جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
إعادة قراءة واقعة بني قريظة (1-2)
أ. د. لطفى رابح جمعة
(هندسة شبرا)
على الرغم من شهادات المؤرخين والمستشرقين المنصفين الذين أجمعوا على أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد نهض بمسؤليته على أفضل وجه وأنه صلى الله عليه وسلم قد استطاع خلال عشرين سنة تقريبا أن يغير حال الإنسانية إلى الأبد، إلا أن ألسنة الحاقدين الكارهين المتعصبين ضد النبي صلى الله عليه وسلم لا زالت تهاجمه وترميه بأباطيل لا تُعقل، وقد فندها العديد من المستشرقين المنصفين المحايدين (بالإضافة بالطبع لعشرات وربما المئات من علماء المسلمين الأفاضل)، وردوا عليها ردودا مُفحِمة. هذه الأباطيل والأكاذيب تكاد تملأ خزائن كاملة من الكتب. مئات، بل آلاف الأباطيل، في كل صغيرة وكبيرة: في زواج النبي صلى الله عليه وسلم، وعلاقاته بزواجاته، وعلاقاته بالصحابة، وما وقع بينه وبين أعداء الإسلام خلال الحروب وبعدها... إنها دوامة تكاد لا تنتهي. لذلك، لا ينبغي أن ينصرف علماء المسلمين الأجلاء إلى التصدي لمثل هذه الصغائر التي هي في الحقيقة تنفيس لصهد نيران الكراهية والحقد التي تعتمل في صدور هؤلاء المهاجمين وتشوي أكبادهم الغليظة.
و حتى لا نقع في دوامة تكرار ما قيل في الدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم ضد هذه الأباطيل التي لا تنتهي، فسوف أُعرِض عن تلك الشبهات السمجة الممجوجة التي لا يستسيغها أي إنسان له أقل قدر من المنطق والعقل. وسوف أناقش وأفند أباطيل على درجة كبيرة من الأهمية، يحاول المتعصبون الحاقدون أن يلصقوها بالرسول صلى الله عليه وسلم من خلال عزفهم نغمة "الإرهاب" والتعصب" ضد غير المسلمين. فالمحاولة الآن لإلصاق صفة "الإرهاب" و"العنصرية" بالنبي صلى الله عليه وسلم (حاشا لله) آخذة في التصاعد بالتوازي مع رسومات الضلال وكتابات الكراهية التي طفت في صحافة وإعلام الغرب. وآخر هذه المحاولات الغبية، ما تم في مقر الأمم المتحدة بنيويورك، أثناء انعقاد مؤتمر "حوار الأديان" (خلال الشهر المنصرم، ذي القعدة 1429)، إذا بالمدعو شيمون بيريز (رئيس الكيان الصهيوني) يُطالب بحق عودة اليهود إلى يثرب - يقصد المدينة المنورة- لأن الرسول صلى الله عليه وسلم (حسب إفك بيريز) قد مارس عليهم إرهابا وقمعا وتقتيلا رغم أنهم كانوا ملتزمين ببنود المعاهدة التي كانت مبرمة بينهم وبينه!! وقد هاجمت وزيرة خارجية الكيان الصهيوني "الإسلام الذي يربي على كراهية إسرائيل" (حسب نص ما قالته)!
و الله إن الموقف خطير، ولنتأمل الحال بعد أحداث سبتمبر 2001 في أمريكا والعاصفة التي قامت ضد ما وصفه الغرب "الإرهاب الأخضر"، ويُقصد به الإرهاب بإسم الإسلام. فالواضح أن موجة الكراهية والتشهير بالإسلام وبالرسول صلى الله عليه وسلم تتصاعد ولن تهدأ.
ولكن علينا أن نتساءل: لماذا هذه الإستماتة والإصرار على تشويه صورة النبي صلى الله عليه وسلم في الإعلام الغربي؟... إننا نكون قد إرتكبنا أعظم خطأ إذا اعتقدنا أن الغربيين المتعصبين يقصدون من هذا التشويه إهانتنا أو إغاظتنا بالتطاول على سيدنا النبي صلى الله عليه وسلم!! فالموضوع أعمق وأخطر من ذلك بكثير، لأن هذه المحاولات المستميتة للنيل من صورة النبي صلى الله عليه وسلم وتشويهها في عيون أهل الغرب - "بالطبع" - هي في الحقيقة رد فعل للخوف المتنامي من إنتشار الإسلام وازدياد عدد الداخلين فيه من أهل الغرب "غير المتعصبين" والقابلين للإنصات لصوت العقل بتدبر وهدوء.
فأهل الغرب المتعصبين يموتون قلقا من قول أعمدة فلاسفتهم ومفكريهم مثل "جورج برنارد شو":
"إن أوروبا الآن بدأت تحس بحكمة محمد، وبدأت تعيش دينه، كما أنها ستبرئ العقيدة الإسلامية مما أتهمها بها من أراجيف رجال أوروبا في العصور الوسطى، ولذلك يمكنني أن أؤكد نبوءتي فأقول: إن بوادر العصر الإسلامي الأوروبي قريبة لا محالة، وإني أعتقد أن رجلا كمحمد لو تسلم زمام الحكم المطلق في العالم بأجمعه اليوم، لتم له النجاح في حكمه، ولقاد العالم إلى الخير، وحل مشاكله على وجه يحقق للعالم كله السلام والسعادة المنشودة".
