيات عامة مؤثرة فى المجتمع، وكل محافظة فيها لجان فرعية تنسق وتقوم بوأد الفتنة فى مهدها، حتى لا تتوسع دائرة الشر، وما أن تتدخل بصدق حتى يتم بفضل الله الأمن وحماية المجتمع.



حدثنا عن نشاط اللجنة منذ بداية تأسيسها وعملها فى العام ٢٠١٥ حتى الآن؟



لم نقل أننا حققنا الأمل المنشود وحدنا، وإن كان الأمل منشودًا، والهدف مقصودًا، وشاركنا فى ترسيخ دعائم الأخوة والإنسانية، فهدف اللجنة ليس المصالحات بين المسلمين فقط، بل اشتركنا بالفعل مع رجال الأمن فى عمل مصالحات مسيحية مسيحية، ومسيحية مع المسلمين، لأننا ننظر إلى الإنسان باعتباره إنسانا ومواطنا، كما أن رسالة الإسلام رسالة إنسانية ورسالة أخلاق، وقوله تعالى «لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِى الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ أن اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ».



عقدنا أكثر من ٧٥٠ مصالحة ثأرية فى كل المحافظات من إسكندرية حتى أسوان، وهناك مصالحات كبرى راح ضحيتها عدد كبير من الضحايا، وهناك مصالحات اجتماعية انتهت بجلسة ودية واحدة بين المتخاصمين.



ما المحافظة التى يمكن القول أنها صاحبة النصيب الأكبر فى المصالحات؟



محافظة سوهاج أكبر محافظة تمت فيها عمليات صلح، بدأت المصالحات فى سوهاج على يد اللواء أحمد أبوالفتوح مدير أمن سوهاج عام ٢٠١٦، وأثناء مقابلته وجهت له سؤالا عن أعظم أمنية يتمناها لشعب سوهاج، فرد قائلا: «ألا يمضى عام ٢٠١٦ وتكون سوهاج خالية من الثأر والدم»، هذا الرجل كان صاحب هذه الفكرة والمبادرة، وتمت مصالحات كثيرة جدا بمعاونة رجال الأمن، وكانت مبادرة خير وسلام.



برأيك لماذا تربعت محافظة سوهاج على قائمة «المصالحات»؟



الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، هناك فى سوهاج منافسة فى حقن الدماء، ووأد الصراع والقضاء عليه، فالصراع القبلى مخرب للدين ومخرب للديار، ومخرب للمستقبل، النساء يصبحن أرامل والأطفال يصبحن أيتامًا، والأرض تُباع من أجل شراء السلاح، ويكثر فى الصعيد تجار الفتنة، ولم يجد الناس من يأخذ بأيدهم، فالفطرة داخل الإنسان تدفعه بأن يبقى على كرامته، ويقول الشخص الذى يتنازل عن الثأر أن أهل العفو أجبرونى على الصلح، لكن من داخله يريد إعمار الأديار ويريد الحفاظ على ما تبقى من أبناء، فثقافة العفو أخذت مكانتها فى سوهاج، وهذا العفو والكرم لا يقل فى باقى محافظات الصعيد، لكن السبب الرئيسى المبادرة التى خرجت من سوهاج بأن تكون خالية من الثأر. وهناك فى الصعيد مسارعة «وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ» وقال تعالى فى مواصفاتهم الكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين.



وفى سوهاج ما لا يقل عن ٣٠٠ مصالحة تمت خلال الـ٥ سنوات الماضية فقط، وكانت هناك مصالحة فى برديس فى البلينا بعد مقتل ١٣ قتيلا، وهناك مصالحات تمت دون قتل، بعدما حدث شجار وتدخلت سريعا لجنة المصالحات.



ما أكبر صلح أشرفت عليه اللجنة منذ نشأتها؟



الصلح الذى تم بين الدابودية والهلالية، نظرا لحساسية الموقف، وضرورة أخذ إجراء حاسم وعاجل، وتعتبر هذه أعظم مصالحة فى تاريخ مصر، ولولا توفيق الله فيه على إتمام الصلح لأصبح الأمر فتنة.



