إذا أردت أن تستعيد ذاكرة المكان وتستنشق عطر الصباح ونور الحياة الذي لا يلبث أن ينطفئ رويدا رويدا، في بضعة أيام من شهر يوليو القائظ نطقت كلمات الزمان وتجسدت مابين قرية الحاجر إلى واحة الخارجة، لتصنع حبكة روائية تنمو على أغصانها تراجيديا من نوع خاص، تراجيديا نازفة بالدموع، لكنها عامرة بالإنسان والقلب، مفرداتها ظاهرها الموت ،لكن باطنها الخلود، خلود التجربة وخلود الموقف.
إذا أراد الروائي أن يكون مبدعا حقا فعليه أن يسبر غور نفسه وأرضه فالزمان والمكان هما لسان ابنهما الذي ترعرع شاربا ماء الطفولة والصبا هناك ، فالحكايات والحكاء شيء واحد ،لا تنفصم عراه ،ولا تتبلد طاقته ، وقف الروائي أشرف التعلبي وعيناه تحدقان إلى الغرب الصحراوي ، خيال فسيح ورؤية بعيدة، سمع الحكاية فوعاها ثم استدعاها شخوصا ومجسمات تتحرك وتتكلم ،تحس وتنبض بالأحداث ذلك ابن البيئة، فالبيئة سيدته وهو سيدها ولا تجد روائيا مبرزًا إلا بهذا المقياس وتلك التفاصيل .
وإذا كان الوصف الجغرافي إحدى ركائز العمل الروائي فإن "التعلبي" لم يكتف أن يدلي بدلوه وإنما سبح وشرب من عمق الأعماق الجغرافية بلا حدود ولا قيود "وقال حربي وهو يشير بيده نحو الفلنكات الخشبية المتبقية: إنه لم تعد هناك قطارات تمر فوق هذه القضبان، لقد توقفت منذ سنوات طويلة بعد أن تهالكت وسرق أغلب قضبانها.. وعندما كنت صغيرا رأيت قطارا يحمل البضائع، كان يمر أسبوعيا من محطة المويصلة بمركز فرشوط إلى الوادي الجديد ، حيث الطريق وسط الجبال ، كانت هذه القطارات تعبر الرمال بشق الأنفس، فالطريق وعر والرمال متحركة." عندما كنت أقرأ في أول صفحات الرواية كنت أتساءل عن خط السكة الحديدية الذي يربط بين وادي النيل والوادي الجديد وهل هو خط أبو طرطور لنقل الفوسفات أم غيره ؟ فإذا بالسطور التالية تضيء وتعرف هذا الخط.
فالمسار الجغرافي حاضر وبقوة لدى الكاتب وزمان هو صيف يوليو حيث السمسم والبرسييم الذي وصفه الكاتب بالحجازي ليواكب زمن الحكاية لأن هذا النوع من البرسيم يظل على الأرض صيفاً وشتاء فجغرافية الزمان جلية كما جغرافية المكان بالضبط أما التغلغل السيكولوجي والاجتماعي فكلاهما يشي عن الآخر بل ويوحي به في قراءة متأنية لمجتمع الصعيد عامة ومحافظات الجنوب خاصة ، حيث يمتهن أهل هذه البلاد السفر إلى خارج الحدود لا حدود المحافظة والنجع بل ألى الأبعد من دول البترول الخليجية وقبلها العراق شرقا إلى ليبيا غربا ،وتجيبك عوالي زوجة حربي عن تلك ا لمعاناة النفسية ووطأة الإحساس داخل هؤلاء النسوة اللاتي يشعرن بالغربة النفسية والاجتماعية حتى وإن يكن داخل حدود البلاد بل داخل النجع نفسه.
وغاصت الزوجة في البكاء، وسالت الدموع فوق وجهها ذي اللون القمحي، والعيون السوداء، والرموش الكثيفة التي تعلوها، لقد خلق الله في وجهها حبة الخال التي كانت.
أعلى فمها وأسفل خدها الأيمن، كانت تضع فوق رأسها المنديل الأحمر المزين بزهور خضراء وصفراء.. يظهر من أسفله خصلات من شعرها.
