authentication required

كرستوف لكسنبرج والتفكير بالأظلاف! (2-2)
إبراهيم عوض

وأول شىء ألفت الانتباه إليه هو قول المستشرق إن القرآن ينسب المرض المقدس (أى الجنون) إلى الأنبياء الآخرين. وهذا كذب وافتراء، فلم يحدث قط أن نسب القرآن الجنون إلى أى نبى أو رسول كائنا من كان، وإلا كان هذا منه تكذيبا لهم. كل ما فعل هو ذكره اتهام أقوام النبيين والمرسلين لهم بالجنون مفندا اتهاماتهم ومسخفا عقولهم ومتوعدا إياهم بأسوإ مصير. وشتان هذا وذاك. وهذا يذكرنى بما افتراه خليل عبد الكريم على القرآن من أنه يصف أتباع نوح بـ"الأرذلين" مع أن القرآن لم يفعل أكثر من إيراد ما يقوله المستكبرون الكافرون على أولئك المؤمنين. كذلك فزعم المستشرق أن الآيات الأولى من سورة "النجم" إنما تتحدث عن اتهام المشركين له صلى الله عليه وسلم بالجنون والهذيان هو زعم جاهل. فالآيات تذكر الضلال والهوى والغواية، وهذه أمور أخلاقية. ولو كانت تريد أن تنفى عنه الجنون لذكرت الهذيان لأنه أمر عصبى يرتبط بالجنون. وهذا من الوضوح بمكان مكين، ومن ثم فكل ما قاله الرجل فى هذا الموضوع سخف فى سخف. 
أما قوله إن المفسرين، ومن ثم المترجمين، قد أخطأوا فهم التركيب الموجود فى الآيات الثلاث الأولى من السورة بسبب جريها على النحو السريانى فلا أدرى أى جنون سول له هذا الهذيان. أى نحو سريانى؟ وأى بطيخ؟ إن معنى الآيتين واضح تماما، وهو القسم بالنجم عند هُوِيِّه بأن الرسول لم يضلَّ ولم يَغْو ولم ينطق عن الهوى. فما المشكلة فى ذلك؟ أهى فى الفصل بين القسم وجوابه ووجود هذا فى آية، وذاك فى آية أخرى؟ لكن ذلك يتكرر كثيرا فى القرآن. وحتى لو سرنا على دربه الملتوى الخبيث وقلنا: إن المعنى هو "والنجم إن صاحبكم إذا هوى ما كان ضالا ولا غاويا ولا ناطقا عن الهوى" لظل الفصل قائما بين الشرط وجوابه كما هو واضح، إذ إن فعل الشرط موجود فى الآية الأولى، وجوابه موجود فى الآية الثانية. وهذا يعنى أن اعتراضه لا يخرج عن أن يكون زوبعة فى كستبان (لا فى فنجان). أما الطنطنة بالنحو السريانى وإنجاده لنا فى فهم هذه الآية التى يزعم أبو جهل غموضها، وما هى بغامضة إلا على لسان الكذاب الدجال الذى يستحق قَطْعَه، فهى طنطنة لا معنى لها ولا محصَّل من ورائها لأنه لا يوجد هنا نحو سريانى ولا دياولو. إن هى إلا شعوذة منحطة يحاول لكسنبرج التأثير بها على السطحيين المتخلفين من أمثاله. 
