قرآنٌ أم قِرْيانة؟
رد على سخافات
 المستشرق الفرنسى كلود جيليو عن النبى الكريم والقرآن العظيم
(1-2)
د. إبراهيم عوض
 

للمستشرق الفرنسى كلود جيليو (Claude Gilliot) مقال منشور فى " Revue des mondes musulmans et de la Méditerranée, n° 129, 2011-1, p. 31-56" عنوانه:

"Le Coran, production littéraire de l’Antiquité tardive ou Mahomet interprète dans le « lectionnaire arbe» de la Mecque"

وترجمه إلى العربية ناصر بن رجب ونشره فى موقع "الحوار المتمدن" تحت عنوان "محمّد تُرْجُمان- القِرْيانَة العربيّة-المكّيّة". وفى هذا المقال يزعم المستشرق الفرنسى أن القرآن الكريم ليس فى الحقيقة سوى تجميع عدد من النصوص النصرانية وغيرها يهدف إلى إنشاء كتاب ليتورجى عربى يستخدم فى الصلوات والعبادات. صحيح أن الكلام فى بداية بحثه يدور حول القرآن المكى، لكن الحكم فى الواقع يشمل القرآن كله. وهو يسمى القرآن الكريم بـ"قرآن المصبّ" فى مقابل "قرآن المنبع". يقصد المصادر التى استمد منها محمد ذلك القرآن.

ويزعم جيليو فى دراسته أن القرآن ما هو إلا قِرْيَانة تشبه القريانات التى كان السريان يجمعون فى كل منها نصوصا مختلفة من كتابهم المقدس لاستخدامها فى الصلوات. وهذه القريانة العربية قد سميت خطأ بـ"القرآن"، الذى كونه محمد والفريق المعاون له من نصوص منتقاة من أسفار الكتب المقدسة لدى اليهود والنصارى وغيرهما لاستخدامها أيضا فى العبادات كما يزعم. كما حكم على كلمة "قرآن" بالخطإ قائلا إنها ليست عربية، إذ العربية لا تعرف فعلا للقراءة يُشْتَقّ منه هذا اللفظ. والصواب عنده هو "القريانة"، التى أخذها محمد شكلا ومضمونا ووظيفة من السريانية هو والفريق المعاون له.

 ونبدأ بالدعوى التى تزعم أن "القرآن" ليست كلمة عربية، بل تحريفا لكلمة "قريانة". وقائل هذا السخف جاهل كبير. فالقرآن مشتق من "القراءة" لأنه يُقْرَأ. وليس أدل على ذلك من النصوص القرآنية التالية التى ورد فيها فعل القراءة، ومعظمها تقع فيه القراءة على القرآن ذاته: "وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ" (الأعراف/ 204)، "فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ" (النحل/ 98)، "وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا" (الإسراء/ 13- 14)، "وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا" (الإسراء/ 45)، "وَقُرْآَنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا" (الإسراء/ 106)، "وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ * فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ" (الشعراء/ 198- 199)، "إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآَنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآَخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآَخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ" (المزمل/ 20)، "لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ" (القيامة/ 16- 18)، "وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ" (الانشقاق/ 21).

بل إن الوحى حين نزل على محمد لأول مرة، ولم تكن لفظة القرآن قد جرى لها ذكر فيه بعد، وجدناه يُوقِع على نفسه فعل القراءة بما يعضد أن لفظة "قرآن" مأخوذة من القراءة:  "اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَم" (العلق/ 1- 5)، إذ المطلوب أن يقرأ محمد ما يتلوه عليه جبريل من كلام الوحى. ثم إن صيغة الكلمة هى صيغة "فُعْلان"، والكلمات التى على وزانها كثيرة فى لغة العرب، مثل "ربّان، فرقان، فقدان، نعمان، جردان، بطنان، سبحان، برهان، بطلان، طغيان، غفران، عنوان، رجحان، شكران، كفران، تكلان، لقمان، بنيان، بحران، لقيان، قربان، خسران، حسبان، سلطان، نقصان...". ثم لو كانت كلمة "قرآن" غير عربية أو غير مفهومة أكان  المشركون يسكتون على استعمال محمد لها فى تسمية الكتاب الذى يقول لهم إنه آتٍ من السماء أنزله الله عليه، وفى نصوص الوحى المبكرة، فلا يستغربونها ساخرين من استعمال محمد لها على هذا النحو المباغت؟ وفى أصل كلمة "قرآن" يقول معجم "تاج العروس" للزبيدى فى مادة "ق ر أ": "القُرْآن هو التنزيل العزيزُ، أَي المقروءُ المكتوب في المصاحف... قَرَأَه وقرأَ به بزيادة الباء... قَرْءًا (عن اللّحيانيّ) وقِراءةً (ككِتابةٍ) وقُرآنًا (كعُثْمان)، فهو قارِئٌ (اسم فاعل) من قومٍ قَرَأَةٍ".

بل إن أول ما سمعه محمد من جبريل فى لقائه به عند الغار أيام التحنث هو كلمة "اقرأ" أى اقرأ ما أتلوه عليك، وهى الكلمة التى بدأ بها أول نص من نصوص الوحى فى أشهر الروايات المتصلة بذلك الموضوع: "أولُ مَا بُدِئَ به رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من الوَحْيِ الرؤيا الصادِقَةُ في النَّوْمِ، فكان لا يَرَى رؤيا إلا جاءتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، فكان يأتِي حِرَاءً فيَتَحَنَّثُ فيه (وهو التَّعَبُّدُ) الليالِيَ ذواتِ العَدَدِ، ويَتَزَوَّدُ لذلك، ثم يَرْجِعُ إلى خديجَةَ فتُزَوِّدُهُ لمِثْلِها، حتى فَجِئَهُ الحقُّ وهو في غارِ حِرَاءٍ، فجاءه المَلَكُ فيه، فقال: اقْرَأْ. فقال له النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: فقُلْتُ: ما أنا بِقَارِئٍ. فأخَذَني فَغَطَّني حتى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدُ، ثم أَرْسَلَني فقال: اقْرَأْ. فقُلْتُ: ما أنا بِقَارِئٍ. فأَخَذَني فغَطَّني الثانيةَ حتى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدُ، ثم أَرْسَلَني فقال: اقْرَأْ. فقُلْتُ: ما أنا بِقَارِئٍ. فأخَذَنِي فَغَطَّنِي الثالثةَ حتى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدُ، ثم أَرْسَلَنِي فقال: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ... حتى بَلَغَ: عَلَّم الإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَم".

