جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
قراءة فى كتاب "If the Oceans Were Ink" للصحفية الأمريكية كارلا باور
(الحلقة 2) د. أكرم ندوى
(1 - 2)
بقلم د. إبراهيم عوض
الكلام فى هذا الفصل يدور حول ما ذكرته الكاتبة فى الفصل الخاص بالدكتور أكرم ندوى بغض النظر عن صحته أو لا. فأنا لا أعرف عن الرجل شيئا يذكر، ولهذا فليس أمامى مناص من الاعتماد على ما كتبته المؤلفة عنه بوصفها من أقرب المقربين إليه، على الأقل: فى فترة من الزمن كتبتْ فيها عنه ذلك الكتاب. والذى جعلنى أهتم بالرجل هو أن هناك تقاطعات بين حياتى وحياته، وإن كان الفارق الزمنى بيينا من ناحية الميلاد بعيدا، إذ ولد عام 1964م بينما ولدت أنا عام 1948م، فهو فى سن بعض تلاميذى، فضلا عن أن الفارق الجغرافى بين بلدينا أشد بعدا، فهو من الهند، وأنا من مصر. أما التقاطعات فهى أن كلينا ريفى قروى، وكلينا تعلم تعليما إسلاميا فى صغره، فقد حفظت القرآن فى الكتاب، وانتقلت حين بلغت الثانية عشرة إلى المعهد الدينى بطنطا، وإن كنت قد تركت الأزهر بعد حصولى على الإعدادية وحولت أوراقى إلى المدارس. وبالمثل تلقى طوال حياته تعليما دينيا. وبالمناسبة فإننى، رغم تركى الأزهر، قد عدت فى قسم اللغة العربية بآداب القاهرة إلى دراسة اللغة العربية والتفسير والحديث والتاريخ الإسلامى وما إلى ذلك مما له أشد الارتباط بالدين. كما درس كلانا اللغة الفارسية، إلا أننى قد أهملتها بمجرد تخرجى من الجامعة فنسيت كل ما تعلمته منها.
وفى النهاية أرجو ألا تفوتنى الإشارة إلى أن اسم أخى الشيخ، وهو مُزَّمِّل، يذكّرنى باسم أول شاب مسلم قابلته فى لندن أول يوم لى هناك، إذ كنت قد نزلت بيتا من بيوت الشباب لأقضى فيه ليلتى لقاء خمسة جنيهات إسترلينية، وما إن وضعت شنطتى فى الغرفة المخصصة لى حتى سألتُ فتاة الاستقبال عن الطعام لأنى كنت جائعا، فقالت إنهم لا يقدمون سوى الفَطُور والمبيت. وعلىَّ أن أدبر أمرى بالبحث عن أى محل لا يزال مفتوحا بعد الخامسة والنصف أشترى منه شيئا يؤكل، وهو ما يمكننى أن أجده إذا ما ذهبت إلى الشارع الرئيسى مرورا بالمسجد. وما إن سمعت كلمة "مسجد" حتى قلت فى نفسى: جاءك الفرج يا مشتهى الطعام! فقد كانت إنجليزيتى ضعيفة جدا آنذاك لأنى إنما درست الفرنسية فى المدرسة والجامعة فى مصر، وتوقعت أن أجد عونا فى المسجد على نحو أو على آخر. وقد وجدت هناك الشاب الذى أومأت إليه آنفا، وكان نيجيرى الأصل فيما أذكر، واسمه مُدَّثِر أحد أسماء نبينا محمد عليه الصلاة والسلام مثل "مزمل". والاثنان اسما سورتين قرآنيتين متتاليتن تتحدثان عن النبى عليه السلام فى أبكر مرحلة من مراحل الوحى. وبالمناسبة فقد حل لى مدثر مشكلة الطعام، إذ قدم لى فى المسجد طبقا شهيا من البامية المطبوخة مع السمك، إلى جانب الأرز الأصفر، وإصبع موز هو أكبر إصبع رأيته فى حياتى آنذاك. ومن يومها وأنا أفضل هذا النوع الضخم الطويل من الموز.
وكنت قد أتيت إلى بريطانيا، بعد حصولى على الماجستير فى الأدب والنقد، وحصلت على درجة الدكتورية من أكسفورد عام 1982م، ثم ذهبت إلى السعودية عام 1989م للعمل بجامعة أم القرى- فرع الطائف، وبعد ذلك بعامين تقريبا قرأت بالمصادفة، وأنا هناك، إعلانا فى الصحف عن حاجة مركز أكسفورد للدراسات الإسلامية إلى مشرفى رسائل جامعية محليين ليَرْعَوُْا الطلاب المنتسبين من منازلهم إلى المركز، فراسلتهم فى المعهد فاختارونى للإشراف على باحث فلسطينى من سنى أو أكبر قليلا، وكانت الرسالة عن د. غازى القصيبى ناقدا أدبيا. وكنت قد أصدرت كتابا كبيرا من 600 ص بعنوان "أدباء سعوديون" احتل القصيبى فيه قريبا من مائة صفحة، فكان مرجعا لذلك الباحث الذى كتب رسالة قوية فى موضوعه. وفى ذلك الوقت تقريبا التحق د. أكرم الندوى بالمركز المذكور.
على أن المشابهة لا تقف عند هذا المدى، بل تمضى أبعد من ذلك. فقد تعرض الندوى، عند تقدمه لشغل وظيفة أستاذ بالمركز، لسؤال من مديره عن موقفه من قضية سلمان رشدى وكتابه عن الآيتين الشيطانيتين بغية استطلاع طِلْعه ومعرفة اتجاهه الفكرى. وكنت فى ذلك الحين قد أصدرت كتابا لى عن ذلك الموضوع. كما أننى قد تعرضت، حين تقدمت لشغل وظيفة مشابهة بكلية التربية بالطائف، لسؤال مشابه، ولكن عن نجيب محفوظ وموقفى من فوزه بجائزة نوبل فى ذلك الحين. فكان جوابى أن محفوظ، شئنا أم أبينا، ينتمى لنا وننتمى له، وهو ابن الإسلام بغض النظر عن السبب الذى دفع الأكاديمية السويدية إلى إعطائه جائزتها السنوية فى الأدب، ومن ثم ينبغى لنا أن نفرح بحصوله على تلك الجائزة التى تأخرت عنه سنوات طوالا، إذ هو بكل يقين أفضل من بعض من فاز بها. كما أن فوزه بالجائزة فخر لنا نحن العرب والمسلمين. وأحسب أن الأستاذ الذى سألنى لم يخطر له أن يسمع هذا الجواب من متقدم لشغل وظيفة فى الجامعات السعودية فى الوقت الذى كان هناك حظر على أعمال محفوظ فى معظم دول العالم العربى، فما بالنا بالمملكة؟ ومع هذا فقد ظهرت علائم الارتياح عليه رغم أنه متخصص فى الدراسات الإسلامية لا الأدبية. وقد أعربت عن رأيى فى عبقرية نجيب محفوظ وتفوقه على كثير من نظرائه فى آداب العالم الأخرى فى أكثر من كتاب لى.
