قرآنٌ أم قِرْيانة؟
رد على سخافات
المستشرق الفرنسى كلود جيليو عن النبى الكريم والقرآن العظيم
(2-2)
د. إبراهيم عوض
ويتوقف الكاتب أيضا أمام قوله تعالى على لسان المؤمنين فى سورة "الفاتحة": "اهدنا الصراط المستقيم" قائلا إن هذا دليل على أن محمدا كان على صلة قديمة بمزامير داود، إذ نجد داود يدعو ربه قائلا فى واحد منها: "طَريقَكَ يَا رَبُّ عَلِّمْنِي، وَسَبِيلَ الإِسْتِقَامَةِ اهْدِنِي"، وهو ما يدل لديه على أن محمدا قد استمد هذه العبارة من داود. لكن هل مثل هذه العبارة من الصعوبة والتعقيد بحيث لا يمكن أن تخطر فى عقل إنسان آخر إلى جانب داود؟ إن كل واحد من البشر يتمنى دائما لنفسه الهداية والتزام الصراط المستقيم؟ فما المشكلة فى ذلك؟ ثم أين الدليل على أن محمدا كان على صلة بالمزامير: يقرؤها ويستعير منها لغته وأسلوبه؟ وعلى كل حال فإننا نؤمن بأن كل ما نزل على داود ومحمد وغيرهما من النبيين والمرسلين فمصدره الله سبحانه وتعالى. على أن الأمر لا يقف عند هذا الحد، إذ ثمة فارق هام وحاسم بين الدعوتين: فداود يطلب من ربه أن يهديه الصراط المستقيم حتى لا يقع فى أيدى أعدائه المتربصين به بينما يطلب المؤمنون فى "الفاتحة" أن يهديهم الله الصراط الذى اختص به من أنعم عليهم بنعمة الإيمان والرضا ممن لم يتعرض لغضبه سبحانه ولم يضل عنه ضلالا.
وهذا نص ما قاله المؤمنون فى سورة "الفاتحة": "اهدنا الصراطَ المستقيم * صراطَ الذين أنعمتَ عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين"، بينما يقول داود: "طَريقَكَ يَا رَبُّ عَلِّمْنِي، وَسَبِيلَ الإِسْتِقَامَةِ اهْدِنِي". وأما فى طبعة فانديك فنص الكلام كاملا هو: "7اِسْتَمِعْ يَا رَبُّ. بِصَوْتِي أَدْعُو فَارْحَمْنِي وَاسْتَجِبْ لِي. 8لَكَ قَالَ قَلْبِي: «قُلْتَ: اطْلُبُوا وَجْهِي». وَجْهَكَ يَا رَبُّ أَطْلُبُ. 9لاَ تَحْجُبْ وَجْهَكَ عَنِّي. لاَ تُخَيِّبْ بِسُخْطٍ عَبْدَكَ. قَدْ كُنْتَ عَوْنِي فَلاَ تَرْفُضْنِي وَلاَ تَتْرُكْنِي يَا إِلهَ خَلاَصِي. 10إِنَّ أَبِي وَأُمِّي قَدْ تَرَكَانِي وَالرَّبُّ يَضُمُّنِي. 11عَلِّمْنِي يَا رَبُّ طَرِيقَكَ، وَاهْدِنِي فِي سَبِيل مُسْتَقِيم ٍبِسَبَبِ أَعْدَائِي. 12لاَ تُسَلِّمْنِي إِلَى مَرَامِ مُضَايِقِيَّ، لأَنَّهُ قَدْ قَامَ عَلَيَّ شُهُودُ زُورٍ وَنَافِثُ ظُلْمٍ. 13لَوْلاَ أَنَّنِي آمَنْتُ بِأَنْ أَرَى جُودَ الرَّبّ ِفِي أَرْضِ الأَحْيَاءِ. 14انْتَظِرِ الرَّبَّ. لِيَتَشَدَّدْ وَلْيَتَشَجَّعْ قَلْبُكَ، وَانْتَظِرِ الرَّبَّ". فالسياق، كما هو واضح، غير السياق، وأبعاد الدعوة هنا غير الأبعاد هناك. ويكفى أن دعاء داود هو دعاء شخصى يختص بموقف معين بخلاف دعاء المؤمنين فى "الفاتحة"، فهو دعاء مبدئى عام لا يختص بموقف محدد بل ينفتح على كل المواقف والأشخاص.
وعلى نفس المنوال يتوقف الكاتب عند قوله عز شأنه فى سورة "القَدْر": "ليلة القدر خير من ألف شهر"، الذى يراه اقتباسا من قول داود فى المزامير: "إِنَّ يَوْمًا فِي دِيَارِكَ خَيْرٌ مِنْ أَلْف"، متجاهلا أن المبالغات العددية موجودة فى كل اللغات. ومن ناحية أخرى فإن المقارنة القرآنية هى بين ليلة القدر وبين ألف شهر، بينما هى فى المزمور بين يوم فى ديار الله، التى لا نعرف ما هى ولا أين تقع، وبين لا شىء، إذ لم يذكر المزمور طرف المقارنة الثانى. كذلك فنحن فى القرآن إزاء مقارنة بين ليلة معينة وبين ألف شهر، بينما نحن فى المزمور أمام مقارنة بين يوم فى مكان معين، وإن كنا نجهله ونجهل المقصود به، وبين ألف يوم. لكن فى أى مكان؟ هنا يتوقف المزمور فلا يتكلم. كذلك لدينا فى النص القرآنى ليلة القدر، وهى شىء لا وجود له فى أى دين آخر غير الإسلام بما فى ذلك الدين الذى جاء به داود عليه السلام. وعلى هذا فلا معنى لما أثاره المؤلف من مشكلة.
