"شعر الطرماح بن حكيم" لمصطفى أبو طاحون
بقلم إبراهيم عوض

 

فى  نحو 400 صفحة وضع د. مصطفى أبو طاحون، وقت أن كان معيدا صغيرا، دراسة مفصلة عن أسلوب الشاعر الخارجى الطِّرِمّاح بن حكيم حصل بها عام 1995م على درجة الماجستير. وهى صفحات كثيرة بالنسبة لرسالة ماجستير، وبخاصة أنها لا تتضمن ثرثرة أو كلاما إنشائيا أو شبه إنشائى مما يبرع فى لوكه كثير من الباحثين هذه الأيام، بل تحتوى على جهد ضخم فى تحليل أسلوب الشاعر الأموى المشهور. ولا ريب أن دراسة كهذه تغطى من الصفحات قريبا من الأربعمائة تدل على اجتهاد ضخم وصبر طويل وبال رائق وتلذذ أصيل بالبحث العلمى. ويزيد الرسالة قيمة فوق قيمتها أنها فى تحليل الأسلوب، وهو عمل يخلو كثيرا من المتعة، اللهم إلا متعة البحث للبحث غالبا، إذ يقوم على  الرصد والتدقيق والإحصاء والفرز والتصنيف والخروج من ذلك كله بوضع الملامح اللغوية للوجه الإبداعى للشاعر تحت بصر القارئ مدعوما بالشواهد المقنعة.
وحتى يعرف القارئ مدى الجهد الذى بذله الباحث يحسن أن نذكر له أن الرسالة تتألف من ستة فصول: الأول فى معالجة الوحدات اللفظية من فعل وضمير وعَلَم. والثانى فى معالجة التراكيب من تقديم وتأخير، واعتراض، وحذف وذكر. والثالث فى معالجة الأساليب والتعابير من استفهام ونداء وأمر. والرابع فى معالجة ما سماه باحثنا: "التباين والتشاكل" من تكرار ومقابلة. والسادس فى معالجة الإيقاع من وزن وقافية. ولسوف أتريث إزاء وحدة واحدة فى أحد أقسام الفصل الثانى، وهى فى الحذف والذكر. وسيكون كلامنا فى الحذف وحده حيث نجد أولا حذف الحركة، ثم حذف الحرف، الذى يندرج تحته حذف الهمزة وحذف التاء وحذف النون وحذف الهاء والياء، ثم حذف جزء من الكلمة، ثم حذف الأدوات كحذف "أنْ" و"أنَّ" و"غير" و"لولا" و"لا" النافية و"يا" الندائية، ثم حذف الكلمة كحذف المسند إليه وحذف الموصوف وحذف المفعول، ثم حذف ما فوق الكلمة. وفضلا عن هذا  فما من كلمة قيلت فى شىء من هذه الأشياء إلا وجاءت مدعومة بالشواهد المختلفة. 
كذلك يزيد الرسالة قيمة أخرى فوق قيمتها أنها كتبت بأسلوب قوى شديد الأسر لا ركاكة فيه، علاوة على توسله بطائفة من التراكيب التى لم تعد تجرى على أسلات الأقلام فى الأيام الحالية، وبخاصة من الباحثين الشبان الذين كان أبو طاحون واحدا منهم حين كتب رسالته هذه. ومن ذلك مثلا قوله: "ولقد نال شىءٌ من ذلك الشاعرَ الأموى الطِّرِمّاح بن حكيم، إذ لا تفتأ كل المصادر القديمة تتحدث عن خارجيته دون تململ..." بدلا من قول كثير من الباحثين الآن مثلا: "حيث لا تزال كل المصادر القديمة تتحدث عن كونه أحد الشعراء الخوارج..." مستخدمين "حيث" فى موضع "إذ"، و"لا تزال" عوضا عن "لا تفتأ"، و"كونه شاعرا خارجيا" مكان "خارجيته"، وكاستخدامه "ما" المصدرية الظرفية، التى لا أظن استعمالها يمكن أن يخطر على بال أى من نظرائه حاليا كما هو الأمر فى الشاهد التالى من كلامه فى مقدمة