بقلم: حلمى النمنم- وزير الثقافة السابق:
«وطاويط النجع» رواية بسيطة وناعمة، لكنها إنسانية وعميقة إلى حد بعيد، صاحبها الروائى الشاب «أشرف التعلبى»، وهو أيضًا واحد من شباب المحررين اللامعين فى مجلة «المصور»، يعتمد عليه رئيس التحرير «أحمد أيوب» فى الملفات والقضايا الثقافية والأدبية على صفحات «المصور».«وطاويط النجع» روايته الثانية، فازت الرواية فى المسابقة الأدبية التى تنظمها هيئة قصور الثقافة، وقامت الهيئة بنشرها، أى أننا بإزاء عمل خضع للتحكيم من كبار النقاد والمتخصصين بالهيئة العريقة.
الرواية كما هو واضح من العنوان عن نجع فى صعيد مصر، يقع بالقرب من مدينة إسنا، التى هى الآن ضمن محافظة الأقصر وحتى وقت قريب كانت تتبع محافظة قنا، أى أن النجع يقع ضمن ما نسميه نحن «الصعيد الجوانى»، ولدينا أعمال أدبية عن الصعيد فى نهاية القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين، بدءاً من رائعة طه حسين «الأيام» خاصة الجزء الأول منها، والذى يدور فى عزبة الكيلو بالمنيا، وكذلك روايته «شجرة البؤس» و«دعاء الكروان»، لدينا كذلك يوميات «نائب فى الأرياف» لتوفيق الحكيم وغيرها، ثم أعمال يحيى الطاهر عبدالله وغيره وغيره، لكن وطاويط التعلبى تحدثنا عن النجع الآن، وفى استرجاع لسنوات قليلة مضت، أى أننا أمام صعيد غير صعيد الإقطاع ولا صعيد عهد عبدالناصر وقت بناء السد العالى وحرب الاستنزاف، نحن أمام الصعيد لحظة انفجار وباء كورونا.. الوباء كان لحظة كاشفة انطلق منها الروائى ليطلعنا على مسيرة الصعيد فى السنوات الأخيرة، ويقدم لنا جديدًا.
«حجاج» هو بطل الرواية، لكنه ليس بطلًا بالمعنى الخارق فى الأعمال الأدبية، ليس رومانسيا معذبًا ولا مأساويا تمثل مأساته عالماً، وهو مواطن وإنسان عادى جدًا، لا يختلف عن كثير من شخوص الرواية، لكنك تشعر أن الروائى اختاره كى يكون مرآتنا التى نرى فيها ذلك المجتمع، تبدأ الرواية وحجاج يهم بمغادرة حى السيدة زينب حيث يعمل ويعيش، الواقع أنه لا يعمل، بل يحاول أن يجد فرصة لقضاء الوقت وتحقيق بعض المكاسب تكفى حياته ومعيشته، مع شرب الشاى والشيشة، يسكن غرفة ويبيع كتاكيت صغيرة ملونة للأطفال، قد يسعدهم رؤيتها على هذا النحو، وكما ترى مسألة ترفيهية تمامًا، لكنها تعود عليه ببعض المال، هو ترك زوجته التى تحبه فى النجع مع الأولاد والأسرة، قد يرسل لهم بعض المال إذا توفر، هم يريدون فقط الاطمئنان عليه ولا يحب أن يقيم طويلًا فى النجع، لذا سافر من قبل إلى الأردن للعمل وكان العائد هناك محدودًا وانتقل منها إلى العراق حيث كان صدام حسين محبًا للمصريين، وهناك توفر العمل وبعض المال، لكن أقنعه بعض الرفاق بمحاولة دخول الكويت ليلحق بأبناء النجع هناك وفرصة توفير مال أكثر قائمة، يدخل الكويت عبر شاحنة وطرق ملتوية يعرفها مهربون عراقيون مع معاونين لهم فى الكويت، دخل الكويت دون أوراق ثبوتية، ومع ذلك ظل عامين لا يلحظه أحد، إلى أن قرر العودة حتى لا يموت فى الغربة، كانت العودة سهلة، اكتشفت الجهات المسئولة، عن عمد منه أنه دخل الكويت بطريق غير رسمي، ولأنه مصرى يتم ترحيله إلى القاهرة، وهكذا عاد من الكويت.
المشكلة فى النجع ليست «الفقر المدقع» كما يتصور ويصر البعض، طبقًا للرواية الناس فى النجع يتعايشون وليسوا فقراء ومعدمين إلى الدرجة التى يتحدث بها بعض الخطباء لابتزاز السلطة حينا أو استعطافها لتحقق لهم بعض المآرب الخاصة، الست نعيمة «صاحبة الكشك» يمكن أن نعتبرها رأسمالية كبيرة، تعطى للناس ما يحتاجونه ويتم السداد فيما بعد، الناس يجلسون على المقاهى، يمصون القصب، يرددون الحكايات، بمجالس النميمة، المشكلة الحقيقية أن المهن التقليدية فى الريف، معظمها تتعلق بالزراعة والرى، هذه المهن، حتى عقود مضت كانت تحتاج مئات من الأيدى العاملة، موسم الحصاد مثلا كان يستقطب الشباب والنساء والفتيات والأولاد، الآن ماكينة واحدة تقوم بهذا العمل فى ساعات، تحتاج الماكينة إلى من يقوم بتشغيلها ومساعد معه.
