جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
فسوق – عبده خال
(ط3 – دار الساقى بلندن)
دراسة نقدية
د. إبراهيم عوض
(1 - 3)
عبده خال روائى وصحافى سعودى ولد عام 1962م، وحصل على بكالوريوس العلوم السياسية، واشتغل بالتدريس زمنا. وهو متزوج، ولديه ثلاثة أبناء وبنت واحدة. ومن أهم أعماله القصصية رواية "ترمى بشرر"، التى حصل بها على جائزة البوكر العربية عام 2010م، ورواية "مدن تأكل العشب"، ورواية "الطين"، ورواية "فسوق"، التى نحن بصددها الآن، ومجموعة "حوار على بوابة الأرض"، ومجموعة "من يغنى فى هذا الليل؟". وقد قرأتُ له حوارا يشكو فيه أن أعماله ممنوعة من النشر فى السعودية وبعض البلاد الخليجية الأخرى، وأنه يطبع كتبه عادة خارج البلاد لهذا السبب، إذ تدور على "الثالوث المقدس" طبقا لكلامه: الدين والجنس والسياسة. وقد اتجه خال فى شبابه نحو التشدد الدينى، ثم انقلب فى نظر بعض من كتبوا عنه إلى العلمانية. وهو يرجع انقلابه على الوهابية وتخلصه من التشدد إلى عشقه للسينما. وفى رأيه أن الوهابية هى المسؤولة عن تفجيرات الحادى عشر من سبتمبر 2001م فى أمريكا، وهو ما أثاراستغرابى، فهذه الواقعة من الأمور الخلافية كما هو معروف، إذ هناك من يتهم أمريكا بتنفيذها توصلا بها إلى أغراض شيطانية استعمارية، علاوة على أن خال لا يعرف من أسرار السياسة العالمية قليلا ولا كثيرا، فكان ينبغى ألا يقدم اتهاما مجانيا لبعض مواطنيه دون أى دليل. وقد أشار بعضهم، فى صدد الحديث عن أفكار عبده خال، إلى النص التالى الذى جاء على لسان أحد الشخوص فى رواية "فسوق" مما لا يتسق فى رأيه مع العقيدة الصحيحة: "أنا أؤمن أن الإنسان كائن متطور، وفى كل لحظة من وجوده هو فى شأن. الإنسان جزء من إله، والجزء يحمل صفة الكل".
وتحكى رواية "فسوق" قصة فتاة فقيرة اسمها جليلة تحب شابا فقيرا مثلها لكنه ليس سعوديا أصيلا، مما جعل أباها يرفض تزويجه منها، فظلت تلقاه سرا من وراء ظهر أهلها. وقد انتهى أمرها بالقتل ذبحا. لكنْ بعد دفنها بيوم اكتشف أبوها اختفاء جثتها من قبره، وبلغ السلطات، فنشطت الشرطة فى البحث المحموم عنها. ومن خلال هذا البحث يتم التعرف إلى سيرتها وسيرة أسرتها، والتعرض لأحداث وشخصيات متعددة، إذ انتهز المؤلف الفرصة فجعل روايته تخوض فى تصوير كثير من المشكلات الاجتماعية التى كانت الفتاة إحدى ضحاياها، إلى أن نكتشف فى النهاية أن جثتها قد خطفها القبَّار الذى كان فى صباه يتردد على بيت أسرة جليلة ويسهر معهم ويحظى بعطف أفرادها عليه بما فيهم هى، فيظن أنها تحبه، إلا أنه يقابَل بصدود شديد جعله يكتم حبه فى قلبه. ويظل يعانى القهر والحرمان فى صمت إلى أن تُقْتَل الفتاة وتُدْفَن فى المقابر التى كان يحرسها ويقوم بأمرها، فيستخرجها من لحدها ويضعها فى فريزر اشتراه لذلك الغرض حتى تحتفظ بحالتها التى ماتت عليها كى يستطيع، كلما أخرجها ليلا حين يختلى بنفسه فى مسكنه بالمقابر، أن يتأملها ويتحدث إليها ويبثها لواعج قلبه ويعبث بجسدها ويعطرها ويلبسها أجمل ما استطاع شراءه لها من ملابس.
ويتم السرد فى العمل الذى بين أيدينا على لسان عدة أشخاص تتشابك رواياتهم لتقدم لنا رؤية لانعكاسات السلطة الدينية والعُرْفية على المجتمع، وإن كانت كل تلك الروايات تصب فى رواية خالد الضابط الذى انتهى إليه أخيرا ملف التحقيق فى تلك القضية. وتنحو الرواية منحى بوليسيا ظاهرا لم يكتف به المؤلف، بل زاد فغلف كثيرا مما يرويه بالغموض المفتعل الذى يرهق الذهن دون أن يكون له أية جدوى حتى ليأخذ القارئ وقتا طويلا قبل أن يفهم مجرى أحداث الرواية، وبخاصة أن محورها، وهو قتل جليلة ذبحا، قد تكرر مرتين، وظللنا متحيرين مرتبكين بين الأمرين لا نستطيع التمييز بينهما على مدار صفحات: الأول ذبح "جليلة" حبيبة محسن الوهيبى، والثانى ذبح "جليلة" بنت محسن الوهيبى نفسه. وعبثا ينظر القارئ عَلَّه يجد سببا يدفع المؤلف إلى انتهاج هذه التعمية وذلك التداخل، فضلا عن إيثار العتمة التى يبدأ بها كثيرا من فصول روايته، فلايجد. ومن تلك التعميات ابتداء طائفة من فصول الرواية بحوار غامض لا ندرى بين مَنْ ومَنْ إلا بعد الإيغال فيه. ولو كان هناك سبب فنى لهذا لكان له معنى. بيد أنه للأسف لا يوجد مثل ذلك السبب. إنها الرغبة فى الإبهار ليس إلا. كذلك أكثر المؤلف من شخصيات روايته وأحداثها دون لا لشىء سوى رغبته فى تناول كل شىء تقريبا، فكانت النتيجة أن اكتظت الرواية بأبطالها ووقائعها التى تسبب الدوار فى غير قليل من الأحيان. ولم ينفك اللغز الخاص باختفاء جثة جليلة إلا فى آخر الرواية (بدءا من ص238) بعد أن داخت الشرطة، ودخنا معها طوال أكثر من مائتى صفحة.
ونظرا لغياب اللون المحلى فى الصفحات الأولى من كلام السارد واستبعادى أن يتخذ المؤلف من السعودية مسرحا لحوادث مثل تلك القصة التى يدل عنوانها على ما ينتظر القارئ بداخلها قام بخاطرى أن الكاتب قد لجأ إلى تجهيل البلد الذى تجرى فيه أحداث الرواية، لكنْ بعد ذلك شرعتْ بعض التفصيلات المتناثرة هنا وهناك تومئ إلى أن ذلك البلد هو السعودية: فالسارد يقول مثلا عن القاتل: "أُمْسِك به ليتدحرج رأسه فى ساحة القصاص ككرة شراب تالف" (ص18). ومعروف أن رقاب القتلة فى السعودية تُقْطَع فى ساحات القصاص. كما يقول عن العاشق بعدما ذوى جسده وصار يلازم الشجرة التى قُتِلَت عشيقته تحتها أمام بصره: "استجاب ذووه لعابر سبيل أوصاهم أن يتركوه فى صحن الكعبة بين حمام الحرم وأن يُغْسَل فى كل يوم بماء زمزم عله يعود إلى رشده" (ص20). ثم ورد ذِكْر جدة صراحة (بدءا من ص53)، وتلاها بعد قليل ذِكْر الإمارة والمطاوعة (ص68)... إلخ، إلخ.