ولكى تتضح الصورة أكثر سوف أورد نَصَّىْ سورة "الفاتحة" والمزمور السابع والعشرين الذى وردت فيه العبارة محل المقارنة بتمامهما حتى يرى القارئ بنفسه بما لا يدع مكانا لأى ارتياب أن كلام المؤلف هو كلام فارغ من المضمون والصدق تماما. قال تعالى: "بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ". وقال داود فى مزموره: "1الرَّبُّ نُورِي وَخَلاَصِي. مِمَّنْ أَخَافُ؟ الرَّبُّ حِصْنُ حَيَاتِي. مِمَّنْ أَرْتَعِبُ؟ 2عِنْدَ مَا اقْتَرَبَ إِلَيَّ الأَشْرَارُ لِيَأْكُلُوا لَحْمِي مُضَايِقِيَّ وَأَعْدَائِي عَثَرُوا وَسَقَطُوا. 3إِنْ نَزَلَ عَلَيَّ جَيْشٌ لاَ يَخَافُ قَلْبِي. إِنْ قَامَتْ عَلَيَّ حَرْبٌ فَفِي ذلِكَ أَنَا مُطْمَئِنٌّ. 4وَاحِدَةً سَأَلْتُ مِنَ الرَّبِّ، وَإِيَّاهَا أَلْتَمِسُ: أَنْ أَسْكُنَ فِي بَيْتِ الرَّبِّ كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِي لِكَيْ أَنْظُرَ إِلَى جَمَالِ الرَّبِّ وَأَتَفَرَّسَ فِي هَيْكَلِهِ. 5لأَنَّهُ يُخَبِّئُنِي فِي مَظَلَّتِهِ فِي يَوْمِ الشَّرِّ. يَسْتُرُنِي بِسِتْرِ خَيْمَتِهِ. عَلَى صَخْرَةٍ يَرْفَعُنِي. 6وَالآنَ يَرْتَفِعُ رَأْسِي عَلَى أَعْدَائِي حَوْلِي، فَأَذْبَحُ فِي خَيْمَتِهِ ذَبَائِحَ الْهُتَافِ. أُغَنِّي وَأُرَنِّمُ لِلرَّبِّ.
7اِسْتَمِعْ يَا رَبُّ. بِصَوْتِي أَدْعُو فَارْحَمْنِي وَاسْتَجِبْ لِي. 8لَكَ قَالَ قَلْبِي: «قلتَ: اطْلُبُوا وَجْهِي». وَجْهَكَ يَا رَبُّ أَطْلُبُ. 9لاَ تَحْجُبْ وَجْهَكَ عَنِّي. لاَ تُخَيِّبْ بِسُخْطٍ عَبْدَكَ. قَدْ كُنْتَ عَوْنِي فَلاَ تَرْفُضْنِي وَلاَ تَتْرُكْنِي يَا إِلهَ خَلاَصِي. 10إِنَّ أَبِي وَأُمِّي قَدْ تَرَكَانِي، وَالرَّبُّ يَضُمُّنِي. 11عَلِّمْنِي يَا رَبُّ طَرِيقَكَ، وَاهْدِنِي فِي سَبِيل مُسْتَقِيم ٍبِسَبَبِ أَعْدَائِي. 12لاَ تُسَلِّمْنِي إِلَى مَرَامِ مُضَايِقِيَّ لأَنَّهُ قَدْ قَامَ عَلَيَّ شُهُودُ زُورٍ وَنَافِثُ ظُلْمٍ. 13لَوْلاَ أَنَّنِي آمَنْتُ بِأَنْ أَرَى جُودَ الرَّبّ ِفِي أَرْضِ الأَحْيَاءِ. 14انْتَظِرِ الرَّبَّ. لِيَتَشَدَّدْ وَلْيَتَشَجَّعْ قَلْبُكَ، وَانْتَظِرِ الرَّبَّ". وواضح تماما الآن أن النصين مختلفان موضوعا وجوا نفسيا وأسلوبا وأبعادا.