والآن أحب أن أنبه القراء إلى أننا لو فصلنا "والنجم" عن "إذا هوى" وجعلنا "إذا" شرطية (وليست ظرفية بمعنى "حين يهوى") لوجدنا أنفسنا إزاء تركيب لا وجود له فى القرآن قط. فالقرآن، حين يستخدم واو القسم مع شىء كالنجم، فهو يرفد المُقْسَم به إما بـ"إذا" الظرفية وإما بنعت أو عطف مثلا، أو يفعل الأمرين جميعا: "والقرآن ذى الذِّكْر * بل الذين كفروا فى عِزّةٍ وشقاق"، "والكتابِ المُبِين * إنا جعلناه قرآنًا عربيًّا لعلكم تعقلون"، "والكتابِ المُبِين * إنا أنزلناه فى ليلةٍ مباركةٍ. إنا كنا منذِرين"، "والقرآنِ المجيد * بل عجبوا أنْ جاءهم منذرٌ منهم، فقال الكافرون: هذا شىء عجيب"، و"الذاريات ذَرْوا * فالحاملات وِقْرا * فالجاريات يُسْرا * فالمقسِّمات أمرا * إن ما تُوعَدون لَصَادِق"، "والطُّور * وكتابٍ مسطور * فى رَقٍّ منشور * والبيت المعمور * والسقف المرفوع * والبحر المسجور * إن عذاب ربك لواقع"، "والسماءِ ذات البروج * واليوم الموعود * وشاهِدٍ ومشهود * قُتِل أصحابُ الأخدود"، "والسماء والطارق * وما أدراك ما الطارق؟ * النَّجْمُ الثاقب * إنْ كلُّ نفسٍ لـمَّا عليها حافظ"، "والشمسِ وضُحاها * والقمر إذا تلاها * والنهار إذا جَلّاها * والليل إذا يغشاها * ... ونفسٍ وما سوّاها * فألهمها فجورَها وتقواها * قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دسّاها"، "والليلِ إذا يَغْشَى * والنهار إذا تجلَّى * وما خَلَقَ الذَّكَرَ والأنثى * إنّ سَعْيَكم لَشَتَّى"، "والضُّحَى * والليل إذا سَجَا * ما ودَّعك ربك وما قَلَى"، و"التينِ والزيتون * وطُور سِينِين * وهذا البلدِ الأمين * لقد خلقنا الإنسانَ فى أحسن تقويم"...
وبالمثل سوف يكون عندنا تركيب لا يعرفه القرآن بل ولا تعرفه اللغة العربية. ذلك أن تركيب الآيتين الأُولَيَينْ طبقا للتوجيه الغبى لذلك المستشرق سوف يكون كالآتى: "والنجم: إذا هوى لم يضل صاحبكم" بمعنى أن صاحبكم إذا هوى لم يضل. أى أنه إذا كان قد هوى من الصَّرْع فإنه لم يضل. والآن هل لاحظتم أن فاعل "هوى" ضمير يعود على متأخر لفظا ورتبة، وهو "صاحبكم" (فاعل فعل جواب الشرط)؟ ومعروف أن جواب الشرط يلى فعل الشرط قاعدةً وحكمًا، وهو يليه هنا واقعًا متحققا. وهذا لا تعرفه اللغة العربية ولا يعرفه القرآن. ثم متى يقول العربى: "إن فلانا قد هوى" هكذا بإطلاق دون أى تحديد أو توضيح، ويكون المقصود أنه قد سقط مصروعا؟ 
بل من قال أصلا إن محمدا كان يصيبه الصَّرْع؟ إن ذلك الشيطان يحاول بخبث، لكنه خبث مفضوح، أن يمرر فى هدوء أن النبى عليه الصلاة والسلام كان مصابا بالصَّرْع وكان يسقط دائما أمام المشركين فى الشارع كلما جاءته نوبة الوحى. يريد أن يقول إن وحى القرآن لم يكن وحيا سماويا بل أثرا من آثار الصَّرْع. ولكن منذ متى كان الصَّرْع يثمر شيئا مثل القرآن أو يثمر أى فكر أصلا؟ إن الصَّرْع حالة يفقد معها الإنسان حسه وشعوره وعقله وتفكيره. فكيف يتسق هذا وذاك؟ وكيف، عندما ينهض محمد من نوبة الصَّرْع، يكون جاهزا بنص قرآنى بلغ القمة فى روعة الأسلوب وفى رقى مضمونه العقيدى والأخلاقى والاجتماعى والاقتصادى والنفسى والسياسى والعسكرى حسب النص الموحى به؟ ولقد سبق أن تناولت تلك التهمة الغبية فى الفصل الثالث من الباب الأول فى كتابى: "مصدر القرآن"، وبينت من خلال ما كتبه الأطباء عن أعراض الصَّرْع أن أعراض الوحى شىء آخر مختلف تماما عن هذا المرض وعن أى مرض غيره. ثم لو كان محمد مريضا بالصَّرْع ويسقط فى شوارع مكة دائما أكان المشركون سكتوا فلم يزفوه بسخرياتهم من هذا المرض؟ أم هل كانوا يؤمنون به حتى لو انطبقت السماء على الأرض؟ وهل المصروع يمكن أن يكون قائدا سياسيا وعسكريا ومشرِّعا وزوجا وصديقا وأبا وحَمًا وقاضيا يبعث على الإجلال والتبجيل بين أتباعه، بل وبين الخصوم الكارهين له؟ وقبل ذلك كله هل حدث أن اتهمه قومه بأنه مصروع؟ الواقع أن ذلك لم يحدث قط. ألا إن ما يقوله ذلك الشيطان المسمى: كرستوف لكسنبرج، على خبثه وشره، لكلام ساذج مفضوح. 