أما د. أكرم ندوى فكان رده على السؤال الخاص بموقفه من رواية سلمان رشدى والتظاهرات المشتعلة التى كانت تعج بها بريطانيا فى ذلك الوقت هو أنه ينبغى تجاهل الرواية تماما كأنها لم تكن، وأن التظاهر لا يفيد بشىء، فالله ورسوله لن يؤذيهما هذا الكتاب، أما المسلمون فإن تلك المظاهرات تؤذيهم بما تم فيها من أعمال شَغْب وحرق للكتاب سَوَّأَتْ صورتهم فى أعين الرأى العام البريطانى. وكان المفروض، على العكس من ذلك، أن يهتبلوا تلك الفرصة ويقوموا بتصحيح صورة الإسلام المشوهة فى الغرب. وأنا معه فى إدانة التظاهرات العنيفة وحرق الكتب، ومعه أيضا فى أنها كانت فرصة أمام المسلمين لتوضيح جوانب العظمة فى الإسلام والرد على ما فى الرواية من أخطاء وإساءات لا تقوم على أى أساس، ولكنى لست معه فى أن الكتاب لا يؤذى الله ورسوله. نعم، إن الله فوق الأذى، لكن المعنى هنا على المجاز، وقد قال الله تعالى فى سورة "الأحزاب": "إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله فى الدنيا والآخرة، وأعدَّ لهم عذابا عظيما"، كما قال فى سورة "التوبة" عن المنافقين: "ومنهم الذين يؤذون النبى ويقولون: هو أُذُنٌ".
كذلك لست معه فى إدانة التظاهرات أيا كانت حتى لو كانت سلمية. ذلك أن المسلم لا يمكن أن يصمت إزاء ما يوجَّه من أذى إلى دينه، وإلا تبلدت مشاعرنا مع الوقت، وتجرأ عدونا على النيل من مقدساتنا مطمئنا إلى أننا سوف نصمت ولا نبالى، علاوة على أن الصمت يترك أثرا ضارا شديد الضرر بنفوس الضعفاء، فيختل إيمانهم مع الأيام: فأما الكاتبون من أمثالنا فينبغى أن يكتبوا مفندين ذلك السخف ومجهضين العدوان الموجه لديننا ونبينا وربنا وكتابه، وهو ما صنعه واحد مثلى عندما وضعت كتابا درست فيه الرواية من ناحية الأسلوب والبناء والتاريخ والجغرافيا وما فيها من بذاءات وألفاظ عارية ومنفّرة تثير الاشمئزاز سواء من ناحية الجنس أو من ناحية الفضلات البشرية وغيرالبشرية والغرام المرضى بذكرها وتكرارها. ولعلى أول من صاغ المصطلح الموازى للكلمة الإنجليزية الدالة على ذلك، وهو مصطلح "الخُرْئِيَّة" فى مقابل "Scatology". كما أرجو أن أكون أول من حلل لغة رشدى فى روايته، وكان ذلك فى خمسين صفحة بالتمام والكمال. وقد ألفيتها رواية متهافتة سخيفة مفعمة بالبذاءات والقاذورات والنفايات والتجديفات، وعملا مفككا من الناحية الفنية لم تستطع بهلوانيات صاحبه أن تنقذه من هذا التفكك وتلك التفاهة.
هذا فيما يخص الكتاب وأمثالهم، وأما العامة فلا تستطيع كتابة ولا خطابة ولا بحثا ولا جدالا، وإنما تحسن التظاهر. وليس فى التظاهر فى بريطانيا أم الديمقراطية من عيب أو حرج. فليتظاهروا إذن معبرين عن موقفهم دون عنف أو تحطيم أو فوضى أو إحراق كتب. وهم فى هذا لا يأتون عملا شاذا ولا غريبا، فالتظاهر عند البريطان أمر اعتيادى كالأكل والشرب والتنفس يلجأون إليه كلما عن لهم أن يعربوا عن موقفهم فى قضية عامة. ومَثَلُهم فى هذا كمَثَل الغربيين جميعا. أم ترى التظاهر حلالا زلالا لهم، وحراما علينا دون البشر جميعا؟ ألم يقل الرسول: من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان؟ وبطبيعة الحال لا يصح أن يغير المسلم منكرا بيده إذا كان المنكر أمرا عاما تنظمه الدساتير والقوانين، لكنه يستطيع بكل يقين وبكل سهولة أن يغيره بلسانه فى مثل تلك القضية بالهتاف والانتظام فى مسيرة احتجاجية، إذ القانون فى صف المسلمين فى تلك الحالة، وما عليهم سوى أن يتفقوا على ميعاد التظاهرة وحجمها ونظامها ويبلغوا بذلك السلطات البريطانية، وهى من جانبها تؤمن التظاهرة وتحميها وترافقها طوال خط سيرها حتى تنتهى فعاليتها فينصرف كل إلى حال سبيله، وقد أدى واجبه نحو دينه واحترم البلد الذى يعيش فيه والقانون الذى يستظل بمظلته هو وسائر المواطنين والمقيمين، وكان الله يحب المحسنين. أم ترى د. ندوى يريد أن يكمم أفواه المسلمين بالذات حتى لا يعبروا عن أفكارهم ومواقفهم؟ فَلِمَ يا ترى؟
