إعادة قراءة واقعة بني قريظة (2-2)
(هندسة شبرا)

أ. د. لطفى رابح جمعة

- حول نصيحة كعب بن أسد ومشورة أبي لبابة:
       يذكر إبن هشام في سيرته، أن سيد بني قريظة كعب بن أسد عرض على يهود قريظة (خلال فترة حصار المسلمين لهم) ثلاثة بدائل:
•     تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم كنبي مرسل والدخول في الإسلام والنجاة بأنفسهم.
•     أن يقتلوا أبناءهم ونساءهم ويقاتلوا المسلمين حتى تقول السيوف كلمتها الأخيرة.
•     أن يأخذوا المسلمين على غرة لأنها كانت ليلة سبت ويعتقد المسلمون أن اليهود لن يحاربوا يوم السبت بطبيعة الحال، طبقا لشريعتهم، فيتحقق عنصر المباغتة.
لكن اليهود رفضوا هذه المقترحات وطلبوا "أبا لبابة" (و هو هارون بن عبد المنذر) الأوسي ليستشيروه، فأشار إليهم أبو لبابة بيده إلى حلقه إشارة تعني أن عقابهم سيكون الذبح !!
فقال أبو لبابة:
       " فوالله ما زالت قدماي من مكانهما حتى عرفت اني قد خنت الله ورسوله صلى الله عليه وسلم."
و كما نعرف فقد وافق اليهود على حكم الرسول صلى الله عليه وسلم.
       لنتأمل أول الحلول المطروحة من كعب بن أسد على قومه عندما قال لهم:
       " يا معشر يهود ، قد نزل بكم من الأمر ما ترون، وإني عارض عليكم خلالا ثلاثا، فخذوا أيها شئتم؛ قالوا‏:‏ وما هي‏؟‏ قال‏:‏ نتابع هذا الرجل ونصدقه، فوالله لقد تبين لكم أنه لنبي مرسل، وأنه للذي تجدونه في كتابكم، فتأمنون على دمائكم وأموالكم وأبنائكم ونسائكم؛ قالوا‏:‏ لا نفارق حكم التوراة أبدا، ولا نستبدل به غيره".
       معنى هذا أن اليهود كانوا يعرفون أن الرسول صلى الله عليه وسلم على حق وصدق ورغم هذا فإنهم في عشية مقتلهم رفضوا أن يقبلوه!! طبعا، سذاجة هذا الحل واضحة لأن " تبيُّن اليهود "صدق الرسول صلى الله عليه وسلم" وإصرارهم كلهم – رغم تبينهم – على الموت، يعني أن بني قريظة لا بد قد أصابها جنون الانتحار. فالبديهي هنا أن هذا الحل سيكون مرفوضا مقدما، لذلك يرى البعض  أن ابن إسحاق قد أضاف من عنده "لقد تبين لكم" على لسان كعب إبن أسد.
       أما الإقتراح الثاني بأن يقتل اليهود نساءهم وأبناءهم ويحاربوا، فهو إقتراح غير مقبول سلفا لأن شريعة اليهود تُحَرِّم عليهم أن يقتلوا أنفسهم؛ لأن محافظة الإنسان على حياته تعتبر عند اليهود مهمة لأقصى درجة ويُحظر على اليهودي أن يُضحي بنفسه. وتاريخ الإضطهاد الديني لليهود يؤكد ذلك، فقد أمر إمبراطور بيزنطة سنة 723 ميلادية يهود آسيا الصغرى بإعتناق المسيحية وإلا تعرضوا لأشد أنواع العقاب، فأطاع كثير من اليهود هذا الأمر " وكانوا يرون أن العاصفة لن تلبث أن تهدأ وأنه سيسمح لهم بالعودة إلى اليهودية" . وقبل ذلك في سنة 654 ميلادية، قَبِلَ يهود طليطلة إعتناق المسيحية  في ظروف مماثلة.
       لذلك نعتقد إعتقادا راسخا أن أحبار بني قريظة كانوا سيعارضون هذا الإقتراح الثاني حيث أنه لا يتفق مع شرعة اليهود ولا مع ممارستهم المعهودة في مثل هذه الأحوال، لذلك فهو إقتراح عار من كل منطق، ولا يمكن أن يتفوه به كعب بن أسد زعيم قريظة وهو على يقين بأنه سيُرفض بالقطع.
أما عن الإقتراح الثالث، فطبقا لرواية ابن إسحاق قال كعب لقومه:
       "فإن الليلة ليلة السبت، وأنه عسى أن يكون محمد وأصحابه قد أمنونا فيها، فانزلوا لعلنا نُصيب من محمد وأصحابه غرة؛ قالوا‏:‏ نفسد سبتنا علينا، ونحُدث فيه ما لم يحدث مَنْ كان قبلنا إلا من قد علمت، فأصابه ما لم يخف عليك من المسخ‏!‏ قال‏:‏ ما بات رجل منكم منذ ولدته أمه ليلة واحدة من الدهر حازما ".
       هذه الإجابة إن كشفت عن شيئ فإنها تكشف عن سطحية الطريقة التي يعالج بها علماء المسلمين مسائل اليهودية. فهناك قاعدة شرعية عند اليهود منذ ثورة المكابيين (157-135 قبل الميلاد) مفادها أن " الحفاظ على الحياة أهم من مراعاة السبت "، وأن " من المسموح به خرق كل قوانين السبت أو حتى يوم الكفارة من أجل الواجب المقدس: واجب الحفاظ على الحياة ".
       لذلك إستنكر " مارجوليوث "  تقصير العلماء المسلمين فيما يتعلق باليهود قائلا:
       " إن جامعي الحديث ومفسري القرآن يظهرون جهلا ذريعا فيما يتعلق بالدور الذي لعبه اليهود".
       رغم أن كلام مارجوليوث فيه عنف وتحامل واضح، إلا أن المرء يندهش فعلا من استساغة علماء المسلمين فكرة تمسك أحبار ويهود بني قريظة بمسألة السبت وهم في خضم موقف فاصل بين الحياة والموت، إذ لا يُعقل أن يغيب عن علماء المسلمين أن شريعة اليهود تضع دائما وأبدا الحفاظ على الحياة فوق كل إعتبار!