ومن شواهد شعر تلك الفترة فى هذا المجال البيتان التاليان لشاعرين أحدهما لم يسلم قط، وهو أمية بن أبى  الصلت، والثانى لم يكن أسلم بعد، وهو كعب بن زهير. يقول أمية:

كِتاباً مِنَ الله نَقْرأ بِهِ       فَمَنْ يَعْتَريهِ فَقِدْمًا أَثِمْ

ويقول كعب:

يَسْقِينَ طُلْسًا خَفِيّاتٍ تَراطُنُها  كَما تَراطَنُ عُجْمٌ تَقرَأُ الصُّحُفا

ومن استعمال العرب آنذاك كلمة "قرآن" بمعنى الكلام المقروء ما جاء فى "اتفاق المبانى وافتراق المعانى" للدقيقى من أن أبا بكر سأل عن "قرآن" مسيلمة، أى الكلام الذى كان يزعم أنه ينزل عليه من السماء ويقرؤه على أتباعه. وفى "البداية والنهاية" لابن كثير خبر آخر عن هذا الموضوع وردت فيه لفظة "قرآن" بنفس المعنى. وفى "المثل السائر" لابن الأثير وصف لكتاب "الشاهنامة" بأنها "قرآن القوم".

وبالمناسبة فدعوى المستشرق الفرنسى بسريانية الكلمة مسبوقة منذ وقت طويل، إذ قال بذلك لويس شيخو اليسوعى فى كتابه: "النصرانية وآدابها بين عرب الجاهلية": "وعندنا أنّ أصل الكلمة من السريانيّة (كلمة سريانية) وهي مصدر، ومعناها القراءة وقطعة من الكتاب لا سيّما الكتاب المقدّس. ويقال بهذا المعنى: "رأس القِرْيان" (كلمة سريانية)". ثم لم يكتف شيخو بهذا، فقال عن كلمة "فرقان" إنها سريانية أيضا: "وقد استعملوا "الفرقان" بمعنى "القرآن". قالوا: دُعِيَ بذلك لأنه يفرق الحق من الباطل. وجاءت الكلمة في القرآن في سورة "البقرة" بمعنى التوراة حيث قال: "وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ" (راجع "تاج العروس" في مادة "ف  ر ق". وأصل هذه الكلمة، على ما نرى، من السريانيّة. وهي كلمة سريانية بمعنى النجاة والخلاص مع الإشارة إلى الفصل والتفريق".

وفى مادة "قرآن" من "The Encyclopaedia of Islam" أن معظم الباحثين الغربيين الآن يقبلون رأى شڤالى وغيره من أن كلمة "قرآن" مأخوذة من الكلمة السريانية: "قريانا"، ومعناها قراءة الكتاب المقدس أو أحد دروسه. أما فى ذات المادة بـ"Encyclopaedia of the Qur'an" فيكتفى كاتبها بقوله إن ثم صلة بين هذه الكلمة وبين كلمتى "قريانا" السريانية و"مقراء" العبرانية، دون أن يقول إنها ترجع فى أصلها إلى أى منهما. وهو موقف مقبول، إذ يضع اللغات الثلاث على مستوى واحد بوصفها كلها لغات سامية ترجع جميعا إلى أم واحدة، وإن كان هناك من يعطى للعربية السبق والصدارة:

"Etymologically, the term is linked to the Syriac word qeryana (scripture reading, lection) and to the Hebrew miqra’ (recitation, scripture)".

ومن اللافت للنظر قول كاتب البحث الذى بين أيدينا عقب هذا: "لقد وُلِد القرآن في وسط مُعيّن، وفي فضاء ثقافي معيَّن، وفي زمن مُعيّن، شأنه في ذلك شأن كلّ إنتاج ثقافي أو أدبي آخر. لا شيءَ يأتي من لا شيء، عدا ما يخلقه الله من العدم. غير أنّ هذا الامر المُعْتَرَف به عامّة بخصوص الكتاب المقدّس، سواء أسفار العهد القديم أو الأناجيل، ما زال يثير إشكالا للبعض حَالَمَا تتعلّق المسألة بالقرآن. وهذا الرّفض يباغتنا. فالتراث الإسلامي من تفاسير وتاريخ وشبه تاريخ، وحتّى الخرافي منه، وهو إذ يُقِرُّ بالمصدر الإلهي المحض لــ"القِرْيَانة العربيّة" التي تحمل اسم "قرآن"، فهو يسمح في العديد من رواياته وأحاديثه، المتضاربة غالبا تضاربات تشغل الباحثين وما تزال، لعناصر تاريخ "قرآن المنبع" و"قرآن ما قبل القرآن" أن تبرز وتطفو على السّطح. في دراسات سابقة كنّا قد اعتبرنا أنّ التَّعبيرَيْن: "قرآن المنبع" و"قرآن ما قبل القرآن" تعبيران مُتَكافِئان، أي القرآن ما قبل ما يُسمّى بالقرآن "العثماني"، وخصّصنا التعبير: "قرآن الْمَصبّ" لما يُسمّى: القرآن العثماني". وهو ما نحب بل ينبغى أن نقف إزاءه".