الرسالة: "وهذا هو أهم ما يميز المنهج الأسلوبى  القادر، ما أحسن الباحث تفهمه ومعرفة كيفية الخطو على دربه، على استكناه حقيقة الإبداع الأدبى"، علاوة على استعماله الاعتراض هنا استعمالًا أَرْيَحِيًّا لا تبدو عليه سيما التعمل أو الإرهاق أو العثكلة، وعلاوة كذلك على قوله: "الخطو على دربه" بدلا من "السير على منواله" مثلا... وبطبيعة الحال هناك من باحثى هذه الأيام من لا يستطيع أن يعبر عما يريد بأى حال من الأحوال، فتراه يكتب شيئا، ويريد من ورائه شيئا آخر لا يمكن فهمه إلا بالتخمين وضرب الوَدْع، إلى جانب الأخطاء النحوية والصرفية التى لا تليق بأى تلميذ أو طالب عربى، فما بالك بمن تخصص فى الأدب العربى ولغته، وهو ما تخلو منه كله رسالة أبو طاحون؟
وقد يعطيك فكرة سريعة عن التفصيل المرهق الذى انتحاه مصطفى أبو طاحون فى رسالته التى بين أيدينا ما صنعه فى الفصل الخاص بظاهرة "الاعتراض" فى شعر الطرماح، تلك الظاهرة التى عالجها فى 22 صفحة من القطع الكبير الذى تشتمل الصفحة منه على 30 سطرا تقريبا. لقد ربط أولا بين الاعتراض وبين التقديم والتأخير مع التمييز بينهما فى ذات الوقت. كما تحدث عن الاعتراض فى الشعر والنثر والفرق بينه هنا وبينه هناك من جهة ما يُقْبَل منه وما لا يقبل والأسباب التى تقف وراء هذا الفرق، ثم انتقل إلى الاعتراض بين عناصر الجملة الفعلية ثم إلى الاعتراض بين عنصرى الجملة الاسمية، موردا أثناء ذلك شواهد من  شعر الطرماح على الاعتراض بين الفعل وفاعله، وبين الفعل ومتعلقه، وبين النعت ومنعوته، والاعتراض بين أداة القَسَم والمُقْسَم عليه، والاعتراض بين المفعول الأول والمفعول الثانى، والاعتراض بين فعل الشرط وجزائه، والاعتراض بالجار والمجرور والاعتراض بالظرف، والاعتراض على مستوى الشطر، والاعتراض على مستوى البيت، مع التعليل خلال ذلك كله لهذه الاعتراضات وذكر البواعث التى دفعت الشاعر إلى استعمالها سواء من ناحية الموسيقى أو المعنى أو توازن تركيب الكلام... وهو ما يدل على صبر الباحث وطول أناته ودقته فى الرصد وحساسيته فى تذوق  الكلام.
وفى فصل "الحذف والذكر" نلفى مصطفى أبو طاحون لا يترك شيئا من ألوان الحذف إلا وذكره بما فى ذلك حذف الحركة كقول الطرماح مثلا:
تميم بطُرْق اللؤم أهدَى من القَطَا    ***   ولو سلكتْ طُرْقَ المكارم ضَلَّتِ
حيث أسكن الشاعر الراء فى كلمة "طرق" مرتين فى هذا البيت. ويعلق باحثنا على هذا الحذف مع زيادة الكسرة فى حرف الـ"تاء" من الفعل: "ضلتِ" بأن هذا يؤكد ما قاله فى صدر الكلام الذى مهد به لعلاج هذه الظاهرة لدى الشاعر من أن الحركة حذفا وذكرا ترتبط بالإيقاع من دون الدلالة. وكنت فى الواقع أوثر أن يقول باحثنا: "حذفا وزيادة" بدلا من "حذفا وذكرا" لأن كسر تاء التأنيث لا يستعمل فى الظروف العادية حتى نقول إنه قد ذُكِر هنا فى مقابل مواضع أخرى يحذف فيها بل هو محذوف دائما، اللهم إلا حين يزاد فى روى القافية.