وهناك مصالحة عقدت بعد أن راح ضحية الثأر ٢٥ قتيلا من العائلتين، فى ديروط، وشاركت فيها لجنة المصالحات وبيت العائلة، كما أن اللجنة حلت مشكلات مزمنة فى مئات من الخلافات التى استمرت فترات طويلة، منها الصلح الذى تم بجهد كبير بالتعاون مع وزارة الداخلية، ممثلة فى مديرية أمن سوهاج بين عائلتى الطوايلة والحمامدة بقرية خارفة جرجا بعد خلاف دام أكثر من ٣٠ عاما، والصلح الذى تم بين عائلتى الحرارزة والرمضانة بقرية الشورانية، بمركز المراغة بعد خلاف دام ٤٠ عاما وآخر المصالحات التى وفقنا الله فيها إنهاء الخصومة بين عائلتى البلالسة وطهطاوى فى مركز طهطا بسوهاج، ومنذ أيام تم إنهاء خصومة ثأرية عمرها ١٠ سنوات بين عائلتى عبدالعال والمعابرة بمركز طما بسوهاج، وفى طريقنا لعقد صلح بين عائلتين بنجع كوم هتيم بمركز أبوتشت شمال قنا بعد مقتل ١٣ شخصا، وأيضاً جارى الإعداد لعقد مصالحات أخرى فى أسوان.



وأقول بكل صدق، نحن نعمل مع لجنة مصالحات ويقوم أهل الخصومة من خلال اللجنة بتسوية أوضاعهم، القانون يأخذ مجراه، لكن من حق المواطن وهذا يتعلق بضميره ومستقبله عند الله أن يدلى شهادته بحق.



كيف ذلك وأهل القتيل يقولون فى شهادتهم إنهم لم يروا شيئا؛ رغبة منهم فى الأخذ بالثأر؟



نعم نحن والجهات الأمنية ندرك هذا، حتى عند أخذ الثأر لا توجه له تهمة.



إذن كيف يتم الصلح وهناك قضية يتم النظر فيها داخل قاعات المحاكم؟



نحن نصالح فى الشق الاجتماعى، فى شق الدم فلا تكون النتيجة دماء جديدة، نحن نصالح على الدم فى العادات الموروثة، حتى لو قضى الجانى عقوبته يقولون هذا حق المجتمع، لكن من وجهة نظرهم أن حقهم فى الدم باقى، ولا يهدأون حتى يأخذوا الثأر.



صراحة هل تطالب بنصوص صريحة فى القوانين فيها اعتراف بالقضاء العرفي؟



أولا أمة النبى -صلى الله عليه وسلم- لا تجتمع على ضلالة، وما معنى العرف، فقوله تعالى «خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ». والعرف هو ما توافق عليه الناس من الأعمال الصالحة وما أقره الشرع وأمر به، والعرف ذاته لا يعنى خروج على الشريعة، كما أن القانون له مجاله والناس يعالجون قضاياهم بما يتفق مع القانون، حسبما يحقق أمنهم، ونحن نعلم أن القضية يتم تناولها فى عدة سنوات، لذلك نحاول حقن الدماء.



لا بد أن يتم الاعتراف بالقضاء العرفى فى القانون، وتنص مواده على احترام القضاء العرفي، فنحن لا نجتمع إلا على الخير والمعروف، تحقيقا لأمن المجتمع والحفاظ على الدماء، وعلى نهضة المجتمع والإبقاء على النفس البشرية.



لكن العصبية القبلية حاجز وعقبة كبيرة أمامكم. كيف يتم تجاوزها؟



أولاً الإنسان لا ينحاز إلى عصبية ولا يتقاتل من أجل عصبية، والمفهوم السائد هو القبيلة أولا، لكن الموروث الثقافى الأصيل الإنسانى الكريم هو تحقيق مراد الله على النفس، قال تعالى «وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا»، فلا بد أن يقدم الإنسان مراد الله على مراد النفس الأمارة بالسوء، وليس منا من دعا إلى عصبية وليس منا من مات على عصبية.