إنها أقوال جديرة بجعل الغرب المتعصب يفقد رشده ويحاول أن يفعل المستحيل لإثبات كذب نبؤة "برنارد شو"، التي يعلمون أنها ستتحقق بعون الله إن عاجلا أو آجلا، إذ أنه في النهاية لا يصح إلا الصحيح! لا سيما أن كل من يدخل إلى الإسلام من أهل الغرب حاليا إنما يدخل بمحض إرادته بعدما تبين له الرشد من الغي!!
كما أن خمسة ملايين مسلم في فرنسا كفيلة بادخال رعب هستيري في نفوس هؤلاء الحاقدين المتعصبين. كذلك دول البلقان المسلمة، تعتبر كابوس بالنسبة للغرب المتعصب، والإتجاه عندهم الآن هو ضم هذه الدول إلى "نعيم" الإتحاد الأوروبي (هكذا يُصورون الأمر!) على أمل طمس هويتهم المسلمة واحتوائهم وصهرهم في بوتقة العولمة الأوروبية المزعومة.
لذلك، لن يتوقف الكارهون للإسلام عن هجومهم على شخص الرسول صلى الله عليه وسلم لأنهم يعتقدون أن أقوى وسيلة للنيل من الإسلام هو إظهار صاحب الشريعة نفسه في صورة إرهابي متعصب (حاشا لله)، مثلما وضح في رسوماتهم الأخيرة.
إن هؤلاء المتعصبين يحاولون صرفنا عن "جوهر القضية" وهو "الخوف من انتشار الإسلام في الغرب" إلى قضية أخرى تماما وهي "التطاول على النبي صلى الله عليه وسلم" لأنهم يعتقدون أننا سوف نركز مجهوداتنا على المقاطعة الإقتصادية ومحاولة إستصدار قرارات دولية في المحافل العالمية لتجريم التطاول على الأنبياء و..و..و.
لا شك أن استصدار قرارات دولية، شيئ مفيد، ولكنه لن يحدث إطلاقا!! لأنه وهم كبير أن نأمل أن الغرب "غير المتعصب" سوف يستصدر قرارات دولية لإدانة الغرب المتعصب الذي يتطاول على نبينا صلى الله عليه وسلم. فالواقع خير دليل على صحة هذا الوهم، لأنه حتى يومنا هذا لا زالت الإساءات متواصلة! فماذا فعل الغرب في المحافل الدولية؟ بل إن الإساءات لن تتوقف! لأن خوف الغرب المتعصب من انتشار الإسلام في أوروبا وأمريكا لن يتوقف بل سيزداد لأن "جوهر القضية" الذي أشرت إليه آنفا لا يزال وسيظل قائما! بل إن رئيس فرنسا، لم يتورع عن التصريح في حوار تلفزيوني أذيع خلال شهر إبريل 2008 على القنوات الفرنسية الرسمية، بأن إنضمام دول البلقان إلى الإتحاد الأوروبي ليس كإنضمام تركيا (ذات الأغلبية المسلمة) إلى الإتحاد (ردا على سؤال من محاوره: هل إنضمام دول البلقان للإتحاد الأوروبي خلال عامين هو مقدمة لإنضمام تركيا أيضا).
لذلك، أرى أنه من الواجب علينا كمسلمين أن نلتفت بعقلانية وهدوء شديد إلى محاولات إلصاق صفة الإرهاب والعنصرية بشخص الرسول صلى الله عليه وسلم (حاشا لله).لأن هؤلاء المتعصبين لا زالوا يتناولون واقعة "بني قريظة" - بإلحاح شديد الآن - ويعتبرونها قمة الإرهاب والتعصب ضد اليهود، لأنهم يصورونها على أنها قضية قوم خونة وقد استسلموا للمسلمين فما كان ينبغي أن يذبحوا بهذه الوحشية في "يوم واحد"، لا سيما أن قتلى بني قريظة في هذا اليوم كان يتراوح بين 600 إلى 900، في حين أن عدد من قُتلوا من المسلمين وغير المسلمين في "كل" السرايا والغزوات كان أقل من خمسمائة! وعدد كل من قُتل من غير المسلمين يقل عن ثلاثمائة. لذلك، يرى المهاجمون الغربيون أن هذا العقاب شنيع ولا يتناسب بأي حال من الأحوال مع عدو مستسلم.