       و على هذا الأساس، لا يمكن لأي منطق قبول رد اليهود على كعب بحرمانية الدفاع عن أنفسهم يوم السبت خشية أن يمسخوا قردة!
       و بمناسبة ذكر المسخ، نقول أن كثير من مفسري القرآن الكريم كانوا يرون أن المقصود بالمسخ هو قصد مجازي يفيد بأن اليهود أصبحوا أذلة صاغرين. يذكر إبن كثير عن بعض كبار المفسرين مثل مجاهد بن جبر ( المتوفى سنة 102ه، وهو واحد من أهم المفسرين، وكان تابعيا) قوله:
"مسخت قلوبهم ولم يمسخوا قردة. إنما هو مثل ضربه الله كمثل الحمار يحمل أسفارا". 
       من كل ما ذكرناه، نخلص إلى محصلة منطقية وهي أن الحلول أو البدائل التي إقترحها كعب بن أسد على بني قريظة عشية استسلامهم قد حُرِّفت أو أنها تَصَوُّر لما يمكن أن يكون قد حدث وهذا التصور غير مقبول للأسباب التي ذكرناها آنفا. ونحن نعتقد ذلك، لأن الواقدي أعطى صيغة أطول لإقتراحات كعب وأدخل عليها تغييرات لتحسينها. أما إبن أسعد فيبدو أنه "أدرك"، بقليل من الوعي التاريخي، إستحالة مثل هذه الإقتراحات فأسقطها برمتها من روايته في كتابه "الطبقات"!!.
       أما عن إستشارة بني قريظة لأبي لبابة ورده عليهم بالإشارة بيده بما يوحي بأنهم سيُذبحون، فقد أورد إبن هشام (و ليس ابن إسحاق) آيتين عن زلة لسان أبي لبابة للإستشهاد بهما، وهما: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ" (الأنفال، آية 27)، و: " وَآَخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآَخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ " (التوبة، آية 102).يقول إبن هشام أنها نزلت في توبة الله على أبي لبابة.
بالنسبة لأول آية (الأنفال، 27)، ففي أسباب نزولها أقوال كثيرة:
•     الواحدي، في كتابه "الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، الجزء الثالث"، يقول:           
 " يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله "بترك فرائضه" والرسول "بترك سنته" وتخونوا  " أي: ولا تخونوا " أماناتكم "و هي كل ما ائتمن الله عليها العباد، وكل أحد مؤتمن على ما افترض الله عليه" وأنتم تعلمون "أنها أمانة من غير شبهة" . وقيل: نزلت هذه الآية في أبي لبابة حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم  إلى قريظة لما حاصرهم ".
•     أما الطبري فيقول في تفسيره (الجزء الثالث):
       " خرج أبو سفيان من مكة، فأتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إن أبا سفيان في مكان كذا وكذا. فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه: إن أبا سفيان في مكان كذا وكذا، فاخرجوا إليه، واكتموا. قال: فكتب رجل من المنافقين (حاطب بن أبي بلتعة) إليه: " إن محمدا يريدكم، فخذوا حذركم ". فأنزل الله: " لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون ".
و في موضع آخر من تفسيره، يقول الطبري (في نفس الجزء الثالث) أن هذه الآية قيل أنها نزلت في أبي لبابة؛ وخلص في النهاية إلى أن أصوب الآراء في ذلك الشأن هو أنها آية عامة تنهى عن خيانة الله ورسوله وخيانة الأمانة وجائز أن تكون نزلت في أبي لبابة أو غيره.
•     أما البغوي فيقول في تفسيره (الجزء الثالث):
       " وقال ابن عباس: لا تخونوا الله بترك فرائضه والرسول بترك سنته وتخونوا أمانتكم وهي ما يخفى عن أعين الناس من فرائض الله، والأعمال التي ائتمن الله عليها عباده.
•     أما الشوكاني فقد أورد في كتابه "تفسير فتح القدير" (الجزء الثالث) نفس تفسير إبن عباس، كما ذكر أيضا واقعة أبي لبابة وواقعة المنافق الذي أفشى ما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم.
•     كذلك عبد الرحمن بن أبي بكر يقول في كتابه "لباب النقول في أسباب النزول" نفس قول الشوكاني.
بالنسبة للآية الثانية (التوبة، 102):
       فلا علاقة لها بتوبة الله على أبي لبابة، لأنها نزلت بعد غزوة تبوك في شأن المؤمنين الذين تخلفوا عن الغزوة دون إذن من الرسول صلى الله عليه وسلم (الشوكاني، فتح القدير، الجزء الثالث)، و(تفسير البغوي، الجزء الثالث)، و(تفسير البيضاوي، الجزء الثالث)، و(تفسير القرطبي، الجزء الثامن)، و(تفسير الطبري، الجزء الثالث).
       و بعض المفسرين قالوا أن أبا لبابة كان ضمن من أوثقوا أنفسهم في المسجد النبوي لما ندموا بسبب تخلفهم عن غزوة تبوك، وهذا لا يعني أن هذه الآية نزلت في أبي لبابة كإشارة لقبول توبته بسبب ما بدر منه مع بني قريظة.
5- تناقضات في ما "قبل" الحكم على بني قريظة:
       في نزول بني قريظة على حكم سعد بن معاذ، أعطى البخاري رواية تتعارض مع رواية مسلم. يقول البخاري  عن أبي سعيد الخدري: " نزل أهل قريظة على حكم  سعد بن معاذ، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إلى سعد فأتى على حمار، فلما دنا من المسجد قال للأنصار: "قوموا إلى سيدكم، أو خيركم". فقال: " هؤلاء نزلوا على حكمك" . فقال: تقتل مقاتلتهم، وتسبي ذراريهم، قال: " قضيت بحكم الله" . وربما قال: بحكم الملك ".