أما إذا كان المقصود من كلامه الذى رد به على مدير المركز الأكسفوردى للدراسات الإسلامية هو إهمال الرواية وعدم الانشغال بها بأى حال فإنى أيضا لا أوافقه فى هذا. نعم أعرف أن من المسلمين من يرى هذا الرأى قائلا إن الرد فى مثل تلك الحالة من شأنه نشر السباب الموجه إلى الدين والرسول على نطاق أوسع ولفت النظر إليه بحيث يتنبه إليه من لم يكن واعيا به. وعوضا عن أن نكون قد أطفأنا النار نزيدها اشتعالا والتهابا. لكن هذا إنما يصح لو كانت الرواية مجرد حديث سمعه عدة أشخاص، ثم ينتهى الأمر بمغادرتهم المكان الذى كانوا يتحدثون فيه، وكان الله بالسر عليما. لكنها عمل منشور على نطاق واسع، إذ طُبِعَتْ منها نسخ بعشرات الآلاف، وحيطت بدعاية رهيبة. فلو سكتنا عن الرد عليها لفُسِّر صمتنا بأنه عجز عن المواجهة وثَبَتَتِ التهم التى فيها على الإسلام ونبيه. ومن ثمرة هذا أن يشك كثير من المسلمين فى أمر دينهم. أى أننا، بدلا من أن نجنبهم الفتنة طبقا لمنطق الداعين إلى الصمت والإهمال، قد عرَّضناهم لها أيما تعريض. ثم إن منهج القرآن الكريم فى هذا الموضوع هو منهج الصراحة والمواجهة وعدم الصمت. فما من كلمة وجهها الكفار أو اليهود أو النصارى أو المنافقون إلى النبى أو دينه إلا انبرى كتاب الله يرد عليها ويفندها ويسخر من أصحابها. وكان الرسول من جهته أيضا يفعل هذا. بل إنه عليه الصلاة والسلام كان يستعين بحسان وابن رواحة وكعب بن مالك فى الذَّبِّ عنه وعن دينه. ولو كانت خطة السكوت هى الخطة السليمة لكان عليه الصلاة والسلام أول من ينتهجها.
والواقع أن أى كتاب عدائى ضد الإسلام هو بمثابة قنبلة لا بد من تفكيكها قبل أن تنفجر فى الوجوه، وهذا يكون بالرد عليه وإظهار عواره من خلال الكتب والدراسات التى تُظْهِر أخطاء ذلك الكتاب وتبين بالحجة والبرهان والمنطق العلمى الصارم أنه كتاب تافه متهافت حتى تطمئن النفوس إلى دينها فلا تتزعزع عقيدتها. وأخيرا فهل ينتهج الغرب هذا السبيل فى التعامل مع الدعاية المضادة لسياساته؟ إنهم فى الغرب يستبِقون الأحداث ويخططون لمواجهة ذلك قبل الهنا بسنة. ولهم فى ذلك خطط وبرامج شيطانية تدل على يقظة لخصومهم وعمل دءوب على إفشالهم قبل أن يفكروا مجرد تفكير فى مناوأتهم. فلم يقال لنا نحن بالذات إن التجاهل هو الوسيلة المثلى لمواجهة أمثال رشدى وروايته؟
وهنا أود أن أتريث قليلا أمام نقطة تتصل بهذا الموضوع، وهى عَزْوُ د. أكرم الندوى الفتوى التى أهدر بها الخمينى دم رشدى إلى دوافع سياسية، إذ كان الخمينى، كما يقول، قد باء بكراهية المسلمين حول العالم بعدما كانوا متحمسين له فى بداءة أمره، فأراد أن يسترد شعبيته المتقلصة من خلال فتوى تُظْهِره بمظهر المدافع عن الإسلام والرافض لأية إساءة توجَّه إليه. وأنا معه فى أن الفتوى لا معنى لها، ولكن باعتبار مختلف. فالفكر لا يواجَه إلا بالفكر. ثم إن رشدى رعية بريطانية، ومعنى الفتوى أننا نتدخل فى شؤون رعايا الدول الأخرى. فهل نحب أن تتصرف الدول الأخرى مع رعايا بلادنا بنفس الطريقة؟ كذلك فمن المعروف أن بريطانيا، بل والغرب كله، سوف يضربون نطاقا من الحماية حول سلمان رشدى يجعل الوصول إليه شبه مستحيل، وهو ما حدث، إذ لم تستطع يدٌ أن تنال منه منالا. ثم انتهى الأمر تماما مع الأيام ولم يعد هناك إهدار لدمه.
وقد غاب عن د. ندوى، فى تفسيره لإصدار تلك الفتوى، أن رشدى قد صور الزعيم الإيرانى تصويرا بشعا، إذ رسمه على هيئة وحش خرافى بشع يبعث على النفور والاشمئزاز. ذلك أن رواية سلمان رشدى تتألف من أربع قصص لا تربط أيّةً منها بالقصص الأخرى صلة فنية أو مضمونية البتة. وتدور القصة الثانية من هذه القصص الأربع حول إمام يعيش فى لندن عيشة متقشفة حيث لا يوجد فى المبنى الذى يشغل هو وأتباعه ثلاثة طوابق منه خمر ولا قمار ولا نَرْد ولا حتى صُوَر، اللهم إلا صورة امرأة فى غرفة نوم الإمام العجوز. وهذا الإمام يمجد الماء، ويلعن الإمبراطورة (صاحبة الصورة) شاربة الخمر ودماء البشر، ويلعن كذلك أغاخان، ويعلن أنه عندما ينتصر الماء سوف تسيل الدماء. ويبرز رشدى أثناء ذلك كيف أن كل ما يقوله الإمام فى غرفته المغلقة الشديدة الحرارة إنما هى أوامر تتحكم فى مصائر الآخرين.