إن واقعة بني قريظة كانت مثار تساؤلات عديدة لدى كثير من المؤرخين غير المسلمين والمستشرقين لأسباب عقلانية كثيرة، أهمها أن العقاب الذي أُنزل ببني قريظة كان يراه البعض عنيفا وصادما لأنه لا يتناسب مع طبيعة الرسول صلى الله عليه وسلم وخُلُقِه المتسامح الرحيم. وهذه النقطة طالما ارتكز عليها المهاجمون من الغرب في هجومهم على الرسول صلى الله عليه وسلم بغرض إلصاق صفة الإرهاب والوحشية والعنصرية به (حاشا لله)؛ لإعتقادهم أنهم إذا نجحوا في ذلك فهذا يعني نجاحهم في إلباس الإسلام ثوب الإرهاب في نظر الغربيين المتعقلين، وعندئذ فلن يُفكر هؤلاء العقلاء في الدخول للإسلام أو الدفاع عنه، وهذا هو عين ما يريده هؤلاء المتعصبون الحاقدون! ولا يخفى أن عداوة المتعصبين كانت دائما موجهة "لركيزتا الإسلام": القرآن والسنة. ولما ثبت فشل سياسة الهجوم على القرآن (إلى حد بعيد)، لم يتبق أمامهم "الآن" إلا شخص الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم لينالوا منه، وذلك بإلصاق صفة الإرهاب (الذي يحاربه العالم كله) بشخصه صلى الله عليه وسلم – حاشا لله - وهذا، هو صلب وجوهر الحملة المسعورة التي يشنها متعصبو الغرب على شخص الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم لإعتقادهم أنهم إذا لوثوا ثوبه بإدعاءاتهم الباطلة، فإنهم بذلك يكونوا قد نالوا من السُنة المطهرة: ثاني مصادر الشريعة الإسلامية.و بالتالي سينصرف أهل الغرب المتعقلين المنصفين عن "النظر" إلى الإسلام. إذن، مقطع النزاع هو: "الخوف من تنامي الإسلام في المجتمعات الغربية ومحاربته".
و قد استغل كثير من الغربيين المتعصبين ضدد الإسلام بعض ما جاء في السيرة، وأَوَّلوه على غير حقيقته، في محاولة يائسة لإضفاء قوة الحُجَّة على دعواهم الباطلة. لذلك، صار واجبا ضروريا علينا التصدي لهؤلاء بمنتهى العقلانية والهدوء، وهدم "حجتهم القوية" التي يعتقدون أنه لا سبيل أمامنا لمهاجمة السيرة التي استمدوا منها دليل إدانتهم! لذلك، أصبح لزاما علينا دخول عرين الأسد، وتناول واقعة بني قريظة بمزيد من التمحيص والإستقراء مع الإستعانة بمراجع العديد من اليهود "أنفسهم" من أجل تفنيد مزاعم هؤلاء المتعصبين.
و لا أبلغ من قول المؤرخ الشهير جورج كيتسون كلارك:
"يبدو أن العناء والمشقة اللذين تقترن بهما محاولة نقد الآراء التي تساق بلهجة التأكيد وكأنها حقائق لا يتطرق إليها الشك يزعجان النفس الإنسانية لدرجة تجعل الرجال على إستعداد لقبول أفظع الإتهامات الموجهة إلى آبائهم وأجدادهم لتلافي المهمة المضنية التي تتمثل في الإضطلاع بأنفسهم بتمحيص الشواهد".
هذه العبارة، جالت بلا شك في خاطر كل من حاول إعادة النظر بتدبر وعمق في واقعة بني قريظة. لذلك نجدها قد تصدرت الباب الرابع في كتاب المؤرخ الإسلامي الهندي الدكتور بركات أحمد في كتابه "محمد واليهود: نظرة جديدة" . حيث تناول، واقعة بني قريظة في الباب الرابع من كتابه. وقد رجعنا إلى هذا الكتاب في العديد من الأسانيد ذات الصلة بموضوع بني قر يظة.
ولما كانت واقعة بني قريظة بها العديد من الأمور التي تسترعي حقا الإنتباه الهادئ والمراجعة المتروية، فقد رأينا أن نبدأ مناقشتنا بتناول سريع – منعا لتكرار الكلام- لما جاء في كتب السيرة الشهيرة مثل سيرة ابن إسحاق وسيرة إبن هشام والطبقات لإبن سعد والمغازي للواقدي وبالطبع ما جاء في الأحاديث الصحيحة.
1- المصادر الرئيسة لواقعة بني قريظة:
قبل أي كلام، أود التأكيد على أننا لسنا -بأي حال من الأحوال- في مقام نقض ما جاء في كتب السيرة ولا منحازين لكاتب دون الآخر، ولا نميل إلى رواية دون الأخرى لأن ما يعنينا – أصلا- هو محاولة الوصول لحقيقة واقعة بني قريظة. فالقراءة المتأنية لما ذُكر عنها في كتب السيرة تثير بلا شك تساؤلات جوهرية لا يمكن تجاهلها على الرغم من مرور مئات السنين على تلك الواقعة. وهذه التساؤلات يتخذها الغرب كدليل على بطش الرسول صلى الله عليه وسلم - حاشاه الله – وقسوته في عقاب أعداء مستسلمين بطريقة وحشية، تضعه في صفوف الإرهابيين الذين يقتلون أسراهم (حاشاه الله).بينما في الحقيقة، بالطبع، الرسول صلى الله عليه وسلم أبعد ما يكون عن ذلك. ولما كانت هناك تساؤلات حول تلك الواقعة من شأنها دحض ما يتذرع به هؤلاء المدعين على الرسول صلى الله عليه وسلم، أصبح لزاما وواجبا علينا تناول هذه التساؤلات بالتدقيق والتمحيص، لعل الإجابة الصحيحة عليها توصلنا إلى الحقيقة التي نصبو إليها.