بينما مسلم يقول، نقلا عن حديث لعائشة رضي الله عنها بأنهم نزلوا على حكم رسول
الله صلى الله عليه وسلم الذي رد الحكم فيهم إلى سعد:
       "... فقاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فنزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم. فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم الحكم فيهم إلى سعد. قال: فإني أحكم فيهم أن تقتل المقاتلة، وأن تسبى الذرية والنساء، وتقسم أموالهم ".
في رواية البخاري نجد أن بني قريظة قد نزلوا على حكم سعد، بينما في رواية مسلم نجد أنهم نزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رد الحكم فيهم إلى سعد.
       في الواقع، هناك عدة تناقضات في رواية ابن إسحاق، سنبدأ بعرضها في محاولة لإستجلاء الحقيقة. أول هذه التناقضات هو:
          العقوبة التي فرضها أبو لبابة على نفسه:
لما بدرت منه إشارة بيده إلى حلقه أثناء كلامه مع قريظة أدرك أنه  أخطأ وخان الرسول صلى الله عليه وسلم فربط نفسه في المسجد. حدوث ذلك "قبل أن يُحكَّم ويُبَت في شأن قريظة"، أعطى إنطباعا بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد إتخذ قرارا مسبقا – حاشا الله – بشأن قريظة وأن أبا لبابة قد علم به، فلما أفشاه فرض على نفسه العقوبة.
  تحكيم سعد بن معاذ:
قبل تحكيم سعد وأثناء واقعة الخندق، ذهب سعد بن معاذ مع سعد بن عبادة رضي الله تعالى عنهما – بناءً على أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم - إلى قريظة ليستطلع أمرهم، فأخبروه أنهم نقضوا عهدهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم و"شاتمهم وشاتموه". وكان سعد بن معاذ رضي الله عنه، رجل فيه حدة. فتمنى سعد أن يمتد به العمر حتى ينتقم من خيانة بني قريظة. وقبل أن يحكم سعد، سأله الأوس أن يترفق ويحسن إلى بني قريظة؛ ولما أكثرت عليه الأوس في السؤال قال أنه لن تأخذه في الله لومة لائم. ولما سمع بذلك بعض الأوس، ذهبوا إلى دار بني عبد الأشهل (بطن الأوس التي ينتمي إليها سعد) ينعون موت بني قريظة مقدما. كل هذا "قبل الحكم"! ورغم ذلك فإن سعدا يستكمل مهمته ويذهب للمسجد النبوي ويسأل الأوس هل يقبلون به كحكم "فيوافقون"! (مع أنه كان عندهم الفرصة للطعن في حياد سعد لأنه سبق أن توعدهم قائلا "لقد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم") ويسأل سعد الرسول صلى الله عليه وسلم (و هو لا ينظر إليه إجلالا له صلى الله عليه وسلم) فيوافق الرسول صلى الله عليه وسلم. ثم يصدر سعد الحكم... إذا قبلنا هذا الكلام، فهذا يعني أن:
قريظة قد قبلت بحكم من شاتموه وشاتمهم وتوعدهم فكأنهم يدعونه للحكم عليهم بالإعدام ويسلمونه رقابهم بمنتهى الطواعية!
       النعى المسبق لبني قريظة في دار بني عبد الأشهل يعني أن حكم سعد كان معدا مسبقا، حاشا الله والعياذ بالله!
لذلك تشكك كثير من المؤرخين أمثال "كايتاني"  في كل الرواية المتعلقة بموافقة بني قريظة على سعد كحَكم.
       كذلك فإن إبن سعد - في "الطبقات"- أسقط شفاعة الأوس عن بني قريظة إسقاطا تاما، ولكنه أشار إلى دعاء سعد بن معاذ بأن يمتد به العمر حتى يشفي صدره من بني قريظة. كما أسقط إبن سعد ما رواه ابن إسحاق والواقدي قول سعد بن معاذ: "لقد أنى لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم"، كما أسقط طلب سعد عهد وميثاق من الأوس والرسول صلى الله عليه وسلم لقبولهما حكمه.
       نخلص من هذا الكلام إلى أن موافقة بني قريظة على سعد كحَكَم شيئ يأباه المنطق بالصورة التي وردت على نحو ما ذُكر في كتب السيرة. كما أن العقوبة التي أنزلها أبو لبابة على نفسه لا تناسب السياق كما أوضحنا.
       هذا لا يعني بأي حال من الأحوال أن سعدا لم يقم بالتحكيم، فالرسول صلى الله عليه وسلم لما وصل المدينة مهاجرا من مكة، وضع قواعد لتنظيم العلاقة بين المسلمين بعضهم وبعض وبين المسلمين وغير المسلمين، وهذه القواعد كانت بمثابة قوانين تحكم تعاملات أهل المدينة. وقد كُتبت هذه القواعد في صحيفة، عرفت باسم صحيفة المدينة16 أو صحيفة الموادعة. ومن بنود هذه الصحيفة:
       " وأن المؤمنين المتقين، أيديهم على كل من بغى منهم، أو ابتغى دسيعة  ظلم، 
      أو إثما، أو عدوانا، أو فسادا بين المؤمنين، وأن أيديهم عليه جميعا، ولو كان ولد
      أحدهم ".
فكان يُعاقب من أجرم بواسطة أقاربه لأن هذا من شأنه أن يمنع وقوع الحروب والثأر بين القبائل. لذلك، كان من الطبيعي أن يتولى محاكمة بني قريظة رجل من الأوس. كما أن هناك وقائع أخرى تؤكد ذلك، فمثلا سلكان بن سلامة بن وقش الذي شارك محمد بن مسلمة في قتل كعب بن الأشرف كان أخا لكعب في الرضاعة.
6- تناقضات في ما بعد الحكم:
       لا شك أن الإجابة على هذا التساؤل ستتطلب مجهودا وتدقيقا وتمحيصا كبيرا، فعدد الذين ضُربت أعناقهم من المقاتلة يتراوح بين 600 و900 رجل من بني قريظة.