كذلك يقول الكاتب إن "الهوى" فى الآية الثالثة هى الصَّرْع، فهل يمكن أن يقول العربى إن فلانا لم ينطق ما نطقه عن الصرع؟ يمكننا أن نقول إن فلانا ينطق عن علم أو عن جهل أو عن كبر أو عن فرط سذاجة مثلا، أما أن يقول إنه ينطق (بمعنى "يأتى بأفكار ومبادئ وعقائد وأخلاق") عن صرع فلا. ذلك أن الصرع غياب عن الوعى والإدراك والتفكير والتقدير، وليس حالة يمكن أن يصدر عنها أى شىء من هذا القبيل. أما استشهاده بقوله تعالى عن خمر الجنة: "لا يُصّدَّعون عنها ولا يُنْزِفون" فهو استشهاد فى غير محله، إذ التصديع (أى الإصابة بالصداع) هو نتيجة لشرب الخمر، أما التفكير والتقدير فليسا نتيجة للصرع. وهذا يريك كيف يخبط الرجل خبط عشواء! 
وهنا أود اهتبال الفرصة السانحة لسَوْق بعضٍ من كلامه فى تحليل الألفاظ العربية وانتقالها المزعوم من السريانية إلى العربية كى يلمس القارئ بنفسه أنه أمام كلام غير مفهوم. وهو نفسه الأسلوب الذى انتهجه لويس عوض فى كتابه: "مقدمة فى فقه اللغة العربية. وهذا مثال من كلام الكاتب الذى يشبه كلام لويس عوض مما يدل على أن الكلامين قد خرجا من معين واحد، واستخدما وسيلة واحدة هى ضرب الوَدْع والشمّ على ظهر اليد. يقول ذلك الأعجمى المتساخف مخطئا القرآن بعد أربعة عشر قرنا لم يستطع أن يدرك خطأه خلالها عمالقة الشعراء والخطباء والبلغاء من مشركين ويهود ونصارى معاصرين للنبى ولا متعصبة اليهودية والنصرانية الذين كانوا يعملون طوال الوقت على تصيد العورات للإسلام فلم يفلحوا حتى هل هلال لكسنبرج فالتقطت عيناه فى الحال تلك الأخطاء. يا له من أعجمى غبى! يقول: 
"القراءة التقليديّة: "يُنْزِفُونَ" قراءة خاطئة. والتعديل المُقْتَرَح هنا يُبرِّره الفعل السّرياني "اتْرَفِّي" ("استرخى")، وما الصيغة القرآنيّة إلا ترجمة له. أنظر:
R. Smith, Thesaurus Syriacus, vol. I, Oxford 1879, vol. 2, 1901.
مثلا: "رَفِّيُوتا" و "مرَفِّيُوتا" وما يقابلهما بالعربيّة، حسب بار علي وبار بهلول: "رَخَاوَة"، "ارْتِخَاء"، اسْتِرْخَاء". أن يكون الجذر السرياني "رْ فَ ا" هو نفسه صيغة مُشتقَّة من "رْ/فَ/ح" بحذف الحاء فذلك ما تبرهن عليه دلالة هذا اللّفظ الذي يقابِله منّا (Manna) في العربيّة بكلمة "رَخَفَ" (وهو تبادل صوتمي لكلمة "رَفَحَ"، فالحرف العربي "خَ" هو صوتم آرامي منبثق عن حرف "حَ"، ويؤكّد هذا عديد اللّهجات الآراميّة البابليّة بما فيها اللّهجات الآراميّة الجديدة التي تُعْرَف بالآشوريّة في بلاد ما بين النهرين) ثمّ "اسْتَرْخى" بالمعنى المادّي للكلمة (مثل العجين بالنّظر إلى طبيعته غير المتماسكة).