ثم يمضى فى التحليل محاولا تعليل ذلك صوتيا فيقول بعد سطور قلائل إنه لاحظ أن "إسكان الهاء من "هو" يرد دائما فى مقطع وصف يضطر فيه الشاعر إلى ربط أبياته فيستخدم الضمير مسبوقا بحرف عطف، وهو حرف متحرك، يضعف معه بقاء تحريك الهاء على حاله إذ يأبى إيقاع الشعر غالبا توالى ثلاثة متحركات، فتحذف الحركة وتسكَّن الهاء استنادا إلى فهم المتلقى كنه الحركة". ثم يستمر فى إيراد ملاحظاته فى هذه النقطة قائلا: "ويتضح المقتضى الإيقاعى فى حذف الحركة هنا خاصة حين يرد الضمير بالعَجُز. وقد تكررت هذه الحال بالنص التالى عشر مرات فى أقواله:
متى ما تُرِدْها لا تَنَلْها، وَدُونَها    ***     دُروءٌ تَرُدُّ العِفْرَ وَهْوَ رَجِيعُ
بِماءِ سَماءٍ غادَرَتْهُ سَحَابَةٌ    ***     كَمَتْنِ اليَمانِي سُلَّ وَهْوَ صَنيعُ
تُلاوِذُ من حَرٍّ يَكَادُ أُوَارُهُ     ***    يُذِيبُ دِمَاغَ الضَّبّ، وَهْوَ خَدُوعُ
مِنَ الزُلِّ هِزْلاجٌ كَأَنَّ بِرِجْلِهِ    ***     شِكَالًا مِنَ الإِقْعاءِ، وَهْوَ مَلُوعُ
كَذِي الظنِّ لا يَنفَكُّ عَوْضُ كَأَنَّهُ   ***     أَخُو جَهْرَةٍ بِالعَيْنِ، وَهْوَ خَدُوعُ
فَقُلْتُ: تَعَلَّمْ يا ذُؤَالَ وَلا تَخُن    ***    وَلا تَنْخَنِع لِلَّيْلِ، وَهْوَ خَنُوعُ
وَلا تَعْوِ وَاسْتَحْرِزْ. وَإِن تَعْوِ عَيَّةً***تُصادِفْ قِرَى الظلماءِ وَهْوَ شَنِيعُ
دَفَعْتُ إِلَيْهِ سَلْجَمَ اللَّحْيِ نَصْلَهُ  ***    كَبادِرَةِ الحوّاءِ وَهْوَ وَقِيعُ
أَخَذْنا له من أَمْنَع الحىّ بعدنا     ***    ظُلَامَتَه، فانساح وَهْوَ مَنِيعُ
وَمَنْ يَفْتَرِقْ في الأَمْرِ يُغْضِ عَلى قَذًى   ***    وَيُكْفَ بِبَعْضِ الضَّيْمِ وَهْوَ قَنُوعُ
ثم لايكتفى الباحث بهذا بل يستمر معللا هذا التسكين إيقاعيا وبيولوجيا مما أحب للقراء أن يرجعوا إليه بأنفسهم ليَرَوْا مدى الجهد الذى بذله باحثنا فى تعليل ذلك التصرف الضئيل الذى كثيرا ما نمر به فى أشعارنا دون أن نقف أمامه متأملين، مكتفين بالقول بأنه ضرورة شعرية من ضرورات الوزن أو القافية. ثم أنت، بعد أن تقرأ ما يقوله الباحث، بالخيار: فتوافق على ما يقوله الباحث أو لا. بيد أنه لا يمكنك سوى التسليم بأنه قد بذل جهده وأعمل عقله وحاول أن يقدم لنا تعليلا فى مسألة قد تبدو فى نظر الكثيرين غير ذات بال، وهو ما لا يقرّ به البحث العلمى ولا الباحثون الجادون. فكل شىء فى البحث العلمى ذو بال، والمهم أن تحاول جهدك تقديم التفسير أو التعليل. وبالمناسبة فكثير من باحثينا هذه الأيام يكتفى بالرصد دون أن يحاول تفسيرا أو تعليلا، فكأنه طالب صغير يطبق ما يعرفه عن تركيب الكلام فى لغة العرب على الشعر أو النثر الذى يدرسه، وكفى الله الباحثين شر التعليل والتفسير.
والآن أحب أن أقف متمليا إزاء قول المؤلف، فى معرض حملته على متابعة الآراء النقدية القديمة وما فيها من ملاحظات خاطفة حسب تعبيره، إن ذلك يطبع عمل الباحثين بشىء من التقليدية بل يفقد الباحث المبدع القدرة على التجاوز واستشراف الحقيقة. و"من هنا كانت الحاجة إلى منهج يتجاوز تلك النقائص، ويكفل للباحث ضمانا باستفراغ الهمة فيما يجدى وينفع". وعنده أنه لكى تتحقق تلك الغاية "لا بد أن يكون من أبرز معالم ذلك المنهج التعامل مع النص من الداخل لا من الخارج". وهذا الشرط، فى رأيه، هو "أهم ما يميز المنهج الأسلوبى القادر، ما أحسن البحث تفهمه ومعرفة كيفية الخطو على دربه، على استكناه حقيقة الإبداع الأدبى". والسبب فى ذلك أنه "لم يعد اليوم ثمة ريب بين الدارسين العرب للنص الأدبى رغم اختلاف عصوره وتعدد أنواعه أن المنهج الأسلوبى قد أصبح أكثر المناهج المعاصرة قدرة على تحليل الخطاب الأدبى بطريقة علمية موضوعية".  
