جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
كرستوف لكسنبرج
والتفكير بالأظلاف! (1-2)
بقلم إبراهيم عوض
للمستشرق الألمانى أو المتألمن: "كرستوف لكْسِنْبِرْج" Christoph Luxenberg)) بحث بعنوان "سورة النّجم: قراءة سريانيّة- آراميّة جديدة" طبق فيه، على صدر سورة "النجم"، دعواه الطويلة العريضة عن غير علم أو منطق بأن فى القرآن أشياء كثيرة لا يمكن فهمها بدون الرجوع إلى اللغة السريانية لأنها مأخوذة من تلك اللغة لفظا ومضمونا، إذ كان لمحمد معاونون ممن يعرفون لغة السريان يساعدونه على تأليف القرآن وشحنه بالكنوز الدينية السريانية. وهذا البحث مترجم إلى العربية على يد التونسى ناصر بن رجب الذائب غراما وهياما بالمستشرقين العابثين بالقرآن، والمدابرين للعقل والبرهان. وكنت، وأنا أقرأ البحث، أتخيل أنى فى محل تحف ثمينة أتأمل كنوز الفن والجمال والإبداع، وإذا بثور يدخل بغتة ويدهس كل التحف الرائعة الثمينة بأظلافه دون وعى أو إدراك. وهذا طبيعى، فهو ثور، وكيف يدرك الثور قيمة التحف أو يعرف أنه يحطم أشياء غالية عزيزة لها عند البشر الراقين مكانة، وأى مكانة؟ ولكرستوف لوكسنبرج كتاب كامل فى دعوى استعانة النبى بالسريان فى تأليف القرآن اسمه بالألمانية: " Die Syro-Aramäische Lesart des Koran: Ein Beitrag zur Entschlüsselung der Koransprache"، وبالإنجليزية: "The Syro-Aramaic Reading of the Koran: A Contribution to the Decoding of the Language of the Qur'an". وربما أتيح لى يوما أن أتناوله بالنقد والتحليل، إذ هو أساس تلك الصرعة السريانية السخيفة فى ميدان التفسير القرآنى التى يراد منها نشر التشكيك فى القرآن وفى نبوة محمد بين المسلمين بكثرة الإلحاح عليها هنا وهناك.
وكنت أخاطب زوجتى البارحة قبيل الفجر عن الموضوع، وتذاكرنا أيام بعثتى فى أكسفورد والكتب الكثيرة التى قرأتْها معى هناك، فوجدتها تتساءل فى تلقائية: ألا تلاحظ مدى الانشغال الرهيب بالإسلام فى أرجاء العالم ووتيرة الهجوم المتلاحقة عليه؟ قلت لها: إن الغرب يضع فى ذهنه منذ البداية الإتيان برقبة هذا الدين العبقرى. وللأسف فإن أتباعه الآن لا يعرفون قيمته ولا عظمته كما ينبغى، وجل اهتمامهم الطعام والشراب والتناسل، اللهم إلا القليل منهم، وكان الله يحب المحسنين! بل إن بعضهم يتبرع بمعاونة الغربيين فى الإيقاع بهذا الدين تحدوهم مشاعر النقص والدونية متصورين أنهم، بوقوفهم إلى جانب الغرب ضد دينهم، قوم متحضرون إذ يساعدون الجانب القوى المنتصر من البشر ضد قومهم الضعفاء المستذَلين المهانين. وبدلا من أن يأخذوا بيد قومهم ويدلوهم على السبيل الصحيحة، سبيل الإسلام بمبادئه السامية وقيمه الرفيعة، نراهم يخونون أمتهم وينحازون لأعدائهم ضدها. ومنهم مترجم البحث الحالى إلى لغة الضاد، فهو يزعم أنه يقف مع العلم ضد الجهل، والإبداع ضد التقليد والتكرار غير المفيد. وهو فى هذا يفترى الكذب والباطل مما سوف يتبدى بعد قليل على نحو ساطع من ردى على لكسنبرج وإظهارى عوراته بل سوآته بل مقاتله الفكرية والعلمية والبرهنة على أنه ليس سوى بهلوان كبير، ودجال من الطراز السخيف.