إن هذا الاستشهاد الأخير يُظهر لنا أنّ الجذر العربي "رَ/خَ/ا" هو اشتقاق تطوّر من حذف حرف النهاية: "ف" للفظة "رَخَفَ" (مثلا في اللّهجة الحلبيّة المعاصرة فإنّ لفظة "ب-أَعْرِفْ" تُنْطَق "ب-أَعْرَا). وهذه الأخيرة هي بدورها نطق مشتق من الجذر السرياني الآرامي "ر ح ي ف" الذي يُنطَق بدوره من خلال تخفيف الحرف الوسطي "ح"، والفعل العربي المشتق "رَأَفَ/رَؤُفَ"، ومنه اللّفظ السرياني "رَاحُوفَا" الذي يعطي اللّفظ العربي "رَئِيف". وهذا يمكن مقارنته بالجذر "رْ/حِ/يـ/مْ"، بالعربيّة "رَ/حِ/ي/مْ". أخيرا، نلاحظ أنّ "لسان العرب" يستشهد عند تعرّضه للجذر "رَ/فَ/حَ" بحديث عمر لمّا تزوّج أمّ كلثوم بنت علي، إذ قال: "رَفِّحُونِي". أي قولوا لي ما يُقال للمُتزوِّج، بمعنى "تَفْرَحُ" (وهذه العبارة ما زالت تُقال إلى يومنا هذا قبل أو عند الزّواج)، (وكذلك فإنّ عبارة "فَرَحْ" تُطلق على حفلة الزفاف في مصر مثلا، (وكذلك في تونس)). وهذا يُفسِّر لنا أن الصيغة المشتقّة من الفعل العربي "فَرِحَ" هي تبادل صوتمي للجذر السرياني الآرامي "ر/ف/ح" (أمّا الصيغة العربية الأخرى "رَ/قَ/حَ" التي ذكرها "لسان العرب" على أنّها تؤدّي نفس المعنى هي بوضوح نتيجة للتّنقيط الخاطئ الذي أفرز "ق" عوضا عن "ف"). نودّ أيضا أن نجلب الانتباه إلى صيغة أخرى للإشتقاق العربي لنفس الجذر التي هي نتيجة لقلب "الحاء" إلى "هاء" لكي تعطي: "رَفَهَ/رَفُهَ"، تَرَفَّهَ، والأسماء المشتقّة مثل "رَفَاهَة" و"رَفَاهِيَّة"... إلخ".
وهذا نص مشابه من كتاب لويس عوض، وهو عن لفظة "الصحراء" واشتقاقها متنقلة عبر اللغات المختلفة حتى وصلت إلى اللغة العربية طبقا لمزاعم لويس عوض الجاهلة. يقول: "اسم "دوشيرت: Doshert Doshret," بمعنى "صحراء" هو فى تقديرى صيغة من "اسم "سقارة" المصرية، و"سَقَر" أو "صَقَر" العربية، بمعنى "جهنم" أو "مملكة الموتى". وبهذا المعنى يمكن تفسير تردد كلمة "المستقرّ" و"المقرّ" فى القرآن عند ذكر "الآخرة". فالجذر إذن هو "قر" أو "كر" أو "خر" أو "حر" أو "جر" أو "شر" (بالميتاتيز: "روك")، وقد دخلت عليها "س" أو "ص" أو "ح" الابتدائية: إما لأنها صُوَرٌ من "dh-d"، وإما لأنها أداة السببية. وهكذا خرجت من "قر": "سقر" و"سقارة" و"صحراء" و"صخر" و"حجر"...إلخ. و"طوكر" فى العامية المصرية هى صيغة من "صقر" و"سقر" و"سقارة"، وبهذا المعنى يكون اصطلاح "يرسل إلى طوكر" معناها غالبا: "يرسل إلى الجحيم" أصلا، وليس النفى إلى طوكر فى السودان كما يظن عادة، لأن النفى إلى السودان كان عادة فى "فازوغلى" فى السودان وليس إلى "طوكر". ولأن "سقر" و"سقارة" و"قر" و"قرارة" كانت من أقدم العصور تنصرف إلى مملكة الموت أو جهنم بمثل ما تنصرف إلى معنى "الصحراء" ظهرت فى العربية عبارات مثل "سكرات الموت" دون أن يكون لها علاقة واضحة بفعل "سَكِر يَسْكَر"، أى "ثَمِل يَثْمَل". والكلمتان المتطابقتان من مجرد الهومونيمات التى تدعو إلى المجاز فى الاستعمال البلاغى: "وجاءت سَكْرة الموت بالحق، ذلك ما كنتَ منه تحيد" (ق/ 19)، "وترى الناس سُكارَى، وما هم بسُكَارى، ولكن عذاب الله شديد" (الحج/ 2). ومن جذر "كر" أيضا الألفاظ المتعلقة بمملكة الموت مثل اسم الملكين: "ناكر" و"نكير" ومادة "نشر- نشور"، وهى من "ناكر: نا+ شر"، وكذلك مادة "حشر" ومادة "الآخرة". واسم "قرارة- مملكة الموتى" بجوار "شارونة" فى المنيا. قارن "Acheren"...". 