كذلك يتخذ المؤلف من استعمال القرآن كلمة "زبور" وجمعها: "زُبُر" برهانا على أن محمدا كان يعكف على مزامير داود متعلما ومستفيدا منها وناقلا عنها وحاذيا قريانته حذوها. وفاته أن كلمة "زَبُور" إنما تعنى "الكتاب" أيا كان، وليس كتاب المزامير بالذات، وأن القرآن يستعمل، إلى جانب كلمة "الزبور والزبر" كلمة "الكتاب والكتب". بل إن كلمة "كتاب" ومشتقاتها لتتردد فيه مئات المرات بينما لم ترد كلمتا "زبور" و"زُبُر" سوى تسع مرات ليس إلا. وعلى أية حال ها هم أولاء الشعراء الجاهليون يستخدمون "الزبور والزُّبُر" والفعل المشتق منهما قبل مجىء محمد بدعوته مما يدل على أن استعمال القرآن لهذه الكلمة لا يعنى انشغال محمد بالعكوف على مزامير داود والنقل عنها كما يزعم الكاتب، بل على استعمال القرآن للغة القوم الذين أرسل إليهم محمد: "وما أرسلنا من رسولٍ إلا بلسان قومه ليبيِّن لهم".
وهذه شواهد إتيان كلمة "زَبُور وزُبُر" فى الشعر الجاهلى وشعر المُخَضْرَمِين. قال امرؤ القيس:
أَتَتْ حِجَجٌ بَعْدِي عَلَيها فَأَصْبَحَت كَخَطِّ زَبُورٍ في مصاحِفِ رُهْبانِ
وقال الملك الضليل ايضا:
لِمَنْ طَلَلٌ أَبْصَرْتُهُ فَشَجاني كَخَطِّ زَبُورٍ في عَسِيبِ يَمَانِ؟
وقال عبد الله بن العجلان النهدى:
أَمِ الدار أَمْسَت قَد تَعَفَّت كأَنَّهَا زَبُورُ يَمَانٍ نَقَّشَهُ سُطُورُهَا؟
وقال المرقِّش الأكبر:
قد خُطّ ذلك في الزُّبُو رِ الأوَّلِيَّاتِ القَدَائِمْ
وقال لبيد بن ربيعة العامرى:
وَجَلا السُّيُولُ عَنِ الطُّلولِ كَأَنَّها زُبُرٌ تُجِدُّ مُتُونَها أَقْلامُها
وقال أبو ذُؤَيْب الهُذَلى:
عَرَفْتُ الدِّيارَ كَرَقْمِ الدَّوا ةِ يَزْبِرُها الكاتِبُ الحِمْيَرِيُّ
فالكلمة موجودة فى لغة العرب قبل محمد واتصاله المزعوم بالقِرْيَانَات السُّرْيَانية. ومن ثم فاستعمال القرآن لها أمر طبيعى، إذ هى اللغة التى يستعملها العرب ويفهمها العرب، ومن الطبيعى أن يخاطَب بها العرب، مع العلم بأن كلمة "كتاب" ومشتقاتها قد تكررت فى القرآن الكريم مئات المرات، وبكل مشتقاتها، فى حين لم يستعمل من مادة "ز ب ر" سوى "الزبور" فقط مفردا وجمعا، وفى تسعة مواضع ليس إلا.
وقد ادعى المؤلف زورا أن محمدا كان هدفه وضع قريانة عربية تجمع نصوصا من الأناجيل كى يستعملها هو ومن؟ (لا أدرى والله) فى الصلاة والعبادة. والمعروف أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يجتمع بأتباعه فى بيت الأرقم عند الصفا والمروة مثلا أو بين شعاب بعض الجبال، فيصلون هناك. فهل سمعه أحد يصلى بشىء من الأناجيل؟ إن حياته صفحة مفتوحة بيضاء ليس فيها أى غبش، وهى متاحة فى القرآن الكريم والأحاديث الشريفة والسِّيَر النبوية وكتب التاريخ، وليس فى شىء منها أى كلام عن الصلاة بنصوص من غير القرآن. لا مانع أن يكفر أحد بالله وبالإسلام، ولكن ليس بهذه الطريقة.