يقول لكسنبرج فى أول بحثه ما نصه: "لقد أظهر التحليل الفيلولوجي أنّ الألفاظ الثلاثة التي تُكوِّن هيكل كتاب الإسلام المُقدَّس لها جذر سرياني: 1- قرآن (وهي صيغة مُحرّفة من "قِرْيانا"- كتاب طقوس) (1)، 2- سورة (من السريانيّة "سورة كْتَابْ"، تعني حرفيّا: نصّ الكتاب- كتاب [مقدّس])، 3- آية (قراءة خاطئة للّفظة السريانيّة "آثَا" - علامة [من بين معاني أخرى]: أ- علامة سماويّة- مُعجِزة، ب- كلّ علامة من العلامات التي تتكوّن منها الكتابة، أي كلّ حرف من حروف الأبجديّة). وهكذا يبدو واضحا وبشكل مطّرد أنّ نصّ القرآن، وهو أوّل كتاب تأسيسي في لغة الأدب العربي، لا يمكن فهمه ضمن محيطه التّاريخي إلا إذا أخذنا بعين الاعتبار اللّغة الأدبيّة المُهَيْمِنة في تلك الفترة وفي ذلك الوسط. لقد وصف آرثر جيفري، في كتابه: "The Foreign Vocabulary of the Qur’an"، المكانة الرئيسية التي تحتلّها اللغة السريانيّة في مجمل المفردات القرآنية الأجنبيّة التي يحتوي عليها القرآن، على النّحو التالي:
"السّريانيّة: ذاك هو، بدون أدنى شكّ، المنبع الغزير الذي نهل منه القرآن. فاللّغة السريانية، التي لا تزال حيّة إلى اليوم كلغة ليتورجيّة، وكذلك كلهجة تتكلّم بها أقليّة من المسيحيّين الشرقيّين في سوريا وبلاد ما بين النهرين وفارس، كانت في تلك الفترة (ظهور الإسلام) لغةَ التخاطُب لتلك الجماعات المسيحيّة التي كانت معروفة معرفة جيّدة لدى العرب. (وكتب جيفري في الهامش: بالنّسبة لهذه الدراسة فإنّ لفظ سريانيّة- الآراميّة المسيحيّة. وهذا يشمل اللّهجة المسيحيّة الفلسطينيّة واللّهجة الآراميّة للمسيحيّين القاطنين شمالي سوريا بالإضافة إلى لهجة الرُّها (أورهاي بالآراميّة) السريانيّة الكلاسيكيّة التي نعرفها جيّدا من خلال الأدب والتي من المعروف أنّها استولت بغير حقّ على لقب "سريانيّة"). إنّه من الصّعب تحديد مدى انتشار استعمال اللّغة السّريانيّة في زمن محمّد في المنطقة التي تُعْرَف اليوم بسوريا، ولكن يبدو من المؤكّد إلى حدٍّ ما أنّه، عندما كانت اللّغة الإغريقيّة هي اللّغة الأدبيّة المهيمِنة في المنطقة في تلك الفترة، فإنّ السكّان العاديّين الأصليّين كانوا يتكلّمون عامّةً السريانيّة"".
والملاحظ أن المستشرقين بوجه عام حريصون بشكل سخيف ومَرَضِىّ على أن يرجعوا كل لفظ دينى فى الإسلام إلى لغة سامية أخرى غير العربية: فهذه الكلمة آرامية الأصل، وتلك عبرية، وتيك سريانية... إلخ. ولم يحدث، فى حدود ما أذكر، أن رد أحدهم كلمة عبرية أو آرامية أو سريانية إلى أصل عربى، مع أن كل تلك اللغات لغات سامية ترجع كلها إلى أصل واحد، ومن ثم فالصلات بينها قوية، ووجوه الشبه فى الألفاظ والمعانى كثيرة، وبالتالى لا ينبغى أن نقول باستعارة العربية من أى منها بل بانحدارها كلها، ومنها العربية، من اللغة السامية الأم، سواء كانت لغة حقيقية أو أصلا مفترضا، ودعنا الآن من أن بعض علماء الساميات يجعلون من العربية أصلا لكل تلك اللغات بمعنى أنها هى اللغة السامية التى تفرعت منها كل هذه الألسنة. إذن فاللغة السامية هى الصلة المشتركة بين تلك اللغات المذكورة، ومعها الأكادية والبابلية والفينيقية والحبشية... وعلى هذا فمتى توقفنا عند شىء مشترك بين العربية وأى منها، وكان لا بد من القول باستعارة إحداهما من الأخرى فالمفروض أو الأرجح على الأقل أن تكون العربية هى المعيرة، والأخرى هى المستعيرة. لكن المستشرقين بعامة يصرون على نهجهم ذاك الغريب المدابر للعلم والمنهج العلمى مكايدةً للإسلام ونكايةً فيه. ذلك أن العربية عندهم هى لغة محمد، ولغة القرآن الذى نزل على محمد، ولغة الدين الذى أتى به محمد وانتصر على اليهودية والنصرانية وتحولت الملايين من أتباعهما إليه عبر القرون، أما الآرامية والسريانية والعبرية فلغات اليهود والنصارى، رغم أنها كلها لغات شرقية، أى ليس لهم منها شىء لا فى الثور ولا فى الطحين، لكنها العصبية الدينية الغبية.