وهكذا فى كل المهن بالريف والقرى المصرية، الأمر الذى خلق حالة من الفراغ لدى الشباب والرجال، قديما كان العمل مرهقًا بالريف، الآن انتشرت فى القرى ظاهرة «الجيم» حيث يتدرب ويلعب الشباب، وبعضهم يهتم ببناء عضلات، هذا ما كانت تقوم به الفأس من قبل، لكن لم يعد للفأس ولا المنجل موقع فى أولويات العمل الآن.. هذه هى معضلة أبناء النجع فى إسنا الآن، وأظنه فى معظم قرى مصر، يضاف إلى ذلك انتشار التعليم بين أبناء القرى، لنلاحظ أن كل محافظة بها جامعة حكومية، فضلًا عن جامعة أو أكثر من الجامعات الخاصة، هؤلاء المتعلمون ينتظرون الوظيفة أو يبحثون عن عمل خارج القرى، فى المدن تحديدًا وهذا هو حال «يونس» ابن شقيق حجاج الذى تخرج فى كلية الدراسات الإسلامية، وذهب إلى الغردقة للعمل بالسياحة فى أحد فنادقها، لم يكلفه الأمر سوى معرفة بعض جمل وكلمات باللغة الإنجليزية، لكن مع «كوفيد - 19» تراجعت السياحة فترك العمل بالفندق، وعاد إلى النجع ليعمل فى بيع الخضروات والفاكهة، كان مرتبطًا مع «الحاجة سعدية» فى جمعية عليه الالتزام بها، يونس أصابته رصاصة ذات يوم، لم يعرف مصدرها، ونقل إلى المستشفى فى إسنا، على أثر هذه الرصاص عاد «حجاج» من السيدة زينب إلى النجع.
رغم المضايقات فى السيدة بسبب إجراءات الاحتراز من «كورونا»، لكن رصاصة يونس هى التى حسمت عودته، مع العودة نطل على قطار الصعيد وما به من حكايات المسافرين ومسامراتهم، لكن القطار الآن لم يعد فى نفس الزحام الذى اعتدناه العقود السابقة، لكن حكايات البشر وهمومهم، لم تتوقف، هنا تضعنا الرواية فى حكاية «سيدة القطار» التى أوسع لها حجاج المقعد المجاور له، هى تقيم فى أسيوط مع ابنتيها، زوجها تركها وتزوج بأخرى أنجبت له ولدًا، لا يدفع نفقة ولا أى شيء، هى لم تطالبه لأنه عامل باليومية ولا يمكنه أن ينفق على بيتين، شقيقها فى الجيزة تولى مساعدتها ماليًا، السيدة متصالحة مع واقعها ومشكلاتها.يصل حجاج إلى النجع، يريد الثأر لابن شقيقه من الذين أطلقوا عليه الرصاص، لكن الشقيق يمنعه نهائيًا، عولج يونس وخرج من المستشفى بعد أن فقد نور عينيه، وعليه أن يبدأ حياته من جديد، بلا بصر.. فى النجع تجرى مصالحة بين الذين أطلقوا الرصاص، ويونس وأسرته لم تكشف لنا الرواية سبب إطلاق الرصاص عليه، هل كان مقصودًا أم جاء عشوائيًا، الرواية تقول لنا إن إطلاق الرصاص هناك شيء عادى، لا يشترط أن يكون خلفه سبب قوى، شيء يحدث ويتقبله الجميع ويكون الرد بالثأر أو المصالحة.. الرواية انحازت إلى المصالحة وهذا يحسب لها.