لقد كان الرسول منذ اللحظة الأولى يعرف أن الأمر هو أمر اتصال بالسماء. ولقد رجَّته التجربة فى بدايتها الأولى رجًّا عنيفًا زلزل كيانه حتى لقد عاد من الغار إثر اللقاء الأول له مع ملاك الوحى ترجف بوادره طالبا من خديجة أن تغطيه وتدفئه، وإن لم يَدَعْه الوحى يهنأ بالتلفف فى الأغطية، فأهاب به أن يقوم ويترك الإخلاد إلى الراحة. ترى هل هذا رد فعل رجل كل همه أن يجمع نصوصا من هنا وها هنا من الأناجيل وغيرها مما عند أهل الكتاب لكى يصلى بها هو ومن يسايره فى خطته؟
يقول "صحيح البخارى": "كانَ أوَّلُ ما بُدِئَ بهِ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم الرؤيا الصادقةُ في النومِ، فكانَ لا يرَى رؤيَا إلا جاءتْ مثلَ فَلَقِ الصُّبحِ، ثم حُبِّبَ إليهِ الخَلاءُ، فكانَ يلْحَقُ بغارِ حِرَاءٍ، فيَتَحَنَّثُ فيهِ (قالَ: والتَّحَنُّثُ) الليالِيَ ذواتِ العددِ قبلَ أن يَرْجِعَ إلى أهلِهِ، ويَتَزَوَّدُ لذَلِكَ، ثمَّ يَرْجِعُ إلى خَدِيجَةَ، فيَتَزَوَّدُ بمثْلِهَا، حتى فَجِئَهُ الحقُّ وهو في غَارِ حِرَاءٍ، فجاءَهُ المَلَكُ فقالَ: اقرأْ. فقالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: ما أنَا بِقَارِئٍ. قالَ: فأخَذَنِي فَغَطَّنِي حتى بلغَ مني الجَهدَ، ثم أرسلنِي فقالَ: اقرأْ. قلتُ: ما أنَا بقارِئٍ. فأخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانيةَ حتى بلَغَ مني الجَهدَ، ثم أرسلَني فقالَ: اقرأْ. قلتُ: ما أنَا بقَارِئٍ. فأخذَنِي فَغَطَّنِي الثَالِثَةَ حتى بلَغَ مني الجَهْدَ، ثمَّ أرسلَنِي فقالَ: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالقَلَمِ... الآياتِ إلى قَوْلِهِ: عَلَّمَ الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَم. فرجَعَ بهَا رسولُ اللهِ صلَى اللهُ عليهِ وسلمَ تَرْجُفُ بَوَادِرُهُ حتى دَخَلَ على خَدِيجَةَ، فقالَ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي. فَزَمَّلوهُ حتَّى ذهَبَ عنهُ الروعُ. قالَ لخَدِيجَةَ: أيْ خَدِيجَةُ، مَا لِي؟ لقدْ خَشِيتُ على نفسِي. فأخبرَهَا الخَبَرَ،. قالتْ خَدِيجَةُ: كلَّا. أَبْشِرْ، فواللهِ لا يُخْزِيكَ اللهُ أبدًا. فواللهِ إنَّكَ لَتَصِلُ الرحِمَ، وتصدُقُ الحديثَ، وتَحْمِلُ الكَلَّ، وتَكْسِبُ المَعْدُومَ، وتَقْرِي الضَّيْفَ، وتُعِينُ على نَوَائِبِ الحقِّ. فانْطَلَقَتْ بهِ خديجةُ حتَّى أَتَتْ بهِ وَرَقَةَ بنَ نَوْفَلٍ، وهوَ ابنُ عمِّ خديجَةَ أَخِي أبِيهَا، وكانَ امرأً تَنَصَّرَ في الجاهِلَيَّةِ، وكانَ يكْتُبُ الكتابَ العربِيَّ، ويكتُبُ من الإنجيلِ بالعربيةِ ما شاءَ اللهُ أن يكتُبَ، وكانَ شيخًا كبيرًا قد عَمِيَ، فقالتْ خديجةُ: يا ابنَ عَمِّ، اسمَعْ من ابْنِ أخِيكَ. قالَ ورَقَةُ: يا ابنَ أخِي، ماذا تَرَى؟ فأَخْبَرهُ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم خَبَرَ ما رأَى، فقالَ ورَقَةُ: هذا النَّامُوسُ الذي أُنِزَل على موسَى. لَيْتَنِي فيهَا جَذَعًا، ليتَنِي أكُونُ حيًّا (ذَكَرَ حَرفًا). قالَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: أوَمُخْرِجِيَّ هُمْ؟ قالَ وَرَقَةُ: نَعمْ، لم يأتِ رجلٌ بمَا جِئْتَ بهِ إلا أُوِذِيَ. وإنْ يُدْرِكْنِي يَومُكَ حيًّا أنْصُرُكَ نصرًا مُؤَزَّرًا. ثمَّ لم يَنْشَبْ ورقةُ أنْ تُوُفِّيَ. وَفَتَرَ الوحْيُ فَتْرَةً حتى حَزِنَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم".
ويقول أول نص نزل من القرآن: "اقرأ باسم ربِّك الذى خَلَق * خَلَقَ الإنسانَ من عَلَق * اقرأ وربُّك الأكرم * الذى علَّم بالقلم * عَلَّم الإنسان ما لم يَعْلَم". فأين الدياتاصرون هنا؟ إن طريق الوحى الذى نزل على محمد لهو طريق جديد يباين الطرق التى كانت موجودة آنذاك تمام المباينة. إنه طريق العلم والفكر والقلم والثقافة والإبداع. إنه طريق الحضارة. ثم يأتى متسافه كذوب فيقترف كذبا جلفا بشعا ويقول إنه عليه السلام إنما كان يريد وضع قريانة عربية!