معظم الدارسين للسيرة النبوية الشريفة يعتبرون أن المصدر الأول لهم هي سيرة إبن هشام المتوفى سنة 218 هـ، وهي أساسا سيرة محمد بن إسحاق (85- 152 هـ) التي اكتسبت هذا الذيوع والإنتشار، وقد كتبها ابن إسحاق في أوائل العصر العباسي بطلب من الخليفة المنصور.
و طريقة ابن إسحاق في ترتيب وكتابة السيرة تكاد تكون غير واضحة لأن ما كتبه لم يصل إلينا إلا من خلال بعض النقول التي وجدت في مؤلفات العلماء الذين جاؤوا من بعده، وأقرب هذه النقول هو تهذيب السيرة الذي قام به عبد الملك بن هشام.
و منهج ابن إسحاق يقوم على إيراد الأخبار بالأسانيد التي وصلت إليه، وبعضها موصول وبعضها منقطع، في حين أن بعض الأخبار يوردها بدون إسناد.و هو قد يعتمد في معلوماته على مجهولين فيقول: "حدثني بعض أهل العلم"، أو "ذُكر لي"، أو "حدثني بعض أهل مكة"، أو "فيما بلغني"، أو "زعم رجال من بني فلان".
و مما يؤخذ على ابن إسحاق، دمجه للروايات وجمع الأسانيد وسياقها مساقا واحدا، فأصبح يجمع بين رواية الثقة وغير الثقة، دون تمييز بين ألفاظ الرواة، فيختلط قول الثقة مع غيره.
و قد وصلت سيرة ابن إسحاق إلى إبن هشام، فاختصرها وهذبها، وأصبحت الأكثر شيوعا وتداولا. ويرى كثيرون أن هذا أعظم خطأ، إذ كان من الأجدر بإبن هشام أن يحتفظ بالنص "كما هو"، ولا مانع من أن يُعلق عليه أو يكتب ما يراه منفصلا عن النص الأصلي لسيرة ابن إسحاق.
و بغض النظر عن قيمة ابن إسحاق كمؤرخ، فإن روايته هي في النهاية رواية شفهية تم تدوينها بدون الرجوع – بطبيعة الحال – إلى نص مكتوب. والرواية الشفاهية – عموما – كانت دائما عُرضة لنقد حاد، كشف الكثير عن مشاكلها الدقيقة. ولقد ثبت علميا أن ذاكرة الإنسان تعمل بطريقة إنتقائية. فعند استرجاعها لمخزونها من التاريخ والمعلومات تتأثر بالواقع الذي يكتنفها؛ فهناك "تفاعل" بين التذكر الشفاهي والواقع الحي. فأصبح من الطبيعي أن يخضع الحفظ الشفهي حرفيا كان أم غير حرفي للتغيير نتيجة لعوامل كثيرة، مثلا عوامل إجتماعية مباشرة.
و قد أبان إبن هشام عن منهجه في الإختصار فقال في مقدمة روايته لسيرة ابن إسحاق:
"... وتارك بعض ما ذكره ابن إسحاق في هذا الكتاب مما ليس لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نزل فيه من القرآن شيء، وليس سببا لشيء من هذا الكتاب، ولا تفسيرا له ولا شاهدا عليه".
وعلل صنيعه هذا بأنه لأجل الإختصار. ثم ترك بعض الأشياء إنتقادا لابن إسحاق فقال:
"... وأشعارا ذكرها (أي ذكرها ابن إسحاق) لم أر أحدا من أهل العلم بالشعر يعرفها، وأشياء بعضها يشنع الحديث به، وبعض يسوء بعض الناس ذكره، وبعض لم يقر لنا البكائي بروايته". (البكائي هو شيخ إبن هشام وأحد رواة السيرة عن ابن إسحاق).
و عندما يحافظ إبن هشام على نص ابن إسحاق، نراه يقدم له بقوله: قال ابن إسحاق، ثم يورد نص كلام ابن إسحاق. أما إذا عقب عليه فإنه يفصل ذلك بقوله: قال إبن هشام. وإذا كان لديه رواية تخالف قول ابن إسحاق فإنه يسوقها بسنده هو. وسيرة إبن هشام هي العمدة في واقعة بني قريظة، بل وفي سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم كلها. وقد نقلها عنه الطبري، وإبن كثير، وغيرهما من كبار المؤرخين.
و قد كثر الجدل حول ابن إسحاق، فالزهري (و هو من ثقاة المحدثين) قال عنه:
" من أراد المغازي فعليه بابن إسحاق". وقد إعتبره عاصم بن عمر بن قتادة (و هو من كبار المحدثين) من حملة العلم. كذلك يحيى بن معين والإمام أحمد بن حنبل فكانا يُوثقانه.