عادت لتتهته والدمع يملأ فمها.. لقد تركتنا وعشت في الصحراء منذ أن تزوجنا، لا نراك إلا كل شهر لمدة ثلاثة أو أربعة أيام، لماذا تريد أن تبقى فيها حتى تموت أين حقي وحق أبنائي من رعايتك واهتمامك.. أنت ياحربي تهتم بالجمل أكثر مني ترعى الجمل وتنساني، تتحدث للجمل وتتجاهلني.. لماذا لا تريد النسيان و قد مر أكثر من خمسة عشرعاما ،ثم خيم الصمت لحظات حتى عادت لتتهته من جديد "
فقد جاءت سطور الرواية لتطرح اللغز في أولها ثم جاءت النهاية بقناعة خطتها التجربة وطبعتها المأساة في داخل حربي بأن الترحال لا يكون لآخر رمق في الحياة ولا يكون بناء متراكبا متتاليا من الجد إلى الأب إلى الأحفاد فكل مسلمات حربي تغيرت وجاء برهان عوالي زوجته بردا وسلاما علي امتداد الحياة ورجوع الألفة والقرب ، وبأن الأحفاد لن يمتهنوا مهنة الترحال والاغتراب ، فهناك في البقاء سعة ورزق ، والإسقاط في الرواية جاء حاملا الفكرة والعبرة جاء استنتاجا وليس وعظا مباشرا تمقته نفس المتلقي وتمجه الذائقة السليمة.
أما الناحية الفنية الوصفية فرغم تمحور مكان الرواية في الطريق من النجع إلى واحة الخارجة إ ورغم تشابه المشاهد في الصحراء إلا أن الكاتب يطل علينا بإبداع جديد يوحي إليك بأن المشهد قد اختلف وبأن الطبيعة قادرة على النطق بكلمات غير متكررة وبأن الطريق بكر كل يوم يعلم ويتعلم
وبأن الخطى غير الخطى ، يحلق بها بطل الرواية الذى صاغته الظروف ليقتنص بفخه جمال الرحلة ويسكب قلبه مرارتها مرة أخرى
في حين كان الجملان يتقدمان في طريقهما والنجوم تختفي رويدا رويدا حتى اقترب الشروق والابن الصغير ينصب ظهره منتصف الشاغر
واستيقظت الأرض من نومها العميق، وانتبهت النباتات لالتقاط أشعتها الذهبية لتزهو في الأفق وهي تعلو بأوراقها، كذلك الحيوانات كان بعضها ينتظر لحظة الانطلاق للبحث عن طعام يؤمن حياتها، وحشرات، تحاول الإسراع إلى مخبئها الذي قامت بحفره بأرجلها قبل أن تصاب بضربة شمس تقضي عليها فلكل شيء بداية ونهاية.. والشمس تعرف متى البداية ومتى النهاية فهي تسير بحكمة وانضباط.
الوصف له مذاق لأن الروائي إذا طلق الخيال الوصفي سار على درب جاف لا تعرفه الطيور المحلقة ولا الأشجار بأنواعها المترامية الألوان وزهورها التي تخلب الألباب فالذي يشدك دائما عند أعظم الروائيين من محمد عبد الحليم عبدالله برومانسيته الوصفية إلى عبدالرحمن منيف الذي شرب عصارة بيئته ، فالركن الركين لدي الروائي أن تعبئ نفسك بأريج القراءة وترتفع مع السطور إلى أن تلمس حافة الجمال ويصل القلب قبل العقل إلى مبتغاه الذي شاده الكاتب سلفا
قد تبدو ،" أبي سروال "فقيرة في الشخوص حيث تكاد تتمركز حول بطل واحد هو حربي والباقون على قلة عددهم هامشيون وذلك ليس عيبا وإنما هو إبداع قائم على قدميه يأخذ شكلا مابين الرواية والقصة القصيرة ، وهو طرح جديد تمتلئ به الساحة المصرية والعربية وقبلها العالمية ، ولذلك نطلق عليها قصة طويلة أو سمي بالإنجليزية novella
والمعيار ليس الحجم وإنما المعيار هو التكثيف والنهاية الواقعية التي اختلفت تماما عن النهايات المكرورة في الأفلام المصرية والتي يعرفها المتلقي سلفا ومنذ السطر الأول قد تكون للمثيولوجيا يد طولى في نهاية القصة حيث نشأ الكاتب في بيئة الأحاجي والأسطورة وكما قلت آنفا إن الكاتب ابن بيئته التي خبرها ووعاها ثم حبكها الحبكة التي ولدها المكان كذلك كان أديب نوبل نجيب محفوظ رائدها على المستوى العربي،وعلى طريقه شب الطيب صالح وغيره من المعاصرين والتالين لمحفوظ .