ومع هذا فإن الأسماء التى خلعها المؤلف على أبطال روايته إلى الصفحة الستين ونيف لا تتسم بأية خصوصية سعودية أو خليجية، إذ تخلو ألقابهم تماما من "العِنَزى" و"السديرى" و"الحَكَمى" و"القحطانى" و"الطَّلْحى" و"الثبيتى" و"العصيمى" و"السويدى" و"الزهرانى" و"البُقَمِى" وأشباهها، مثلما تخلو أسماؤهم الأولى من "فهد" و"بندر" و"تركى" و"فيصل" و"حنش" و"جْنِيدِب" و"قُلَيِّل" و"سعود" و"مْعِيوِض"... لكن الحال تغير عقب ذلك، إذ يقابلنا اسم نبيل تركستانى، وهو ضابط متسعود كما هو واضح من لقبه، يليه اسم سعيد الزهرانى، وهو ضابط سعودى أصيل كما لا نحتاج إلى القول. وفى ص142- 143 نقابل اسمى "عائض" و"ملفى".
كذلك فإن بعض الأحداث والتصرفات لا تتسق وما نعرفه عن أوضاع السعودية، ومنها مثلا اعتقاد الناس قداسة الشجرة التى قُتِلَت تحتها جليلة، فلا أحد فى السعودية يمارس مقتضيات ذلك الاعتقاد، وإلا نالته أيدى المطوعين وعوقب عقابا شديدا. وهذا إن سمح الجو بإظهار ذلك أصلا. لا أقصد أن أهل السعودية كلهم جميعا على بكرة أبيهم أنقياء العقيدة والسلوك، بل أقصد أن هذا هو السلوك العام والعقيدة الرسمية التى لا يمكن أحدا، فى حدود علمى، أن يظهر خلافها، وإن لم يمنع هذا أن يكون بينهم من يؤمن بالخرافات والأوهام ويمارس البدع، ولكن فى الخفاء بعيدا عن أنظار الآخرين. ثم هناك اختفاء اللون المحلى فى الملابس إلى ص53 على الأقل حيث لا ذكر للثوب والغترة والشماغ والعقال والشبشب والنقاب والعباءة وما إلى ذلك. وكان نتيجة هذا حسبانى، فى بداءة الأمر، أن المؤلف قد سار على ما تسير عليه الصحف الخليجية حين تكتب فى صفحة الجرائم عن الزنا وأمثاله من الانحرافات، إذ تنقل أخبار البلاد العربية الأخرى، وكأن مجتمعاتها لا تعرف الزنا واللواط والخمر...
وفوق ذلك فالشوارع والحوارى فى المدن والقرى السعودية أفضل وأنظف من تلك التى فى الرواية حيث يذكر السارد أن عثور أقدام الناس بالحيوانات النافقة الضخمة فى الشارع أمر عادى، وهو ما يخالف الواقع، إذ السعودية، رغم أنها أقل مما ينبغى أن تكون نظرا إلى ما تحوزه من ثروات هائلة، تقع من هذه الناحية فى منزلة بين المنزلتين بين كثير من البلاد العربية والإسلامية وبين الغرب لأن شوارعها، وإن لم تكن كشوارع أوربا نظافة ونظاما وخدمات، أفضل كثيرا من شوارعنا فى مصر مثلا وأنظف وأكثر تنظيما، ولم أر فى حياتى شيئا كهذا الذى تحكيه الرواية لا فى المدن ولا فى القرى التى مررت بها، وما أكثر ما مررت هناك بالمدن والقرى. بل لو أن روائيا مصريا قال ذلك عن مدينة أو قرية مصرية لأنكرتُه إنكارا شديدا، إذ أقصى ما يمكن أن يقع فى هذا الصدد هو أن نرى قطة أو كلبا ميتا فى الشارع على الرصيف أو بجانبه، وسرعان ما يزال. أما أن نرى حمارا أو ماعزا نافقا ملقى فى وسط الطريق وتمر به الناس دون مبالاة فلا.
وهناك شىء آخر لفت نظرى هو أن الرواية، إلى ما بعد انقضاء بضع عشرات من الصفحات، ينقصها التصوير الحى، فلا كلام عن البيوت أو المبانى العامة أو السيارات أو الأسواق أو إغلاق الدكاكين وخلو الشوراع والميادين من المارة عند دخول الصلاة وطواف سيارات المطوعين فى الطرقات تنادى الناس إلى تأدية الفريضة، بل التركيز كله تقريبا على الشجرة التى قُتِلَت تحتها جليلة، وعلى جهة التحقيق التى أخذ الأمر من المؤلف صفحات قبل أن يفهم منه القارئ أنها الشرطة. حتى داخل جهة التحقيق لا نكاد نجد وصفا للمكان، ويوشك الكلام أن يقتصر على الحوار. ثم إنه لا يوجد فى السعودية بيوت متداعية كبيت القتيلة فيما أظن، أما إن كان هناك بيوت مثله، وهو ما لا أستطيع أن أنفيه، فإن ذلك لا يمثل ظاهرة، وإلا لرأيناه، وقد عشنا هناك سنوات ستا، وهى ليست بالقليلة. أجل نسمع أن هناك فقرا فى السعودية وغيرها من دول الخليج، لكنى أستبعد أن يصل الحال فى ذلك الصدد إلى أن يمثل ظاهرة تتحدث عنها الروايات بوصفها شيئا اعتياديا منتشرا.
لكن حين انتقلت الرواية إلى المقابر عند وفاة أم السارد، وهو الضابط الذى نِيطَ به أخيرا التحقيق فى موضوع اختفاء جثة جليلة من قبرها كما ذكرنا، ثم عند بدء زيارته للمكان بعد ذلك بقليل لمباشرة التحقيق على الطبيعة هناك، بدأ المؤلف يسخن، فألفينا وصفا حيا لحفار القبور، أو "القَبّار" كما يسميه (وهى تسمية ألطف لطرافتها وإيجازها)، ولصبى الحفار الصغير ابن أخيه وقذارته ومخاطه الذى توقف السارد إزاءه يتحفنا بتصويره فى حالاته المختلفة ومحاولات الولد مسحه والتخلص منه بأصابعه العارية مع ما فى هذا من تقزيز وتنفير، إلا أنى سرعان ما تنبهت إلى أن ذلك مناسب للسياق. كما جرى المؤلف على ما يشبه الواقعية الطبيعية بما فيها من تسليط الضوء على ما فى الحياة من قبح وتشويه والغوص فى أحشاء الواقع العفن وتتبع الأمور إلى أصولها الأولى المتصلة بالغرائز الوحشية وما إلى ذلك حين وصف السارد حالة كل جثة فتح المحققون قبر صاحبها للتحقق من أنه ليس قبر جليلة، وهو ما سيأتى نصه بعد قليل.