لننظر أولا إلى رواية ابن إسحاق، الذي قال في هذا الصدد:
‏       "ثم استنزلوا (أي بني قريظة الذين كانوا محاصرين)، فحبسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة في دار بنت الحارث، امرأة من بني النجار، ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سوق المدينة، التي هي سوقها اليوم، فخندق بها خنادق، ثم بعث إليهم، فضرب أعناقهم في تلك الخنادق، يخرج بهم إليه أرسالا، وفيهم عدو الله حيي بن أخطب، وكعب بن أسد، رأس القوم، وهم ستمائة أو سبعمائة، والمكثِّر لهم يقول‏:‏ كانوا بين الثمانمائة والتسعمائة .و قد قالوا لكعب بن أسد، وهم يُذهب بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسالا‏:‏ يا كعب، ما تراه يصنع بنا ‏؟‏ قال‏:‏ أفي كل موطن لا تعقلون‏؟‏ ألا ترون الداعي لا ينزع، وأنه من ذُهب به منكم لا يرجع‏؟‏ هو والله القتل‏!‏ فلم يزل ذلك الدأب حتى فرغ منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم".
لنتأمل قليلا هذه المشاهد:
       كان عدد من قُتل يتراوح بين 600 و900 رجل، فإذا قمنا باستقراء إحصائي وافترضنا أن كل أسرة تتكون من ستة إلى سبعة أشخاص (في المتوسط) فإن متوسط عدد الأسرى الذين استنزلوا سوف يتراوح بين 3900 و5800 شخص من الرجال والنساء والأطفال. هؤلاء حُبسوا في دار بنت الحارث.
ألا يُعتبر حبس قرابة أربعة آلاف إلى ستة آلاف شخص دفعة واحدة عملية صعبة وتكاد تكون مستحيلة واقعيا في زمننا هذا ؟ رغم توافر الشرطة وكثرة السجون! هل كان في المدينة ترتيبات أمنية على درجة عالية تسمح بحبس هذا العدد في "دار"! كم كان يلزم من الحبال والقيود لهؤلاء حتى لا يهربوا؟ أم أنهم كانوا وديعين إلى درجة أنه لم يحاول أي واحد منهم أن يهرب؟ من كان يريد قضاء حاجته، هل كانوا يطلقونه بلا حراسة على وعد أن يعود بعد ذلك (دون أن يفكر في أو يحاول الهرب)؟ أم كانوا يرسلون حراسا لمراقبة من كان يريد قضاء حاجته في الصحراء حتى ينتهي ويعودوا به؟ هل قُدم طعام يكفي هذا العدد الكبير من الأسرى؟ طبقا لرواية ابن إسحاق نستنتج أن المسلمين لم يلقوا أي صعوبات في حبس هذا العدد الكبير في يوم واحد! في حين أن أعتى الدول البوليسية - في زمننا هذا- كانت ستواجه صعوبة بالغة لو حاولت عمل ذلك!
تساؤل قريظة لكعب ما تراه يصنع بنا ‏؟‏، يدل على أن هؤلاء الأسرى كانوا لا يعرفون "فعلا" حكم سعد بن معاذ فيهم. أم أنهم لا يعقلون فعلا!!! كما هو واضح من الرد الساخر لزعيمهم كعب؟ فإذا كانوا لا يعقلون؛ فهل المرأة اليهودية التي كانت مع أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أعقل من قومها الذين كانوا يُقتلون وهي "تضحك"!! رغم علمها بأنها ستقتل! فأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت في شأن تلك المرأة:
" فوالله ما أنسى عجبا منها: طيب نفسها، وكثرة ضحكها وقد عرفت أنها تُقتل" ! هل هذه المرأة اليهودية بلهاء أم شجاعة ورابطة الجأش وأعقل من قومها البلهاء الذين يتساءلون عما سيحل بهم وهم يرون أن "الداعي لا ينزع"!
          الزبير بن باطا:
       موقفه - في الحقيقة - مثير جدا وجدير بالنظر فعلا، ففي حرب بُعاث وقع ثابت بن قيس بن الشماس أسيرا، وقد مَنَّ عليه الزبير بن باطا فأطلق سراحه. ثم أسلم ثابت وظَلَّ حافظا لصنيع الزبير بن باطا معه حتى وقعت واقعة بني قريظة؛ يقول ابن إسحاق:
       " ثم أتى ثابت بن قيس رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ يا رسول الله، إنه قد كانت للزبير عليّ مِنَّة، وقد أحببت أن أجزيه بها، فهب لي دمه؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ هو لك؛ فأتاه فقال‏:‏ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وهب لي دمك، فهو لك؛ قال‏:‏ شيخ كبير لا أهل له ولا ولد، فما يصنع بالحياة ‏؟‏ فأتى ثابت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ بأبي أنت وأمي يا رسول الله، هب لي إمرأته وولده؛ قال‏:‏ هم لك‏.‏ قال‏:‏ فأتاه فقال‏:‏ قد وهب لي رسول الله صلى الله عليه وسلم أهلك وولدك ، فهم لك؛ قال‏:‏ أهل بيت بالحجاز لا مال لهم، فما بقاؤهم على ذلك ‏؟‏
فأتى ثابت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال‏:‏ يا رسول الله، ماله؛ قال‏:‏ هو لك‏.‏ فأتاه ثابت فقال‏:‏ قد أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم مالك، فهو لك ‏.‏
       قال الزبير بن باطا‏:
       أي ثابت، ما فعل الذي كأن وجهه مرآة صينية يتراءى فيها عذارى الحي، كعب بن أسد‏؟‏ قال‏:‏ قُتل؛ قال‏:‏ فما فعل سيد الحاضر والبادي حيي بن أخطب‏؟‏ قال‏:‏ قُتل؛ قال‏:‏ فما فعل مقدمتنا إذا شددنا، وحاميتنا إذا فررنا، عزَّال بن سموأل ‏؟‏ قال‏:‏ قُتل؛ قال‏:‏ فما فعل المجلسان‏؟‏ يعني بني كعب بن قريظة وبني عمرو بن قريظة؛ قال‏:‏ ذهبوا قتلوا؛ قال‏:‏ فإني أسألك يا ثابت بيدي عندك إلا ألحقتني بالقوم، فوالله ما في العيش بعد هؤلاء من خير، فما أنا بصابر لله فتلة دلو ناضح حتى ألقى الأحبة‏.‏ فقدمه ثابت، فضرب عنقه‏".