وقد وقفت أمام هذا الكلام لأن لى فى الموضوع رأيا أخالف به الكثيرين. فأنا أرى أن كل المناهج النقدية هامة ومفيدة ولاغنى عنها لمن يريد فهم  النص وتذوقه، وهو الغاية الأخيرة من أى تعامل مع هذا النص، وإن لم يعن هذا أن عناصر المنهج كلها لا بد من التسليم بها بالضرورة. فكلنا نقرأ وننقد بغية الوصول إلى أحسن فهم وأفضل تذوق. وما المنهج الأسلوبى إلا واحد من تلك المناهج. فنحن نحلل أسلوب شاعر أو كاتب ما بغرض تفهم تفرده والمنحى الذى ينحوه فى صياغته التعبيرية مما يقربنا منه ويقربه منا. لكن هذه ليست سوى خطوة واحدة على الطريق، إذ هناك مناهج أخرى حرية أن تكشف لنا من النص عن جوانب غير التى يكشف عنها المنهج الأسلوبى. وبعض هذه المناهج يتناول النص من الداخل، وبعضها يتناوله من الخارج. وكلها مفيد ولا زم، وإن ركز كل دراس على منهج أو اثنين مثلا يرى انهما يبلغانه من هذا النص ما يريد، إذ لا يوجد فى عالم الواقع عادةً ناقد يضع نصب عينيه معالجة النص من كل جوانبه جميعا فى دراسة واحدة.
وأنا، كما قلت، لست من الذين يُعْلُون من شأن التناول الداخلى للنص على نظيره الخارجى، بل أرى كلا التناولين مفيدا ولا زما. فمثلا هل يمكننا، قبل أن نبدأ تحليل النص، الاستغناء عن التحقق من صحة نسبة ذلك النص إلى صاحبه أو من صحة النص فى ذاته؟ فهذه خطوة أولية لا يمكن أن يتجاوزها الناقد دون أن يحسمها سواء بنفسه أو من خلال دارسين آخرين قاموا قبله بهذه المهمة وعبدوا له الطريق كى يسير فيه سيرا سلسا بلا مشاكل أو متاعب. ثم بعد هذا التحقق من صحة النص فى ذاته وصحة نسبته إلى من هو منسوب إليه هل يمكن الناقد أن يتناول النص بالمنهج الأسلوبى أو البنيوى أو... أو... أو... قبل أن يفهم النص؟ فلا بد إذن من شرح المفردات والتعابير والتراكيب والصور التى يعج بها النص حتى يستطيع  القارئ أن يفهمه، ومن ثم يستطيع أن يدلى بدلوه فيه. وكلما كان النص صعبا كانت هذه الخطوة ألزم. فالنص الجاهلى مثلا أصعب بوجه عام من النص الأموى أو العباسى أو المملوكى أو الحديث. والنص المديحى أو الهجائى أو الذى يصف الناقة والفرس فى شعرنا القديم عادة ما يكون مملوءا بما نسميه بـ"حوشى الألفاظ" على عكس شعر النسيب أو تأمل الطبيعة والحياة... وهكذا.