لكن الواقع شىء مرير، والناس تتمسك بمبادئ القبيلة على الدين؟



بالقناعة يتغير هذا المفهوم الخاطئ، ونعقد اجتماعات بأهل القضية مرات ومرات فى بيوتهم، وربما لم يحدث أن تصالح الناس من مرة واحدة.



برأيك هل العصبية القبلية أكبر عدو للصلح؟



لا شك ويليها تجار الفتنة، وهؤلاء يجب أن يكون لدى المجتمع حصانة ومناعة من شرورهم، قال تعالى «يا أيها الذين آمنوا أن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين». والنبى -صلى الله عليه وسلم- قال «لا يدخل الجنة نمام»، كما أن تجار الفتنة هم تجار الدم، لأنهم يتاجرون فى دم الناس، و»من أعان على قتل مسلم ولو بشطر كلمه جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه آيس من رحمة الله».



وهل المراد هنا الدم المسلم فقط؟



لا.. بل نقصد دم الإنسانية، ومن قتل نفس بغير نفس، ولم يخصص نفس بعينها، فقال تعالى «مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أو فَسَادٍ فِى الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا».



وهنا أدعوكم باسم الله ثم باسم أمن المجتمع إلى السلام، فالفساد الخلقى وإشاعة الفحش ونشر الفواحش ما ظهر وما بطن لا يقل أثر هذه الفواحش عن أثر الجبناء القتلة، فهذا قتل للإنسان وهذا قتل للإنسان، واستمرار القبح وجعل الفحش منهج حياة للناس، هذا لا يقل خطر عن الإرهاب الأسود، وهؤلاء إرهابيون أيضا.



كما أن لجان المصالحات المنتشرة فى كل ربوع مصر لا تفرق بين العائلات الكبيرة والصغيرة، وفى كل مدينة لجنة مصالحات، نحن نتحرك بمجرد السماع حدوث مشاجرة بين مسلم ومسلم أو مسلم ومسيحى أو مسيحى ومسيحي، وتدخلنا من قبل فى قرية دير أبو حنس فى ملوى وقتل فيها خمس مسيحيين ، وما أن جاءت الرسالة إلى الأزهر حتى توجهنا إلى بيوت المسيحيين بالقرية بوفد كبير، واكتشفنا أن هناك أزمة مفتعلة لزعزعة الأمن.



نعم دم غير المسلم مصون، لهم ما لنا وعليهم ما علينا، ، ولهم عندنا فى ضميرنا عهد أمانة، و «مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا»، وإذا جاء عدو يريد النيل من أهل الكتاب سفكا لدمائهم أو هتكًا لأعراضهم أو نيلا لأموالهم، وجب على المسلمين الدفاع عنهم بالسلاح والموت دونهم، وإن تراجعوا فقد خانوا الله ورسوله، فهل تجدون أعظم من ذلك سماحة فى تاريخ الإنسانية.



فإن تقاعس المسلمين فى الدفاع عن الكنائس والصلبان عن أموالهم وأعراضهم فما بالكم بدمائهم، وان تراجعوا وصل ذنبهم إلى الخيانة، قال تعالى «الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ أن اللَّهَ لَقَوِى عَزِيزٌ».



صراحة هناك عائلات تتراجع بعد عقد الصلح؟



الغالبية العظمى تنتهى بشكل كامل بانتهاء الصلح، ولم يشذ إلا القليل، والشذوذ لا حكم له، ومن نكس فإنما ينكس على نفسه، وهناك شروط قاسية تدون للتعامل مع هذه الحالات، حتى نضمن سلامة العقد لا بد أن يوثق.



ما هى هذه الشروط؟



يتم توثيق جلسة الصلح بمحضر إدارى بقسم الشرطة، أو بمديرية الأمن، وهناك محضر عرض نضع فيه شروطا قاسية على الذين ينكسون الصلح، منها أن يتم طرد المعتدى من القرية أو أخذ قطعة الأرض المتنازع عليها أو فرض غرامة وتصل لأكثر من خمس ملايين فلكل قضية اعتبار وتقييم.