       لنتوقف هنا قليلا:
       يهودي كان من المفروض أن يُقتل، ثم يجد مسلما يشفع له ويعرض عليه أن ينجو هو وماله وأهله، فيرفض هذا العرض المعجزة لأنه " لا يطيق فراق الأحبة " من قومه ويُفضل الموت ليلحق بأحبابه! أيُعقل هذا الكلام؟! هل هناك يهودي لا يُقدر قيمة الحياة ولا يتشبث بها بجنون كما هو معروف عن اليهود حبهم للحياة ؟ بل، هل هناك إنسان (ليس يهوديا بالضرورة) يُضحي بحياته لأنه لا يستطيب العيش بعد فراق أصدقائه وأحبابه؟ فما بالنا إذا كان هذا الإنسان يهوديا، مع علمنا بأنهم أحرص الخلق على حياتهم!! ثم، كيف يضمن إبن باطا أنه إذا قُتل فسيكون مع أحبابه بعد مقتله ؟!! (أم لعله كان متأكدا أن مأواه جهنم مع أحبابه الذين سبقوه)!
       تناقض صارخ في مسلك بني قريظة:
       إذا تأملنا رواية ابن إسحاق سنلاحظ أنه في بدايتها نرى بني قريظة وقد إرتعدت فرائصهم أثناء حصارهم ويحاولون تفادي الموت بأي ثمن وبأي وسيلة. أما في نهايتها فنراهم قوما أبطالا، في قمة الشجاعة الأسطورية وقد إرتضوا الموت مرفوعي الرأس ولم يتخاذل واحد من الرجال الستمائة أو التسعمائة ولا قَبل الإسلام حتى في ساعة الموت المحقق!! هذا السلوك من النقيض إلى نقيضه لبني قريظة ليس له أي تفسير منطقي مقبول: إذ كيف نفسر أن الأشخاص الذين جعلهم جبنهم يرفضون القتال يوم السبت، والذين طارت نفوسهم شعاعا بالرغم من تحصنهم في آطامهم العتيدة؛ أصبحوا فجأة أبطالا لديهم من الشجاعة الخرافية ما جعلهم كلهم بلا إستثناء يقبلون الموت بكبرياء وشموخ وأنفة وهم مرفوعي الرأس كالأبطال؟
          موقع تنفيذ الإعدام:
       حسب رواية ابن إسحاق:
" خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سوق المدينة، التي هي سوقها اليوم، فخندق بها خنادق، ثم بعث إليهم، فضرب أعناقهم في تلك الخنادق، يخرج بهم إليه أرسالا".
هنا أيضا لنا أن نتساءل: كان بنو قريظة على بعد ست أو سبع ساعات مشيا على الأقدام من المدينة فاستنزلوا وحبسوا في دار بنت الحارث في المدينة. ألم يكن من الأسهل وأكثر منطقا، بل وأكثر فاعلية وكفالة للأمن أن يُنفذ الإعدام خارج حصونهم مباشرة، وألا يستنزل إلى المدينة سوى النساء والأطفال. فإذا كان هناك ضرورة قصوى وحتمية (لا ندري ما هي؟) لإحضار الأسرى للمدينة، فإننا لا نرى أي داع لحفر خندق آخر في وسط المدينة لدفن المقتولين فيه لأنه كان هناك خندق محفور على حدود المدينة قبل شهر من واقعة بني قريظة، وقت محاصرة قريش للمسلمين في موقعة الأحزاب. فالعقل والمنطق يقولان بأن إستخدام خندق محفور في مكان مناسب (بعيد عن المناطق العامرة) يُغني عن حفر خندق جديد في وسط المدينة!
وهناك ملاحظة أخطر:
و هي أن جثث ستمائة إلى تسعمائة قتيل مدفونين في قلب المدينة كانت ستسبب إنتشار جراثيم وبكتيريا التحلل والتعفن بعد الموت على نطاق واسع مما يعرض أهل المدينة لخطر الإصابة بأمراض خطرة كالإلتهاب السحائي والتيفود والتيفوس، لاسيما أن عدوى هذه الأمراض تنتقل بواسطة الحيوانات والطيور إذا نهشت هذه الجثث؛ حتى الذباب كفيل بنقل العدوى. عموما، التخلص من جثث القتلى بأعداد كبيرة كان يسبب مشاكل كبيرة حتى في أعتى الدول في عصرنا الحديث؛ مثل ألمانيا النازية التي كانت تستخدم عقار سيانيد الهيدروجين القاتل الفتاك ، مع الأخذ في الإعتبار أن الإحتياطات التي تتخذ في مدينة مهجورة عاث فيها الجيش النازي فسادا تختلف تماما عن الإحتياطات الواجب إتخاذها في قلب مدينة مأهولة!
       يقول المؤرخ "واط"  وهو بصدد مناقشة عملية القتل الجماعي لبني قريظة:
       " قد يبدو هذا شيئا يتعذر على الشخص الأوروبي تصديقه، ولكن هذا في حد ذاته يوضح البون الشاسع في الأخلاقيات بين الجزيرة العربية في العصور القديمة وبيننا".
