بقلم: أشرف التعلبي
يا أرض أندلسَ الخضراءَ حيّينا
لعلّ روحاً من الحمراءِ تُحيينا
فيكِ الذخائرُ والأعلاقُ باقية
من الملوكِ الطريدينَ الشّريدينا
منّا السلامُ على ما فيكِ من رممٍ
ومن قبورٍ وأطلالٍ تصابينا
لقد أضعناكِ في أيامِ شَقوَتِنا
ولا نَزالُ محبّيكِ المشوقينا..
من ديوان الشاعر اللبناني أبوالفضل الوليد.
لم أسافر إلى أوروبا من قبل، رغم محاولاتي الكثيرة طوال السنوات الماضية، كأن الأقدر أجلت تلك الزيارة لتواكب موعد معرض القاهرة الدولي للكتاب التي انتهت فعالياته منذ أيام، حينما قررت السفر برفقة الكاتبة مي مجدي عبد الحكيم، من خلال كتابها البديع "أول مرة في أوروبا" الصادر عن بيت الياسمين للنشر والتوزيع، الذي ينتمي إلى أدب الرحلات، لتأخذنا في جولة ممتعة ومسلية في مدن وشوارع إسبانيا، كأنها تقيم في "قرطبة" منذ ولادتها، رغم أنها الزيارة الأولى لها.
والأدب العربي بالتحديد يذخر بالكثير من المؤلفات التي وثقت عشرات من الرحلات والأسفار، وعلى رأسهم الرحالة المغربي الشهير "ابن بطوطة" الذي ترك لنا كنزًا ثمينًا، كتابه "تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار"، وأيضًا كتاب "تخليص الإبريز في تلخيص باريز" الذي ألفه رفاعة الطهطاوي رائد التنوير في العصر الحديث، و علامة بارزة من علامات التاريخ الثقافي المصري والعربي الحديث، إضافة إلى كتاب "رحلة إلى أوروبا" الذي ألفه مؤسس دار الهلال الكاتب جرجي زيدان، الذي نقل الأحوال العمرانية والحضارية في كلٍ من فرنسا وبريطانيا وسويسرا لينقلها للقارئ العربي بكل ما بها من مميزات وعيوب.
تسعى الكاتبة الشابة إلى انتهاج هذا النوع من الأدب، رغم تراجعه في السنوات الأخيرة، ومحاولاتها هذه تستحق النظر لأنها وثقَّت رحلتها بأحدث الأساليب التكنولوجيا، وهي تستقي المعلومات والحقائق من المشاهدة الحية، أو عبر التصوير المباشر، مما يجعل قراءتها غنية بالتفاصيل.
عندما بدأت "مي مجدي" في تدوين رحلتها لم تكن تخطط مطلقًا لجعلها كتابًا، فقط كانت تبحث عن وسيلة لتوثيق لحظات مميزة مرت عليها خلال زيارتي الأولي لأوروبا عبر إسبانيا، التي قضت فيها عشرون يومًا وهي تتنقل من المدينة الساحرة إشبيلية عاصمة الأندلس، إلى غرناطة، آخر عاصمة للحكم الإسلامي في إسبانيا، والتي تعطيك فرصة السفر إلى الماضي دون آلة زمن، حتى قال عنها أحد الكتاب: "من لم يزر غرناطة مات أعمى"، ثم تصل بجولتها إلى قرطبة أجمل المدن الإسبانية.
وما بين دخول العرب إلى إقليم الأندلس وخروجهم منه ثمانية قرون كاملة، من عام 93هـ حتى عام 897هـ، وهذا يعني أن حكم المسلمين استمر حوالي 8 قرون، ولدت على أرضها حضارة عربية إسلامية تفوق الوصف من حيث الإبداع الثقافي والعمراني الذي ما زالت شواهده باقية حتى اليوم، ويكفي النظر إلى المسجد الجامع في قرطبة أو إلى قصور الحمراء في غرناطة، لتتأكد بنفسك أن الحضارة الإسلامية تركت بصمة تاريخية في إسبانيا، وآثارها الباقية تخلد أمجادهم على مر العصور.
في مقدمة كتابها قالت مي مجدي: "لعل أكثر سؤال شغلني عندما شرعت في الكتابة ماذا سيستفيد من يقرأ هذا الكلام؟ جاءتني إجابة أحد الأصدقاء مطمئنة: "يكفينا الأنس الذي تقدمه لنا هذه الحكايات"، أتمنى أن يؤنس هذا الكتاب قلبك- تقصد قلب القارئ- ويرسم ابتسامة على وجهك، ويترك لك ذكرى محببة تعيدك إليه في لحظة ملل من الحياة".
والسياحة كما تقول الكاتبة الراحلة "نوال السعداوي": ليست ركوبَ طائرات وزيارةَ متاحف والنومَ والأكلَ في الفنادق الفاخرة، السياحة هي التجوُّل على الأقدام في الشوارع والحواري المُتربة لاكتشاف النفس البشرية، ومُعايَشة لعادات الشعوب، لمعرفة آلامهم وأحلامهم وانكساراتهم.
وهو ما فعلته بالضبط كاتبة "أول مرة في أوروبا" من خلال استخدامها الحافلات كوسيلة نقل دائمة لها، بالإضافة إلى إقامتها في كل المدن التي زارتها في "الهوستل" أو البنسيون كما نطلق عليه، لتتشارك في سرير من دورين برفقة 8 فتيات في الغرفة، هن من دول مختلفة لتتعرف على العالم كله من "الهوستل".