ولدينا هنا ثلاث كلمات (هى "القرآن والسورة والآية") يقول المؤلف إنها موجودة أيضا فى السريانية. وسوف أصدقه مؤقتا وأفترض أنها موجودة فى هاتين اللغتين بنفس النطق والمعنى. فلم يا ترى ينبغى أن نقول باستعارة العربية لها من السريانية؟ بل لم لا نقول إن السريانية هى التى استعارتها من لغة الضاد، وبخاصة فى ضوء ما يقوله بعض المتخصصين فى اللغات السامية من أن العربية هى اللغة السامية الأم التى انبثقت منها الآرامية والسريانية والعبرية وغيرها من اللغات السامية؟ فإذا ما تبين لنا أن كلمة "القرآن" مشتقة من "ق ر أ"، وكانت مادة "قرأ" موجودة فيها على نطاق واسع، ووزن "فُعْلان" منتشرا انتشارا واسعا كـ"برهان، وفرقان، وتكلان، وحسبان، وعمران، وبنيان، وجردان، وفقدان..."، إضافة إلى أنها ليست بنفس النطق والمعنى فى السريانية، كان لنا أن نقول إن المستشرقين يتساخفون فى موقفهم ذاك. وهذا أخف لفظ يمكن أن نصفهم به هنا. وإذا كان محمد قد استعار تلك اللفظة رغم ذلك من السريانية محولا إياها خطأً من "قريانة" إلى "قرآن"، وهم يقولون إن محمدا كان يستعين بسريان فى تأليف قرآنه، فكيف يا ترى نعلل ذاك الخطأ، فى الوقت الذى كان حوله سريان أصلاء على سن ورمح؟ ترى لماذا لم يصلحوا له ذاك الخطأ؟ بل لماذا يقع ذلك الخطأ أصلا، وهم موجودون؟ ألا تَرَوْن أن المستشرقين يقلبون الوضع رأسا على عقب؟ هل هذا علم؟ هل هذا تفكير علمى؟
والمعروف أن الرسول عليه السلام، بأمر من الله سبحانه، كان حريصا على إبعاد أى عنصر يهودى أو نصرانى عن دينه حتى إنه، حين فكر فى طريقة لدعوة المسلمين إلى الصلاة، واقترح عليه بعضهم النفخ فى الشبور كما يفعل اليهود، أو قَرْع الجرس على النحو الذى يصنع النصارى، رفض هذا وذاك، واستقر الأمر على الاستفادة من الصوت الإنسانى الجميل الرقراق. كما أنه قد أمر أتباعه أن تكون لحاهم مخالفة للحى غيرهم كما هو معروف. وهناك حديث يحض على الصلاة فى النعال، وصيام تاسع المحرم مع عاشره جميعا مخالفةً لليهود. وكان اليهود إذا حاضَتِ المرأةُ فيهم لم يُؤَاكِلُوهَا ولم يُجَامِعُوها في البيوتِ، فسأل أصحابُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم النبيَّ، فأنزلَ اللهُ تعالى: ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض... إلى آخر الآية. فقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: اصْنَعُوا كلَّ شيءٍ إلا النكاحَ. فبَلَغَ ذلك اليهودَ، فقالوا: ما يريد هذا الرجلُ أَنْ يَدَعَ من أمرِنَا شيئًا إلا خالفَنا فيه. وفى المدينة نزل الوحى بتغيير القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة بعدما كان المسلمون فى مكة يستقبلون الكعبة وبيت المقدس معا فى ذات الوقت قائمين إلى الجنوب من الكعبة بحيث تكون بينهم وبين بيت المقدس فى الصلاة، فيستقبلون الاثنين جميعا، وبعدما صَلَّوْا بعض الوقت إلى الشمال حين لم يعد ممكنا الصلاة إلى الكعبة وبيت المقدس فى نفس الوقت، أتى الوحى بالتحول فى الصلاة إلى الجنوب فى مكة حيث يقوم البنيان الذى شاده من قديمٍ أبوهم إبراهيم. فكيف يقال إن الرسول قد أخذ "القرآن" من "قِرْيانة" السريانية؟ وهذا إن كان، ولا يمكن أن يكون، هناك سريان فى مكة، وكذلك لم يكن حوله سريان فى أى مكان أو زمان ولا كان يعرف سريانا فى يوم من الأيام ولا استعان بأحد من السريان أو الجن الأزرق فى صياغة قرآنه، ببساطة لأن القرآن كتاب سماوى جاء من عند رب العالمين. وهذا ما يحاول المستشرقون والمبشرون إثارة الضجيج حوله بهذه البهلوانيات المضحكة التى مكانها الوحيد المناسب هو السيرك.