هذا ما قاله الكاتب. وسوف أقف عند العبارة التالية: "لقد وُلِد القرآن في وسط مُعَيَّن، وفي فضاء ثقافي معيَّن، وفي زمن مُعيّن، شأنه في ذلك شأن كلّ إنتاج ثقافي أو أدبي آخر"، وأحاكمه إليها. فإذا كان القرآن، كما يقول، ابن زمانه ومكانه وبيئته وثقافتها، فكيف يكون مستمدا من نصارى  السريان وكتبهم التى يعدونها للصلوات والعبادات؟ هل كان هناك سريان فى مكة؟ فمن هم يا ترى؟ وكيف كان يجتمع بهم محمد؟ وأين؟ ومتى؟ ومن ذا الذى شاهدهم وهم مجتمعون يفكرون ويخططون ويستعيرون ويترجمون؟ إن أصحاب محمد معروفون بالاسم منذ أول لحظة من لحظات الوحى بل من قبل ذلك. إنهم خديجة وميسرة وعلى وأبو بكر والأرقم بن أبى الأرقم وعثمان... إلخ. فهل كان هؤلاء هم معاونى محمد فى الأخذ من السريان والنسج على منوالهم؟ هل كان أى من هؤلاء يعرف السريانية؟ فأين تعلمها؟ ومتى كان يتكلمها أو يقرأ بها؟ وإذا كان هناك قساوسة نصارى أو حاخامات يهود فمن هم يا ترى؟ ولماذا لم يظهروا طوال كل هاتيك العصور؟ بل لماذا لم يفكر أى منهم فى القيام بدور محمد، الذى عاونوه وعلموه، فطفا هو على السطح وحاز الشهرة وبَقُوا هم فى القاع دون أن يلتفت إليهم أحد أو يهتم بهم أحد؟ أم تراهم تخلصوا من الطبيعة البشرية بما فيها من تنافس وغيرة وتحاسد ورغبة فى الاستئثار بالخير أو على أقل تقدير: فى المشاركة فيه؟

على أن الكاتب رغم ذلك لا يكتفى بالقول بأن محمدا كان له من يعاونه فى تأليف القريانة العربية، بل يدعى أن لغات بعض هؤلاء المعاونين يحتمل أن تكون العبرية أو السريانية أو الآرامية، وكأننا إزاء معهد عال لتعليم اللغات الشرقية فى مكة. إن الكاتب يتناول الموضوع بخفة وطيش ويصور الأمر وكأن هناك عصابة تتآمر وتجتمع سرا وتضع الخطط وتترجم وتنقل من كتب السريان وتراجع ما تنقله حتى يأتى مستويا سلسا محكما كما هو الحال فى القرآن ليس عليه عجمة الترجمة فى وقت لم يكن العرب يعرفون الترجمة بعد ولا مارسوها. ولقد رأينا ترجمات حنين بن إسحاق بعد ذلك بتاريخ طويل وعليها آثار العجمة وصعوبة الفهم ووعورة التعبير، فما بالكم بترجمة مثل تلك النصوص الدينية فى ذلك الوقت المبكر حين لم تكن ترجمة ولا تعريب بل لم تكن كتابة ولا قراءة ولا كتب أصلا إلا فى أضيق نطاق؟

وقبل ذلك كيف تنصر محمد أو على أقل تقدير: كيف نشأ اهتمامه بالنصرانية بحيث يشكل الاعتقاد فى المسيح مشكلة تشغله وتؤرقه؟ لقد كان محمد فى مكة يعمل بالرعى صبيا ثم بالتجارة عند خديجة بعدما كبر وعرضت عليه أن يقوم على تثمير أموالها فى الأسواق يعاونه غلامها ميسرة. وكان أميا لا يقرأ ولا يكتب. ولم يكن فى مكة مبشرون يلتقطون الصبيان أو الشبان أو الرجال يغرونهم باعتناق النصرانية، وإلا فمن هم أولئك المبشرون يا ترى؟ ومن أين أَتَوْا؟ وأين كانوا يمارسون نشاطهم؟ ومن شاهدهم؟ وماذا كانوا يقولون لمن يريدون تنصيره؟ ومن أولئك الذين كانوا يحضرون خطبهم ومناقشاتهم؟ المعروف لجميع الناس أنه لم يظهر فى حياة محمد أى قساوسة أو رهبان قط، اللهم إلا فى الخبر الذى يدور حول لقائه ببحيرا فى طريقه أثناء صباه إلى الشام. وهو خبر كيفما قلبته لن تجد فيه تبشيرا ولا كلاما عن النصرانية على أى وضع.

يقول الخبر: "خرجَ أبو طالبٍ إلى الشامِ ومعه النبي صلى الله عليه وسلم في أشْياخٍ من قريشٍ، فلما أشرفُوا على الراهبِ (يعني بحيرا) هبطُوا فحلُّوا رِحالهُم فخرج إليهم الراهبُ، وكانوا قبلَ ذلك يمرونَ بهِ فلا يخرُج إليهِم ولا يلتفت، قال: فنزل وهم يحلون رِحَالَهم فجعل يتخللهم حتى جاء وأخذ بيدِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وقال: هذا سيدُ العالمين (زاد البيهقيُّ: ورسولُ ربِّ العالمينَ ابتعثهُ اللهُ رحمةً للعالمينَ). فقال له أشْياخُ قريشٍ: وما علمكَ؟ فقال: إنكم حينَ أشرفتُم من الثنيّةِ لم يبقَ شجرٌ ولا حجرٌ إلا خرّ ساجِدا، ولا يسجدونَ إلا لنبيّ. وإني أعرفهُ بخاتمِ النبوةِ أسفلَ من غضروفِ كتفهِ. ثم رجعَ فصنعَ لهم طعاما. فلما أتاهم به، وكان هو في رعيةِ الإبلِ فقال: أرسلوا إليه. فأقبلَ وغمامةٌ تُظلُّهُ. فلما دنا من القومِ وجدهُم قد سبقوهُ إلى الشجرةِ. فلما جلسَ صلى الله عليه وسلم مالَ فَيْء الشجرةِ عليهِ، فقال: انظروا إلى فَيْء الشجرةِ مالَ عليهِ!". وهناك خبر آخر عن الْتِقَائه بذلك الرَّاهِبِ يقول إنه "تَفَرَّسَ فيه ورأى مَعَالِمَ النُّبُوَّةِ في وجهِه وبينَ كَتِفَيْهِ. فلما سأل أبا طالبٍ: ما هذا الغلامُ منكَ؟ قال: ابْنِي. قال: ما يَنْبَغِي أن يكونَ أَبُوهُ حَيًّا! قال: فإنه ابنُ أَخِي. مات أَبُوهُ وأُمُّهُ حُبْلَى به. قال صَدَقْتَ. ارْجِعْ به إلى بَلَدِكَ واحْذَرْ عليه يَهُود".