أما "شديد القوى" فإن لكسنبرج يرى أنه هو الله وأن معنى "ذو مِرَّة": "الذى هو مارا"، أى الرب. وأما جملة "وهو بالأفق الأعلى" فالواو فيها استئنافية لا حالية، وتعنى أن الله يسكن فى الأعالى، أى أن مسكنه فى السماء، وأن "دنا فتدلى" معناها أنه سبحانه قد تواضع فنزل من عليائه ليكون فى مستوى عبده تحببا إليه وتنازلا حتى لا يكسر خاطره. أما من أين أتى التواضع هذا فمن كلمة "استوى"، التى أوصلها لكسنبرج ببهلوانياته وشقلباظاته إلى أن معناها: "تواضَعَ". أى أن الله قد نزل من عليائه نزولا ماديا وأخذ محمدا بالحضن زيادة فى التحبب والتواضع وتبادل معه الحوار وجها لوجه، وإن كان الحضن قد زاد عن حده فآلمت الضمة محمدا غاية الإيلام. معلهش! ملحوقة! إن شاء الله تكون الضمة فى المرة القادمة أرق من هذه! 
والآن إلى التفاصيل. فهو، بكل وضوح، لا يتصور أو لا يريدنا أن نتصور، أن صفة "القوة" لا يمكن أن يوصف بها أحد سوى الله، مع أن هذه الصفة قد تكررت فى القرآن كثيرا نعتا للمخلوقين كما فى قوله تعالى: "إنى عليه لقوى أمين"، "إن خير من استأجرتَ القوىُّ الأمين"، "اللهُ الذى خلقكم من ضعفٍ ثم جعل من بعد ضعفٍ قوة"، "مَنْ أشدُّ منا قوةً وأكثرُ جمعا؟"، "كانوا أشدَّ منهم قوة". بل إن قوله تعالى فى سورة "النجم": "شديد القوى" قد وُصِف به جبريل فى سورة "التكوير" فى الحديث عن نفس الموقف الذى ورد هناك: "وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ * وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ * إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطَاعٍ ثََمَّ أَمِينٍ * وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ * وَلَقَدْ رَآَهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ". فـ"شديد القُوَى" فى "النجم" هو ذاته الموصوف هنا بـ"ذى قوة عند ذى العرش مكين". وهناك رأى محمد جبريل "بالأفق الأعلى"، وهنا رآه "بالأفق المبين". وأرجو أن يتنبه معى القارئ إلى أننا هنا، كما هو الحال مع سورة "النجم" أيضا، إزاء قَسَمٍ متلوٍّ بـ"إذا" الظرفية، مع فصل القسم عن جوابه أيضا.