ثم لماذا السريانية بالذات؟ هل فيها سرٌّ باتعٌ جعلت لكسنبرج يختارها هى بالذات دون غيرها من اللغات ساميّة كانت أو حاميّة؟ لاحظ، أيها القارئ العزيز، أنه يقول بوجود السريانية آنذاك فى الشام والعراق فقط، وإن لم يكن رغم هذا متأكدا مما يقول. ومن ثم كان سؤالنا المشروع بل وسؤال أى شخص عنده عقل ومنطق: إذا كان موطن السريانية على هذا البعد الشاسع من مكة حيث ظهر محمد والقرآن فكيف يا ترى تفسر تأثر القرآن بها؟ وأين الدليل على ذلك التأثر؟ ومتى تم؟ ومن كان الوسيط أو الوسطاء الذين أخذ محمد السريانية عنهم وأدخلها قرآنه؟ وفى أية ظروف كان ذلك؟ ولماذا سكت معلموه أو معاونوه عن ذكر دورهم، وبخاصة حين خدعهم وجعل من نفسه نبيا وتركهم يقشرون بصلا وفاز هو بالغنيمة وصار اسمه يدوى كالطبل: أولا فى بلاد العرب، وبعد هذا فى بلاد الدنيا كلها، فى الوقت الذى لا يذكرهم ولا يبالى بهم ولا يعرفهم أحد، وقبعوا فى الظلام والخفاء ونسجت عليهم العنكبوت بيتها ونسيهم العالم أجمع؟
والعجيب أن ألفاظ "السريانية" و"السريان" (أو "النبطية" و"الأنباط" بنفس المعنى) لا وجود لها لا فى الشعر الجاهلى ولا فى شعر المخضرمين ولا فى شعر صدر الإسلام بما فى ذلك شعر أمية بن أبى الصلت المتصل بكتب أهل الكتاب ولا فى القرآن ولا فى أحاديث المصطفى عليه الصلاة والسلام ولا فى كتب السيرة النبوية. ويؤكد البروفسير دانيال كينج، أستاذ اللغة السريانية- الآرامية بجامعة كارديف، فى بحثه: "A Christian Qur'an?" أن فى كلام لكسنبرج عن الألفاظ السريانية المزعومة فى القرآن ما يدل على اضطراب علمه بتلك اللغة، وعلى تسرعه وتعسفه فى استنتاج نتائجه. بل لقد لاحظ أن بعض تلك الألفاظ لا وجود لها أساسا فى لغة السريان.
ونبدأ بمناقشة تساخفات لكسنبرج، وأولها التساخف الخاص بدعوى سريانية كلمات "قرآن" و"سورة" و"آية": أما "قرآن" فهو مصدر مشتق من مادة "ق ر أ"، وألفاظها كثيرة فى القرآن الكريم، ومعظمها مرتبط بقراءة القرآن: "وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ" (الأعراف/ 204)، "فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ" (النحل/ 98)، "وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا" (الإسراء/ 13- 14)، "وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا" (الإسراء/ 45)، "وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا" (الإسراء/ 106)، "وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ * فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ" (الشعراء/ 198- 199)، "إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآَنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآَخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآَخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ" (المزمل/ 20)، "لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ" (القيامة/ 16- 18)، "وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ" (الانشقاق/ 21).
ومن شواهد شعر تلك الفترة فى هذا المجال البيتان التاليان لشاعرين أحدهما لم يسلم قط، وهو أمية بن أبى الصلت، والثانى لم يكن أسلم بعد، وهو كعب بن زهير. يقول أمية:
كِتابًا مِنَ الله نَقْرَا بِهِ = فَمَنْ يَعْتَرِيهِ فَقِدْمًا أَثِمْ
ويقول كعب:
يَسْقِينَ طُلْسًا خَفِيّاتٍ تَراطُنُها = كَما تَراطَنُ عُجْمٌ تَقرَأُ الصُّحُفا
ومن استعمال العرب آنذاك لكلمة "قرآن" بمعنى الكلام المقروء، وهو المعنى اللغوى العام لا الاصطلاحى لتلك الكلمة، ما جاء فى "اتفاق المبانى وافتراق المعانى" للدقيقى من أن أبا بكر سأل عن "قرآن" مسيلمة، أى الكلام الذى كان يزعم أنه ينزل عليه من السماء ويقرؤه على أتباعه. وفى "البداية والنهاية" لابن كثير خبر آخر عن هذا الموضوع وردت فيه لفظة "قرآن" بنفس المعنى. وفى "المثل السائر" لابن الأثير وصف لكتاب "الشاهنامة" بأنه "قرآن القوم".