7-  عقدة "ذنب الدماء":
       الجلادين وحفاري القبور ومتعهدي الجنازات الذين يتعاملون مع الأمور المتعلقة بالموت في حياتهم اليومية، يعتبرون أن مهنتهم مهنة شريفة وأخلاقية؛ ومع ذلك فإن معايشتهم المستمرة لأجواء الموت والجنازات تخلق عندهم معاناة تسمى في علم النفس عقدة "ذنب الدماء"  . وليس في مقدور أحد – كائنا من كان – أن يخرج من مذبحة أُزهقت فيها أرواح 600 إلى 900 شخص أعزل (ليسوا في ميدان قتال) في يوم واحد بأعصاب هادئة دون أن تهتز شخصيته (يقول الواقدي في "المغازي": "فكانت عائشة تقول: قُتلت بنو قريظة يومهم حتى قُتلوا بالليل على شُعل السعف!!).وما كان يمكن لإرث مذبحة لَقي فيها كل هذا العدد مصرعهم أن يترك عليا بن أبي طالب والزبير بن العوام يعيشان في سلام (لأن علي بن أبي طالب والزبير كانا مكلفين بتنفيذ حكم الإعدام حسب قول ابن إسحاق).
       و على جانب آخر: جميع خُطب ورسائل وأحاديث وحِكم علي بن أبي طالب كرم الله وجهه (التي جُمعت في "نهج البلاغة") خالية من أي ذكر لعملية القتل الجماعي لبني قريظة. ولا يمكن، كما تقول " لورا فيشيا فاجليري" ، تجاهل شخصية علي وسيكولوجيته. علي بن أبي طالب الذي لا يملك كتمان حزنه ويبكي الموتى بعد المعارك، لدرجة أنه كان يصلي على أعدائه33 !!
       لذلك، من وجهة نظر علم النفس، كان حتما سيظهر على علي بن أبي طالب والزبير عرض من أعراض الشخصية التي تعاني من "ذنب الدماء"، إلا أن هذا لم يحدث.
       يقول أحد كبار المؤرخين الفرنسيين "جورج لو فافر":
       " لكي نكتب التاريخ، لا بد أن نُحسن العد".
لا ريب أن ابن إسحاق والواقدي وإبن سعد لم تكن لديهم وسائل الإحصاء الحديثة ولم تتوفر لديهم سجلات أو شواهد غير مباشرة (فمثلا سِجِل من كانت تُدفع لهم معاشات شهرية من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم لم توجد إلا في عهد عمر رضي الله عنه)؛ لذلك لم تكن تحت أيديهم وسيلة تسمح بالتأكد من عدد من نُفذ فيهم حكم الإعدام.
       و لعل من أوضح النماذج التي توضح عدم توفر سجلات إحصائية هو التفاوت الكبير في الأعداد، فقد لاحظت المؤرخة "نابيه أبوت"  وهي بصدد مناقشة عدد شهداء المسلمين في غزوة بئر معونة (سنة 4 ه) أن ابن إسحاق (في سيرة إبن هشام الجزء الثالث) قال أن عدد الأشخاص الذين أرسلهم الرسول صلى الله عليه وسلم أربعين رجلا. في حين أن إبن حنبل (في مسنده) والبخاري (في صحيحه) قدرا هذا العدد بسبعين (و هو العدد المقبول على الأرجح).وعلى هذا يكون عدد من قتلوا من الصحابة في بئر معونة تسعة وستين غير أن الواقدي لم يذكر إلا ستة عشر. ولم يعط إبن سعد في "الطبقات" أية قائمة بأسماء من قتلوا في بئر معونة.
       و قد بذل المؤرخ الشهير "كيستر"  جهدا كبيرا فيما يتعلق ببئر معونة، ذلك أنه جمع كل ما هو موجود من روايات عن الحادث وحللها وتوصل إلى نتيجة مؤداها أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أرسل مجموعة تتكون من أربعة عشر صحابيا وأن أربعة آخرين إنضموا إليهم فيما بعد. ومن الملفت جدا للنظر أنه لا البخاري ولا مسلم رويا أي حديث عن "تنفيذ" حكم سعد بن معاذ "بصفة فعلية"، فهما لم ينقلا خبرا عن كيفية التنفيذ لأنهما، يقينا، لما يعرفا شيئا عن عدد من قُتلوا.
       كما أن رواية ابن إسحاق التي تقول أن سبايا بني قريظة من النساء والذراري قد أرسلوا إلى "نجد" ليُبتاع بهم خيل وسلاح تجافي العرف الذي كان متبعا، لأن اليهود كانوا دائما يشترون سباياهم بعد كل اشتباك مسلح. وكان يهود المدينة ذاتها وخيبر وبني النضير وتيماء ووادي القرى قادرين على شراء هذه السبايا ومن ثم لا داعي لإرسال هؤلاء السبايا بعيدا إلى نجد، فبيعهم في الحجاز أيسر؛ كما أنه لا يهم المسلمون بيع السبايا في نجد أو خيبر طالما أن المال المطلوب لشراء الخيل والسلاح يمكن الحصول عليه من البيع في أي مكان !!
       و نشير هنا إلى تضارب بين ابن إسحاق والواقدي الذي قال أن سبايا بني قريظة إشتراهم يهود الحجاز ولم يتم بيعهم في نجد!
من كل ما تقدم، نخلص إلى أن رواية ابن إسحاق للعقاب الموقع على بني قريظة بها قدر كبير من الأقوال المتناقضة بعضها مع بعض. وينطبق ذلك أيضا على ما أورده الواقدي وإبن سعد إلى حد كبير.