ومن هذا الوادى قول أحد المطوعين لمحمود، حبيب جليلة، حين ضبطوه معها فى عربته على كورنيش جدة: "كم مرة ضاجعتها؟": هكذا دون تورية أو تلطيف، ثم لا يكتفى بهذا بل يردفه بقوله بعد إنكار الشاب التهمة الوبيلة: "إذن جئتَها من دبر"، ليرد عليه الشاب بنفس اللغة العارية التى تبعث على الاشمئزاز: "لا من قِبل ولا من دِبر..." (ص77- 78) بوضع كسرة تحت قاف "قِبل" ودال "دِبر" ربما لأن العامية السعودية تفعل ذلك مع أن الرواية مكتوبة بالفصحى إلا فى بعض المواضع القليلة. ويلحق بذلك تلك النظرة التشاؤمية التى لا ترى فى المجتمع كله شيئا صالحا، بل كله لواط وزنا واغتصاب وحمل سِفَاحِىّ وخيانات زوجية وهروب بنات من أهليهن... إلخ (ص93- 94)، وهو ما لا يمكن أن يكون، إذ السعوديون بوجه عام مسلمون عاديون، فيهم وفيهم كما فى كل شعب مسلم آخر. ثم ينتهز المؤلف هذه الفرصة فيورد على لسان السارد بعض المشاكل من هنا وهناك ليثبت صدق رؤيته للمجتمع، مفتعلا المواقف افتعالا لأوهى سبب كى يتحقق له ما يريد. وقد عرّج الحديث أثناء ذلك إلى هجرة الريفيين والبدو البسطاء إلى المدن وما نتج جراءها من انحلال وتفلت من القيود الأخلاقية والدينية بعد انصباب الثروة فى جحور الناس بسبب النفط. وكثير من تلك المشاكل تتعلق بالجنس وخيانة النساء لأزواجهن تصديقا لما يقوله سارد الرواية من أن المجتمع السعودى مجتمع مهووس بالجنس. وقد كنت أسمع بعض الساخطين المتغربين هناك، وأنا أعمل بجامعة أم القرى قبل أكثر من عشرين عاما، يصفون ثقافتهم بأنها "ثقافة الفَرْج".
وبالمناسبة يصعب علىَّ أن أتقبل بسهولةٍ الصورة التى صور بها الكاتب هيئة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر. صحيح أن فيهم متنطعين وأغبياء وقساة قلوب، لكنى لا أتصور أن يتلفظ أحدهم بتلك الألفاظ النابية بما فيها من اتهام مباشر للشابين بالزنا واللواط. وأنا هنا لا أدافع عن المطوعين، فهم ليسوا ضعافا، بل أحاول تسجيل ما أعتقد أنه كلمة حق. وإنى لأحسب أن لعبده خال موقفًا قَبْلِيًّا من رجال الهيئة سببه اختلاف وجهات النظر بينه هو وأمثاله وبينهم، إلى جانب ما قرأتُه من أنه اصطدم بهم منذ سنوات فاعتدوْا عليه بالضرب والإهانة حسب كلامه.
وهذا نص ما كتبه حول تلك الواقعة بعنوان "سوء الظن بوصلة رجال الهيئة": "فى سوق الخيمة تعرضت لإهانة بالغة أمام زوجتى، وضُرِبْتُ ضربا مبرحا من قِبَل رجل الأمن المصاحب لهيئة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر الذى استوقفنى وأنا أدور بسيارتى فى موقف السوق منتظرا خروج زوجتى من أحد المتاجر والذى قصدتْه من أجل شراء هدية لابن أخيها المولود حديثا. كان الوقت يزحف مقتربا من صلاة المغرب، فأنزلتها مشترطا عليها أن تخطف أية هدية وتعود إلى موقع إنزالى لها، أى خلال عشر دقائق أو أقل، وأدرت سيارتى لمقابلتها من الجهة الأخرى من السوق.
فى هذه الأثناء استوقفنى رجل الهيئة، ويدعى: فلاح، وبصحبته رجل أمن أطول من شهر شوال يدعى: محروس، فتوقفت وأنزلت زجاج السيارة ليقول لى هذا "الفلاح": لماذا لا تذهب إلى الصلاة؟ فرددت عليه: وأنت لماذا لا تذهب إلى الصلاة؟ وتحركت مباشرة بسيارتى فى استكمال الدورة الكاملة على السوق، وكعادة النساء لم تنجز زوجتى شراء الهدية، فإذا بى وجها لوجه مع فلاح ليقف أمام السيارة طالبا هويتى، فرفضت إعطاءه، ليأمر رجل الأمن محروس بانتزاعى من داخل السيارة. فنشط محروس ونزعنى نزعا من داخل السيارة. ولأن روحى بقيت فى مكانها فتح باب السيارة وأمسك بخاصرتى وعنقى وأخرجنى بكل قوة ممزقا ثيابى وجسدى، وأحدث تهتكات فى رقبتى وخاصرتى.
كان منظرى يدعو للرثاء حيث تجمع الناس حولنا من كل جهة. تمنيت ألا تقف زوجتى فى تلك الحالة، فلم تستطع التدخل أو الاقتراب من ذلك التجمهر الذى لم يؤد فيه أحد صلاة المغرب. وانطلقت مع زوجتى إلى شرطة النزلة لتقديم بلاغ، إلا أن الرائد قال لي: أنت مجنون؟ هل هناك أحد يشتكى هيئة الأمر بالمعروف؟ ومع إصرارى على تقديم البلاغ تم توجيهى إلى شرطة البلد، فذهبت وطلبت من مسؤول مركز الشرطة، وكان برتبة رائد أيضا، تثبيت بلاغى، فحاول أن يثنينى مرارا. ومع إصرارى قال لي: عد بزوجتك للبيت، وسوف أستقبلك بعد صلاة العشاء. ففعلت، وكان يظن أنى لن أفعل. وتم توجيهى إلى مستشفى الملك عبد العزيز للكشف علىَّ وتحديد الأضرار الجسدية التى لحقت بى، فذهبت وعدت بتقرير عن الكدمات التى لحقت بى وأنها بحاجة من خمسة أيام إلى سبعة أيام كى تزول. وتم أخذ أقوالى من قِبَل جندى تم توجيهى إليه. وبعد انتهاء الأسئلة: سوف نتصل بك...
مضت ثمانى سنوات على هذه الحادثة، وما زلت أنتظر من شرطة البلد أن تتصل بى... وحاولت جاهدا كتابة هذه الحادثة فى حينها، إلا أننى لم أفلح لأن الهيئة كانت فى حصانة مبالغ فيها: حصانة من الشكوى أو نشر أخطاء أفرادها. إذن لماذا أوردتُ هذه الحكاية متأخرا؟ أوردتها حامدا الله أنه أصبح بالإمكان التبليغ عن أية مخالفة لرجال الهيئة، وكذلك نشر أخطائهم. ولو تتبعنا هذه الأخطاء فإننا سوف نجد فى كل يوم كارثة يحدثها بعض رجال الهيئة فى الميدان. ولهذا أقول إن ما حدث لشاب المدينة المنورة على مرأى من زوجته استشعرتُ به حين وقفت أمام رجل الهيئة فلاح ورجل الأمن محروس، وهما يعبثان فى جسدى تمزيقا ويصران على اتهامى بنواياهما. وهذا يحدث كثيرا، بل فى كل لحظة ثمة ضحية لرجال الهيئة. فمتى يفهم هؤلاء أنهم يشوهون الدين بأمرهم بالمنكر؟ فهل من خلاص من هذه النوعية؟".