هل طبقتموها على أحد؟



الحمد لله فحتى الآن لم ينكس أحد عن صلح تم خلال السنوات الخمس الماضية.



برأيك ما العوامل التى تساعد على إخماد نار الفتنة وما العوامل التى تساعد فى إشعال نار الفتنة؟



هناك ثقافة هدامة تشعل نار الفتنة، وعدم تصحيح الموروث الثقافى المشوه، فالإعلام الهابط والسينما والدراما لهم دور فى عدم القضاء على هذه الثقافة، وتوجيه أنظار العالم باعتبارنا شعب متخلف وأن قضايا الثأر مهمة، هذا كلام فارغ، إلى جانب أنه يؤصل لبحور دم، فالمسلسلات التى تتحدث عن الثأر لا تعالج بل تنشر ثقافة الفتن، المقاصد السامية لا تبلورها الوسيلة الفاسدة، والغاية لا تبرر الوسيلة، وإذا كانت المسلسلات تود معالجة قضية، لكنها اتبعت وسيلة هابطة، وهذا على سبيل الفرض.



هل من صلاحيات اللجنة إصدار تقارير عن الأعمال الدرامية التى تحرض على الثأر؟



إذا قمنا بالرد سيقولون هذا كبت لحرية الإبداع وأننا ضد الإبداع والفن، وهذا إلا بعد فتنة، والفتنة نائمة ملعون من أيقظها، ولهذه المسلسلات أثر فى الصعيد خاصة عند الموجوع، فإنها تثير النفوس، والمجتمع كله تقع عليه المسئولية، وعدم إثارة مشاعر الناس من خلال الدراما غير المسئولة وغير الواعية.



لماذا دائما يتم اتهام المرأة أنها المحرض الأول على الأخذ بالثأر؟



ليس الأمر على إطلاقه، هناك كثير من الأمهات مسئولات أمام الله عز وجل عن سفك الدماء بتحريضهن لأولادهن بأخذ الثأر، ولا تكتفى بخراب واحد، وتجمع خرابا ثانيا على الخراب، توسعا فى الجريمة وامتدادا لأثرها، لإشباع وترضية النفس وغريزة الشر فيها على قتل من قام بالقتل من قبل، وحتى لا نعمم، أقول بعضهن، وهناك الكثيرات من العاقلات، من فضلهن الله بالحكمة والعقل لتحقيق الأمن والحفاظ على ما تبقى من نعمة لا لامتداد الشر وتوسيع دائرته.


لماذا تكتفى لجنة المصالحات برد الفعل، بمعنى أنها تحاول المصالحة بين المتخاصمين، ولا يكون هناك دور لنشر ثقافة نبذ الثأر، عملًا بمقولة «الوقاية خير من العلاج»؟


هناك بفضل الله منظومة عمل دعوى ثقافى تدعو الناس على محاربة الجريمة قبل وقوعها، والوعى بشرورها، وهناك قوافل مستمرة لعلماء الأزهر، ومعظم أعضاء اللجنة يعملون على نشر هذه الثقافة، وأملى وأمنيتى أن تكون مصر كلها خالية من الثأر، حتى يتفرغ الناس والمؤسسات لمعالجة التنمية والنهوض بالبلد ومواجهة الإرهاب الأسود بروح الفريق الواحد، وتحصين المجتمع من آثار الثأر وشروره المدمرة، فالأزهر له دور والإعلام والمدرسة والثقافة والبيت، الجميع لهم أدوار.

elsayda

بوابة الصعايدة

رئيس التحرير: أشرف التعلبي

elsayda
نحارب الفقر- المرض- الامية -الثأر... هدفنا تنوير محافظات الصعيد- وان نكون صوت للمهمشين »

تسجيل الدخول

بالعقل

ليس كافيا أن تمتلك عقلا جيدا، فالمهم أن تستخدمه جيدا