وأما كلمة "سورة" فمادتها متوافرة فى العربية، وهى "س و ر". ومن شواهدها فى شعر الجاهليين قول المثقِّب العبدى:
غَلَبْتَ مُلُوكَ الأَرْضِ بِالحَزْمِ وَالنُّهَى = فأنتَ امْرُؤٌ في سُورَةِ المجدِ تَرْتَقي
وقول النابغة الذبيانى:
أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أعطاكَ سُورَةً = تَرَى كُلَّ مَلْكٍ دونَها يَتَذَبْذَبُ؟
* * *
وَلِرَهْطِ حَرّابٍ وَقَدٍّ سُورَةٌ = في المجدِ ليس غُرابُهُم بِمُطارِ
* * *
وميزانه في سورة المجد ماتع
وقول عمرو بن شأس الأسدى، وهو جاهلى مخضرم أدرك الإسلام شيخا كبيرا:
خزيمةُ ردّاني الفَعَال، ومعشرٌ = قديمًا بَنَوْا لي سورة المجد والكرم
والطريف أن السريان لا يستخدمون كلمة "سورة"، التى يزعم لكسنبرج أن الإسلام استعارها منهم للوحدات القرآنية، بل يستخدمون كلمة "إصحاح". فانظر بالله عليك إلى التنطع الاستشراقى الذميم! فالمفروض أن محمدا كان ينبغى أن يسمى سُوَر القرآن: "إصحاحات" ما دام يأتمر بأمر السريان الذين يعاونونه فى تأليف قرآنه. أليس ذلك ما يفرضه المنطق؟ ولكن منذ متى كان لكسنبرج وأشباهه يراعون المنطق عند حديثهم عن الإسلام أو يفكرون فى احترامه؟
وتبقى كلمة "آية"، وهذه بعض شواهدها من شعر الجاهلية. يقول الحارث بن حِلِّزَة:
أَيُّها الشانِئُ المُبلِّغُ عَنّا = عِندَ عَمْرَوٍ، وَهَل لِذاكَ اِنتهاءُ؟
مَلِكٌ مُقسِطٌ وَأَكمَلُ مَن يَمـْــــــــــــــــــشِي، وَمِن دونَ ما لَدَيْهِ الثناءُ
إِرمِيّ بِمثلِهِ جالَتِ الجِنُّ = فَآبَت لِخَصْمِها الأَجْلاءُ
مَن لَنا عِندَهُ مِنَ الخَيرِ آيا = تٌ ثَلاثٌ في كُلِّهِنَّ القَضاءُ
آيةٌ شارِقُ الشَّقِيقَةِ إِذ جا = ؤوا جميعًا، لِكُلِّ حَيٍّ لِوَاءُ
ويقول النابغة الذبيانى:
مَنْ مُبْلِغٌ عَمْرَو بنَ هِنْدٍ آيَةً؟ = وَمِنَ النصيحَةِ كَثْرَةُ الإِنْذارِ
* * *
تَوَهَّمْتُ آياتٍ لها فَعَرَفْتُها = لِسِتَّةِ أَعْوامٍ، وذا العامُ سابِعُ
ويقول حَجل الباهلى:
أَبلِغ مُعاوِيَةَ المُمَزَّقَ آيَةً = عَنّي، فَلَسْتُ كَبَعْض ما يَتَقَوَّلُ
ويقول زهير:
أَرَاني، إذا ما شِئْتُ، لاقَيْتُ آيَةً = تُذَكِّرُني بعضَ الذي كنتُ ناسِيا
ويقول سنان المرى:
مَن مُبلِغٌ عَنّي المُثَلَّمَ آيَةً = وَسَهْلا؟ فَقَد نَفَّرْتُم الوَحْشَ أَجْمَعا
ويقول عبيد بن الأبرص:
تُرِيني آيَةَ الإِعْراضِ منها = وَفَظَّتْ في المَقَالَةِ بَعْدَ لِينِ
ويقول طرفة بن العبد:
فَغَيَّرْنَ آياتِ الدِّيارِ مَعَ البِلَى = وليسَ على رَيْبِ الزمانِ كَفيلُ
* * *
وَبِالسَّفْحِ آياتٌ كَأَنَّ رُسُومَها = يَمَانٍ وَشَتْهُ رَيْدَةٌ وَسَحُولُ
ويقول عروة بن الورد:
عَفَتْ بَعْدَنا من أُمِّ حَسّانَ غَضْوَرُ = وفي الرَّحْلِ منها آيَةٌ لا تَغَيَّرُ
* * *
تنَكَّرُ آياتُ البلادِ لِمالِكٍ = وَأَيْقَنَ ألا شَيْءَ فيها يُقَوَّلُ
فالكلمة إذن كانت موجودة فى اللغة العربية وجودا راسخا مطمئنا قبل ظهور الإسلام، ولا داعى للقول باستعارة القرآن لها لا من السريانية ولا من العفاريت الزرق. وأسخف من هذا كله، وهذا كله قد بلغ الغاية فى السخف والرداءة، قول الكاتب المسكين إن كلمة "آية" هى قراءة خاطئة للّفظة السريانيّة: "آثَا". الله أكبر! إن ذلك المسكين الذى لا يحترم عقله (وهو فى ذلك حر، لأنه عقله، فمن حقه أن يصنع به ما يشاء) ولا يحترم عقولنا (وهو بالتأكيد ليس حرا فى ذلك)، ويقول كلاما لو عُرِض على أى طفل صغير لرَفَضَه لسطوع تهافته وتفاهته، يفترض أن الذين تأثروا بالسريانية إنما تعلموها على أيدى أنفسهم وعرفوها معرفة صامتة، أى بالنظر فقط، فهم لا يعرفون كيف ينطقونها لأنهم لم يتلقَّوْها عن أحد يتلفظها أمامهم فيعرفوا منه كيف تُنْطَق ألفاظها، فكأنهم يمارسون الرسم ولا يتعلمون لغة. ومن هنا فحين رَأَوْا كلمة "آثا" وظنوها: "آية" انتهى الموضوع على هذا النحو وظل هكذا إلى الأبد. هذه واحدة، والثانية أنه ليس هناك وجه صلة بين الكلمتين كما يرى القارئ بنفسه. وثالثا كيف يخطئ المتضلعون من السريانية (الذين كانوا يعلّمون محمدا كيفية تأليف القرآن) فى نطقها ويقعون فى هذا الخطإ المبين الذى لا يقع فيه جحش صغير؟ ورابعا كيف نقبل هذا الذى يقوله لكسنبرج فى الوقت الذى تتوافر فى لغة الضاد كلمة "آية"؟ نعم كيف تكون كلمة "آية" متاحة فى العربية ثم يتجاهل محمد هذا ويذهب فينقب هو ومعاونوه أو معلموه فى السريانية فلا يجدون سوى كلمة "آثا"، فيأخذونها ليرموها فى أقرب مقلب زبالة ويستبدلون بها كلمة "آية" الموجودة من الأصل فى لغته؟ صدق المثل: أذنك من أين يا جحا؟ وحتى لو قلنا إن كلمة "آية" نفسها كانت موجودة فى السريانية كما هى موجودة فى العربية فلِمَ ينبغى أن تكون العربية هى الآخذة لا المعطية؟ وسادسا من يا ترى الذين ساعدوا محمدا من العالمين بالسريانية فى استعارة تلك الألفاظ من لغتهم وإدخالها فى قرآنه؟ ومتى كان ذلك؟ ومن الشهود؟ وأين الدليل على أى شىء من هذا كله؟ وسابعا، ويكفى هذا الآن، كيف تتأثر العربية بلغة يبعد موطنها عن موطن العرب كل ذلك البعد الشاسع فى وقت كانت وسائل الاتصال والمواصلات فى غاية البطء والبدائية؟
إن المستشرقين يقولون دائما لنا: إنكم تريدوننا أن نكتب عن الإسلام من وجهة نظركم رغم أننا لا نؤمن به ولا بمحمد. والواقع أنْ ليست هذه هى نقطة الخلاف، فلم يطلب منهم أحد أن يسلموا، لأن الإسلام دين الحرية والرقى، ولا يحتاج إلى الضغط على أحد كى ينال شرف اعتناقه، فضلا عن أن الإسلام الإكراهى لا يُقْبَل عند الله سبحانه. المطلوب هو احترام المنهج العلمى. وأين المنهج العلمى فى الحديث عن تأثيرات سريانية فى ألفاظ القرآن ومضامينه فى الوقت الذى ليس هناك أى دليل على هذه الدعوى، بل كل الدلائل تصرخ بأن شيئا من ذلك لا يمكن أن يكون صحيحا؟
إن صنيع هذا المستشرق ونظرائه إنما يستهدف وضع المسلمين دائما تحت ضغط التشكيك فى دينهم وكتابهم ونبيهم وإرباك ذهنهم وعقولهم وإشعارهم أن كل شىء فى القرآن مؤلف تأليفا وليس نازلا من السماء وأنه لا فرق بينه وبين الكتاب المقدس، الذى انهار تحت معاول البحث والتحقيق بعدما ثبت أنه من صنع بشر. وبهذا لا يكون أحد أحسن من أحد. ذلك أنهم يعرفون جيدا أن الإسلام هو الحصن الحصين المتين للمسلمين. به فتحوا العالم وسادوا الدنيا، وظل الغرب يرتعب منه ومن أتباعه قرونا. وهم موقنون أن المسلمين بدون الإسلام لا شىء: فبه قوتهم، ومنه عزتهم وكرامتهم، وبمبادئه وقيمه العظيمة يمكنهم أن يستعيدوا مجدهم الدابر الغابر ويهددوا أوربا وأمريكا أيما تهديد. فالذى يفعله المستشرقون هو ضربات استباقية حتى لا يفيق المسلمون من سكرتهم وخُمَارهم ويظلوا فى رقدة الوخم والوهن بل رقدة العدم التى هم فيها. واستدامة تلك الرقدة القاتلة إنما تكون بالتشكيك فى مصدر القرآن، والإلحاح على أنه إنجاز محمدى. وما دام القرآن صناعة بشرية فلن يعود له ذلك السحر الآسر الذى يستولى به على العقول والقلوب.
على أن دور الغربيين لم يتوقف عند هذا، بل تراهم يعضدون المشائخ الضالين المضللين الذين يلفتون الناس عما فى دينهم من قيم بديعة ومبادئ سامية سامقة ويشغلونهم بالتفاهات والشكليات التى تستهلك اهتماماتهم وتصرفهم عن الجواهر والأصول فلا تكون له قيمة فى عالم الحضارة والصراعات السياسية والاقتصادية والثقافية، وهو حال المسلمين اليوم بوجه عام حتى ليظن من ليس له اطلاع على دينهم أنه دين يأمر بالتخلف والضياع ويَنْهَى عن التقدم والتحضر بكل ما فيه من طاقة وقوة. ومرة أخرى لا يكتفى الغربيون، فى محاربتهم الإسلام، بهذا بل يشيعون الاضطراب فى مفاهيمه ومضامينه قالبين كل شىء فيه رأسا على عقب، وعقبا على رأس. فتراهم يسخرون من الجنة ويتهمون الإسلام بأنه دين شهوانى لأنه يعد أتباعه بمتع الطعام والشراب والجنس هناك، وكأن الجنس والطعام مما يعاب، وكأنهم هم لا يسرقون شعوب العالم ويقتلون منها الملايين بل ويدمرونها تدميرا من أجل المال الذى به يشترون الطعام والشراب ويستمتعون بالنساء. يا لهم من منافقين! ثم إن هؤلاء الشياطين يستديرون من الناحية الأخرى ساخرين من إيمان المسلمين بما فى الجنة من نعيم ومتع، قائلين إن الشبان الذين يموتون فى سبيل دينهم ويضحون بأرواحهم وأموالهم مخدوعون بما يقرأونه فى القرآن من أنه سوف يكون فى الفردوس حور عين، إذ هذا فهم خاطئ لنصوص القرآن صوابه أنهم سوف يأكلون زبيبا أبيض ليس إلا. فهذا هو معنى "حور عين" فى القرآن طبقا لتفسير لكسنبرج.