وقد نشرت صحيفة "سبق" السعودية، إثر ذلك المقال، تقريرا يتضمن رد الهيئة عليه بقلم عبير الرجبانى هذا نصه: "وصفت مصادر فى هيئة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر بمحافظة جدة لـ"سبق" القصة التى ذكرها الكاتب عبده خال فى مقاله بجريدة "عكاظ" حول واقعة تعرُّض رجلِ حسبةٍ له والتعدى عليه وتمزيق ملابسه قبل ثمانى سنوات بأنها كذب ومحض افتراء، ولا أساس لها من الصحة. وقالت المصادر إن عبده خال ألقى اتهامات جزافا، واتهم رجلى الهيئة والأمن بالاعتداء عليه، وجهاز الشرطة بالتقصير. وكشفت المصادر لـ"سبق" أن رجل الهيئة الذى قصده "عبده خال" فى مقاله هو الشيخ إبراهيم بن يحيى فلاح، وهو أحد أعضاء الهيئة بمحافظة جدة، ومن أنشطهم فى العمل الميدانى، ولم يُلاحَظ عليه أى مخالفة أثناء تأديته عمله حيث تزيد خدمته على أكثر من 13 سنة، كما أنه يرأس لجنة مكافحة الشذوذ الجنسى بالمحافظة والتى تضم عدة جهات منها: البحث الجنائى والهيئة والشرطة، وأن الشيخ فلاح متفرغ لهذا العمل فى جميع أحياء المحافظة. وللجنة الحق فى استيقاف وقبض من يمارس أعمال الشذوذ الجنسى والتشبه بالنساء، ولهم جهود كبيرة فى ذلك حتى نالوا شرف شكر وثناء صاحب السمو الملكى النائب الثانى وزير الداخلية على جهودهم وتوجيه سموه الكريم ببرقية عاجلة إلى صاحب السمو الملكى أمير منطقة مكة المكرمة بدعمهم بما يحتاجون إليه من آليات وأفراد. ومن أبرز القضايا التى تم ضبطها من قِبَلهم القبض على الشاذ جنسيا والذى تقمص وارتدى بدلة الضابط فى مقطع الفيديو الذى انتشر، وسارعت "سبق" إلى نشر تفاصيله فى حينه.
وعلمت "سبق" من مصادرها الخاصة أن هيئة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر بجدة سوف تصدر بيانا خلال الأيام المقبلة ترد فيه رسميا حول ما كتبه عبده خال فى عموده اليومى فى جريدة "عكاظ" فى عددها الصادر برقم 15907 والذى جاء بعنوان "سوء الظن بوصلة رجال الهيئة". وقد تضمن المقال قصة تتلخص أحداثها فى تعرض الكاتب قبل حوالى ثمانى سنوات للاعتداء عليه من قِبَل عضو هيئة وعسكرى مرافق له حينما نصحاه بالتوجه إلى الصلاة، فرد عليهما: لماذا لا تذهب أنت للصلاة؟ ورفض إبراز هويته الرسمية للهيئة وذلك أثناء انتظاره زوجته فى سوق الخيمة بجدة. وقد تعرض نتيجة لهذا الاعتداء، حسب دعواه، إلى تمزق ثيابه وجسده وإحداث تهتكات فى رقبته وخاصرته... إلخ ما ورد فى الخبر. كما أشارت المعلومات إلى أن الهيئة لن تتعرض، فى ردها على مقال الكاتب، إلى الخوض فى تفاصيل الحادثة التى وقعت قبل ثمانى سنوات حرصا على المبدإ الذى تسير عليه، وهو الستر، ولا سيما أنها واقعة قديمة وتخص عدة جهات، ولم تتلقَ الرئاسة ولا غيرها فى حينها أى تظلم من المذكور مع أن أبوابها مفتوحة له ولغيره. كما أن القصة التى سردها الكاتب محض افتراء، ولا أساس لها من الصحة، ولا سيما أنه أورد فى مقالته تقصير أقسام الشرطة فى اتخاذ اللازم حيال شكواه كل هذه المدة، وهذا ما لا يصدقه عاقل".
فإذا عدنا إلى الرواية وجدنا أيضا من المواضع الحية فيها تلك الصفحات التى يستعرض فيها السارد الافتراضات المختلفة الخاصة بتفسير اختفاء الجثة من جانب فريق البحث والتحقيق: "وجدوا لفافة الكفن منزوية فى عمق القبر عالقة بها خصلات من شعرها الكستنائى الطويل، وما زالت رائحتها ملتصقة به. أكدت رائحتها الندية الفواحة من ثنايا الكفن هربها. علل المحقق استنتاجه بقوله: "لو أنها بقيت بعض الوقت لتخمرت الرائحة وشابها ما يشبه رائحة نتن البول القديم". وكان الاستنتاج المبدئى المنساق لمقولة الهروب أن أسوار مقبرة الأسد أسوار منخفضة مكنتها من القفز إلى الشارع العام. هذه الفرضية قابلها سؤال تشبث فى مكانه كمسمار صدئ غرسته فوهة العقيد نبيل تركستانى كأول محقق استلم القضية وعزف عن المواصلة فيها بعد أن أمضى سنوات عمره مطاردًا المجرمين على اختلاف أوصافهم وفاكًّا عُقَد جرائم غامضة عديدة: لو صح هروبها فهل تهرب عارية فى حى يعيش حياة نمل يتبادل سكانه حالات اليقظة على مدار اليوم؟ تمادى العقيد نبيل فى وضع حواجز أمام هربها منفردة بأسئلة متسلسلة على هامش القضية: "كيف لها أن تزيح غطاء القبر، وهى الضعيفة القصيرة؟
- لا يمكن أن تهرب فى وضح النهار لخطورة اكتشافها من خلال الحارس أو شرفات العمائر المحيطة بالمقبرة. وإذا كان هروبها ليلا فهل بقيت داخل القبر أم خارجه؟ يبقى السؤال: متى هربت؟ ومن ساعدها على الهرب؟
كان كل محقق فى هذه القضية يضع أسئلته من غير أن يجد عنها إجابة أو يبحث ميدانيا عن إجابتها. تناوب على هذه القضية ستة ضباط كان آخرهم النقيب سعيد الزهرانى، الذى لم ينس ترك أسئلة إضافية لم تُحَلّ:
- ما هى أسباب هربها؟ وهذا السؤال يقتضى معرفة علاقتها بأفراد أسرتها، فربما وجدت فى منزلها خطرا يهدد حياتها فقررت الهرب.
- وإذا أهملنا فكرة هروبها تنتج أمامنا احتمالات عديدة كأن يكون غاب على الأب والقبّار موقع قبر المتوفية. فربما تكون فى صف آخر أو قبر مجاور.
تمخضت كل تلك الأسئلة فى نهايتها عن خلق تعقيدات عسيرة أخرت سير التحقيق، وذهبت به إلى تعرجات لم توصل إلى شىء يذكر. وفى سبيل فك لغز هذه الفتاة تحملتُ على عاتقى مهمةً حَمَّلَتْنا سخط أهالى موتى مقبرة الأسد وتعنيفهم حين قررت اللجنة المكلفة بمتابعة القضية برئاستى التيقن من القبر الذى دُفِنَتْ فيه. وتم فتح أربعة قبور: ثلاثة منها تحلل أصحابها، وفار من جثثهم نتن بغيض على الروح، ولم يقدر على التأكد من جنسهم الذكورى سوى القبار شفيق. أما القبر الرابع فقد كان لطفل تآكلت أطرافه ونَزَّ لحمه دهنا كثيفا غطى عظامه، وبقيت جمجمته تفاخر النمل المنتشر ببقائها متماسكة وعصية على القرض. وكانت النية مبيتة، لدى فريق البحث، للبحث عن الميتة الشابة فى قبور أخرى مجاورة، إلا أن هاتفا شديد التوبيخ وصلنى آمرا بالكف حالا عن العبث بحرمة الموتى".