الرصاصة قادت إلى مصالحة حجاج مع شقيقه إسماعيل والد يونس، استمتع حجاج بعد المصالحة بجو النجع، لكن الوقت طويل وممل، يقوم ببعض الأعمال البسيطة لكنها لا تشغل وقته، لذا يكثر من الجلوس فى المقهى الذى ظل مفتوحًا رغم الحظر والإجراءات الاحترازية، حتى المسجد الذى كان يجب أن يغلق وفق النداء «ألا صلوا فى بيوتكم» لكن الإمام المعين من وزارة الأوقاف، كان يغلق المسجد ويقيم الصلاة اكتشف الأمر الأستاذ محمود الذى أبدى تخوفه من أن هذا الإمام فى المسجد يعجل بالوباء فى النجع، لكن الإمام يحتد عليه ويعلن معارضته ورفضه التام لقرار وزير الأوقاف، يرى الإمام أن التجمع فى المسجد فرصة للدعاء إلى الله كى يرفع البلاء عنا، ولن يرفع البلاء إلا بالدعاء والبركة، ليس بالدواء ولا بالتطعيم والعلاج ولا قرار وزير الأوقاف، سقط ضحايا فى الكورونا، لكن الإمام ظل مُصرا على موقفه هو ومن معه.مع الأيام راح حجاج يشعر بالملل، وحدث أن شاهد عددًا من الوطاويط، تحوم حول القرية، ثلاثة، هى نذير شؤم، يمكن أن تهاجم الإنسان نفسه وتهاجم الطيور، لاحظها حجاج، حمل ساقا من الخشب، وبحرفية شديدة أمكن له أن يضرب اثنين منها، فتسقط ميتة ويفر الثالث، يصبح هذا الإنجاز مجده فى القرية كلها. ورمز بطولته، تشعر الزوجة بذلك وتحاول أن تثنيه عن مغادرة النجع، أمورهم المادية باتت ميسورة، لكنه ملّ جلسات المقهى وأحادث النميمة بالقرية، فيقرر العودة، أمامه طريق السيدة زينب، والتى له معها تاريخ طويل، كانت أول ما رأى من القاهرة مولد السيدة والليلة الكبيرة ثم مولد الحسين، وهناك كذلك «عزيزة» بائعة المخلل التى تنتظره وتتمنى الزواج به، ثم تتاح له فرصة للعمل فى مزرعة للمانجو بالإسماعيلية، لم يكن يعرف شيئًا عن المانجو، لكن سيتعلم ويعرف.
أجل حجاج مشروع الزواج من عزيزة وجلسات السيدة زينب واتجه إلى الإسماعيلية، عبر أحد بلدياته وما يلبث أن يجيد عمله بسرعة ويحب هذا العمل ثم يأتيه الخبر أن الحكومة سوف تصرف مبلغًا شهريًا إعانة للمتعطلين بسبب الوباء، حاول الحصول على المبلغ وهو فى النجع، لم تكن الشروط تنطبق عليه، لكن حيل البيروقراطية لا تفرغ، أمكن تسديد وتسوية كل الأوراق اللازمة، شهادة بتوقيع اثنين موظفين أنه كان يعمل فى مكان معين، يبدأ صرف المبلغ وهو فى الإسماعيلية ويعرف أنه بإمكانه أن يصرفها من أى مكان يتواجد به، مع السعى وعدم الاحتراز يصاب بالوباء، يدخل المستشفى فى الإسماعيلية فيموت، ويدفن وحيدًا وغريبًا، جثة الميت بالوباء تدفن فى مقبرة خاصة، ولا يمكن السفر بها إلى النجع.. وهكذا انتهت حياته.تنتهى الرواية بجملة ترددت طوال صفحاتها فى عدة مواقف «الله غالب» فى ارتكان مؤكد إلى أن حكم الله نافذ فى نهاية الأمر، وهذا حق.
الرواية ممتعة بحق، وإن غلب الحماس أحيانا على الراوى حينا فيفلت لسانه بكلمات لا تتواكب مع أحداث وسير الرواية، مثل وصفه فيروس «كوفيد 19-» الذى أصاب حجاج بأنه «فيروس جبان وحقير» وكأن هناك فيروسا شجاعا وآخر جبانا.. حقير وعظيم. أو مثل القول إن حجاج سافر لسد «جوع البطن» وأنه حين مات شهيد لقمة العيش، وأنه عاش ومات فى بلاد غريبة لا أهل فيها ولا خلان، العيش فى شارع السد بالسيدة زينب والإقامة بجوار المقام كان سعيا وحبا منه، وسط بلدياته والمعارف كثر، حتى حينما كان فى الكويت عاش وسط جالية من أبناء النجع فقط، هذه الحماسة الشديدة من الراوى بالعمل تعكس حماسة الأديب الشاب وربما تأثره بأجواء ومصطلحات سائدة فى «السوشيال ميديا» وبعض وسائل الإعلام لم تكن الرواية بحاجة إلى مثل هذه الكلمات، الأحداث ناطقة بكل شيء.
الرواية هى العمل الروائى الأدبى لكاتبنا أشرف التعلبى، وقد أصدر قبلها رواية أخرى كما أن لديه مجموعة قصصية، وهذا يعنى أننا بإزاء رغبة فى أن يواصل هذا الطريق، وقد سبقه إلى ذلك صحفيون كبار مثل فتحى غانم وإحسان عبدالقدوس وجمال الغيطانى وخيرى شلبى وغيرهم، العمل الصحفى يهتم، بالتفاصيل الدقيقة، وهكذا الرواية أيضًا.أشرف التعلبى مؤهل لأن يقدم لنا إنجازًا روائيًا معتبرًا فى قادم السنوات.. المهم أن يحافظ على موهبته ودأبه وإصراره.