ويمكنك أن تقبل الخبر أو ترفضه، لكنك لن تُلْفِىَ فيه أية مناقشة حول النصرانية أو أى دين آخر. وبالنسبة لى فإنى لا أطمئن إلى الخبر كثيرا، وإلا لقد كان ينبغى أن يتخذه النبى حجة على صحة نبوته، ويجعل منه الصحابة تكأة لإعلان إيمانهم به وتسويغه. وعلى أية حال لقد كان محمد أوانذاك مجرد صبى يتيم لا تشغله تلك الموضوعات. وقد هب كارلايل يسخّف مزاعم الأوربيين حين رآهم يعضّون بنواجذهم على تلك الرواية متخذين منها دليلا على أن محمدا قد تعلم النصرانية من بحيرا آنذاك واختزن ما تعلمه منه وظل محتفظا به إلى أن حان الوقت المناسب فشكّل منه دينا يدعو الناس إليه. وفى رأيه أن محمدا كان صبيا صغيرا، وأن اللقاء بينه وبين بحيرا تم فى حضور المكيين، ولا يمكن أن يحدث شىء فى مثل تلك الظروف ولا كانت الظروف مواتية لأية مناقشة فى الدين. بل لم يكن محمد يعرف لغة أجنبية:

"I know not what to make of that "Sergius, the Nestorian Monk," whom Abu Thaleb and he are said to have lodged with; or how much any monk could have taught one still so young. Probably enough it is greatly exaggerated, this of the Nestorian Monk. Mahomet was only fourteen; had no language but his own".

وعلى الوجه الآخر كان ينبغى أن يتخذ مَنْ كفروا بنبوة محمد وكذبوه وحاربوه من ذلك اللقاء، لو كان بحيرا قد لقنه شيئا من النصرانية أو من غيرها كما يدعى بعض المستشرقين والمبشرين الأوربيين، ذريعة إلى تكذيبهم له وكفرهم به. لكنهم قد سكتوا فلم  يقولوا شيئا. ومعنى هذا أن بحيرا لم يفده قليلا ولا كثيرا. أما إذا لم يكن هناك بحيرا أصلا فلا تعدو المسألة كلها حينئذ أن تكون زوبعة فى فنجان.

وقد اتهم محمدا أيضا بعض المستشرقين والمبشرين بأخذ دينه عن الحنفاء. وفات هؤلاء المتهِمين أن الحنفاء قد أسلموا أو أسلم أبناء من ماتوا منهم بل أسلمت أسرهم كاملة. فكيف يمكن  أن يقع ذلك إذا كان محمد هو التلميذ، والحنفاء هم الأساتذة؟ كما اتُّهِم كذلك بأنه قد أخذ عن الرهبان والقساوسة الذين كان يقابلهم فى أسفاره أيام متاجرته بمال خديجة، وكأنه كان يترك التجارة ويذهب للتباحث مع رجال اليهودية والنصرانية؟ ثم من شهد ذلك يا ترى؟ إن محمدا لم يكن يسافر فى تلك الرحلات وحيدا بل كان معه التجار المكيون جميعا، ومنهم معاونه فى تجارة خديجة: ميسرة غلامها. وهو ما لا يسمح له بأن يغيب عن عيون من حوله ومن معه طرفة عين دون أن يلحظوا ذلك. ثم من أولئك القساوسة يا ترى؟ وفى أية موضوعات كانوا يتحدثون إليه؟ وبم كان يجيبهم؟

ثم لماذا سكت أولئك القساوسة والرهبان والحنفاء فلم ينبس واحد منهم، واحد فقط، واحد ليس غير، واحد ابن حلال يريد ألا تندثر الحقيقة، فيقول إننى أنا الذى علمت محمدا وأمددته بدينه هذا، أو إننى رأيت محمدا وهو جالس بين يدى فلان أو علان أو ترتان يتلقى عنه معارف النصارى أو يتعلم ما عند الحنفاء؟ صحيح أنه كانت هناك اتهامات مرسلة من بعض مشركى قريش لمحمد بأنه يتعلم من بعض الحرفيين بمكة أشياء مما عند أهل الكتاب. لكن حقيقة الأمر أنهم كانوا من الرقيق الأعاجم ذوى المعارف الساذجة الذين لا يستطيعون الحديث بالعربية، فضلا عن أن يشرحوا ما فى أديانهم من عقائد وقصص ومواعظ. ثم إن أولئك الذين اتهموه بذلك قد انقلبوا على أنفسهم فأسلموا أو أسلمت أسر من مات منهم، بل أسلم أيضا أولئك الحرفيون، وصار الجميع كلهم على بكرة أبيهم أتباعا لمحمد: يؤمنون بكتابه ويدافعون عن دينه ويُسْتَشْهَدون فى سبيله ويبدون من ضروب التحمس لهذا الدين والتضحية من أجله ما يبعث على الدهشة والانشداه. ومعنى ذلك أنهم قد لحسوا كل اتهاماتهم لمحمد وكذبوا أنفسهم بأنفسهم، وبينوا بأجلى بيان أنهم إنما كانوا يفترون ويكذبون ويتخرصون. وإلا فهل هناك معنى آخر لهذا الذى حدث؟