إلا أن الرواية يعيبها كثرة الحكايات التى تتضمنها فتثقلها وتربكها وتربك معها ذهن القارئ: من ذلك حكاية أبى جليلة مع حبيبته وقتلها. حكاية جليلة مع حبيبها وقتلها هى أيضا واختفاء جثتها. حكاية محمود حبيب جليلة. حكايات إخوة جليلة الثلاثة وأبيها وأمها. حكاية ضابط التحقيق مع رئيسه فى العمل. حكاية ضابط التحقيق مع زوجته. حكاية ضابط التحقيق وثلته المكونة منه ومن فواز وأيمن... إن كثرة الحكايات فى الرواية تشتت الانتباه وتفقد العمل ما ينبغى أن يتسم به من تركيز، وبخاصة أن بعض تلك الحكايات لا علاقة له بمحور الرواية، اللهم إلا رغبة الكاتب فى طرق مواضيع بعينها وإبداء رأيه فيها وموقفه منها رغم انعدام العلاقة بينها وبين الحكاية الأساسية فى عمله. إنه يذكّرنا بالمرشد السياحى، الذى يجد لزاما عليه أن يعلق على كل شىء يمر به فى الشوارع والميادين مع جماعة السياح الذين يرافقهم فى أرجاء المدينة. كما أن الرواية ليست كشكولا يسجل فيه صاحبه كل شىء، بل أساسها الانتقاء والسببية، ولا يصح أن يقذف صاحبها فيها بكل ما يقابله سواء كان له صلة بالموضوع المحورى أو لا.
وقد تم السرد فى معظم الرواية بضمير المتكلم على لسان ضابط التحقيق، وإن حسبتُ فى البداية أن السارد هو الرواى المطلق الذى يعلم كل شىء لأن الأمور لم تكن قد اتضحت بعد، إذ لم يكن المؤلف بالنضح الفنى الكافى فى الجزء المبكر من عمله، فلم يستطع أن يشعرنا أى نوع من الساردين يخاطبنا حتى لقد خيل لى فى بداءة الأمر أنه السارد الغائب، إلى أن اتضح بعد فترة أنه السارد المتكلم. على أن هذا لا يعنى أن السرد بلسان الضابط المذكور قد غطى كل وقائع الرواية، بل كانت هناك سرود أخرى على لسان هذه الشخصية أو تلك. وهذا إن أمكن تبريره فى بعض الأحيان فإن التبرير لا يسعفنا فى بعض الأحيان الأخرى. إن من السهل توجيه ما تم من تخصيص بعض الفصول بين الحين والحين لاستعراض أقوال الشهود المختلفة بأن تلك الأقاويل قد حكيت للضابط الراوى على نحو أو على آخر، فحكاها هو بدوره لنا على النحو الذى تمت به، أى دون أن يقول لنا إن فلانا أو علانا قد قال لى كذا وكذا، بل تركنا نواجه تلك الأقاويل كأننا نسمعها معه مباشرة من أصحابها لا محكية على لسانه.
أما فى الفصل الأخير الخاص بشفيق وغرفته بالمقابر حيث وضع جثة القتيلة فى الفريزر كى يستمتع بها ميتة بعد أن فاته الاستمتاع بحبه لها وهى حية لصدها هى وأهلها له، وحيث كنا نسمع مباشرة حديثه إليها، وإن لم نسمع صوتها هى، فقد استغربتُ الأمر جدا، ولم أفهم السر فى أن يتركنا الضابط فى عماية من الأمر بحيث نظن أن القبار إنما يخطاب جليلة وتخاطبه رغم أن صوتها لا يصل إلى مسامعنا. وسر استغرابى هو أن جليلة قد ماتت منذ أول الرواية مذبوحة، وكان الضابط يعلم ذلك رغم ما انتشر بين الناس من أنها هربت من قبرها وكأنها لم تكن قد قتلت، إذ هو رجل شرطة ويعرف جيدا ما وقع، وليس واحدا من عوام الناس الذين يفتقرون إلى المنطق ويبتلعون الخرافات والأوهام ويرددون اللامعقول. وحتى لو كان قد توهم مع المتوهمين أنها قد هربت من القبر وأن قتلها ذبحا كان مسرحية متقنة، وإن كنت لا أدرى كيف، فلماذا تركنا على عمايتنا وكأننا نشاهد معه الموقف ونسمع ما يدور فيه من كلام حين وقوعه فعلا مع أن هذا غير ممكن لأننا لم نكن معه هناك، بل أتى هو بعد ذلك وحكى لنا ما حدث؟ إن هذا غير منطقى بالمرة.
ومثله لا منطقيةً سرد شفيق لماضيه حين كان على صلة بأسرة جليلة، وكان يذهب إلى بيتهم كل ليلة يؤدى هذا الأمر أو ذاك من أمورهم، ويشاركهم سمرهم وخصوصياتهم مما لا يمكن أن يطَّلع عليه غيره أو يعلم به. فهل يعقل، فى ظل الظروف المحيطة به آنذاك عندما وجده ضابط التحقيق متلبسا بجريمته، أن يترك نفسه تستعيد كل تلك الذكريات ثم يصبر عليه الضابط فيدعه يتحدث على راحته وكأنه يحكى له حدوتة قبل النوم؟ يقول شفيق: "كبرتْ تحت عينى، وتعلقت بها ذاكرتى. تجلس مجاورة لجلستى، وتهدل كحمامة تحرش بها غصن يابس. أحببت ظهر أبيها، وخلقت منه رقعة للعب وجَذْب انتباهها. أحصينا الثآليل المنتشرة على شاطئ عموده الفقرى، والممتدة على شكل أرخبيل من الجزر المتباعدة. وتشاركنا فى نتف الشعرات المحاصرة لرقبته والهابطة لعنقه بتوحش كتشابك أحراش بدائية. وعملنا أظافرنا مجتمعة لهرش حكة كانت تعتريه أو أنه خلقها كمبرر لاستزادة بالمتعة والخدر. ومع ازدياد شهوته للحك اتهم جليلة بنقل العدوى إليه. يومها غاصت فى خجلها، وتوارت عن الأنظار بقية الليلة. كم كرهتُه ليلتها وتركتُه يركض بأظافره التى لا تصل إليها يده لتذويب هرش تمرد أسفل لوح كتفه.
أبدى عمى انشراحا لتحسن مهارتى فى جلب متع إضافية أثناء الدعك والهمز. فبعد أن أُنْهِى تهميز ظهر أبيها وأتلقى أوامر الانصراف أعود سريعا إلى غرفة عمى مطالبا إياه بالانبطاح لأدعك ظهره، مراجعا ذكرى ما حدث من جريان حمم قلبى على ظهر أبيها. فمع تلامس أناملنا بين أرخبيل جزره تتولد بروق صاعقة تتركنى متفحما ومشتهيا مضاعفة الصعق الكهربائى. وكما احتجبت جليلة احتجب ظهر أبيها. جئت كعادتى سالكا طريقى إلى موقعى داخل البيت ككلب يربض فى زاوية مخصصة له يبسط ذراعيه، ويضع رأسه فى مستوى أفقى يمكنه من رؤية أى إشارة آتية. كنت أنتظر محسن الوهيب أن يستلقى على بطنه مجردا، وأن تأتى جليلة بالزيت لنبدأ مهمتنا اليومية المحببة. زجرنى زهير معنفا:
- هه، أنت! أتظن نفسك طفلا تدفع الباب وتدخل من غير استئذان؟
خففت أمه حدة جملته:
- يا ولدى، للبيت حرمة!
ملتصق فى لحمة الاستذلال أغوص عميقا كمسمار اتسع رأسه بفعل الطرق. تنبهتُ لجسدى المتفتق ولشاربى المخطوط كطبقة إسفلت مُدَّتْ على طريق وعر. جسد يعلو، ورفة طفل تسكن صدرى. جاء العم محسن مرتديا ملابسه مجتمعة، متخليا عن التخفف الذى كان يمارسه مع مجيئى، وتحدث متكلفا:
- نعتذر عن استقبالك يا شفيق، فقد غدوتَ رجلا.