على أن أمر محمد لا ينحصر فى النبوة المحلية بل يتعداها إلى النبوة العالمية التى تتغيا هداية البشر جميعا على اختلاف أديانهم وأقطارهم وأزمنتهم. وهذا مثبت فى نصوص الوحى المبكرة والمتأخرة: "وماأرسلناك إلا كافَّةً للناس بشيرا ونذيرا"، "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين"، "قل: يا أيها الناس، إنى رسول الله إليكم جميعا"، "إن الذين آمنوا، والذين هادوا والصابئين والنصارى: من آمن بالله واليوم الآخر، فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون"، "ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو فى الآخرة من الخاسرين". كما تكرر فى القرآن القول بأن موسى وعيسى قد بشرا بنبوة محمد ودَعَوَا أتباعهما إلى المسارعة للإيمان به. ومصداقا لهذا دعا محمد اليهود والنصارى فى بلاد العرب إلى اعتناق دينه، كما بعث برسائل إلى ملوك الأرض من حوله يدعوهم إلى الإسلام. فهل هذا صنيع رجل كان منتهى أمله وجُمَّاع همه أن يجمع بعض نصوص الأناجيل كى يصلى بها هو ومن معه؟ ثم لماذا لم يرد عليه هرقل مثلا قائلا له: اربع على ظلعك! أتراك تظن أننا لا نعرف حقيقتك وأنك واحد من أتباع ديننا كل غايتك تصنيف دياتصرون تصلى به وتعبد ربك وتدعوه؟ لكنهم كلهم سكتوا فلم ينبسوا ببنت شفة. فعلام يدل ذلك؟
بل لقد كان القرآن يتحدى أعداءه على الدوام مؤكدا لهم فى كل مرة أنهم منهزمون منهزمون مهما أنفقوا من أموال وحشدوا من رجال وحاكُوا المؤامرات وحبكوها. وهذا التحدى قد بدأ مبكرا فى مكة ومحمد ضعيف يتعرض صباح مساء إلى الأذى والأخطار التى تتهدد حياته، ولم ينتظر حتى ينتقل وأتباعه إلى المدينة وتصير له دولة وقوة، وظل القرآن ينتهج ذات النهج إلى آخر عمره عليه السلام: "قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ" (الأنعام/ 135)، "وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ * وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ" (هود/ 121- 122)، "قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ" (الزُّمَر/ 39- 40)، "إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ" (الأنفال/ 36)، "هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ" (التوبة/ 33)، "هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا" (الفتح/ 28)، "وَمَنْ أَظْلَـمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ" (الصفّ/ 7- 9)، "إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا" (النصر/ 1- 3)... فما السر يا ترى؟ السر، ببساطة شديدة، هو أنه كان نبيا مرسلا من عند الله عز وجل، ولم يكن، كما افترى عليه الكاتب، رجلا كل همه أن يؤلف كتابا ليتورجيا.
كذلك كان له صلى الله عليه وسلم أعداء نصارى ومنافقون ويهود ووثنيون. فكيف سكتوا كلهم فلم يفتح الله عليهم بكلمة تتهمه بأنه ليس سوى رجل نصرانى يريد إنشاء قريانة عربية يصلى ويعبد الله بها هو ومن يرافئه على هذا السخف؟ لقد كان هناك زوج رملة بنت أبى سفيان، الذى هاجر مع من هاجر من مكة إلى الحبشة، وهناك تنصر وأخذ يسخر من رفقائه المسلمين ويعلن أنه كان مغمض العينين ففتَّح، وبَقُوا هم فى عماهم القديم. فلماذا لم يقلها؟ وكان هناك أمية بن أبى الصلت، وكان يبغض محمدا ويريد أن يكون هو النبى المنتظر. فلماذا لم يهتبل الفرصة السانحة ويضرب محمدا ضربة تطيره من مقعد النبوة ويحتل هو مكانه، ولن يكلفه الأمر شيئا سوى أن يعلن ما كان يعرفه من أنه ليس أكثر من نصرانى كل همه تجميع كتاب من بعض نصوص الأناجيل يستعين به فى صلواته وعباداته؟ وكان هناك وفد نجران، الذى أتى إلى المدينة ودعاهم النبى إلى المباهلة فنكصوا على أعقابهم وآثروا دفع الجزية والبقاء على ما هم عليه من النصرانية. ولنلاحظ أنهم من أهل اليمن، الذين قال المؤلف إنهم من اليعاقبة وتأثر بهم محمد فى عقيدته حول السيد المسيح. ترى لماذا لم ينتهزوا فرصتهم العظيمة لكى يقضوا على مزاعم محمد ويخزوه ويكشفوا الغطاء عن حقيقته عوضا عن الهروب من المواجهة والمباهلة وتفضيلهم دفع المال لينجوا من الهوان والفضائح؟ وكان هناك أيضا جَبَلَة بن الأيهم، الذى ارتد فى عهد عمر وهرب تحت جنح الظلام والتحق بالروم وصار من مقربيهم والمبجلين لديهم. فلم يا ترى لم يكشف السر الخطير الذى ظل دفينا حتى هل علينا المستشرق الفرنسى ووصل بلوذعيته إلى ما لم يصل إليه أحد طوال كل هاتيك الأجيال؟ وبالمثل كان هناك يهودٌ كِثَارٌ فى المدينة تقبع فى قلوبهم نحو محمد إِحَنٌ وعداواتٌ وثاراتٌ وأحقادٌ متلتلة، ولم يفلتوا أية وسيلة دون أن يحاربوه بها إرادة القضاء عليه وعلى دينه. فما السبب يا ترى فى أنهم خَرِسُوا كغيرهم فلم يكشفوا الغطاء الذى يتلفف به محمد ويخفى به حقيقته؟ السبب هو أنه لم يكن ثم غطاء ولا كانت ثم عورات يعمل على إخفائها البتة. لقد بلغت بهم الوقاحة وجمود الوجه والكفر أن سافر بعض زعمائهم إلى مكة أثناء اشتعال الصراع بين مكة الوثنية والمدينة الموحدة وقالوا للمشركين إن آلهتهم خير من توحيد محمد. أفلو كان هناك شىء مما يزعمه الكاتب على محمد كذبا أكانت يهود تسكت فلا تطنطن به وتستخدمه خنجرا فى ظهره؟
ومما يلجأ إليه الكاتب أيضا لإثارة اللغط والبلبلة حول القرآن زعمه أن كلمة "يُلْحِد" فى قوله تعالى عن الشخص الذى كان المشركون يدَّعون أنه هو الذى علم الرسول فكانت ثمرة تعليمه القرآن: "ولقد نَعْلَم أنهم يقولون إنما يعلِّمه بَشَرٌ. لسان الذى يلحدون إليه أعجمىٌّ، وهذا لسانٌ عربىٌّ مبينٌ" مأخوذة من الكلمة السريانية: "l'ez" بمعنى "تكلم بإبهام". وهذا عنده دليل على أن مصدر القرآن سريانى. ثم يمضى فى مزاعمه الطائشة قائلا إن القرآن لا ينفى أن يكون معلم محمد أعجميا، إذ كل ما يثبته هو أنه مصوغ صياغة عربية مبينة، لكنه لا ينكر وجود معلم أعجمى لمحمد. وكما يرى القارئ فإن الكاتب يخلط الأمور خلطا شنيعا، إذ أين الدليل على أن كلمة "يلحد" مأخوذة من السريانية؟ لا دليل، بل هو خلل خلقى وعلمى أصاب الكاتب ودفعه إلى هذه الفرية المبينة. كما أن الكلمتين لا تتطابقان صوتيا، وليس هناك دليل على أن العين والزاى فى الكلمة السريانية قد تحولتا إلى حاء ودال فى العربية. وفوق هذا فمعنى الكلمتين مختلف، فالقرآن لا يريد أن يقول إن اتهام المشركين للنبى كان مبهما، بل كان منحرفا عن سواء الحق، إذ يتركون الصواب وينحرفون إلى مثل تلك الاتهامات الكاذبة. وهذا معنى "اللحد والإلحاد" فى اللغة العربية. وحتى لو افترضنا أن "ل ح د" موجودة فى السريانية وأن هذا هو معنى الكلمة فيها فعلا فلم ياترى يجب أن تكون العربية هى الآخذة لا المعطية؟ إن كلتا اللغتين لغة سامية، والعربية لغة قديمة جدا حتى إن بعض علماء اللغة من بين الغربيين أنفسهم يجعلون من لغة الضاد أصل اللغات السامية جميعا. ومن وقاحة الكاتب زعمه أن القرآن لا ينفى وجود معلم لمحمد. ترى كيف ذلك؟ لقد أورد القرآن تهمة المشركين ورد عليها مؤكدا أن من يقول ذلك عن محمد ويكذب بنبوته وبالقرآن هو مفترٍ للكذب وله يوم القيامة عذاب أليم: "وَلَقَدْ نَعْلَـمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ * إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ". فما معنى ذلك؟ معناه أن ما يقوله المشركون باطل. لكن الكاتب يعمل بخبث على إفساد اللغة والمنطق بضميره المنكوس.
ولنأخذ بعض النصوص الأخرى التى تتناول نفس الموضوع جريا على ما يقوله الكاتب من أن القرآن ذاتى المرجعية، ومن ثم ينبغى الرجوع إليه عندما نريد أن نفسر منه شيئا، إذ هو يفسر بعضه بعضا. جاء فى سورة "الفرقان": "تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا * ... * وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آَخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا * وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا * قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا"، وفى سورة "الكهف": "الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا * قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا"، وفى سورة "طه": "طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى * تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَا"، "وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا"، وفى سورة "الأنبياء": "َقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ"، "وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ"، وفى سورة "الحج": "وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ"، وفى سورة "القصص": "وكذلك أنزلنا إليك الكتاب"، "أَوَلَـمْ يَكْفِهم أنّا أنزلنا عليك الكتاب يُتْلَى عليهم؟"، وفى سورة "ص": "كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ". وفى سورة "القدر": "إنا أنزلناه فى ليلة القدر"... إلخ، وهو كثير.