وعليه فهؤلاء الشبان الذين يضحون بحياتهم وراحة بالهم ومستقبلهم الدنيوى تصديا لعربدات الغرب فى بلادنا وإجراماته فى حقنا لن يعوَّضوا عنه بشىء سوى حبات العنب الأبيض المجفف. أما ردى على هذا السخف فهو أن الزبيب أفضل مليارات المرات مما ينتظر لكسنبرج وأشباهه من نيران الجحيم التى سوف يُشْوَوْن فيها شَيًّا وتُقَلَّب وجوههم فى لظاها تقليبا، كلما نضجت جلودهم بُدِّلوا جلودا غيرها ليذوقوا العذاب، إن لم يكن جزاء كفرهم وإلحادهم، فجزاء كذبهم وقلة ذوقهم وتنطعهم، وإلا فأى حمار ذلك الذى يفسر "الحور العين" بالزبيب الأبيض؟ طيب يا أخى، خَلِّ بعضه أبيض، وبعضه أحمر، وبعضه أصفر، وبعضه أسود، وبعضه بناتيا بدون بذر، وبعضه مُزَّا مُبَذَّرا... وهكذا، وزد عليه أيضا بعض التين المجفف والقراصيا إذهابا للملل ومنعا للشعور بوطأة الضيق جراء لزوم لون واحد من الطعام.
وهنا نصل إلى بهلوانيات لكسنبرج فى هذا المجال. إنه مثلا يدعى أن لغة القرآن لا تتطابق ولغة الشعر الجاهلى. كيف؟ هذا ما لا أدريه ولا يدريه أى عاقل فى رأسه مسكة من العلم والفهم. ترى هل الشعر الجاهلى يرفع الفاعل بينما ينصبه القرآن؟ ترى هل الشعر الجاهلى يجر المضاف إليه بينما يجزمه القرآن؟ ترى هل الجملة العربية فى الشعر الجاهلى فعلية واسمية، بينما هى فى القرآن حرفية؟ ترى هل يأتى حرف الجر فى الشعر الجاهلى قبل الاسم المجرور بينما يأتى فى القرآن بعده؟ أم هل يا ترى تختلف مفردات المعجم أو المشتقات أو أنواع الأزمنة أو أدوات الشرط مثلا هنا عنها هناك؟ أم هل ينتمى الشعر الجاهلى إلى اللغة العربية بينما ينتمى القرآن إلى اللغة اللاوندية؟ هل العرب منذ نزول القرآن قد صاروا عربَيْن: عربا يفهمون القرآن ولا يفهمون شيئا فى الشعر الجاهلى، وعربا يفهمون الشعر الجاهلى بكل أريحية بينما يجدون القرآن معمَّيات وألغازا؟ وهل كان المشركون ليسكتوا على تحدى القرآن لهم أن يأتوا ولو بسورة من مثله فلا يردوا عليه بأن اللغة التى نزل بها غير لغتهم التى يعرفونها وينظمون شعرهم ويلقون خطبهم بها؟ بل هل كان يمكن أن يفهموا القرآن، وهو بلغة وقواعد غير لغتهم وقواعدهم؟
إن مثل هذا الكلام لا يمكن أن يخرج من عقل أى إنسان بل من مخرج آخر. أيمكن أن يكون صاحب هذا الخبص واللبص أوربيا ممن صنعوا الغواصات وغَزَوُا الفضاء وشيدوا الطائرات وأبدعوا الصواريخ وسفن الكواكب وبلغوا القمر واخترعوا المذياع والتلفاز والمشباك والأمصال واللقاحات والأدوية لمختلف الأمراض والعمليات الجراحية المختلفة وغير ذلك من ألوف المخترعات فى كل ميدان ومجال؟ بيد أننا ينبغى أن نتنبه إلى أن كثيرا جدا من الغربيين إذا سمعوا بالإسلام والقرآن يضطرب تفكيرهم وتتداخل سلوك عقولهم وتضطرب قواهم الذهنية وتتشوش أمخاخهم فيقولون كلاما أشبه بكلام المجانين أو كلام المتخلفين.