 ثم يقول جيليو فى هذا الصدد: "جلب أخصّائي الأدبيّات المسيحيّة الأولى ج. بومان (J. Bowman) الإنتباه إلى وجود مونوفيزيّين (القائلين بطبيعة إلهيّة واحدة للمسيح) في نجران شمال اليمن وبين القبائل العربيّة الكبرى مثل الغساسنة، ولكن أيضا اللّخميين التي كانت الحيرة عاصمة لمملكتهم. فهو يعتبر أنّ نُبُوّة القرآن ومحتواها الكتابي يمكن أن يُفَسَّرا بحقيقة أن محمّد كان على اتّصال بالمونوفزيّين (اليعاقبة) الذين كانوا يستعملون إنجيل تاتيان الرُّبَاعِيّ (دياتسارون) Tatian s Diatessaron ويعتبرونه بمثابة النّص القانوني للأناجيل. لنُذَكِّر أن المقصود بالدياتسارون هو "الإنجيل الذي جُمِّع من الأناجيل الاربعة"، ويُسمّى أيضا: "التجميع التوفيقي للأناجيل" (لقد وُجِدت عدّة تجميعات توفيقيّة أخرى للأناجيل غير تجميع تاتيان) أو "الإنجيل المتكامل". وهو نصّ من المحتمل أن يكون قد كُتِب في الأصل بالسريانيّة، الشيء الذي يفترض التطابق والإنسجام بين الاناجيل الأربعة. لقد ظلّ لفترة طويلة نصَّ الأناجيل الوحيد المستعمَل في طقوس الكنائس التي تستخدم اللّغة السريانيّة. هناك العديد من هذه الكنائس لا تزال تستخدمه في أيّامنا هذه خلال الأسبوع المقدَّس (الأسبوع الذي يسبق يوم الفِصْح).

باستعمالهم هذه المصادر بما فيها مقاطع من الأناجيل المنحولة يمكن هكذا أن يكون محمّد ومن أعانه قد أنشأوا قريانتهم الخاصّة بهم (قرآن، كلمة غير عربيّة مأخوذة من السريانيّة "قريانة" qeryânâ)، لتلبية حاجياتهم الخاصّة بهم. نقول: "محمّد ومن أعانه" لأنّه لا يجب "إقصاء إحتمال أنّ القرآن كان قد نشأ داخل مجموعة يمكن أن يكون محمّد قد كان قدوتها".

وإذا ما نظرنا إلى هذا الكلام راعنا ما فيه من تساخف شديد: فالقبائل التى يقول إنها كانت تؤمن بطبيعة واحدة للسيد المسيح كانت موجودة فى  اليمن وشمال بلاد العرب فى دولتى الغساسنة واللخميين، أى بعيدا عن مكة وعن محمد تمام البعد. فكيف كان محمد يتصل ببعض أبناء تلك القبائل وهو فى مكة على ذلك البعد السحيق من تلك البلاد، وفى تلك الأزمان التى كانت وسائل المواصلات بدائية شديدة البطء؟ الحمد لله أنْ لم يقل المستشرق الفرنسى إنه كان يتصل بهم عن طريق الموبايل والإنترنت ويتابع معهم كل جديد حيث يرفعون له كل ما يحتاجه من كتب على الفورشيرد ليقوم بإنزالها على راحته فى صمت وخفاء، ولا من شاف ولا من درى. وإنى لأتساءل: كيف لم يظهر واحد فقط ممن عاون محمدا على صوغ قريانته العربية فيهتك أستار الصمت والظلام عن ذلك الموضوع ويفضحه فى العالمين بعد أن خرج عن الاتفاق وهاجم النصرانية واتهم أتباعها بأنهم يشركون مع الله آلهة أخرى، قالبا لهم بذلك ظهر المِجَنّ ومتمردا عليهم بعد أن علَّموه وهذّبوه ولقنوه وأمدوه بكل احتياجات القريانة، بل بعد أن صاغ قريانته وأضحت له قريانة كما لهم ولغيرهم قريانة. لقد خان بذلك العيش والملح، وصار لا بد من الانتقام منه، ولا أحسن ولا أروع من كشف حقيقته وأنه مجرد سارق مغير، وإن أردنا الرطانة العصرية فليقولوا: إنه استغل "التناص" مع القريانات السريانية أسوأ استغلال.

ولعل القارئ يتساءل عن الحكمة فى اهتمام الكاتب بالكلام عن مذهب الطبيعة الواحدة للسيد المسيح وقوله إن بعض القبائل فى اليمن وغسان وعند اللخميين على حدود العراق كانوا يتمذهبون بتلك العقيدة. الواقع أنه يريد إلى القول بأن محمدا قد أخذ عن هؤلاء المونوفيزيين ما قاله فى السيد المسيح. وهذا كيد رخيص من الكاتب، فالمونوفيزيون يعتقدون بأن ليسوع طبيعة واحدة إلهية، وأن طبيعته البشرية امتزجت بهذه الطبيعة. ويمكن اختصار هذه الطبيعة في أن يسوع المسيح، الابن، هو شخص وأقنوم واحد بطبيعة واحدة: الإنسان الإله. ومن ثم فلا فرق فى موقف الإسلام من القائلين بطبيعتين أو بطبيعة واحدة للسيد المسيح، ألا وهو موقف الرفض والإنكار. ومن ناحية الفريقين فإنهما يكنان لمحمد ودينه كراهية وحقدا شديدين. إن كلا من الفريقين يؤله المسيح على نحو أو على آخر. وهذا مرفوض ومجرَّم فى الإسلام قولا واحدا. ومعنى هذا أن كل ما قاله الكاتب أيضا فى هذا الموضع متهافت لا قيمة له ولا قوام.