ومعروف فى الإسلام وفى العقل وفى المنطق أن الله لا يُرَى لنا، على الأقل: بإمكاناتنا الحالية. وقد سبق موسى أنْ طلب من الله رؤيته، فكان جوابه سبحانه عليه: "لن ترانى. ولكن انظر إلى الجبل. فإن استقرَّ مكانَه فسوف ترانى". ثم إنه سبحانه تجلَّى للجبل، فخرَّ موسى صَعِقًا، واعتذر حين أفاق قائلا: "سبحانك! تبتُ إليك، وأنا أول المؤمنين". وقد نفت عائشة أن يكون الرسول رأى ربه البتة. والإسلام لا يعرف التجسيد كالنصرانية، ومن ثم فرؤية الله مستحيلة فى دنيانا هذه إلى أن ننتقل إلى الاخرة، فيصير لكل حادث حديث لا نريد استباقه قبل الأوان. وإذا كان بعض الصوفية يظنون أنهم أفضل من الأنبياء ويستطيعون مشاهدة الحضرة الإلهية فهم وذاك. وللأسف نجد فيهم كذبا وغرورا وقلة خشية رغم تشدقهم بقربهم من ربهم وبلوغهم فى معاريج التطور الروحى درجات سامقة. ولا أدل على ذلك من القصة التى نجدها فى بعض كتبهم عن موسى وصَعْقته، إذ يقال إنه عليه السلام، حين تجلى ربه للجبل عقب طلبه رؤيته، قد خرَّ صَعِقًا، وكان يفيق والملائكة تقوله له: يا ابن الحيض، أَمِثْلُك مَنْ يسأل الرؤية؟ ونحن بدورنا نسأل: إذا كان موسى ابنا من أبناء الحيض، وهو فعلا كذلك، فهل السادة الصوفية أبناء القشدة والعسل؟ إن ما قاله القشيرى كلام لا يليق، إن لم نقل فيه أكثر من ذلك. ومعروف أن بعض الصوفية يَرَوْن رغم هذا إمكان تجلى الله لهم.
وهذا هو الحديث الخاص بكلام عائشة فى إنكار رؤية النبى ربه. فعن مسروق أنها رضى الله عنها قالت له: "يا أبا عائشةَ، ثلاثٌ مَنْ تَكَلَّمَ بواحِدةٍ منهنَّ فقد أعظمَ على اللهِ الفِرْيةَ: مَنْ زَعمَ أنَّ محمَّدًا رأى ربَّهُ فقَد أعظمَ الفِرْيةَ على الله. واللهُ يقول: "لا تُدْرِكُهُ الأبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ"، "وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ" ... فقلتُ: يا أمَّ المؤمنينَ، أَنْظِريني ولا تُعْجِلِيني. أليسَ اللهُ تَعالى يقول: "وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى"، "وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ"؟ قالَت: أنا واللهِ أوَّلُ مَن سألَ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ عَن هذا. قالَ: "إنَّما ذلك جبريلُ. وما رأيتُهُ في الصُّورةِ التى خُلِقَ فيها غيرَ هاتينِ المرَّتينِ. رأيتُهُ منهبِطًا منَ السَّماءِ سادًّا عِظَمُ خَلْقِهِ ما بينَ السَّماءِ والأرضِ". ومن زعمَ أنَّ محمَّدًا كَتَمَ شيئًا مِمَّا أنزلَ اللهُ عليهِ فقَد أعظمَ الفِرْيةَ على اللهِ. يقولُ اللهُ: "يَا أيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ". ومَنْ زعمَ أنَّهُ يعلَمُ ما في غدٍ فقد أعظمَ الفريةَ على اللَّهِ، واللَّهُ يقولُ: لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ الْغَيْبَ إلا اللَّهُ". 
ومن ثم فكل ما قاله لكسنبرج هو كلام فارغ لا مَعْدَى لنا عن وصفه بذلك لأنه هو الوصف الذى ينطبق عليه ويليق به. والعجيب أن لكسنبرج يحسب نفسه خفيف الدم فيقول إن "ذو" فى "ذو مِرّة"، ليس معناها "ذو قوة" بل معناها "الذى هو الرب" لأن "مِرّة" هى فى السريانية "مارا"، أى الرب. وعلى ذلك فمعنى الكلام هو "علّمه شديد القوى الذى هو الرب". وهو يستعين بما يقال فى كتب النحو من أن بعض القبائل العربية تستخدم "ذو" لا بمعنى "صاحب" بل بمعنى "الذى/ التى" كما فى قول الشاعر: "وبئرى ذو حفرْتُ وذو طويتُ"، أى "بئرى التى حفرتها والتى بطَّنتها بالحجارة". لكن فاته أن "ذو" (عندما تكون اسما موصولا) تحتاج إلى جملة صلة. وهنا لا توجد جملة صلة. فهل يمكن أن يقول العرب: "شديد القوى الذى الله"؟ هذا ليس كلاما عربيا بل أعجميا خواجاتيا لكسنبرجيا سخيفا تافها. والعجيب أنه يحاول استغفالنا فى الزحمة فيقول فى عجلة ولهوجة إن "ذو" معناها: "الذى هو"، أى "الذى هو مِرَّة" أى مارا، بمعنى "الذى هو الرب"، وذلك حتى تستقيم له الجملة. وشتان! فـ"ذو" معناها "الذى" فقط دون "هو". ورؤيته حلمة أذنه أقرب إليه من بلوغ غايته من خلال هذا البكش والبهلوانية. 