فى أول ليلة من منعى تهت. كنت أسلك الطريق إلى بيتهم مرارا. وقبل أن أطرق الباب يظهر العم محسن ككلب مسعور ينبح بصوت أهوج، فأتراجع وأعود عابرا الشارع الفاصل بين المقبرة وبيتهم. درت حول المقبرة مرارا، وتحركت صوب المقهى المجاور. اصطففت مع الزبائن أطالع التلفاز، ويدى تتخيل ظهرا مسرجا تحاول إنزال سرجه لدعك ظهره وإجلاء درنه. تعلمت فى المقهى أشياء كثيرة: شرب الشيشة، وسماع الكلام البذيء، ومعرفة دهاليز الرجال،، وأسرار النساء المخبأة، ولعب الورق. تعلمت كل شىء إلا نسيان الصواعق التى تجتاحنى حينما كانت تتقابل أناملنا بين أرخبيل الجزر المتناثرة على ظهر أبيها. أسرفت فى شرب الشيشة والتدخين معا. ولاحتياجى إلى دليل ينبئ عن حرائق صدرى أدمنت التدخين. كان الدخان الكثيف المنبثق على الدوام من فمى شارة لحريق عظيم شب فى هذا الصدر.
سمح لى العم محسن بزيارات خاطفة، وفى حضرة الجميع، وبعد أن أطرق الباب واستأذن فى الدخول بصوت مرتفع، وأن أبقى فى غرفة الضيوف من غير أن أتجول داخل البيت كسابق عهدى. شروط كبلت حركتى هناك. أُتْرَك فى أغلب الأوقات فى غرفة الضيوف من غير أن يلتفت إلىَّ أحد. كنت فى تلك الزيارات أترقب خروجها أو ألمح طيفها أو أسمع صوتها. كنت أضع أذنى على الباب الذى يفصل غرفة الضيوف عن بقية البيت فأسمع صوتها يأتى هزيلا ممعنا فى البعد وكأنه قذف فى بئر سحيق.
خلا المكان منها وكأنها لم تكن هنا. كأنها رحلت مع طلاء الغرفة الذى نكب وغار فى الزمن. لا شىء باق من حضورها سوى آثار تدل أنها كانت هنا. وجدتُ خصلة كثيفة قُصَّتْ من شعرها، أظافر مطلية مقلمة، قلم روج، بجامة، كتاب مدرسى. كنت فى كل مرة أسرق شيئا من بقاياها التى تتخلص منها أو أنها زائدة عن حاجتها. مرة وجدت صورتها، فخبأتها بين صدرى وثوبي وخرجت. كانت تجلس على الكنب الذى أجلس عليه فى زيارتى لهم ناثرة شعرها فى نصف رقدة حالمة، مطلقة ضحكتها كسماء تخلت عن غيومها. سرقتها جزءا جزءا حتى اكتملت بها".
ليس هذا فحسب، بل هناك اللغة الراقية والمعجم الثرى والتحليلات النفسية الدقيقة المتعمقة، والتدسس البارع للعواطف الراقية التى لا يمكن أن تكون قد مرت بشفيق على هذا النحو ولا كان مستطيعا أن يقتنصها بتلك السهولة، وهو الأمى الجاهل الفدم العيىّ المتوحش الذى قلما كان يختلط بالناس، إذ كان يعيش عيشة متوحشة فى غرفته بالمقابر، ونادرا ما كان يتحدث مع أحد. وأنا، حين أقول هذا، لا أرمى إلى تحقيره إنسانيا، فهو إنسان مثلى تماما، بل أبرز عجزه عن أن يكون بالصورة التى رسمها له المؤلف. وهذه سقطة فنية لا تغتفر. إن المؤلف لا يفرق بين شفيق وبين نفسه. إنه بكل تأكيد يستطيع أن يحلل مشاعره ويصفها ويتحدث على هذا النحو وبتلك اللغة، أما شفيق فلا وألف لا. وكان ينبغى أن يتنبه عبده خال لذلك فلا يقع فيه على هذا النحو الممعن فى السذاجة. أما البورتوريهات الخاصة ببعض الأشخاص الذين لهم دور فى التحقيق كالفصول التى كُرِّسَتْ لكُتّاب التقارير المختلفة عن اختفاء جليلة أو للأصدقاء الثلاثة: ضابط التحقيق، وفواز دارس الفلسفة بآداب القاهرة، وأيمن الضابط المفصول من الشرطة لاصطدامه برجال الهيئة، فليس الأمر فيها بهذا اللامنطق.
كذلك يعيب الرواية كثرة ما فيها من أحداث لا تُعْقَل. ولنقرأ مثلا ما يقوله السارد فى النص التالى (ص8): "استللتُ من ملف قضيتها أوراقها السرية أو رسائلها العاطفية التى خبأتها فى مكان مكشوف من غرفتها المتواضعة. ولسوء الحظ قرأت رسالة فضائحية لا تحمل تاريخا محددا. كانت بها جملة عارية جعلتنى أقف منها موقفا عدائيا مبكرا: "تريدنى أمى أن أتركك وأصطحب فتاة لأسكت نهمى إن فار على جرف فخذى". ورغم ما فى العبارة الأخيرة من تقعر لزج فمن الواضح أن أمها تقترح عليها ممارسة الشذوذ الجنسى مع فتاة مثلها. فهل فى بلادنا، وبخاصة فى تلك البيئات الفقيرة التى تنتمى إليها جليلة، مثل تلك الأم؟ نعم هل يمكن أن تزين أم مسلمة لابنتها الشذوذ على هذا النحو، وبخاصة إذا كانت تلك الأم امرأة متدينة عابدة نقية منذ صباها كما يصفها سارد الرواية؟ (ص128- 129).