وهو يصف الإمام بالضخامة وعدم الحركة قائلا إنه "حجرٌ حَىٌّ". كما يذكر أن رأسه كبيرة ولحيته رمادية. ثم يمضى قائلا إن التاريخ هو عدو الإمام ولعبته، وإنه يرى فى "التقدم والعلم وحقوق الإنسان" ثلاث أكاذيب كبيرة، وإن العلم فى نظره ليس سوى وهم لأن خلاصة العلم موجودة فى القرآن، وليس هناك ما يمكن أن يضاف إليه بعد انتهاء الوحى على ماهوند. ويُنْطِق المؤلفُ بلالًا المؤذنَ مخاطبا الجموع بصوت هادر: الموت للإمبراطورة والنبيذ! أحرقوا كل الكتب، واستمسكوا فقط بالكتاب الذى أنزله جبريل على ماهوند، والذى يفسره لكم إمامكم. ويسخر المؤلف من الإمام بقوله إنه يحرك العالم، لكنه هو نفسه لا يتحرك، وإن لحيته تبلغ الأرض، وتطيرها الريح فى كل اتجاه. ويصوره وقد تلفع بتلك اللحية وأرسلها على كتفه، ثم طار فى الجو ودار قليلا قبل أن يستقر على كتفى جبريل منشبا "براثنه" فى رقبته. وفى أثناء ذلك تظهر ساقا الإمام المغزليتان، وقد غطاهما شعر وحشى كثيف. كما يصوره مبغضا للإمبراطورة مرددا أنها سجينة الزمن بخلافه هو الذى يتجسد فيه الخلود. وفى مشهد آخر نراه يتحول إلى وحش يرقد فى الفناء الأمامى للقصر وقد فتح فمه متثائبا، وأخذ يبتلع الجموع التى تعبر بوابة القصر. وهنا يبدأ عصر "اللاوقت".
وأول ما يلفت النظر فيما يخص الإمام هو ذلك التصوير الهزلى المؤلم المهين الذى لا بد أنه كان أحد الأسباب الرئيسية وراء فتواه بإهدار دم سلمان رشدى، إذ ليس من السهل أن يقال عن زعيم روحى وسياسى له فى قلوب الملايين من أتباعه ذلك الحب والإجلال الذى كان ولا يزال يتمتع به إنه حجر حى، وإن له ساقين كالمغزلين يغطيهما شعر وحشى كثيف، وبراثن ينشبها فى رقبة جبريل فاريشتا، وإنه لطول لحيته قد تلفع بها وأرسلها على كتفيه، وإن حاجبيه يرفرفان فى الهواء كأنهما رايتان. إن هذه ليست صورة إنسان بل وحش أسطورى آت من خارج الزمن. فهذه الحواجب المرفرفة وتلك السيقان المغطاة بالشعر الكثيف تدل على أن صاحبها لا يشعر بمرورالزمن ولايفكر فى تشذيبها. وقد ذكر المؤلف صراحة أن الإمام قد استحال فعلا فى نهاية القصة وحشا فاغرا فاه وشرع يبتلع الجموع. كما ذكر بصراحة أيضا أنه، بانتصار الإمام، قد ابتدأ عصر "اللاوقت". إن سلمان رشدى يريد أن يقول إن هذا الرجل لا يصلح أن يكون زعيما روحيا، بل هو وحش مفترس، وإنه لا يستطيع أن يقيم دولة عصرية، إذ هو لا ينتمى إلى عصرنا، كما أن دعوته تتجاهل التاريخ والتطور وظروف البيئة ومتغيرات الزمان والمكان، ولا تعترف بشىء اسمه العلم أو التقدم أو حقوق الإنسان. والآن هل كان أكرم ندوى قد قرأ الرواية؟ لا أدرى. ثم هل كان هذا رأيه الحقيقى أم هل أراد أن يريح نفسه من النقاش الذى يمكن أن يضيع عليه فرصة الانخراط فى التدريس بمركز أكسفورد المذكور؟
وقد احتارت الكاتبة فى تصنيف د. ندوى كما احتار، طبقا لكلامها، كل من حاول من معارفها هذا التصنيف: سواء كان المصنِّف مسلما أو غير مسلم، شرقيا أو غربيا. فهو فى نظر هؤلاء سلفى، وفى نظر أولئك منفتح. وهو فى نظر هؤلاء متشدد، وفى نظر أولئك متساهل. وهو فى نظر هؤلاء محب لدينه، وفى نظر أولئك متابع للغرب على ما يريد بالمسلمين من تفسخ وابتعاد عن دينهم. أما هو فيقول إنه كان مستقلا لا ينتمى إلى جماعة أو اتجاه بعينه، مؤثرا أن ينتسب فقط للإسلام فى وقت كان على الشخص فى بريطانيا أن يحدد موقفه فيعتزى إلى هذه الجماعة أو تلك، وإلا ضاع وطاردته التهم من الجميع.
والحقيقة أن هذا يصيب كل من سار على درب الاستقلال. وقد عانيت وأعانى من هذا أنا أيضا، فلا أذكر أنى فكرت يوما فى الانضمام إلى جماعة أو حزب، إذ لا أجد نفسى إلا فى فرديتى على ما فى الفردية من عيوب أراها تتضاءل بجوار الانتساب إلى هذه الجماعة أو إلى ذلك الحزب. فهناك من يتهمنى بالانغلاق والتشدد بعد كل ما كتبته عن حرية الفكر والضمير. ومع هذا فإنى فى ذات الوقت أحب أن يكون الناس جميعا مسلمين رغم معرفتى بأن هذا مستحيل بناء على أن الله قد خلق البشر، كما قال فى كتابه المجيد، مختلفين. وهناك من يتهمنى بعكس ذلك. كما أننى لا أتباطأ شعرة واحدة فى الرد على من يهاجم الإسلام أو يسىء فهمه وينشر سوء فهمه على الناس بل أنبرى له وأعرّى نقاط ضعفه بالعقل والمنطق والوثائق والشواهد.