ليس هذا فحسب، بل لقد أُمِر محمد أن يعلن، ردا على المشركين الذين كانوا يريدون منه تبديل الوحى، أنه لا يستطيع شيئا من هذا لأن الأمر ليس مرده إليه بل إلى الله: "وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآَنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ". ومع هذا يتغشمر الكاتب فيزعم أن القرآن لا ينكر أن يكون هناك معاونون لمحمد يخبرونه بما فى القريانة السريانية. كل ما هنالك أنه حريص على القول بأنه عربى الصياغة واضح المعنى. ما كل هذا التواضع يا كاتبنا؟
ثم ها هو ذا القرآن لا ينفى فقط أن يكون هناك معلمون لمحمد (من أهل الكتاب طبعا!)، بل يجعل من نفسه الرقيب والمهيمن على التوراة والإنجيل كما جاء فى سورة "المائدة": "وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ". ذلك أن أهل الكتاب، كما نقرأ فى نفس السورة، قد عبثوا بكتابيهما: "وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآَتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآَمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ * فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ * يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ"، "يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آَمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آَخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ"...
على أن هذه ليست خاتمة المطاف، ففى نصوص الوحى المبكرة كلام عن النبوة والرسالة وصحف الوحى واليوم الآخر والنعيم والعذاب وما إلى ذلك مما ينسف الفكرة التى يلف المؤلف ويدور حولها فى تساخف بغيض كما نرى فى سور "الهُمَزة والتكاثر والقارعة والعاديَات والزلزلة والليل والغاشية والانشقاق والانفطار وعَبَسَ والنبأ والمرْسَلات والإنسان والقيامة والمدَّثِّر والمزَّمِّل والجن والمعارج والحاقّة والقلم والمُلْك... وهَلُمَّ جَرًّا. أى أن كل الطرق التى يحاول المؤلف سلوكها مغلقة تمام الإغلاق فى وجهه لا يستطيع معها شيئا مهما اتخذ من الحيل ووضع من الخطط،إذ هو يقول كلاما متهافتا يدابر المنطق ويناقض وقائع التاريخ الصحيحة.
وفى نهاية المطاف، وبعد أن اتضح تهافت فكر المؤلف ولامنطقيته وتناقضه وما يعج به من خيالات مريضة، نتساءل: ترى ما الغاية التى يتغياها هذا الشيطان من وراء هذا السخف؟ إنه محاولة البلبلة ونشر الفوضى فى الذهن الإسلامى حتى يخر ساقطا من الإرهاق والشك وعدم الاطمئنان لشىء أو الاستقرار على شىء. إنه الفوضى الخلاقة التى تسعى أمريكا إلى خلقها خلقا فى بلاد المسلمين، لكنها هذه المرة فوضى فكرية لا سياسية. وهذه الفوضى أعتى من الفوضى الأخرى لأنها تأتى إلى أساس كل شىء، ألا وهو العقل، فتنسفه أو على الأقل: ترجّه وتبلبله أملا فى أن ينتهى به الأمر إلى الإرهاق الشديد والسقوط الذريع. وفى المثل الشعبى: "الزَّنّ على الآذان أَمَرّ من السِّحْر". والواقع أن المؤلف قد أقدم على كتابة بحثه هذا وفى ذهنه تحيير العيون وشَلّ العقول ولخبطة الأذهان، وبخاصة وقد أضاف إلى هذا كله عددا كبيرا من المراجع يختار كلمة من هذا وعبارة طائرة من ذاك متقافزا من مرجع إلى آخر، ومن عصر إلى عصر غيره، سواء كانت هناك صلة بين هذه الأطراف أو لا. فالمراد هو إرعاب القارئ بإيهامه أنه أمام عالم لوذعى فذ، وتدويخ عقله وشله تماما بكثرة الإحالات ومراكمة المصادر والمراجع بحيث يجد نفسه فى حالة انبهار وتسليم وعجز. ولن يعدم المؤلف شياطين مستعدين للمعاونة فى هذا المجال أو حمقى جاهزين لتصديق هذا الجنون. ومرة أخرى على رأى المثل الشعبى: "طلقة الرصاص التى لا تصيب تزعج". كفانا الله شر الرصاص والإزعاج، ووقانا خبث شياطين الإنس!
ومن الواضح أيضا أن الكاتب يتصرف فى دراسته هذه، إن صحت تسميتها: "دراسة"، تصرُّف من يمارس لعبة الچيج سو (jig saw). إنه طوال الوقت يبذل جهده للبحث عن القطع التى يملأ بها الفراغات المجهزة سلفا حتى ينتهى إلى الشكل المراد تجميعه. فلديه، منذ البداية، الشكل النهائى الذى يجب الخروج به فى نهاية اللعبة مهما أخذت من وقت واستعمل لها من طرق. لقد وضع المؤلف فى ذهنه مسبقا أنه لا بد من الوصول إلى أن محمدا لم يكن نبيا بل كان يجمع النصوص المستعارة من اليهوديّة والنصرانية واليهوديّة- النصرانيّة والمانويّة والغنوصيّة والدياتسارون والأناجيل الأبوكريفا... إلخ لتكوين قريانة عربية كالقِرْيَانَات التى كان يؤلفها السريان. وعلى هذا الأساس ينطلق المؤلف فيلتقط هذا النص من هنا، وذلك النص من هناك واضعا كلا منها فى الفراغ المخصص له بحيث ينتهى إلى الفكرة المذكورة. وما هكذا يكون البحث العلمى. فالبحث العلمى يقوم على الحيادية والمنطق والمقدمات التى تؤدى إلى نتائجها الطبيعية واحترام السياق والنصوص والوثائق لا الاجتراء عليها وإهمالها وضرب الصفح عنها.