وفى تعريفه لـ"الدياتسارون" يقول الكاتب إنه "الإنجيل الذي جُمِّع من الأناجيل الأربعة"، وهو نصّ من المحتمل أن يكون قد كُتِب في الأصل بالسريانيّة، الشيء الذي يفترض التطابق والإنسجام بين الاناجيل الأربعة". فانظر كيف أن الأمر كله قائم لديه على الاحتمال والافتراض، فضلا عن أن هذه النتيجة التى يصل إليها هى نتيجة تعادى المنطق والتاريخ والوثائق. ذلك أن الأناجيل الأربعة لا تتطابق بأى حال. كما أنها ليست منسجمة فيما بينها، بل تعج بتناقضات وتغايرات كثيرة طبقا لما يعرفه كل من له بها أدنى اتصال، فضلا عن تناقض كل إنجيل مع نفسه. أما إذا كان ما يقوله الكاتب صحيحا لا ريب فيه فما الحاجة يا ترى إلى تجميع نصوص من الأناجيل الأربعة ما دام الموجود فى هذا الإنجيل هو نفسه الموجود فى ذاك؟ لقد كان ينبغى إذن الاكتفاء بإنجيل واحد كامل متكامل دون خلط عيوشة بأم الخير. فأحمد هو الحاج أحمد، ولا داعى إذن لتضييع الوقت فيما لا يقدم أو يؤخر. أليس هذا هو ما يقضى به المنطق والعقل السليم المستقيم؟

ويقول الكاتب أيضا: "إضافة إلى ملاحظات غ. لولينغ (G. Lüling) عن "المصطلحات الإسلاميّة العالِمَة لمختلف طبقات القرآن"، التي شحذت همّتنا للمضيّ في هذ المسعى، تجدر الإشارة إلى تشجيع آخر جاء من عند كريستوف لوكسنبيرغ عندما يكتب: "إذا كان القرآن يعني حقيقةً "قريانة" (lectionnaire) باستطاعتنا أن نفترض أنّ القرآن كان قد أراد لنفسه أن يُفْهَم على أنّه لا شيء آخر غير كتابِ طقوس (ليتورجي) يحتوي على نصوص مختارة من الكتابات المقدّسة (العهد القديم والعهد الجديد، أو كتابات أخرى يهوديّة- مسيحيّة قديمة)، وليس على الإطلاق كبديلٍ عن الكتابات المقدّسة نفسها، أي ككتابٍ مقدّس مستقلٍّ بذاته. ومن هنا جاءت التلميحات العديدة للكتابات المقدّسة السابقة التي بدون معرفتها يمكن للقرآن أن يبدو للقارئ كتابا خُتِم بسبعة أختام" (أختام تحول دون فهمه). أخيرا لقد مارست أيضا تحليلات الباحث Jan Van Reeth الدقيقة تأثيرها على تدرّج تفكيرنا وتطوّره.

إذا أضفنا إلى المصطلحات التي ذكرناها آنفًا وإلى الفلك الليتورجي الذي يدور فيه القرآن فحقيقة أنّ هذه القريانة المكّية، باعتبار فنّها الأدبي والأسلوبي والليتورجي، تُذكِّر بدون أيّ شكّ بفنّ المزامير مثلما لاحظ ذلك سابقا هيرشفيلد (Hirschfeld)، وحديثًا نوفيرث (Neuwirth)، فسيُفْهَم لماذا نتوجّه نحو هذه القريانة لمعرفة ماذا تقول عن نفسها. إنّها يمكن أن تكون في موقع كتاب المزامير لو لم يكن عندنا أسفار موسى الخمسة Pentateuque (التوراة) وأسفار العهد القديم التاريخية: ففي المزامير تلميحات إلى قصص، وإلى مواضيع لا يمكن فهمها بدون أسفار موسى وبدون الأسفار التاريخيّة، ولكن أيضا التغييرات الفُجْئيِّة للمواضيع داخل نفس المزمور ("السورة" بالنّسبة للقرآن)، والتكرارات لنفس الموضوع ونفس الفكرة، "ابتهالات"، تذكيرات بما فعله أو عاناه الآباء وما صنعت العناية الإلهية بخصوصهم ("الذِّكْر" واشتقاقاته في القرآن)... إلخ.

ليس من الغريب أن تكون المزامير قد حازت اعتراف محمّد، قُدْوة الفريق الذي كان يساعده، أكثر من أيّ شيء آخر، مع التوراة، وهما سفرا العهد القديم الوحيدان اللّذان يُسمّيهما القرآن، "باعتبار أنّهما كانا باستمرار في أفواه اليهود على شكل صلوات". بصورة مّا فإنّ محمّد "يضع التوراة والمزامير في نفس المستوى": "وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ" (سورة 17، آية 2)، و"وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا" (سورة 17، آية 55). الشيء الذي يمكن على الأرجح أن نربطه بما جاء في سورة الشعراء (195، 196): "بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ، وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ" (لم يقل: "كُتُب" بل قال: "زُبُر" كما لاحظ ذلك جيّدا الباحث مُنْذِر صفَر). نفهم جيّدا أن تكون المزامير قد مارست "انجذابا قويّا" على روح محمّد، مزامير "لا يذكرها فقط، ولكنّه أيضا يُقلِّدها". ويظهر ذلك منذ أوّل سورة، فاتحة القرآن: فهي تشبه بجُمَلها القصيرة مزمورًا، وآيتها السادسة: "اهدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ" يبدو أنّها تُذكِّر بما جاء في المزمور 27، 11: "طَريقَكَ يَا رَبُّ عَلِّمْنِي، وَسَبِيلَ الإِسْتِقَامَةِ آهْدِنِي". إنّ معرفة محمّد بالمزامير تبدو كرونولوجيًّا قديمة في القرآن، فالآية: "لَيْلَةُ القَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ" (سورة القدر، آية 3) تُذَكِّر بالآية: "إِنَّ يَوْمًا فِي دِيَارِكَ خَيْرٌ مِنْ أَلْفٍ" (مزمور 84، آية 11) أو أيضا: "وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ" (الحجّ، آية 47)".