       لا ريب أنه بعد عرض هذه التناقضات ومناقشتها، نصل إلى التساؤل المنطقي: إذا لم تكن واقعة بني قريظة قد جرت مثلما ذُكر في معظم كتب السيرة، فماذا يمكن أن يكون قد حدث فعلا؟
8-  ماذا حدث فعلا ؟
       قد يكون من محاسن الصدف أن ابن إسحاق ترك بعض الإشارات المتفرقة قد تساعد في إعادة بناء الأحداث كما حدثت فعلا، على نحو ما سوف نذكر:
•     فالزعماء الكبار الذين قُتلوا، كانوا أربعة: حيي بن أخطب وكعب بن أسد ونباش بن قيس وغزَّال بن سمؤال (قتلوا بمعرفة الرسول صلى الله عليه وسلم بيد علي بن أبي طالب والزبير)، وفي ذلك يقول الواقدي في الجزء الثاني من المغازي:
" وأُتِيَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم بِكَعْبِ بْنِ أَسَدٍ مَجْمُوعَةٍ يَدَاهُ إلَى عُنُقِهِ، وكَانَ حَسَنَ الْوَجْهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "كَعْبُ بْنُ أَسَدٍ"؟ قَالَ كَعْبٌ: نَعَمْ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، قَالَ: "وَ مَا انْتَفَعْتُمْ بِنُصْحِ ابْنِ خِرَاشٍ وكَانَ مُصَدّقًا بِي، أَمَا أَمَرَكُمْ بِاتّبَاعِي، وإِنْ رَأَيْتُمُونِي تُقْرِئُونِي مِنْهُ السّلامَ"؟ قَالَ: بَلَى والتّوْرَاةِ يَا أَبَا الْقَاسِمِ، ولَوْلا أَنْ تُعَيّرَنِي الْيَهُودُ بِالْجَزَعِ مِنْ السّيْفِ لاتّبَعْتُك، ولَكِنّى عَلَى دِينِ الْيَهُودِ، قَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "قَدّمْهُ فَاضْرِبْ عُنُقَهُ"، فَقَدّمَهُ فَضَرَبَ عُنُقَهُ. فَحَدّثَنِى عُتْبَةُ بْنُ جَبِيرَةَ، عَنْ الْحُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَمْرِو بْنِ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ، قَالَ: لَمّا قَتَلَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم حُيَي بْنَ أَخْطَبَ، ونَبّاشَ بْنَ قَيْسٍ، وغَزّالَ بْنَ سَمَوْأَلٍ، وكَعْبَ بْنَ أَسَدٍ وَقَامَ، قَالَ لِسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ: عَلَيْك بِمَنْ بَقِىَ ".
       هنا يثور تساؤل مهم جدا: كيف يتأتى لسعد بن معاذ المصاب في غزوة الأحزاب إصابة بليغة (و الذي جاء للتحكيم محمولا لشدة إصابته!) أن يتولى إعدام الباقي حتى لو كانت مهمته مجرد الإشراف على تنفيذ الإعدام ؟!
•     و كان دأب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتولى تنفيذ أحكام الإعدام عضو من القبيلة المتحالفة مع قوم الجاني؛ ووفقا لسياسة الرسول صلى الله عليه وسلم، فقد سلَّم صغار زعماء بني قريظة إلى كل قبيلة أو بطن من الأوس: عبد الأشهل، حارثة، ظفر، معاوية، عمرو بن عوف وأمية بن زيد، وفي هذا يقول الواقدي في الجزء الثاني من "المغازي":
       " فَبَعَثَ إلَى بَنِى عَبْدِ الأَشْهَلِ بِاثْنَيْنِ فَضَرَبَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ رَقَبَةَ أَحَدِهِمَا، وَضَرَبَ أَبُو نَائِلَةَ الآخَرَ، وَبَعَثَ إلَى بَنِى حَارِثَةَ بِاثْنَيْنِ فَضَرَبَ أَبُو بُرْدَةَ بْنُ النّيَارِ رَقَبَةَ أَحَدِهِمَا، وَذَفّفَ عَلَيْهِ مُحَيّصَةُ، وَضَرَبَ الآخَرُ أَبُو عَبْسِ بْنُ جَبْرٍ ذَفّفَ عَلَيْهِ ظُهَيْرُ بْنُ رَافِعٍ. وَبَعَثَ إلَى بَنِى ظَفَرٍ بِأَسِيرَيْنِ. فَحَدّثَنِى يَعْقُوبُ بْنُ مُحَمّدٍ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ، قَالَ: قَتَلَ أَحَدَهُمَا قَتَادَةُ بْنُ النّعْمَانِ، وَقَتَلَ الآخَرَ نَضْرُ بْنُ الْحَارِثِ.
قَالَ عَاصِمٌ: وَحَدّثَنِى أَيّوبُ بْنُ بَشِيرٍ الْمُعَاوِىّ، قَالَ: أَرْسَلَ إلَيْنَا - بَنِى مُعَاوِيَةَ - بِأَسِيرَيْنِ فَقَتَلَ أَحَدَهُمَا جَبْرُ بْنُ عَتِيكٍ، وَقَتَلَ الآخَرَ نُعْمَانُ بْنُ عَصْرٍ؛ حَلِيفٌ لَهُمْ مِنْ بَلِىّ. قَالَ: وَأَرْسَلَ إلَى بَنِى عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ بِأَسِيرَيْنِ عُقْبَةَ بْنِ زَيْدٍ وَأَخِيهِ وَهْبِ بْنِ زَيْدٍ، فَقَتَلَ أَحَدَهُمَا عُوَيْمُ بْنُ سَاعِدَةَ، وَالآخَرَ سَالِمُ بْنُ عُمَيْرٍ. وَأَرْسَلَ إلَى بَنِى أُمَيّةَ بْنِ زَيْدٍ ".
•     و على هذا، يكون عدد من قتلوا من زعماء بني قريظة هو ستة عشر، وهذا العدد من "القادة" يتناسب مع عدد من المقاتلة يتراوح بين 600 و900 رجل. فالذي إتخذ قرار مناصرة الأحزاب هم بالتأكيد زعماء وكبار بني قريظة، فما كان يمكن أن تؤخذ القبيلة كلها يجريرة زعمائها، وقد نص الرسول صلى الله عليه وسلم على ذلك في صحيفة المدينة:
       "لا يكسب كاسب إلا على نفسه". كما أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان ملتزما بمبدأ العين بالعين والنفس بالنفس، وأن القصاص يتناسب مع الجُرم. فهذا العقاب لا يتناسب مع طبيعة الرسول صلى الله عليه وسلم أنه كان دائم العفو عند المقدرة وكان يغلب عليه الرفق والتسامح ويؤكد ذلك شهادة العلامة المستشرق المنصف "مارسيل بوازار" عن النبي صلى الله عليه وسلم في كتابه "إنسانية الإسلام": " وبالرغم من قتاليته ومنافحته، فقد كان يعفو عند المقدرة، ولكنه لم يكن يلين أو يتسامح مع أعداء الدين. ويبدو أن مزايا النبي الثلاث، الورع والقتالية والعفو عند المقدرة قد طبعت المجتمع الإسلامي في إبان قيامه وجسَّدت المناخ الروحي للإسلام".