في حين أن هشام بن عروة كان لا يعتبر ابن إسحاق من الثقات. كما أن الإمام مالك وصف ابن إسحاق بأنه دجال ، ولكنه لم يقل هذا قدحا في ابن إسحاق من أجل الحديث بل لأنه كان ينكر عليه أسلوب تتبعه لأخبار غزوات اليهود الهامة مثل خيبر وقريظة والنضير؛ وفي النهاية، يُسجل إبن سيد الناس أن الإمام مالك قد تصالح مع ابن إسحاق وأهداه خمسين دينارا ونصف محصوله من التمر في ذلك العام.
أما إبن حجر العسقلاني فيقول عن ابن إسحاق:
" تتبع غزوات النبي صلى الله عليه وسلم من أولاد اليهود الذين أسلموا وحفظوا قصة خيبر وغيرها".
بالإضافة لسيرتي ابن إسحاق وإبن هشام، هناك "مغازي الواقدي"، لصاحبها محمد بن عمر بن واقد الأسلمي (عُرف بالواقدي نسبةً إلى جدّه الواقد، ولد بالمدينة عام 130هـ وبها طلب العلم ثمّ رحل إلى بغداد عام 180هـ، واشتهر في المغازي والسير، وقد تولّى منصب القضاء ببغداد وبها توفّي عام 207هـ)، وقد تعرضت المغازي لكثير من النقد والتجريح، كما إستغرب كثير من المؤرخين عدم رجوع الواقدي لسيرة ابن إسحاق؛ (ربما لأن فقهاء المدينة مثل الإمام مالك كانت لهم بعض الآراء المتشككة حول ابن إسحاق).في نفس الوقت يتهم كثير من المستشرقين الواقدي بأنه أخذ الكثير من سيرة إبن هشام لأن هناك تطابق كبير بين النصوص في السيرتين. وجدير بالذكر أن الألباني - في سلسلته للأحاديث الضعيفة - قد ضعَّف الواقدي. أما البخاري ومسلم فقد قالوا عن الواقدي أنه "متروك الحديث"، كما قال عنه أحمد إبن حنبل أنه "يُرَكِّب الأسانيد".
لكن الطبري نقل عن الواقدي كل ما يتعلق بالمغازي، كما كان يحرص على نقل أخبار الجاهلية عنه أيضا ولكن من خلال "الطبقات" لإبن سعد (168-230 هـ)، تلميذ الواقدي. ويعتبر كتاب الطبقات مصدرا مهما في السيرة النبوية، خاصة أول جزئين فقد خصصهما إبن سعد لهذا الغرض. والملفت للإنتباه أنه رغم ما حصل عليه إبن سعد من توثيق واستحسان يُعتد به من قبل علماء كبار، إلا أن يحيى بن معين ضعّفه، وكذلك آخرون. وقد سجل كثير من الناقدين عيبا كبيرا يشترك فيه الواقدي وتلميذه إبن سعد، ذلك أ نهما يجمعان أسانيد كثيرة لمتن واحد، ويدخلون روايات الرجال بعضها ببعض، وهذا يصيب موضوعية الرواية بخلل شديد. لذلك، لا يكفي حسن الكتاب، وتسلسله تاريخيا ودقته جغرافيا، وصحته في العرض حتى نعتمده إعتمادا مطلقا، بل لابد في كافة الأحوال من النظر في السند والمتن، وقراءة الظروف التي تحيط بالأحداث ومجرياتها؛ كما لابد من مقارنة ما جاء في الروايات المختلفة.
فالمغازي أو سيرة ابن إسحاق أو سيرة إبن هشام لا تغني عن كتب التاريخ الموثوق بها مثل تاريخ الطبري والمسعودي واليعقوبي؛ بالإضافة إلى ما ورد في الأحاديث الصحيحة.
2- من هم محل حكم سعد بن معاذ ؟
عن حصار الرسول صلى الله عليه وسلم لبني قريظة يقول إبن هشام في كتابه "السيرة النبوية":
"و حاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسا وعشرين ليلة، حتى جهدهم الحصار، وقذف الله في قلوبهم الرعب".
أما الواقدي فيقول في "المغازي":
" سَارَ إلَيْهِمْ النّبِىّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ الأَرْبِعَاءِ لِسَبْعٍ بَقِينَ مِنْ ذِى الْقَعْدَةِ فَحَاصَرَهُمْ خَمْسَةَ عَشَرَ يَوْمًا، ثُمّ انْصَرَفَ يَوْمَ الْخَمِيسِ لِسَبْعٍ خَلَوْنَ مِنْ ذِى الْحَجّةِ سَنَةَ خَمْسٍ".
بالطبع الإختلاف في عدد أيام الحصار واضح (رواية إبن هشام ورواية الواقدي).إلا أن الملاحظ هو وجود عدة إنكسارات في سرد إبن هشام لواقعة بني قريظة، فقد بدأ إبن هشام روايته (نفس المصدر السابق ص 171) نقلا عن الزهري قائلا:
"فلما كانت الظهر، أتى جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما حدثني الزهري ...." .