هذا ما قاله الكاتب. وردا على دعواه بأن "القرآن كان قد أراد لنفسه أن يُفْهَم على أنّه لا شيء آخر غير كتابِ طقوس (ليتورجي) يحتوي على نصوص مختارة من الكتابات المقدّسة (العهد القديم والعهد الجديد، أو كتابات أخرى يهوديّة- مسيحيّة قديمة)، وليس على الإطلاق كبديلٍ عن الكتابات المقدّسة نفسها، أي ككتابٍ مقدّس مستقلٍّ بذاته" نقول: هل كان الأمر، والحالة هذه، يؤدى إلى كل هذا الصدام بين محمد وبين قومه؟ الواقع أن القساوسة والحنفاء لم يكونوا قليلين فى بلاد العرب، فهل سمع أحد أنه قام صدام بينهم وبين قبائلهم؟ فلِمَ يختلف الأمر مع محمد يا إلهى إذا كان نشاطه مقصورا على تشكيل كتاب للصلوات؟ ثم لمن كان يعد محمد هذا الكتاب النصرانى؟ أليس غريبا حين نعلم أن القوم فى مكة كانوا وثنيين؟ ترى كيف يجهز لهم إذن كتابا نصرانيا؟ بل هل كان هو نصرانيا فى يوم من الأيام؟ فمن نصَّره يا ترى؟ ومتى؟ وكيف تم التنصير؟

ثم أين هذا التشابه بين القرآن، فى المرحلة المكية أو المدنية، وبين الأناجيل؟ أين مثلا الكلام عن عيسى عليه السلام كابن لله سبحانه؟ لا يوجد، بل يوجد الإلحاح على عبوديته لله وتبرؤه من تأليه النصارى له ومهاجمة عقيدة التثليث والصلب والفداء. ثم أين سيرة السيد المسيح منذ ولادته حتى انتهاء حياته على الأرض مرتبة ومفصلة كأى كتاب تاريخى كما هو الوضع فى الأناجيل؟ لا يوجد، بل لا يوجد شىء كهذا بالنسبة لسيرة محمد عليه السلام. وهل يبدأ كل سفر من أسفار الأناجيل بـ"بسم الله الرحمن الرحيم" أو حتى بـ"باسم الآب والابن والروح القدس"؟ كلا. وهل صلاة النصارى: "أبانا الذى فى السماوات، ليتقدس اسمك، ليأت ملكوتك، لتكن مشيئتك كما هى فى السماء كذلك على الأرض. خبزَنا كفافَنا أعطنا اليوم" تشبه "الفاتحة" رغم كل ما يقوله كثير من المستشرقين والمبشرين عن التشابه بين هذين النصين ووظيفتيهما ومكانتيهما؟ أبدا. أم هل هناك فى الأناجيل وصف مفصل للفردوس والجحيم مثلما هو الأمر فى القرآن المجيد، وبخاصة فى السور المكية؟ لا ثم لا. إنما هى إشارة عارضة عن شرب عصير الكرمة فى السماوات. وهل يعتمد القرآن الأسلوب المترسل فى سوره كما هو أسلوب الأناجيل بل أسلوب العهد الجديد كله بل الكتاب المقدس جميعه؟ أبدا، إذ تسود الفواصل النص القرآنى من مفتتحه إلى مختتمه. فهل التشريعات إذن واحدة أو حتى متقاربة بين قرآننا وأناجيل النصارى؟ لا ثم لا ثم لا.

هل هناك فى الأناجيل مثلا تحريم للخمر أو الخنزير والربا؟ لا. هل فى كتب القوم حديث عن أحكام الحرب وتنظيم الزكوات والحج والصيام؟ أم هل فى القرآن دعوة إلى إدارة الخد الأيسر لمن يصفع المسلم على خده الأيمن؟ أبدا أبدا. هل فى القرآن تصوير لعيسى على النحو الذى تصوره الأناجيل شتاما عيابا عصبيا لا يوقر أحدا ولا حتى أمه وحوارييه بل يتطاول على الجميع ويتهم تلاميذه المقربين فى إيمانهم؟ لا بل الصورة التى يصورها له القرآن تشير إلى حنانه ووده ورحمته واحترامه لأمه ومن حوله. وأخيرا وليس آخرا هل تتعرض الأناجيل للأنبياء القدماء كنوح وإبراهيم ولوط؟ لا. هل تتعرض للحديث عن الأنبياء العرب: شعيب وهود وصالح وما جرى لهم مع أقوامهم؟ هل فى الأناجيل حديث عن العلم وأهميته ومكانة العلماء، وعن العمل الصالح الذى لا يصلح إيمان بدونه؟ الواقع أنه لا يوجد. هل كلام الأناجيل عن عيسى يشبه ما يقوله القرآن عن محمد من أنه مجرد بشر ليس له مع ربه من الأمر شىء ولا يعلم الغيب ولا يقول إنه ملك أو إنه سوف يشترك مع الله فى حساب الناس يوم القيامة جالسا على يمين أبيه سبحانه؟ لا بل الكلامان مختلفان. هل فى الأناجيل ما يشبه حديث القرآن عن انتصار الإسلام الحتمى مهما جيش المشركون لحربه من رجال وعتاد وأموال ووضعوا من خطط ومشاريع؟ لا طبعا.