       فالمنطق يقول أن هذا المناخ الروحي السامي، يَصعب التخلي عنه في لحظة عقاب بني قريظة، إذ ليس من السهل أبدا أن نتصور أن يصدر حكم بهذه الشدة من الرسول صلى الله عليه وسلم الذي قال ذات يوم لعائشة: مهلا يا عائشة، فإن الله يحب الرفق في الأمر كله"، ذلك عندما قالت لليهود: "عليكم السام واللعنة " بعد أن سبوا الرسول صلى الله عليه وسلم وأهل بيته وهم ضيوف عنده في بيته؟
أهذه الشخصية الهادئة التي لا تقبل بالرد على القول السيئ بأزيد مما يجب، يُتصور أن يصدر عنها مثل هذا العقاب المتشدد على بني قريظة؟ على الرغم من أنه كان معمولا بهذه النوعية من العقوبة - في عُرف اليهود أنفسهم -  في شأن الخيانة وقت الحرب.
       فالأقرب إلى المنطق، أن عدد من قُتل فعلا يقارب ستة عشر من كبار قوم بني قريظة وليس 600 إلى 900 رجل.
و هناك دلالات تُدعم ذلك، لأنه إذا أخذنا في الإعتبار أن واقعة بني قريظة كانت قبل صلح الحديبية وقبل إقرار السلام مع خيبر؛ لكان من المستحيل - لو أن ما روي بشأنها فيما بعد كان صحيحا – تصوُّر أن تسكت عنها ألسنة المشركين والمنافقين واليهود:
•     فهل يُعقل أن نساء اليهود يجزعن لقطع نخيل بني النضير، ولا يجزعن على مقتل بني قريظة؟ يقول الواقدي: " َلَمّا قُطِعَتْ الْعَجْوَةُ شَقّ النّسَاءُ الْجُيُوبَ وَضَرَبْنَ الْخُدُودَ وَدَعَوْنَ بِالْوَيْلِ فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَا لَهُنّ"؟ فَقِيلَ: يَجْزَعْنَ عَلَى قَطْعِ الْعَجْوَةِ ".
ليس هذا فحسب، بل إن حُيي بن الأخطب لم يتورع عن لوم الرسول صلى الله عليه وسلم عندما قطع المسلمون نخيل بني النضير، ففي ذلك يقول الواقدي:
       " فَأَرْسَلَ حُيَىّ إلَى رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: يَا مُحَمّدُ إنّك كُنْت تَنْهَى عَنْ الْفَسَادِ لِمَ تَقْطَعُ النّخْلَ؟ نَحْنُ نُعْطِيك الّذِى سَأَلْت، ونَخْرُجُ مِنْ بِلادِك. فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: "لا أَقْبَلُهُ الْيَوْمَ، ولَكِنْ اُخْرُجُوا مِنْهَا وَلَكُمْ مَا حَمَلَتْ الإِبِلُ إلاّ الْحَلْقَةُ ".
•     أيعقل أن تلوم اليهود الرسول صلى الله عليه وسلم على قطع نخيل بني النضير ولا يلوموه على مذبحة بني قريظة ؟! أم أن النخيل أعظم شأنا من أرواح بني قريظة!
•     نقول أيضا أنه إذا صَحَّت واقعة قريظة كما جاءت في كتب السيرة لكانت الأنباء المدوية لهذه الواقعة قد وصلت إلى رئاسة الجالوت في العراق التي كانت تشمل يهود المدينة بسلطانها الديني.
من كل ما تقدم نستطيع القول بكل إطمئنان أن الرسول صلى الله عليه وسلم برئ بلا ريب من التصور الذي ورد في كتب السيرة عن واقعة بني قريظة. وقد تَكَوَّنَ هذا الرأى بناء على الشواهد والدلالات والإستقراءات العديدة التي تناولناها في هذا الفصل.
       فالتناقضات في الروايات الواردة في سير ابن إسحاق وإبن هشام وغيرها، والتناقضات في الوقائع: ما قبل إتخاذ سعد بن معاذ حكما،و ما بعد الحكم، تجعل الإنسان يتساءل فعلا حول صحة أحداث تلك الواقعة كما وردت بكتب السيرة.       ناهيك عن أن كثير من وقائع موضوع بني قريظة المذكورة في كتب السيرة منافية تماما للمنطق. أما آراء المؤرخين والمستشرقين - وكلهم من الغرب وبعضهم يهود- التي استشهدنا بها فكلها تؤكد عدم دقة ما ذُكر في كتب السيرة بصدد واقعة بني قريظة.
       أما أن النقض الموجه لسيرة ابن إسحاق فيما يتعلق بتكرار كسر السرد والمسانيد المرسلة (فيما يخص واقعة بني قريظة)، كل هذا يُضعف من مصداقية روايته.     أما تهذيب إبن هشام بالحذف من أو بالإضافة إلى سيرة ابن إسحاق فقد زاد الطين بلة وأضاع إلى الأبد تفاصيل كان من الممكن أن تعود على الباحثين عن حقيقة واقعة بني قريظة بفائدة عظيمة. كذلك كان لإسقاط ابن سعد (و الواقدي) بعض الوقائع الهامة المذكورة في سيرة ابن إسحاق أثر كبير في مصداقية تلك الوقائع.
       و نحن على يقين من أن أي قارئ منصف ومحايد، لا بد أن يدرك بسهولة بعد أن يقرأ ما ذكرناه الآن أن العقاب الذي وقع على بني قريظة - حسبما ذُكر في كتب السيرة - لا يمكن أن يكون قد حدث فعلا بالصورة المعروفة في تلك الكتب، والله تعالى أعلم.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 94 مشاهدة
نشرت فى 12 أغسطس 2016 بواسطة dribrahimawad

عدد زيارات الموقع

33,951