وهناك من يرى أنى معتزلى مع أنى انتقدت المعتزلة كثيرا. وهناك من قد يظن أنى آخذ صف بنى أمية ضد الحسين، وجوابى هو أن ظُفْر قدم الحسين برقبة يزيد. ولعن الله من قتل الحسين وحرض عليه ورضى به. إن قلب المسلم ليشتعل نارا كلما فكر فيما حدث آنذاك، إلا أن الحسين لم يسلك سبيل النجاح السياسى منذ البداية، فكانت النتيجة هى فاجعة كربلاء. فمن الواضح أنه لم يكن خبيرا فى ميدان السياسة ودهاليزها وما تحتاج إليه من دهاء، فدارت الدائرة عليه وخلق مقتله بين المسلمين ميراثا من الضغائن والعداوات. وهناك من يظننى كذا، وهناك من يظننى كذا، ولكنى أقول دائما: إننى مسلم، وكفى. وإذا صح ما نسمعه من أن الإيرانيين نهضوا فى العقود الأخيرة نهضة صناعية قوية فهذا يحسب لهم رغم إنكارنا على الشيعة فى ذات الوقت تنطعهم فى موقفهم من الصِّدّيق والفاروق وابنتيهما وحرصهم على إخراج زوجات النبى كلهن تقريبا من دائرة أهل البيت مع أنهن يدخلن فيها بكل جدارة، وبنص القرآن؟ ألم تقل الملائكة لسارة زوجة يعقوب: "رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت"، فجعلوها من أهل البيت كما نرى؟ ألم يخاطب الله سبحانه زوجات النبى فى الآيتين 32- 33 من سورة "الأحزاب" بوصفهن من أهل البيت فقال: "يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا * وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآَتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا"، اللهم إلا إذا مزقنا رباط الآيات وفككناها لتذهب منا شَذَرَ مَذَرَ كما يفعل مفسرو الشيعة تخلصا من دخول نساء النبى عليه السلام فى أهل البيت؟
ويا ليتهم قد وقفوا هنا، بل مَضَوْا بكل أسف يخرجون معظم الصحابة من الدين ولم يُبْقُوا به إلا على من رافأ عليا كرم الله وجهه. ولو جرينا على هذا النهج لأمكن إخراج جميع المسلمين من دينهم، إذ مَنْ مِن الناس لم يخرج فى هذا الأمر أو ذاك على ما تقتضيه أوامر الإسلام أو نواهيه؟ كذلك فالخوارج محقون فى القول بأن الحكم لا يورَث، بل هو شورى بين المسلمين . صحيح أن الأمر فى التاريخ قد جرى على خلاف ذلك. بيد أننا إنما نتحدث الآن فيما ينبغى وكان ينبغى أن يكون لا فيما وقع وكان. لكنى مع هذا لست مع الخوارج فى تنطعهم وخروجهم على علىّ بن أبى طالب والعيب عليه والظن السىء فيه وفى دينه وتصورهم أنهم يفهمون الإسلام، وهو لا يفهمه، وأنهم أعظم تدينا منه. خيبة الله على التنطع والغباء وضيق الأفق. ومن الواضح أنهم يناقضون الشيعة مناقضة شديدة.
ولو حاولت الآن أن أعرف كيف تم انعتاقى من شرنقة المذاهب لكان أول ما ينبغى أن أتذكره وأذكره هو وعيى لأول مرة فى الثانية عشرة أن قريتنا تدين فقها بالمذهب الشافعى. كان ذلك حين تقدمت إلى المعهد الأحمدى بطنطا فى العام الدراسى 59- 1960م، إذ رأيتهم يذكرون فى أوراقى الرسمية أنى شافعى المذهب. وهذا مسجل أيضا فى الشهادة الإعدادية التى حصلت عليها من المعهد المذكور والتى كانت آخر عهدى بالأزهر. أما القرية المجاورة لقريتنا فمالكية. وكان لكل مذهب كتابه الفقهى الذى يدرسه الطلاب المنتسبون إليه. وقد تنبهت، بعد أن حصلت على الدكتوراه، أن صيغة التشهد عندهم تختلف فى بعض الكلمات عن صيغتنا. كذلك أذكر، وأنا فى الإعدادية، أننى صليت المغرب ذات مرة خلف طالب من دار العلوم أصله أزهرى، فكنت أقرأ الفاتحة بعد أن ينتهى هو من قراءتها فى الوقت الذى لم يترك هو مسافة زمنية بين الفاتحة والسورة القصيرة التى كان يقرؤها فى الركعتين الأُولَيَيْن بعدها. وقد سألنى بعد الصلاة باستنكار عن الحكمة من قراءتى الفاتحة وأنا مأموم، فقلت له: لأن قراءتها ركن فى الصلاة بحيث تبطل إذا لم أفعل. فأفهمنى أن قراءة الإمام فى الركعات الجهرية تجزئ عن المأموم، فلم أقتنع. لكننى عرفت عقيبها أنه حنفى المذهب. فكان هذا درسا لى فى اتساع الأفق ما دامت المذاهب مختلفة فى بعض التفاصيل، وكلها مقبولة عند الله. وحين دخلت الجامعة قرأت عند الشيخ محمد عبده وغيره أن التيمم يجوز لمطلق السفر سواء وُجِد الماء أو عدم رغم ما كنت أعرفه من الفقه الشافعى أنه لابد من انعدام الماء فى السفر حتى يصح التيمم. لكنى عندما تفكرت فى الأمر ألفيت محمد عبده أصح فهما للمسألة.
وفى هستنج كنت أسكن مع أسرة بريطانية، ومعنا شاب إيرانى أرسله أبوه ليتعلم الهندسة هناك. ورغم أنه لم يكن يصلى أو يصوم فقد عرفت منه أن الشيخ فى المسجد عندهم فى إيران قد علمهم أن التيمم يكون بالمسح على الوجه واليدين فقط دون أن نصل بالمسح إلى المرفقين. وفى البداية بدا لى الأمر غريبا، إذ كان كتاب الفقه الشافعى الذى درسته فى الأزهر يقيس مسح اليدين فى التيمم على غسل اليدين إلى المرفقين فى الوضوء. لكن سرعان ما ألفيت الآية لا تقول شيئا من ذلك. إنما هو فهم بعض الفقهاء. ولما ذهبنا للحج للمرة الثالثة، أيام كنت أعمل بتربية الطائف فى النصف الأول من تسعينات القرن المنصرم أردنا أن نعرف تفصيل شعائره فى المذاهب المختلفة، فتبين لنا أن هناك من لا يوجب المبيت بمنى ومن لا يوجب تحديد رمى الجمار بالزوال، فأخذنا بهذا وذاك تيسيرا على أنفسنا ومن معنا من النسوة والأطفال. بل كنت أقوم نيابة عن كل أفراد أسرتى برمى الجمار وفَشّ غِلِّى كله فى اللعين ابن اللعين... وبهذا انهدم الاستمساك الأعمى بمذهب بعينه فى الفقه. وعلى نفس الشاكلة سار الأمر معى فى المذاهب الكلامية، وبخاصة عندما كنت بصدد تأليف كتابىَّ عن مذاهب التفسير ومناهجه، إذ انبسطت أمامى الآراء المختلفة للمذاهب الإسلامية والفِرَق الكلامية فى تفسير كتاب الله، فصرت لا أبالى بأى الآراء أخذت ما دمت مقتنعا به ويقبله تفسير الآية دون تمحك أو تمحل. بل كثيرا ما يكون لى تفسيرى الخاص بالنص مؤسسا على الدليل الصلب والشواهد الكافية والروح العامة للدين.