بدأت رحلتها من مدينة مولينا جنوبي إسبانيا، لحضور ملتقى "جامعة الشباب والتنمية" وهو ملتقى شبابي يستمر 10 أيام، ويشارك فيه الشباب من دول حوض البحر المتوسط أي التي تطل على البحر المتوسط من أجل تبادل الخبرات والثقافات وإيجاد روابط بين شباب تلك الدول.
خلال الملتقى سجلت حلقة على قناتها على موقع "اليوتيوب" مع 13 شابًا من جنسيات مختلفة، لتستطلع آراءهم حول معدل القراءة وهل يقرؤون أم لا، وهو سؤال اعتادت أن تطرحه في مصر، وقلما تجد شخصًا يقرأ بانتظام في الوطن العربي كله، لتكتشف أن سؤالها في غير محلة أن كل المشاركين يقرؤون كثيرًا وبشكل منتظم في حياتهم.. يا ليت كل الشباب العربي يقرأ بانتظام في مختلف العلوم والفنون، فالقراءة غذاء العقول وبدونه سنقلد دون وعي أو إدراك.
حرصت الكاتبة على زيارة قصر إشبيلية الملكي الذي بني في عهد المسلمين، وكاتدرائية إشبيلية صاحب البرج الأشهر "جيرالدا" وفي الأصل كانت مئذنة مسجد إشبيلية الكبير، ولم يكن هدفها زيارة الأماكن السياحية، لكن ما كان يشغل بالها أن تتعرف على الناس وعاداتهم وثقافتهم، فوثقت في كتابها تقاليد الزواج الغريبة وأعياد القديسين والأطعمة.
ومن الأمور اللافتة في زيارتها لإشبيلية أن يوم الإثنين من كل أسبوع تُفتح أغلب الأماكن السياحية والأثرية مجانا للزيارة، واستفادت هي من هذه المجانية في زيارة برج الذهب الذي يطل على نهر الوادي الكبير، لتؤكد مقولة أنك في أوروبا لا تحتاج إلى دفع أموال طائلة لترفه عن نفسك، فقط أذهب إلى أي ميدان عام، كذلك لم تغفل الكاتبة الإعلان الموضوع على دولاب المطبخ بالهوستل، والمدون فيه "خذ ما تحتاج إليه واترك ما لا تريد، ولا يشترط أن تترك شيئًا لتأخذ بدلًا منه، يمكنك أن تأخذ ببساطة ما تحتاج إليه".
في قرطبة المدينة الصغيرة الهادئة ساعدها فيرناندو الشجاع للوصول إلى الهوستل، الذي زارت منه المسجد الكاتدرائية، وهو مكان في غاية الغرابة لأنه خليط من العمارة الإسلامية والمسيحية معًا، حيث القباب المقوسة والتشكيلات الطبيعية والهندسية الإسلامية، بالإضافة إلى صور ورسومات القديسين، ويجذب ما يزيد على مليون ونصف المليون سائح سنويًا.
بينما في غرناطة دونت في يومياتها الزواج على الطريقة الغرناطية، بتقاليعه الغريبة بداية مما يسمونه حفلات العزوبية بأن يرتدي الشاب ملابس فتاة ويبدو بشكل بهلواني ثم يتجول موكب العُرس في الشارع لساعات طويلة من أجل أن يحتفل به الأصدقاء قبل دخول قفص الزوجية.
يقول الشاعر نزار قباني:
في مدخل الحمراء كان لقاؤنا.. ما أطـيب اللقـيا بلا ميعاد
عينان سوداوان في حجريهم.. تتوالـد الأبعاد مـن أبعـاد
هل أنت إسبانية؟ ساءلـتها.. قالت: وفي غـرناطة ميلادي
غرناطة؟ وصحت قرون سبعة.. في تينـك العينين.. بعد رقاد
وأمـية راياتـها مرفوعـة.. وجيـادها موصـولة بجيـاد
ما أغرب التاريخ كيف أعادني.. لحفيـدة سـمراء من أحفادي.
لتغوص بنا الكاتبة من هذه الكلمات في عظمة العمارة الإسلامية من خلال وصفها "قصر الحمراء" المحتفظ بجماله ورونقه وألوانه حتى اليوم، إذ لا يخلو جدار واحد داخل الحمراء من نقش لعبارة "لا غالب إلا الله".
وتوقفت كثيرا أمام نظرات الناس الغريبة لحجاب الكاتبة خلال جولاتها المتعددة، كأنهم اتفقوا على تلك النظرة المريبة، لدرجة دفعت الكاتبة لسؤال أحدهن، فكان الرد عليها أن الناس هنا يعتقدون أن أي سيدة محجبة هي مقهورة ومجبرة على ارتداء الحجاب من رجل في حياتها أبيها أو زوجها، ورغم سذاجة الاعتقاد لكنه ساعد الكاتبة على فهم النظرات الكثيرة.
هكذا سجلت الكاتبة مي مجدي بلغتها البسيطة يومياتها في إسبانيا من خلال كتابها الثاني "أول مرة في أوروبا" بعد كتابها الأول "اليوتيوبرز"، وهي صاحبة قناة "من الآخر" على موقع اليوتيوب لمراجعة الكتب والتشجيع على القراءة
<!--<!--<!--<!--