ثم إن هذه الفكرة الملفقة التافهة تفترض أن محمدا كانت تحت يده مكتبة متخصصة فى اللغات الشرقية والنصوص الدينية المختلفة، ولديه هو والفريق الذى يعاونه وقت بلا حساب للنظر فى كتب تلك المكتبة وتفليتها تفلية دقيقة كى يختاروا منها النصوص التى يمكن تأليف قِرْيَانة منها، ثم ترجمة تلك النصوص ترجمة راقية رُقِيًّا غيرَ مسبوق أو ملحوق ثم مراجعتها مراجعة دقيقة لا يخرّ منها الماء، فضلا عن خلوّ البال من مقلقات العيش ومتطلبات الحياة، وهو ما يستلزم وجود مؤسسة تنفق على هذا المشروع وعلى من يقومون به عن سعة. ثم إنهم، بعد ذلك كله، يجتمعون فى السر والظلام بحيث لا يراهم أحد ولا يسمع بهم أحد ولا يعرفهم أو يتنبه لأمرهم أحد، اللهم إلا المؤلف النِّحْرِير بعد كل تلك القرون المتطاولة.
والحق أن هذا ليس بغريب فى ساحة الصراع الثقافى القائم بيننا وبين الغرب والمستمر منذ قرون. فالغرب فى صراعه مع الإسلام يتنفس طول عمره الكذب تنفسا. وله فى ذلك تقاليع كارثية. فقديما افترى الغربيون الكذب على الإسلام زاعمين أن محمدا قسٌّ رومانيّ محنق لأنه لم ينتخب لكرسي البابوية. وقال بعضهم إنه إله زائف يقرّب له عباده الضحايا البشرية. وادَّعَوْا أنه مات في نوبة سكر بيّن وأن جسده وُجِدَ مُلْقًى على كوم من الرَّوْث وقد أكلت منه الخنازير، وهذا هو السبب الذي من أجله حرّم لحم ذلك الحيوان فى الإسلام. وجعلوا له صنما من ذهب. أمّا أغنية رولان، التي تصوّر فرسان شارلمان وهم يحطّمون الأوثان الإسلامية، فتزعم أن مسلمي الأندلس يعبدون ثالوثا مكوّنا من ترفاجان وماهوم وأبلون. وتزعم "قصة محمد" أن الإسلام يبيح للمرأة تعدّد الأزواج! وهو، كما ترى أيها القارئ، كلام يشبه كلام المجانين.
أما فى العقود الأخيرة فقد رأينا مثلا كتاب "الهاجرية" للمستشرقين: مايكل كوك وباتريشيا كرون، اللذين يزعمان أنْ "ليس ثمة دليل قوي حول وجود القرآن بأي شكل قبل العقد الأخير من القرن السابع، والتقليد الذي يقدّم هذا النص المنزّل المبهم إلى حد ما في سياقه التاريخي لم يُشْهَد على صحته قبل منتصف القرن الثامن". وهناك بيير راكان الطبيب النفسانى الفرنسى الملتاث الذى ينادى فى كتابه: "Un Juif nommé Mahomet" ببقر بطن المدينة المنورة كى نثبت لجنابه أن محمدا كان موجودا حقيقة، ولم يكن وهما من الأوهام. ألا يقول المسلمون إنه كانت هناك معركة تسمى: معركة الخندق؟ فلنبقر بطن المدينة إذن حتى نثبت أنه كان هناك فعلا خندق، ومن ثم كان هناك رجل اسمه محمد. وهذا جنون مطبق دون مراء. وهو ما تناولته فى دراسة لى بعنوان "تقاليع مجنونة فى كتابة السيرة النبوية".
وقبل هذا وذاك ظهر على الساحة فى بداية الربع الثانى من القرن العشرين بحث لديفيد صمويل مرجليوث يمضىى نفس الاتجاه التشكيكى الشامل، وإن دار تشكيكه حول شعر ما قبل الإسلام. وعنوان البحث: "The Origins of Arabic Poetry"، وفيه ينكر المستشرق البريطانى الشعر الجاهلى كله مدعيا أنه من نتاج العصر العباسى، ولم يكن له وجود البتة قبل ذلك التاريخ. والعجيب أنه رغم كل تلك المؤامرات يتهمنا الغربيون بأننا نعتقد بنظرية المؤامرة دون وجه حق وأن اعتقادنا فيها قد صار إدمانا، وأفسد علينا عقولنا وحياتنا، وجعلنا نتوهم أشياء ما أنزل الله بها من سلطان. أى أنهم يريدون منا إلغاء عقولنا ورجوعنا إلى حالة السذاجة والبلاهة الأولى حين لم تكن التجارب قد صقلت البشرية بعد، فيصير من السهل إذن خداعنا والمكر بنا وقلب الحق باطلا، والباطل حقا.