وبالمناسبة فقد كان السارد قبل تلك الجملة يروى الحكاية بما يفهم منه أنه ضمير الغائب العليم بكل شىء، ثم بغتة يبرز لنا ضمير المتكلم من بين طيات الظلام دون أن يمهد لذلك بشىء، ليعود السرد مرة أخرى على مدار عدة صفحات لما يبدو وكأنه رواية بضمير الغائب، ثم يبرز لنا المحقق كرة ثانية من بين أطواء الظلام، ولكن دون أن تنجاب العتمة عن وجهه تماما، وهو ما تكرر مع باقى الشخصيات، إذ يعمد الكاتب إلى تحيير القارئ قبل أن يلقى إليه معلومة عن أى منها، مما يسبب له الإزعاج بدلا من تشويقه للمضى قدما فى الرواية، فنحن إزاء رواية إنسانية اجتماعية لا تصلح لها تلك الألاعيب البهلوانية التى من شأنها تعكير جو العمل القصصى وإصابة القارئ بالصداع دون أن يكون هناك ما يكافئ ذلك الصداع، بل دون أن يكون هناك ما يستلزم هذا الصداع، بل دون أن يكون هناك ما يعوض عن هذا الصداع. ومن ذلك ما يفاجأ به القارئ (بدءا من ص87) حين يرى ذلك الضابط الذى لا يظهر عليه فى تصرفاته أو أفكاره أو أخلاقه أى شىء غير عادى وهو يدخلنا معه غرفة نومه ويبدأ فى فاصل غير كريم من وصف ما يجرى منه مع امرأته فى الفراش بكلام أشبه بكلام المراهقين مستخدما كعادته الصور الغريبة التى لا تخطر بسهولة لذهن بشرى، ككلامه عن المخرز الذى يثقب به جسد زوجته كل ليلة، وغير ذلك من الكلام الذى يظن المؤلف أنه قمة الإبداع الذى لا يستطيعه كل أحد، وهو فعلا مما لا يستطيعه كل أحد بل مما لا يستطيعه أى أحد، لكن ليس فيه أى إبداع البتة؟ نعم هل يمكن أن يكون هناك فى مجتمعاتنا مثل ذلك الضابط الذى يحكى للآخرين وقائع ممارسته الجنس تفصيليا مع زوجته ويحدثه عن يقينه بأنها تخونه فى غيابه؟
"هل تفعلها زوجتي؟ تدبر مكيدة وتتخلص من الرباط الذى أوثقتها به رغما عنها؟ كنت أعلم بعشقها لابن خالتها، ومع ذلك طمعت فى استلالها لنفسى. ليليًّا تمنحنى جسدا باردا أجوب بساتينه كضالٍّ كُتِب عليه التيه، فأمعن طَرْق المنافذ المحرمة. ليليًّا أخرم جسدها كمخرز بيد امرأة عمياء أقدمت على رتق ثقب صغير. شبقى بجسدها يمدنى بطاقةِ مكنةٍ صنعت للخطوط الطويلة. تتربص بشبقى المنسكب على مفاتنها تربُّص سارق بمسروق. ألمح عينيها وهى تتأمل منظرى وكأنى ذئب جائع حام حول فريسته وغرس نابه فى وريدها حتى إذا استلقت لعق دمها منتشيا. وكلما حاولتِ النهوض مص وريدها، حتى إذا خارت قواها ولم يعد بإمكانها تفادى نهش لحمها استسلمت فى رقدتها لتشهد تلذذ من ولغ دماءها باشتهاء. فى مداخلتى لها تكون خارج اللحظة، خارج اللهاث المحموم، كمن يتأمل مشهدا ليس له فيه سوى تقزز الدماء الملطخة بين جسدى الفريسة والمفترس...
كنت أقود سيارتي وأنا أهيئ نفسى بتغذية عقلية لكى تستوعب الأمر الذى قررتُ تنفيذه. هيّأتها لأن تتخلى عن أنانيتها قبل أن تجرفنى أو تجرفها فضيحة تقود إلى عار لا يمحى. جملة أيمن تتمدد فى فضاء ذاكرتي: "لو أنها زوجتي وعافت أن تعيش معي واختارت شخصا آخر سأطلقها. الحياة ليست إكراها. فلو أن كل امرأة مُنِحَتْ حق رفضها زوجها من غير انتقاص لكرامتها وعفتها وشرفها لما حدثت الخيانة الزوجية، ولما حدث الزنا أصلا".
دخلتُ عليها وهى تتزين. كان دخولى غير معتاد فى مثل هذا الوقت. رأيتها أجمل مما كنت أراها من قبل. ركض أبليس فى أوردتي: "لا شك فى أنها كانت تتهيأ لاستقبال ابن خالتها، حبيبها الذى تزدريك من أجله". اتسعت ابتسامتها لرؤيتى، وأقبلت نحوى لتحتضننى:
- مجيئك على غير العادة!
- أظنه لم يسعدك.
- كيف تقول وأنت حياتى؟
عاد إبليس يتدحرج ككرة دم متخثرة توقفت فى مجراها تنازع ضيقا اعترى تدحرجها، حتى إذا استطاعت توسيع مخرجها عادت مندفعة إلى الأمام بعد تحللها من تخثرها قليلا:
- لماذا تتزينين فى مثل هذا الوقت؟
- منذ عرفتنى وأنا أتزين لك فى كل حين.
علىَّ أن أتخلى عن ملاعبتها، فأنا هيأت نفسى للتخلص من جريمتى الأولى حين استللتها لنفسى، وقطعت شريان حبها بابن خالتها.
- رحاب، يمكنك طلب الطلاق إذا أردت.
ألقيت بجملتى بتصويب مباشر::
- ما زلت تحبين عمر؟
كأنها أصيبت عميقا. تهاوت بجوارى صامتة فاتحة عينيها على اتساعهما. غاصت فى أعماقها كثيرا. ربما دمعت عيناها. وحين طال صمتها ألقيت قنبلتى الثانية بحرفية مقاتل أدمن الطعن:
- أحببتُكِ من أول مرة رأيتك فيها. وكنت أنانيا حين خطفتُك ممن تحبين. كنت أعلم بعلاقتك به. والآن أقول لك بكل صدق: أنا مستعد لتطليقك إن كان لا يزال راغبا بك... لن أندم حين أجدك مع من تحبين.
ارتمت فى حضنى تجهش بالبكاء، حاولت أن أدفعها عن صدرى، فأمسكت جسدى فى عُتُوٍّ:
- لن أتركك. أنت كل دنيتى. من غيرك سأموت حتما...
- وحبك القديم؟
احتاجت إلى وقت كى تخرج كلمات باكية:
لم يكن حبا. كان عهدا بين امرأتين: أمى وأمه. وحين كبرنا كنا كالأخوة لا نشعر تجاه بعضنا إلا بمودة الأخوة. فلا تدع أوهامك تسيطر عليك... والله العظيم أنت أول رجل أحببته، وآخر رجل أحبه، فلا تَقْسُ علىَّ... أحبك... أحبك.
وأخذت تلثم ما يصل إليها من وجهى... شعرتُ بعبثية هذا الموقف وسطحيته، إلا أنى وجدت نفسى منساقا فى مماحكة طفولية تثبت عبثية طفل مدلل:
- وماذا عن ازدرائك لى أثناء المضاجعة؟
- أنا؟
- نعم أشعر بتقززك يطفح من بين عينيك.
صمتت تعالج عسر خجل اعتراها فجأة. كانت تتحدث وبصرها منسكب فى الأرض تماما:
- ليست لدىَّ خبرة فى الجنس. وأنت تقوم بأفعال تربيتُ على أنها مقرفة. كنت فقط أتعجب من أفعالك. ولكننى لا أتقزز...
رفعت رأسها بنصف ضحكة، ودم الخجل يتوزع على وجنتيها:
- أُصدقك القول أنها تمتعنى. فقط لعابك السائل على جسدى يذكرنى بمقولة قرأتها لكاتبة مصرية تصف هذا الفعل بأنه مقزز... أعدك ألا أبدى استيائى من أى فعل تفعله.
انفرج ثغرها عن ابتسامة واسعة:
- إذا أردت أن تتأكد فأنا فى كامل زينتى.
وأطلقت ضحكة غنج مشبعة، وهمت بخلع فستانها. قررت أن أُخْرِج إبليس من أوردتى وأتنفس بعمق".