و يستطرد إبن هشام في وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم لحكم سعد بن معاذ كاسرا السرد (الجزء الثالث، ص 175 من السيرة النبوية) قائلا:
" حدثني عاصم بن عمر بن قتادة، عن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ، عن علقمة بن وقاص الليثي، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لسعد: لقد حكمت فيهم بحكم الله فوق سبعة أرقعة".
ثم يعود فيكسر إبن هشام سرده قائلا:
"قال ابن إسحاق: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر بقتل كل من أنبت منهم..."
ثم يعود فيكسر السرد بالرواية التالية:
"قال ابن إسحاق: وحدثني شعبة بن الحجاج،عن عبد الملك بن عمير، عن عطية القرظي قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أمر بقتل من أنبت منهم، وكنت غلاما، فوجدوني لم أنبت، فخلوا سبيلي...".
أما الطبري فقد أورد سرد ابن إسحاق كاملا تحت عنوان غزوة بني قريظة، بسند محمد بن إسحاق، عن أبيه إسحاق بن يسار عن معبد بن كعب بن مالك الأنصاري (و هي رواية مرسلة، لأن معبد بن كعب تابعي)، ثم فاجأنا بكسر السرد بروايته عن وكيع قائلا:
" حدَّثنا محمد بن بشر، قال: حدثنا محمد بن عمرو، قال: حدَّثني أبي، عن علقمة، عن عائشة، قالت....". ثم أكمل سرده طبقا لابن إسحاق.
ولم يعلق الطبري على سردية ابن إسحاق بشيئ، بل أوردها بسندها المرسل، وهو يعلم بأنه مرسل!
و مما يسترعي النظر، أن الطبري لم يورد قول سعد بن معاذ في سردية ابن إسحاق: "فأن أحكم فيهم أن تُقتل الرجال..."، وإستبدلها بروايته: " قال أبو جعفر: فإني أحكم فيهم أن تُقتل مقاتلتهم..."، ولنا أن نتساءل لماذا عدل الطبري عن رواية ابن إسحاق في هذه النقطة المهمة من الرواية؟ لأن كلمة "المقاتلة" تعني الذين يشاركون بالفعل في القتال، أما كلمة "الرجال"، فهي كلمة عامة ذات مدلول واسع المدى.
أما الواقدي فيقول:
" قال إبراهيم بن جعفر، عن أبيه... قال سعد: فإني أحكم فيهم أن يُقتل من جرت عليه المُوسَى...".
أما إبن سعد فيقول في "الطبقات":
" أخبرنا عمرو بن عاصم، أخبرنا سليمان بن المغيرة،عن حميد بن هلال قال... فنزلوا على حكم سعد بن معاذ من بين الخلق... فحكم فيهم أن تُقتل مقاتلتهم وتسبى ذراريهم...".
نلاحظ أن في السند حميد بن هلال، الذي قال عنه القطان: "كان إبن سيرين لا يرضاه". وفي أحاديث القهقهة في الصلاة (سنن الدار قطني، جزء 2، كتاب الطهارة) عن إبن سيرين قال: كان أربعة يُصدِّقون من حدَّثهم لا يبالون ممن يسمعون، الحسن وأبو العالية، وحميد بن هلال وداوود بن أبي هند.
أما في البخاري، فقد ورد حديثين برواية أبي سعيد الخدري رضي الله تعالى عنه:
" تُقتل مقاتلتهم، وتسبى ذراريهم....".
و لنا أن نتساءل الآن: من الذي كان المقصود بالقتل في حكم سعد بن معاذ من أسرى بني قريظة؟، هل هم المقاتلة؟ أم الرجال؟ أم من جرت عليه الموسي؟.
إذا أخذنا في الإعتبار أن الأحاديث الشريفة مهما قيل عنها فإنها ذات سند متصل، في حين أن كتب السيرة – كما رأينا آنفا - بها مسانيد مرسلة. لذلك، فالرأي الأرجح أن "المقاتلة هم محل حكم سعد بن معاذ".
3- ملاحظات وتساؤلات هامة:
فيما يتعلق بالمنهج العام الذي إتبعه ابن إسحاق في سيرته نلاحظ أن نمطه في قصة بني قريظة يبدو مختلفا عن نمطه في سرد غزوات اليهود الأربع الهامة: فمعظم أحداث واقعة بني قريظة الرئيسية غير مسبوقة بإسناد، وقد جاء ذكر عديد من الرواة الثقات مثل الزهري وقتادة خلال السرد في تفاصيل صغيرة وليس في الأحداث ذات الشأن؛ ونستطيع القول بلا تجنِّي أن ابن إسحاق كان لا يورد – بوجه عام – إسنادا في المسائل الحيوية المتعلقة ببني قريظة ( وكذلك بيهود خيبر)، وهذا ما يقوله أيضا المؤرخ "جيمس روبسون": " هو (أي ابن إسحاق) عموما يبدأ تناوله للواقعة ببيان عام عما حدث دون أن يسوق أي إسناد، ولكن هذه هي طريقته في عرض الموضوع وهو يستطرد عادة ويعطي إسنادا من أنواع مختلفة، كتفاصيل الواقعة، أو ليقدم روايات مختلفة لما حدث".