وهكذا يرى القارئ أننى مسلم، وكفى. لكن هل معنى هذا أننى أمثل الإسلام الصحيح مائة فى المائة؟ أكون مغرورا إن قلت: "نعم" رغم تصورى أننى أفهم الإسلام فهما سليما. لكنى مع هذا أعرف أنه ما من إنسان يمكنه أن يمثل فكرة ما تمثيلا دقيقا تامّ الدقة، إذ هناك دائما فجوة بين النظر والعمل، وفجوة أخرى بين الحقيقة وتصورنا لها. إننا جميعا ندندن حولها، أما هى فبمثابة امرأة مختفية خلف نقاب، فضلا عن أننا لا نستطيع الكلام إليها إلا من وراء حجاب. ومع اجتهادنا فى معرفة ملامحها لا نستطيع الادعاء بأننا متأكدون من تلك الملامح. وإنى لعلى يقين من أنه سوف يأتى اليوم الذى ينتقدنى فيه المنتقدون قليلا أو كثيرا حسب اتجاه كل ناقد. ولماذا أقول: "سوف"، وأنا من الآن أسمع أصواتا انتقادية لا ترى لى فضلا كبيرا، وربما: ولا فضلا صغيرا، على الإطلاق فى دراساتى وبحوثى؟ وهكذا يرى القارئ أن هناك تقاطعات متعددة بينى وبين د. ندوى. إلا أنى أختلف عنه فى أنه، كما يصف نفسه، لم يعد يستطيع الغضب إلا إذا بذل جهدا فى أن يغضب، وذلك من كثرة ما اجتهد وهو شاب فى تعويد نفسه الهدوء والسكينة حتى نجح فى ذلك، وهو ما أفتقر أنا إليه، إذ إنى عصبى. وليس معنى هذا أننى نارى الطبع، بل معناه أننى كما أرضى أغضب، وكما أنفعل تمر على أوقات أكون فيها هادئا ساكنا. لكن فى كل الأحوال هو يتميز علىَّ بهذه الفضيلة. كما يتميز، طبقا لكلامه، بمراعاته المستمرة لما كان يفعله رسول الله فى حركاته وسكناته مما ليس فرضا على المسلم الالتزام به، وإن كان الأفضل التزامه. فأنا مثلا حين أدخل المرحاض قد أستعيذ بالله من الخبث والخبائث، وقد أنسى فلا أهتم بذلك...
وقد ذكرت الكاتبة، بناء على ما أخبرها به أكرم ندوى، أنه قد أثار غبارا كثيفا جراء إفتائه فى بريطانيا بأن ارتداء الطاقية فوق الرأس خلال الصلاة غير وجوبى، إذ هو مجرد عادة محلية عند الهنود المسلمين وأمثالهم، ولا علاقة له بقبول الصلاة أو عدم قبولها البتة. وهو كلام صحيح تماما دون أى نقاش. والرأس ليست داخلة فى عورة الرجل بأى حال. وأقصى ما تبلغه العورة الذكورية أثناء الصلاة فى المذاهب الفقهية الإسلامية هو المساحة التى تقع بين السرة والركبة. فأين هذا من الرأس حتى يظن الظانون أن تغطيتها جزء من شعائر العبادة؟ بل إن هناك من يقصر عورة الرجال فى الصلاة على السوأتين ليس إلا. وأيا ما يكن الحال لقد كان ينبغى أن يطالب المعارضون الرجل بالدليل الذى يستند إليه وألا يركنوا إلى الغباء والتنطع فيحولوا الحبة قبة ويجعلوا من التراب الذى يخرجه حيوان الخلد من جحره تلا ضخما كما يقول المثل الإنجليزى. والملاحظ أن جماهير المسلمين، بتأثير من الوعاظ والدعاة الشعبيين التافهين المتنطعين الذين يبحثون عن جماهيرية زائفة أو الذين يعملون بوحى من ترتيب خارجى يصب فى مصلحة أعداء الإسلام عن طريق شغلهم بالتفاهات عن لباب الدين وجوهره الأصيل، قد حولوا الدين إلى طقوس وأشكال وممارسات فولكلورية مضحكة، وهم يظنون أنهم يحسنون صنعا. وقد كنت، فى صباى وشبابى أيام صعودى المنبر لأخطب الناس يوم الجمعة متصورا، حُمْقًا منى وخُرْقًا، أن لدىَّ ما يمكننى أن أفيد به الناس فى دينهم ودنياهم، أضع على رأسى طاقية أو أعصبها بمنديل، وإلا تعرضت للاحتجاج والنكير وظَنّ من يصلّون خلفى أن صلاتهم باطلة. وكنت، حين أصنع ذلك، إنما أجارى الجو لا غير. والآن، بعدما عقلت وأفقت من أوهامى السابقة، لم أعد أصعد منبرا ولا أفكر فى وعظ أو دعوة. وماذا أستطيع أن أفعل، والعوام المسلمون يظنون أنهم أعرف منك بالدين وأقوم سبيلا وأهدى منهجا، ويفهمونها وهى طائرة؟ وبالمناسبة فالدكتور ندوى يرتدى فى الصور التى رأيتها له على المشباك طاقية فوق رأسه وملابس بلاده رغم فتواه بصحة الصلاة من دون غطاء رأس. وقد كنت وأنا طفل وصبى بالقرية ألبس أنا أيضا طاقية، لكن من طراز مختلف، ثم لما كبرت قليلا خلعتها ولم أعد إليها بتاتا بعد هذا.