وإذا ولجنا من باب الشخوص إلى المجسمات فنجد حضورها طاغيا في بيئة الصعيدي
" يومها ظلت الز وجة حتى ّ الظهر أمام الفرن، تعجن العيش الشمسي، ليأخذاه معهما في السفر الرحلة طويلة ولابد أن يكون العيش طازجا.. ب ز ظلت تخبز بمفردها، حيث كانت تقوم بتقطيع العيش لتضعه فوق المقارص المصنوعة من الجلة بعد أن وضعت الردة فوق المقارص حتى لا يلتصق العيش بها، ثم تركته لدقائق في ّ الشمس ليكتمل خمرة، قبل أن تضعه في الفرن الطين الملتهبة ناره. "
كلمة المقارص والشاغر والرسن والشلولو والخرج وغيرها من مجسمات حفلت بها سطور الكاتب لايفهم أغلبها إلا ابن الصعيد الداخلي القح فكان على الكاتب أن يكتب تعريفاً بها في آخر الرواية لكي يتخيل معه القارئ غير الصعيد ي هذه المجسمات كما أن كلمة الطوب الأخضر ويقصد الطوب اللبن كان على الكاتب أن ينصصها ويضع مقابلها الفصيح هذا عن مجسمات القصة.
أما عن البناء الحواري والدرامي فكان مواكبا لحجم القصة وكانت الجملة الحوارية شحيحة إلا ما يتطلبه الموقف وهو دأب كل عمل يرتدى ثوب الرواية والحكاية إذ ثم تباين تام بين الحكاية الممسرحة وبين الرواية المنسكبة مباشرة من معين صانعها . فالذي في مخيلته هو أن يبني الحدث فوق الحدث ويصل بالحكاية أكثر شغفا وأوسع ذراعا تحيط بالقارئ فيتتبعها وليس في خلده الحوار إنما الوصول سماء الحدث
ونظراتهما تتجه نحو الشرق، ناحية سكان النجع..،- متى ستاخذني ياأبي إلى الوادي الجديد، أريد أن أرافقك في رحلة مع إحدى القوافل التي ستكون دليلها
- فقال له حربي عندما تكبر ياولدي ستكون قادرا على الترحال والسفر بين مدقات الصحراء الوعرة مازلت صغيرا يمكنك رعي الغنم بالقرب من البيت ويمكنك اأن تؤنس أمك وأخاك.
- فقال الابن الصغير لقد أصبحت كبيرا يا أبي، ولم أعد صغيرا كما كنت لقد تجاوزت العشر سنوات
- وضع حربي يده اليمنى فوق كتف ابنه، وقال له ربنا يحرسك يا ولدي، أنا أريد أن آخذك برفقتي أينما ذهبت، لا أريد أن أتركك بعيدا عني لكن الصحراء بحر عميق مليء بالرمال المتحركة والشمس الحارقة والرياح العاصفة.. عندما أرى شاربك يزين وجهك ستكون الناقة في انتظارك.
رفع الابن الصغير رأسه، وجعل رقبته متكئة للخلف، عيونه تتطلع في السماء، ووضع يده اليسرى أسفل أنفه.. وهمس بصوت منخفض، لكنه مسموع..
- ومتى يا أبي سيظهر الشارب تحت أنفي
- بعد ثلاثة أو أربعة أعوام.
- لماذا لا تأخذ أخي الأكبر معك يا أبي، يساعدك
وتعلمه فنون الصحراء ؟
هكذا جرى الحوار مقول قول وهذا كما أسلفنا ديدن الرواية والحكاء ولبنات العمل القصصي.
وفي النهاية نستطيع أن نقول إن الكاتب كان مبرزا في كتابته حاول ما وسعته المحاولة واجتهد ماوسعه الاجتهاد في لغة فصيحة أنيقة آل على نفسه أن يسير بها حتى يبلغ شأوه ويصل بفكرته إلى كل قارئ عربي في كل مكان على هذه البسيطة.