و يستطرد روبسون في ملاحظاته :
" وابن إسحاق صريح تماما بشأن طريقته، فهو لا يدعي أن كل ما يعطيه من معلومات كامل الإسناد، كما أنه لا يحاول أن يرجع كل شيئ للرسول. لذلك، فإننا نميل دون تحرج إلى تصديقه حين يذكر إسنادا مباشرا، وحين يكون إسناده متصلا ".
فالحالات التي لم يكن ابن إسحاق يورد فيها إسنادا هي:
"إما الحالات التي تتعلق بمادة " معروفة وثابتة بصورة تغنيه عن تقديم إسناد" ،
أو - حسب رأي المؤرخ "ج.م.ب. جونز" - الحالات التي:
" كان يستمد فيها معلوماته من القص الشائع والمادة التقليدية التي كان كتاب السيرة والمغازي يطوعونها لمفاهيمهم الخاصة والتي كانوا يضيفون إليها نتائج بحوثهم الخاصة".
بمعنى أن ابن إسحاق يكون قد إستمد مادته بشأن الأحداث الكبرى المتعلقة ببني قريظة من "القص الشائع"، ومن ثم لا غرابة في أن الإمام مالك قد إتهم ابن إسحاق بأنه إستمد أخبار غزوات الرسول لليهود نقلا عن أبناء اليهود الذين أسلموا والذين حفظوا قصص بني النضير وبني قريظة وخيبر.
و في الواقع، كل ما كتبه الرواة الأوائل مثل ابن إسحاق والواقدي وإبن سعد يصور مدى الأهمية التي كانوا يعلقونها على الأحداث التي بقى أثرها محفوظا ونحن بالطبع نعتمد على المحدودية النسبية لوعيهم التاريخي، وبسبب هذه المحدودية، ضاعت إلى الأبد تفاصيل كان يمكن أن تكون ذات أهمية بالنسبة لنا.
فعلى الرغم من أننا بصدد واقعة بني قريظة، إلا أننا سنذكر واقعة بني قينقاع كمثال للمآخذ التي يمكن أن تثار حول طريقة كُتاب السيرة في كتاباتهم؛ فمثلا، ابن إسحاق عندما ذكر واقعة بني قينقاع قال:
" وكان من حديث بني قينقاع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمعهم في سوق بني قينقاع ، فقال لهم: " يا معاشر يهودا إحذروا من الله مثل ما نزل بقريش من النقمة وأسلموا فإنكم قد عرفتم أني نبي مرسل، تجدون ذلك في كتابكم وعهد الله إليكم. قالوا: يا محمد إنك ترانا كقومك يغرك أنك لقيت قوما لا علم لهم بالحرب، فأصبت منهم فرصة. إنا والله لو حاربناك لتعلمن إنا نحن الناس".
و يستطرد ابن إسحاق: " أن بني قينقاع كانوا أول يهود نقضوا ما بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحاربوا فيما بين بدر وأحد".
و ينهي ابن إسحاق قصة بني قينقاع قائلا:
" حدثني أبي: إسحاق بن يسار، عن عبادة بن الوليد بن عبادة بن الصامت، قال: لما حاربت بنو قينقاع تشبث بأمرهم عبد الله بن أبي بن سلول وقام دونهم ".
في هذه الجملة المقتضبة جدا نلاحظ أن: ابن إسحاق لم يذكر صراحةً "السبب" الذي من أجله جمع الرسول صلى الله عليه وسلم بني قينقاع لينذرهم، ولا السبب الذي جعل بني قينقاع يردون على الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك الرد العدواني: "لو حاربناك لتعلمن إنا نحن الناس". ورغم أن ابن إسحاق قد ذكر أنه كان هناك شيئ "ما" بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نقضوه، إلا أنه لم يذكر ما هو ذلك الـ "ما" المنقوض؟ ولا كيف نقضوه؟ هل يقصد ابن إسحاق أن "ما" بين الرسول صلى الله عليه وسلم وبني قينقاع هو "صحيفة الموادعة" التي وادع فيها الرسول صلى الله عليه وسلم اليهود عندما قدم إلى المدينة مهاجرا من مكة ؟ كما لم يذكر لنا ابن إسحاق ما المقصود بالحرب التي حاربتها بنو قينقاع ومَن مِن المسلمين حُوربوا ؟ هل هي حرب قتال ومعركة أم ماذا؟
و بعد عدة عقود يأتي إبن هشام فيلاحظ - عند تهذيبه لسيرة ابن إسحاق – أن هذه القصة ينقصها "سبب جمع الرسول صلى الله عليه وسلم بني قينقاع وإنذارهم"، فأضاف أن تاجرا يهوديا من بني قينقاع أهان إمرأة مسلمة في السوق فقتله رجل من المسلمين! ولنا أن نتساءل: هل كان هذا هو السبب الوحيد الذي جعل الرسول صلى الله عليه وسلم يجمع بني قينقاع في السوق وينذرهم !؟ أم كانت هناك أسباب أخرى كان يعلمها ابن إسحاق ولكنها لم تكن مهمة في نظره فلم يذكرها؟ أم كانت هناك أسباب أخرى ولكن ابن إسحاق لم يعرفها فلم يذكرها بالطبع ؟.