كذلك أثار د. ندوى عليه مسلمى بلاده فى بريطانيا حين بين لهم أن قص المرأة المسلمة شعرها متى أرادت لا غبار عليه ولا حرج فيه، إذ كيف يقول ذلك والمرأة الغربية تقص شعرها؟ أفيريد من المسلمات أن يتشبهن بالغربيات الكافرات؟ والحق أننى، حين أقرأ أمثال تلك الحكايات، تشتعل النار فى جسدى وعقلى ونفسى، وأتساءل: أية لُوثَةٍ اعترت العقل الإسلامى حتى وصل إلى هذه الدرجة من التساخف؟ وقد سبق أن أثار الشيخ محمد عبده هوجة هائلة عندما أفتى منذ أكثر من قرن بجواز لبس المسلم القبعة فى الصلاة. وها نحن أولاء بعد كل تلك العقود المتطاولة لا نزال نراوح أمكنتنا: مَحَلَّك سِرْ! ترى ما وجه الخطإ فى أن تقص المرأة المسلمة شعرها مثل المرأة الغربية؟ أهى تتشبه بها فى الانحلال الجنسى مثلا أو فى الكفر والإلحاد؟ أبدا. ثم إن المرأة الغربية تأكل وتشرب وتنام وتمشى وتطبخ وتتكلم مع زوجها وتمارس الجنس معه وتربى أولادها وتتعلم وتقرأ وتكتب، فهل يحرم على المسلمة ان تفعل ذلك نأيا بنفسها عن تقليدها؟ كذلك فالمرأة الغربية تضع الطعام حين تأكل فى فمها، وتتنفس حين تتنفس من منخريها، وتسمع بأذنيها وتبصر بعينيها، فهل يتوجب على نظيرتها المسلمة أن تقلب أمرها رأسا على عقب توخيا لمخالفتها، فتسمع بفمها وتأكل بعينيها وترى بأذنيها ولا تمشى على قدميها بل على رأسها وتتنفس من منخر واحد فقط مع سد الفتحة الأخرى بالأسمنت والرمل والزلط اتباعا للمثل القائل: المنخر الذى يجىء لك منه الريح، سُدَّه لتستريح؟ ألا إن هذا لهو العجب العجاب.
ومع هذا فقد اضطر د. ندوى إلى الاستشهاد بما صنعته نساء النبى بعد وفاته صلى الله عليه وسلم من قصهن لشعورهن. وهذا هو الحديث كما وجدتُه فى "صحيح مسلم": "كَانَ أَزْوَاجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأْخُذْنَ مِنْ رُءُوسِهِنَّ حَتَّى تَكُونَ كَالْوَفْرَةِ". وكان يكفى أن يقول للمتنطعين إن الدين لم يتعرض لذلك الأمر بخير أو شر، فهو إذن باقٍ على حِلِّيَّته جريا وراء القاعدة الفقهية التى تقول: ما سكت عنه الشرع فهو عَفْو. أى أنت فيه بالخيار، ولا إثم عليك: فَعَلْتَه أو لم تفعله. لكن إياك، عزيزى القارئ، والظن بأن المسألة قد حُلَّتْ هكذا، فها هو ذا شيخ مطمطم يزيد المسألة تعقيدا وإرباكا وتفصيصا وتفعيصا كأنه إزاء فتح عكا، إذ يقول ما نصه: "قص المرأة شعر رأسها إن كان على وجهٍ يشبه أن يكون كرأس الرجال فإن هذا حرامٌ ولا يجوز. بل هو من كبائر الذنوب لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لعن المتشبهات من النساء بالرجال، والمتشبهين من الرجال بالنساء. وأما إن كان على وجه يخالف ما يكون عليه من شعر رؤوس الرجال فإن المشهور من مذهب الحنابلة رحمهم الله أن ذلك مكروه. وذهب بعض أهل العلم إلى جواز ذلك محتجا بما يروى عن أمهات المؤمنين رضي الله عنهن أنهن كن يقصصن رؤوسهن بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يكون كالوفرة. ولكن أجيب عن ذلك بأنهن يفعلن هذا من أجل أن يُعْلَم عزوفهن عن الأزواج لأن نساء النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته لا يحل لأحدٍ أن يتزوجهن كما قال الله تعالى: "ولا يحلّ لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تَنْكِحوا أزواجَه من بعده أبدا. إن ذلكم كان عند الله عظيما". وقول السائل إنها لا تريد التشبه ينبغي أن يعلم أنه إذا حصلت المشابهة حيث لا تحل فإنه لا يشترط فيها القصد لأن المشابهة صورة شيءٍ على شئ فلا يشترط فيها القصد. فإذا وقعت المشابهة على وجهٍ محرَّم فإنها ممنوعة سواءٌ قصد ذلك الفاعلُ أم لم يقصده. وكثيرٌ من الناس يظنون أن المشابهة المحرمة لا تكون محرمةً إلا بالنية والقصد. وهذا خطأ، بل متى حصلت صورة المشابهة المحرمة كانت محرمة سواءٌ قصد الفاعل هذه المشابهة أم لم يقصدها".