ومن الحوادث التى لا تعقل فى الرواية ما يذكره السارد من أن الناس، فى غبشة صلاة الفجر وعقب قتل الفتاة وسقوط جثتها على الأرض، كانت أقدامهم تصطدم بتلك الجثة، فيظنونها جثة حيوان نافق (ص15)، وكأن البعداء لا يحسون ولا يميزون جثة الإنسان من جثث الحيوان، وكأن القتيلة أيضا لم تكن ترتدى ملابس تجعل هؤلاء البلهاء يعرفون أن ما اصطدمت به أقدامهم إنما هو جثة إنسان لا حيوان. ثم إذا كانت الرسالة المذكورة قد بعثت بها جليلة إلى عشيقها فكيف كانت تخبئها فى غرفتها؟ المفروض أن تكون الرسالة فى حوزة العشيق لأنها كتبت له وأرسلت إليه. ثم لماذا تكتب له مثل تلك الرسالة أصلا، وهى تقابله براحتها حتى إنها قد قُتِلَت وهى تناجيه تحت ظلال السدر؟
ليس ذلك فقط، بل إن الفتاة، حين قُتِلَتْ، قد ندت عنها صرخة عميقة حسب وصف السارد لها (ص12)، ورغم هذا لم يلفت الصراخ أسماع الناس ولا حتى الذين كانوا يتهيأون للخروج إلى صلاة الفجر. كذلك اقترحت على ابنتها أن تقيم علاقة شاذة مع فتاة مثلها تطفئ معها لهيب شهوتها بدلا من أن تتخذ لها حبيبا، وهو ما يبدو غريبا وعجيبا فى مجتمعاتنا كما قلنا ونقول. وفوق هذا فإن أهل البلدة، رغم أن البنت قد قُتِلَتْ وجُزَّتْ رقبتها وسال منها الدم فى الشوارع، لم يجدوا من تفسير لاختفاء جثتها من قبرها إلا أنها قد هربت، وأخذوا يلوكون سيرتها على أساس أنها هربت مع عشيقها، الذى لا أدرى كيف تركته السلطات طليقا فلم تقبض عليه. أى أنهم قد تخبلوا وصاروا مجانين. بل إنهم، جراء هذا الخبل الذى اعتراهم على يد المؤلف، كانوا إذا قابلوا أحدا من إخوتها سألوه: ألم تعد أختك؟ أو إذا رأَوْا أباها قالوا: هل عَرَفْتَ مع من هَرَبَتْ؟ ومع كثرة التكرار اعتقد الرجل أن ابنته قد هربت فعلا مع أحد الرجال، وصار يتحرق غيظا وهو يضرب فخذيه قائلا: من يوصلنى إلى رقبتها؟ ولم لا، وهم يقولون فى الأمثال إن الزَّنَّ على الآذان أَمَرُّ من السِّحْر؟ ألا ترى، يا عزيزى القارئ، أننا فى الرواية إزاء عالم مخبول يحتاج الناس فيه إلى إرسالهم إلى مستشفى الأمراض العقلية؟ بل إنى لأتصور أننا نحن القراء سوف نحتاج إلى أن نلحق بهم إلى هناك على قاعدة "من جاور القوم ثلاثين يوما صار منهم".
ثم صار أهل البلدة يسمعون فى الليل نواح روحها وهى تبتهل إلى الله أن ينزل بقاتلها من الأرق والتعب والشقاء ما يحيل حياته بالليل والنهار جحيما لا يحتمل (ص15- 16). على أن الخبل لم يقف عند هذا الحد بل تجاوزه إلى أن كل رجل فى الحى كلما سمع هذا النواح خشى أن يكون هو المقصود. إى والله، وكأنهم قد فقدوا عقولهم وذاكرتهم ولم يعد أحد منهم يعرف أهو القاتل أم لا. وهنا، وهنا فقط، أى بعد أن سمعوا النواح والأنين عدة مرات، انقلبوا على أنفسهم فلم يعودوا يتهمون الفتاة بما كانوا يتهمونها به من قبل، بل أضحت عندهم قديسة وأحاطت بها الأساطير. وهنا أيضا يتحول المؤلف، أو السارد: لا فرق، إلى أنثروبولوجى لم تلده ولادة يعطينا بعض المعلومات فى نشأة الأساطير. أى أنه لا يكتفى بأن يكون روائيا عبقريا فأبى إلا أن يكون أنثروبولوجيا أكثر عبقرية. صحيح أن السارد هو الذى يتكلم، لكن الأمر فى الحقيقة من صنع المؤلف، الذى كان عليه أن يبذل جهده بحيث تعبر الكلمات والأفكار عن مستوى الشخصية وتفردها، وهو ما لم ينجح فيه، إذ لا أظن من السهولة بمكان وجود ضابط شرطة يلم بهذه الأشياء. كما أن هذا الضابط لم يتركنا فى عماية من أمره من حيث مستواه الثقافى، فقد ذكر لنا أنه كان نَزْر الفكر والثقافة والعلم وأنه يشعر بالنقص تجاه فواز خريج الجامعة لأنه لا يستطيع مجاراته فى مستواه المعرفى (ص163- 164). ثم إن الأمور لم تنته هنا، بل تتالت المصائب على الحى حتى قام فى اعتقاد الناس أنهم لا بد أن يبذلوا جهودهم لاكتشاف قاتلها والاقتصاص منه، وإلا استمر نزول تلك المصائب على أم رؤوسهم.
وهذا يذكرنى بنكتة جحا التى تحكى أن الصبيان، كعادتهم كلما أبصروا به فى الشارع، تكأكاوا حوله وأخذوا يزفونه ويصيحون يه ويركبونه بالسخرية والتهكم، ففكر فى حيلة يتخلص بها منهم، فأخبرهم أن عند فلان الفلانى وليمة شهية، وعليهم أن يلحقوا بها قبل أن ينفد ما فيها من طعام. وسرعان ما انفضوا عنه وتركوه وحيدا قد ارتاح من عبثهم وصياحهم وسخريتهم. إلا أنه بعد قليل قد دب الاشتباه فى قلبه، وقال لنفسه: ومن يدرينى أنه ليست هناك وليمة شهية فعلا عند فلان؟ ثم أخذ ذيله فى أسنانه واستدار يعدو خلف الأطفال وهو يصيح بهم: انتظرونى، فإنى آتٍ معكم. فكذلك الأمر فى روايتنا!
وكأن هذا كله غير كاف، فنرى المؤلف يتحفنا بتلك الصورة التشبيهية العبقرية إذ يصف تهديد الأب لابنته التى انتهى أمره إلى الظن بهروبها فعلا مع عشيقها بالعبارة التالية التى ينبغى أن تقرر على الطلاب فى المدارس والجامعات، والأدباء والشعراء والكتاب والمفكرين: "تهديد ركد فى مخيلته كقطعة دم يابس وقديم". ترى ما وجه الشبه بين التهديد وبين الدم؟ ولم تعين أن يكون ذلك الدم يابسا وقديما مع أن "هروب" ابنته الموهوم المزعوم ما فتئ غضا طريا؟ ولم كان قطعة واحدة ولم يكن عدة قطع؟ وما العلاقة بين المخيلة وبين التهديد؟ إن التهديدات ليست من عمل المخيلة يا أخا العرب!
كذلك نرى السارد يقول إن روح البنت، بعد قتلها، قد اندلقت فى مجرى سرمدى. ولا أظنه قد غاب عن بالك أيها القارئ الكريم أنه يقصد، بذلك المجرى السرمدى، انتقالها إلى العالم الآخر، لنباغَت به عقيب ذلك يعود فيقول إن هذا المجرى قد انسد، فرجعت الروح أدراجها، وإن لم تبلغ الأرضَ كما كنا نتوقع من أى شىء يعود أدراجه، بل بقيت معلقة بين السماء والأرض (ص12)، وكأنها صيام رمضان يظل معلقا بين السماء والأرض لا يُرْفَع إلا بزكاة الفطر مع أننا، وقت قتل البنت لم نكن فى عيد الفطر ولا حتى فى عيد الأضحى حتى لا يقول إن أهلها لم يذبحوا أضحية فكان هذا عقابها. ترى هل يظن السارد أو المؤلف أنه بإزاء مواسير صرف صحى، ومن ثم يمكن أن تنسد فترجع المياه المتراكمة أدراجها؟ أم ماذا؟