لا شك أن مثال كهذا، كفيل بإيضاح ثقل عبء إعادة صياغة الأحداث بطريقة منطقية ومقبولة، أقرب لما يمكن أن يكون قد حدث بالفعل؛ فالحلقات التاريخية المفقودة لا يمكن إستعادتها للأسف الشديد !! ولذلك يقول المؤرخ الكبير اللورد "راجلان" بعد دراسات مستفيضة إلى أن:
" أي حقيقة عن شخص، ما لم تسجل خلال مائة سنة من وفاته هي حقيقة ضائعة"!
غير مثل هذه المآخذ، هناك أمر قد إسترعى إنتباه المؤرخين بشدة، فقد جاء في كتب السيرة أن عدد من أُعدموا من بني قريظة كان يتراوح بين ستمائة (المُقِلّ) وتسعمائة (المُكثر) ومثل هذا العقاب " ليس له مثيل " في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، خاصة إذا علمنا أن عدد من قتلوا من المسلمين وغير المسلمين في "كل" السرايا والغزوات كان أقل من خمسمائة! وعدد من قتل من غير المسلمين يقل عن ثلاثمائة. لذلك، يقول المؤرخ "فرانشيسكو جابريللي":
" لقد أثارت هذه الحلقة السوداء، التي يلاحظ أن كتاب المسلمين يأخذونها مأخذا هادئا، مناقشات حامية بين كتاب السيرة المحمدية في الغرب وُجهت فيها إتهامات لاذعة للرسول من جانب وأُبديت فيها معاذير ذات طابع قانوني من جانب آخر".
الطابع القانوني المقصود هو أنه جرى العرف عند اليهود أن الخائن في الحرب يُقتل. وعلى هذا الأساس يكون ما فعله الرسول صلى الله عليه وسلم ببني قريظة متوقعا ومقبولا طبقا لهذا العرف السائد عند اليهود.
على جانب آخر، في الوقت الذي كان ابن إسحاق والواقدي وإبن سعد يجمعون مادتهم من أجل كتابة السيرة خلال القرنين الثاني والثالث الهجريين كان هناك على مقربة منهم قلعتين علميتين يهوديتين في بابل بالعراق هما: أكاديميتي "الجاعون" اليهوديتين بالإضافة إلى مقر "رئاسة الجالوت" (رأس الجالوت هو رئيس الجالية اليهودية في بابل وهو منصب سياسي رفيع، أما "الجاعون" فهو إسم كان يطلق على عميد الأكاديمية الدينية اليهودية، وهو أيضا منصب رفيع المستوى، وكان يوجد أكاديميتين في بابل).
و يؤكد "جراتز" أن رأس الجالوت، تحت الخلافة العباسية، كان يُقابَل في كل مكان بمظاهر الإجلال والإحترام الواجبة للأمراء. وكان يتمتع في بلاط الخليفة بمرتبة أعلى من مرتبة أعيان النصارى. ويقول "جويتاين" أن اليهود في جميع أنحاء العالم كانوا يعتبرون "الجاعون" السلطة العليا في جميع الأمور الدينية.
فإذا أخذنا في الإعتبار هذا التواجد اليهودي القوي أثناء جمع مادة السيرة، فإن تساؤلا مهما يثور: ألم يكن سهلا على كتاب السيرة مثل ابن إسحاق وإبن سعد والواقدي (الذي عمل قاضيا ببغداد وهي ليست ببعيدة عن بابل حيث يوجد مقر رأس الجالوت ومقر الجاعونية) الحصول على الرواية اليهودية لأحداث هامة في حياة اليهود في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم مثل واقعة بني قريظة ؟ لا سيما وأن المعروف عن اليهود أنهم حريصون أشد الحرص على تسجيل ما يصيبهم من محن ونكبات، خاصة أن يهود خيبر ( وفيهم سلالة بني النضير وقريظة) أقاموا بالكوفة (بعد إجلائهم) وهي قريبة من مقر "الجاعونية" .
بالإضافة إلى هذا، هناك كتاب للمؤرخ الشهير "صمويل أوسكوي" (مؤرخ يهودي برتغالي) بعنوان "عزاء لبلايا إسرائيل- الحوار الثالث" وهو مرجع كلاسيكي عن شهداء اليهود يرجع إلى القرن السادس عشر (صدر الكتاب باللغة البرتغالية سنة 1553). وقد صور مؤلف الكتاب معاناة اليهود أبلغ تصوير، بحيث " جعل مراحل التاريخ اليهودي الطويلة تمر أمام معاصريه بكل ما فيها من عظمة مجيدة ومآسي سحيقة تستدر الدموع من مآقيها" . في هذا الكتاب لا يوجد أي حديث عن إعدام يهود من بني قريظة!!
بعد كل هذا، ألا يحق للمرء أن يتساءل حول دقة ما ورد عن بني قريظة في كتب السيرة التي بين أيدينا؟