كذلك فالقرآن يذكر لعيسى بعض المعجزات التى لا تعرفها الأناجيل الأربعة كخلقه للطير ونفخه فيه فيكون طيرا بإذن الله، وتنبيئه قومه بما يأكلون وما يدخرون فى بيوتهم. وعلى الناحية الأخرى يخلو من هبوط الحمامة عليه وهو يتلقى العماد على يد يحيى فى نهر الأردن حيث سمع هاتفا من السماء يناديه بـ"ابنى الحبيب" ومن تجربة الشيطان إياه ومحاولته إسجاده له ومن هجومه هو وأتباعه على أحد الحقول والتهامهم ما فيه من ثمار دون إذن صاحبه وغير ذلك. وفوق هذا يَعْرَى القرآن فى كلامه حول عيسى عن التناقضات التى تعج بها الأناجيل كما هو الحال مثلا عند الكلام عن نسب يسوع، حيث نجد عدد آبائه وترتيبهم وأسماءهم مختلفا فى متى عنه فى لوقا على نحو لا يقبل علاجا ولا توفيقا. ومثله قول يسوع إنه ما جاء لينقص الناموس بل ليكمله ثم ينهال فى الحال نقضا للناموس ومحوا له. ومثله أيضا قوله عن حوارييه إن ما يحلونه أو يربطونه فى الأرض يُحَلّ ويُرْبَط فى السماء، ورغم هذا نسمعه يصف أكبرهم بقلة الإيمان بل يقول له: يا شيطان! هذا هو الكلام الذى ينبغى أن يطرح بدل السخافات التى ينتهجها الكاتب الكذاب الذى يعلم تمام العلم أنه كذاب، وخطط منذ البداية لاختلاق تلك الأكاذيب ونشرها أملا فى إشاعة الفوضى عند المسلمين من ورائها، ثم قام بعضهم بهمة مريبة لترجمتها ونشرها بأسلوب ركيك وأخطاء لغوية بدائية ليكمل الخطة ظنا منه أنه بالغٌ ما لم يبلغه دهاقنة المستشرقين ودهاة رجال الدين من نصرانيين ويهوديين على مدى القرون المتطاولة. خيبة الله عليهم جميعا!

هذا عن المقارنة بين القرآن والأناجيل الأربعة، فماذا عن المقارنة بين القرآن والمزامير؟ لقد ذكر الكاتب أن محمدا يبدى تعلقا شديدا وانشغالا قويا بالمزامير وتوراة موسى دون بقية كتب الأنبياء. وسؤالنا هو: هل هناك كتب للأنبياء الآخرين لها أسماء كالتوراة مثلا والإنجيل حتى يقال إن القرآن لم يذكرها؟ والجواب بطبيعة الحال: لا. ومع هذا فإن كلام القرآن لا يقتصر على توراة موسى ومزامير داود، بل هناك أيضا إنجيل عيسى، وهو شىء يختلف عن الأناجيل الأربعة. فهذه الأناجيل هى سِيَرٌ عيسويةٌ مختلفةٌ كتبها بعض البشر بعد انتهاء حياة المسيح على الأرض. أما الإنجيل الذى يتحدث عنه القرآن فهو وحى نزل من السماء على عيسى عليه السلام وأمره الله بتبليغه وليس هو البشارة بمجيئه. كذلك يشير القرآن إلى صُحُف إبراهيم، وإلى كُتُب الأوَّلين (أو زُبُر الأولين)، وإلى أهم ما قاله الأنبياء القدماء لأقوامهم كنوح وإبراهيم ولوط ويونس، فضلا عن حديثه عن بعض أنبياء العرب: هود وصالح وشعيب ودعواتهم وقصصهم مع أممهم، وهو ما لا وجود له فى الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد. وقد تكرر هذا كله مرارا. وإذن فما قاله الكاتب عن اعتزاز محمد بالتوراة والمزامير وحدهما هو كلام فارغ لا قيمة له.

 أما عن وجه الموازنة بين القرآن والمزامير فالمعروف أن كل مزمور من المزامير لا يبتدئ ببسملة كما تبتدئ كل سورة من سور القرآن المجيد. وكثيرا ما تتعدد موضوعات السورة الواحدة ما بين كلام عن اليوم الآخر وحديث عن الرسل السابقين وما أصاب أقوامهم من العذاب والتدمير جراء عنادهم وتمردهم وكفرهم ووصف عناصر الطبيعة وتحميد الله وتسبيحه وتوقيره وتهديد المشركين المكيين بوبال شنيع إن لم يرعووا ويرجعوا عن كفرهم وتكذيبهم وإنكارهم الحياة الآخرة ويقلعوا عن سبل الغى والعصيان مع تبشير المؤمنين بجنات النعيم وما ينتظرهم فيها من مباهج ولذات،  والمحاورات التى كانت تقع بين الرسول وأهل مكة والتشريعات المختلفة من صلاة وصيام وزكاة وحج وقتال وزواج وطلاق وعِدّة وحلف وبيع وشراء وربا ورهان ودَيْن وتعليم وسفر وطعام وشراب ونظافة وطهارة وغير ذلك، فضلا عن طول كثير من السور طولا شديدا لا يتناسب وطول المزامير، التى يدور كل منها على التسبيح والتهليل لا يخرج عنه. ولا ننس أن داود فى العهد القديم، وعند النصارى كذلك، هو حاكم زان ظالم قاتل، أما فى القرآن فهو قريب من ربه. بل هناك من ينفى عنه النبوة ويجعله مجرد حاكم ليس إلا، لكنه فى القرآن حاكم ونبى كريم.

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 86 مشاهدة
نشرت فى 29 يوليو 2016 بواسطة dribrahimawad

عدد زيارات الموقع

33,957