أما كيف تحولت، على يديه الخفيفتين كأيدى اللصوص، كلمة "مِرَّة" إلى "مارا"، أى الرب فى السريانية كما يقول، فمن خلال الزعم بأن هناك خطأ فى قراءة كلمة "مارا" أدى إلى نطقها وكتابتها: "مِرَّة". وهذا هو ما يقال عنه: سمك، لبن، تمر هندى! وخيبة الله على العلم وأهل العلم إذا كان ما يقوله لكسنبرج علما أو له صلة بالعلم والعلماء! لقد قلت من قبل إن هذا بهلوان مكانه الحقيقى هو السيرك. وهأنذا أكرر ذلك هنا. إن هذا الجاهل يظن أنه بجهله ذاك قادر على تخطئة القرآن والعرب والمسلمين أجمعين بنحوييهم ولغوييهم ومعجمييهم ومفسريهم ونقادهم وشعرائهم وكُتّابهم ومفكريهم وحُفّاظهم ومحدِّثيهم وعلمائهم وفلاسفتهم والزعم بأنه الوحيد الذى اكتشف فى القرآن أخطاء لم يتنبه إليها أحد طوال أكثر من أربعة عشر قرنا، وتنبه إلى أن جانبا كبيرا من كتاب الله مأخوذ من السريانية، التى لم يكن أحد يعرف عنها شيئا فى مكة إبان عصر الرسول! خيبة الله على الجهل والجهلاء وثقل الظل ووخامة الروح! بالله عليك أيها القارئ لِمَ يتنكب القرآن كلمة "الرب" ويلجأ إلى "مارا" تلك، وهى كلمة سريانية كما يقول المؤلف الملتاث رغم أن أحدا هناك لم يكن يعرف السريانية؟ ترى بالله كيف كان العرب يفهمون القرآن لو كان بالسريانية،التى لم يكونوا يعرفونها، ولو فى جزء منه؟ ثم أكان المشركون يسكتون فلا يشنعون على محمد وينجحون فى تهييج الخلق عليه وتنفيرهم عن دينه؟
لقد كان الشدياق، رحمه الله، كثير السَّخَر بالمستشرقين وتعالمهم الجاهل كما فى قوله، فى كتابه: "كَشْف المخبَّا عن فنون أوربَّا"، إن المستشرق ريتشاردسون قد "ألف كتابا فى لغته ولُغَتَىِ العرب والفُرْس، فأُقْسِم بالله إنه كان لا يدرى من لغتنا نصف ما أدريه أنا من لغته. بل سوّلت له نفسه أيضا إلى أن ترجم النحو العربى فخلط فيه ولفّق ما شاء، فمثَّل للإضافة بقوله: "قدح فضة" و"ملك كسرى" و"رأس أمان" و"الغالب عجم" و"غالب عجم" و"كتاب سليمان" و"نصرا عقبه"، وفسرها بأنها مثنًّى مضاف إلى "العقبة"، و"نصروا عقبه" و"النصرا عقبه" و"النصروا عقبه". وأورد حكاية من كتاب "ألف ليلة وليلة" عن ذلك الأحمق الذى قَدَّر فى باله أن يتزوج بنت الوزير، فلما وصل إلى قوله: "ولا أخلى روحى إلا فى موضعها" ترجمها: "ولا أعطى الحرية لنفسى، أى لزوجتى، إلا فى حجرتها"... فإن أحدهم لا يبالى بأن يؤدى معنى الترجمة بأى أسلوب خطر له، فلو قرأ أحدهم سَبًّا فى كتبنا نحو "يحرق دينه" ترجمه أن دينه ساطع متلهب من حرارة العبادة والقنوت بحيث إنه يحرق ما عداه من المذاهب، أى يغلب عليها، فهو الدين الحقيقى كما ورد أن الله نار آكلة...". لقد ظننت أننى لا يمكن أن أقع على من هو أجهل من رتشاردسون هذا ولا أشد استحقاقا للتهكم منه ولا أبعث على القهقهة حتى وقع لى لكسنبرج فعلمت أن فى الدنيا من العجائب ما لا يمكن أن يخطر على بال!