لقد سد سيدنا الشيخ، كما نرى، كل المنافذ وخنقنا خنقا دون أية بارقة من الأمل فى التنفيس عنا. ثم انظر تنطعه حين يقول إن أمهات المؤمنين إنما قصصن شعورهن كى يعلم الناس أنهن لا يفكرن فى الزواج. الله أكبر! وكأنهن إذا لم يفعلن ذلك سوف يتوافد الخطاب على الأبواب طالبين أيديهن. ترى ماذا يمكن أن يقال لهذا التنطع؟ أيمكن أن يدور فى عقل مسلم أن يفكر مجرد تفكير فى التقدم لخِطْبة أية من أمهات المسلمين؟ إن هذا خروج ساطع على نهى القرآن المجيد للمسلمين أن يتزوجوا نساءه رضى الله عنهن بعده، اللهم إلا إذا فقد الصحابة عقولهم وصاروا جهالا بدينهم إلى مدى لا يحتمل. ولو افترضنا أن هذا يمكن أن يكون، وما هو بممكن، فكيف ظنت أمهات المؤمنين أن الزواج بهن جائز فأحببن من ثم أن يقطعن الطريق على كل من يخطر له ذلك؟ وعلى كل حال كيف يشغل الشيخ وأمثاله أنفسهم بهذا الأمر إلى هذا الحد المعنت، وهو لا يقدم ولا يؤخر، إذ المرأة المسلمة التى تقص شعرها إما أن تكون من اللاتى يغطين رؤوسهن طبقا لأمر الدين فى مسألة التحجب أو لا: فإن كانت الأولى فالعبرة فى أنها تلتزم أمر ربها ورسوله فتغطى شعرها حتى لا يراه غير المحارم، ومن ثم لا تكون متشبهة بالمرأة الغربية، إذ المرأة الغربية لا تعرف شيئا اسمه التحجب. ولا يهم بعد ذلك ما تفعله المسلمة بينها وبين زوجها وسائر محارمها، إذ هى حرة آنذاك ما دامت لا تنكشف على غير المحارم. وإما أنها لا تلتزم بأمر دينها فيما يخص تلك المسألة، فهى تكشف رأسها وشعرها أمام غير محارمها، وفى هذه الحالة تكون آثمة لتعرية هذا الجزء من رأسها لا لقصها شعرها، إذ العبرة كما قلنا بالتزام الواجب لا بممارسة المباح الذى يحق لها أن تفعله أو لا تفعله. ومن هنا نرى أن المسألة لا تعدو أن تكون زوبعة فى فنجان. أرأيتم الآن لماذا تخلف المسلمون وما زالوا يزدادون تخلفا؟ ذلك أنهم شغلوا أنفسهم وعقولهم وحياتهم كلها بهذه التوافه، وتركوا أهل الغرب يركبونهم ويضربونهم بنعالهم لما يَرَوْنه من ضعفهم وهوانهم وتخلفهم وعجزهم عن مجاراتهم واعتمادهم فى كل شىء تقريبا عليهم بالإضافة إلى الفروق الهائلة الشاسعة التى تفصل بين الغربيين فى السماء السابعة والمسلمين فى الحضيض فيما يخص أمور الدنيا من قوة وصناعة وعلم ونظام ونظافة وتخطيط وطموح إلى المعالى والتفوق والسيادة وإتقان وحرص على أن يكون كل شىء يخصهم جميلا معجبا وممتعا.
ومن مظاهر هذا التساخف فى السنوات الأخيرة بمصر، حسبما لاحظتُ، انتشارُ عبارة "إن شاء الله" لدى الحديث عن الماضى أو الحاضر أو الوضع الدائم الذى لا يتغير، كقولهم مثلا: أتيت الأسبوع الماضى من القرية إن شاء الله، أو أنا أقطن حدائق القبة إن شاء الله، أو أنا هذا العام فى السنة الثالثة إن شاء الله، أو أنا فلان إن شاء الله، أو اسمى كذا إن شاء الله. ثم زادوا فى الطنبور نغمة فقالوا: فلان المرحوم إن شاء الله، أو المغفور له بإذن الله. وكأنك هنا تَسُوق خبرا ولا تدعو الله أن يغفر لفلان أو يرحم فلانا. وغاب عن المتنطعين قول الرسول: "إذا دعا أحدُكُم فلْيَعْزمِ المسألةَ، ولا يقولنَّ: اللَّهمَّ إن شئتَ فأعطني، فإنَّهُ لا مستَكْرِهَ لَهُ"، "لا يقولَنَّ أحدُكُم: اللَّهمَّ اغفِر لي إن شِئتَ، اللَّهمَّ ارحمني إن شِئتَ. لِيَعْزِمِ المسأَلة، فإنَّهُ لا مُكْرِهَ لَهُ". فإذا كان هذا هو قول الرسول فهل بعد قول الرسول قول؟ خيبة الله على التنطع والمتنطعين! والمضحك المبكى فى الأمر أنك حين تقول لأحد هؤلاء المتنطعين: لماذا تقول فى هذا السياق: إن شاء الله؟ فيجيبك وهو يظهر التقوى والورع والوقار مع أن كل ما فيه ينضح بالغباء والجهل: إنى أقدم المشيئة اتباعا لأمره تعالى: "ولاتقولَنَّ لشىء إنى فاعلٌ ذلك غدا إلا أن يشاء الله"، فأقوم أنا بهجوم مضاد من جانبى قائلا: لكن ذلك إنما يتعلق بما سوف يحدث غدا. فيقول فى تنطع لا يحتمل: "للمزيد من التحرز". ألا تعسا للأغبياء المغفلين!
وكنا، ونحن فى بريطانيا فى سبعينات القرن الماضى، نتلقى بين الحين والحين مطبوعات صغيرة ترشد المسلم إلى كيفية تحرى الطعام الحلال. وهو أمر طيب ومشكور، لكن بعض المسلمين كانوا يغالون مغالاة سمجة كأن يحرموا شراء اللحم من الجزارين البريطانيين، فيقال لهم إن طعام أهل الكتاب حِلٌّ لنا، لتأتى الإجابة على نحو لا يتوقعها أى عبقرى لأنها لا يمكن أن تخطر إلا لذهن يريد التضييق والتنكيد على عباد الله متلذذا بذلك تلذذا مرضيا، إذ تقول الإجابة: أليست السكين التى يقطع لك بها الجزار الإنجليزى لحم البقر أو الجاموس أو الغنم الذى تظنه حلالا بلالا هى نفس السكين التى يقطع بها لزبائنه غير المسلمين لحم الخنزير. وأضحك من أعماق قلبى قائلا لنفسى: فعلا، فاتتنا هذه، بل فاتت سيدنا النبى، الذى لم يذكرها فى أحاديثه. لكن بالله ألم يكن سيدنا محمد عليه السلام يعلم ذلك، ورغم هذا أحل طعامهم لنا؟ ثم هل سيأكل المسلم اللحم الذى اشتراه دون أن يغسله؟