وسوف أنقل من الآن فصاعدا أهم ما قاله لكسنبرج عن الآيات الثمانى عشرة الأولى من سورة "النجم"، التى اتخذها مجالا لتطبيق منهجه السخيف فى التفسير السريانى للقرآن المجيد معقبا على ما قاله أولا بأول. ولسوف يتضح بكل جلاء أن الرجل بهلوان كبير ليس له موضع أحق به من السيرك. يقول عن الآية الأولى من السورة الكريمة: "إنّ التحليل الفيلولوجي لسورة النّجم سيقيم الدليل على أنّ موضوعها الرئيسي هو الجدل الشائع في محيط الرّسول (لم يُذْكَر اسمه في السورة)، الذي رُمِيَ بالجنون. ففي الآية 25 من "المؤمنون": "إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ"، وفي الآية 8 من "سبأ": "أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَم بِهِ جِنَّةٌ؟" اتُّهِم محمّد بأنّه ركِبه "جِنٌّ"، وفي خمس آيات أخرى وُصِف بأنّه "مَجْنُون" (ليس بالمعنى الحديث للكلمة، ولكن بمعنى "استحوذ عليه جنّ"، "ركبه جنّ"). يدحض القرآن التهمة الأولى في ثلاث مناسبات: "أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِم مِّن جِنَّةٍ" (الأعراف/ 184)، "أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُم بِالْحَقِّ" (المؤمنون/ 70)، "مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُم" (سبأ/ 46)، ويدحض كذلك التهمة الثّانية في آيات ثلاث: "فَذَكِّرْ فَمَا أَنتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ" (الطور/ 29)، "مَا أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ" (القلم/ 2)، "وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُونٍ" (التكوير/ 22). إنّ سورة "النّجم" تتناول سبب بعض العوارض التي تنتاب النّبي والتي لاحظها خصومه. والسؤال يتمثّل في معرفة ما إذا كانت هذه العوارض نتيجةَ وَسْوَسة شيطانيّة أم وَحْيٍ إلهي. القرآن، بطبيعة الحال، يتمسّك بالحالة الثانية، وينسب أيضا نفس "المرض المقدّس" إلى رُسُلٍ آخرين كانوا قد سبقوا رسول القرآن. ولهذا السبب صرّح القرآن في سورة "الذاريات" (51/ 52): "كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم مِنْ رَّسُولٍ إلا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ". وقد اتُّهِم نوح بنفس التهمة في سورة "القمر" (54/ 9): "كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ". وبعد أن وضّحنا السياق الذي يجب أن نتناول فيه سورة "النّجم" يمكننا عندئذ الشروع في تحليل النّص تحليلا دقيقا، آخذين بعين الاعتبار، وفي نفس الوقت، اللّغة العربيّة واللّغة السريانيّة الآراميّة.
تحليل فيلولوجي لكلّ آية على حدة: "وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى"... إنّ ما يصفه نولدكه بخصوص النّحو السرياني، والذي كثيرا ما يُحَيِّر المختصّين في العربيّة، نجده أيضا جليّا في الجملة التي تأتي في مقدّمة السورة التي نحن بصددها. فوحدة الجملة، التي انكسرت بفعل إدخال الفاصلة الخاطئة (بعد "هَوَى")، لم يهْتدِ إليها المفسِّرون والمترجمون. في الحقيقة تحتوي الآيتان الافتتاحيتان على جملة مركَّبة من شرط (آية 1) وجواب شرط (آية 2). وهكذا فإنّ التركيب النحوي للجملة يكون كالتّالي: الكلمة الأولى: "والنَّجْمِ" ليست الفاعل في الآية 1 بل هي قَسَمٌ لا دور آخر له سوى تقديم الجملة التي تأتي لاحقا. وبناء على هذا فإنّ الجملة (الآية) كلّها تكون: "وَالنَّجْمِ"، وليس "وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى"... زمن الجملة التي تأتي بعدها "إِذَا هَوَى" زمن شرطي، والفاعل هو الشخص المذكور في جواب الشرط في الآية 2: "صَاحِبُكُمْ". يجب إذن أن نفهم الجملة على النحو التالي: "إِذَا هُوَ (صَاحِبُكُم) هَوَى". جواب الشّرط (جواب القسم) يأتي منطِقيًّا في الآية 2: "مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى". عندما يُترجِم بل (Bell) هذه الآية هكذا: " Your comrade has not gone astray, nor has he erred "، فهو لا يرى بوضوحٍ كافٍ ما تشير إليه، أي المَسُّ الشيطاني الذي يُعْتَقَد أنّ الذي يُصَاب به يخرج عن الطريق المستقيم وينتابه الهذيان. فلهذا السّبب إذن يؤكِّد القرآن أنّ النَّبي (صَاحِبُكُمْ) لم يَحِدْ عن الحقّ ولا زال عنه، ولم يُصَب بالهذيان. فتصبح ترجمة الآية الأقرب إلى الصواب كالتّالي: "Your companion has not gone astray, nor has he become delirious".