فهذا هو مستوى لكسنبرج فى ميدان العلم والتفكير والعقل واحترام المنهج العلمى. إنه مستوًى متدنٍّ لا يصلح صاحبه إلا لأداء الألعاب الأكروباتية فى السيرك كى يضحك الأطفال والعامة ويسرّى عنهم ويبهج قلوبهم فيعودوا إلى بيوتهم آخر المطاف وقد خُفِّفت عنهم لأواء الحياة مما رأوا من الوجوه الملطخة بالأحمر والأبيض والحركات المضحكة التى تشبه حركات البله والمجانين. ومع هذا ينبرى ناصر بن رجب، الذى أخذ على عاتقه مهمة نقل هذا السخف وتلك التفاهة إلى العربية، منخرطا فى وصلات من الإشادة بمنهج المستشرقين العلمى الكفيل بالوصول إلى الحقائق والاكتشافات الجديدة بدلا من أن نظل نلف فى ذات الدائرة مع المفسرين المسلمين الذين يمضغ اللاحقون منهم كلام السابقين دون أن يزيدوا عليه شيئا، جاهلا أن المفسرين المسلمين رغم أخطائهم كانوا علماء أجلاء محترمين يعرفون اللغة والتاريخ والعقائد والأحكام معرفة واسعة وعميقة بخلاف لكسنبرجنا البكاش النتاش. 
وبالمناسبة فلكسنبرج يعرف أنه يبكش ويكذب، ومترجمه يعرف ذلك ويباركه، إذ لا يعقل أن يكون هناك عاقل يصدق هذا الهراء، وإلا كانت كارثة بكل المقاييس والاعتبارات. ولكسنبرج، إذ يفعل هذا، إنما يتغيَّا إشاعة الاضطراب فى العقل الإسلامى وبث التشكيك فى الإسلام ونفى الاطمئنان إليه طمعا فى انفلات المسلم مع كثرة الزن على الآذان من دينه. وهذه هى الفوضى الخلاقة فى نظر أمريكا على مستوى الفكر، والفكر يمثل البنية العميقة التى ما إن تنهار حتى ينجرف معها كل شىء. 
ترى هل هذا التفسير اللكسنبرجى الحلمنتيشى يعجب حقا ناصر بن رجب؟ خاب إذن وخسر كما خاب أستاذه لكسنبرج خيبة الأزل والأبد! وفوق هذا يتميز ابن رجب برِكَّة العبارة والعجز عن معرفة الإملاء الصحيح حتى إنه ليثبت الهمزة مع كل ألف، غير عارف أن هناك شيئا اسمه همزات الوصل. فكله عند ابن رجب صابون، لكنه صابون كريه الرائحة! كما يخطئ أخطاء فاحشة فى أوليات النحو فيرفع المفعول وينصب الفاعل ويجر ما حقه الرفع، ويثبت ياء المنقوص النكرة فى حالتى الرفع والجر... وهكذا. وصياغة الجملة عنده وعرة حتى إنه ليكثر من نعت النكرة بوصفٍ معرَّف، وتتداخل عنده العبارات وتشتبك كما هى فى الأصل دون أن يقدر على فض اشتباكها وكسوتها ثوبا عربيا جميلا، فضلا عن ترجمته للمصطلحات الموجودة فى النص ترجمة حرفية كقوله: "الفعل الانعكاسى" بدلا من "فعل المطاوعة"، أو "الزمن الشرطى"، ولا أدرى ماذا يقصد به... إلخ.

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 47 مشاهدة
نشرت فى 9 أغسطس 2016 بواسطة dribrahimawad

عدد زيارات الموقع

32,863