ثم إن فهم النص لا يتوقف على فهم لغته: ألفاظا وعبارات وصورا وتراكيب فحسب، بل يحتاج إلى فهم الظروف والأوضاع التى أحاطت بإبداعه مثلما لا يمكننا فهم النص القرآنى دون معرفةسبب النزول، أو فهم الحديث الشريف دون الإلمام بالظروف التى صاحبته حين قيل أو وقع. ثم كيف يمكننى الزعم بأننى قد فهمت النص جيدا وأنا لا أعلم شيئا عن صاحبه: متى عاش؟ وماذا كان يعمل؟ وما علاقته بهذا الشخص أو ذلك الحدث الوارد ذكره فى النص؟ كما أننى لا أستطيع بعد هذا كله أن أدعى أننى قد فهمت النص الفهم المطلوب، وإلا فكيف يمكن فهم قول امرئ القيس عن الثريا مثلا فى معلقته حين يشير إلى الوقت الذى يقابل فيه حبيبته ليلا:

إذا ما الثُّرَيَّا فى السماء تعرضتْ    ***    تعرُّضَ أثناءِ الوشاح المفصَّلِ
دون أن يعرف القارئ والناقد شيئا عن الفلك والأزياء ينير له الطريق لمعرفة الثريا والوشاح المفصل حتى يمكنه تصور تعرُّض الثريا كتعرُّض أثناء الوشاح المفصل، وإلا لظلت الصورة مغلقة فى وجهه كما هى مغلقة فى وجهى منذ قرأتها وأنا فى أعتاب المرحلة الجامعية لجهلى بالثريا وبالوشاح المفصل جميعا؟
لكن هل تقف الأمور عند هذا الحد؟ كلا، وإلا فكيف يفهم القارئ والناقد معنى الوقوف على الأطلال إن لم يفهم جغرافية بلاد العرب وطريقة معيشتهم وما كانت تفرضه عليهم من الارتحال كل حين من مكان إلى مكان بحثا عن الماء والكلإ مما يترتب عليه تقويضهم للخيام ومغادرتهم الموضع الذى كانوا ينزلونه إلى موضع آخر، مخلفين وراءهم بعض الأشياء التافهة كرُمَّة الحبل وبعر النوق ووتد الخيمة والنُّؤْى، وهو الحفرة المستديرة التى تحيط بالخيمة وتأخذ الأمطار بعيدا عنها، تلك الأشياء التى ما إن يراها المحب المار بالمكان المهجور حتى ينتفض الماضى حيا فى قلبه وعقله وخياله ويتذكر إقامة حبيبته مع قبيلتها ولقاءاته معها فى ذلك المكان، وتنبعث الذكريات منثالة عليه كالسيول، فتهتاج نفسه ويتألم قلبه فيبكى؟ وهذا هو معنى الوقوف بالديار والأطلال والرسوم.
ومما يتصل بعادات العرب وتقاليدهم التى نحن بصدد الحديث عنها الآن البيت التالى للأخطل الأموى فى جرير وقومه:
قومٌ إذا استنبح الأضيافُ كلبَهمو          ***        قالوا لأُمِّهمو: بُولِى على النارِ
فما معنى استنباح الكلب؟ وما الداعى إليه؟ وما معنى تبول الأم على النار؟ وأية نار تلك؟ فهذا كله لا يتضح إلا إذا خرج القارئ والناقد من نطاق النص ليتعرف إلى عادات العرب وتقاليدهم وأساليب عيشهم. وعندئذ يعلم أن العرب القدماء فى بواديهم كانوا يشعلون النار قرب مضاربهم ليلا فى مكان بارز حتى يراها العابرون فى الظلام الدامس فيُلِمّوا بمضارب القبيلة ليجدوا لدى أصحابها الطعام والشراب والمبيت والأمان والائتناس حتى يطلع الصباح ولا يتيهوا فى الصحراء المهلكة ويضيعوا ويهلكوا. فكان العابر ليلا إذا ما شام نارا من بعيد نبح كما تنبح الكلاب حتى إذا ما ردت عليه كلاب القبيلة المقيمة بالمكان عرف أن ها هنا ناسا يمكنه اللجوء إليهم، وتنبهوا هم أيضا إلى أن هناك من يستجير بهم من الجوع والظلام والضياع، فهبوا يستقبلونه ويقدمون له ما لديهم من طعام وشراب ومبيت وإيناس.
ومن هنا قال الأخطل فى قوم جرير ما قال. يريد أنهم قوم بخلاء أشحاء أدنياء لا يريدون أن يرى أحد نارهم أو يطلب منهم القِرَى، فتراهم إذا ما سمعوا نباح العابر عرفوا أن هناك من يحتاج معونتهم فلم يهبوا لاستقباله بل أمروا أمهم أن تقوم  وتتبول على نارهم حتى تطفأ فلا يعرف العابر مكان قبيلتهم بل يمضى دون أن يجشمهم طعاما أو شربا أو مبيتا. وهذا أسوأ ما يمكن أن يفعله عربى فى ذلك الزمان، إذ كان الكرم فضيلة جوهرية عند العرب آنذاك لأنه بدون ذلك الكرم يكونون عرضة للهلاك. وهو، كما ينبغى أن نعرف، كرم متبادل: فأنت تكرمنى اليوم، وأنا أكرمك غدا متى كنتَ فى نفس ظروفى وأحوالى.  إن الكرم هنا مسألة حياة أو موت، وليس مجرد فضيلة اجتماعية... وهكذا.
كذلك كيف يمكن فهم إشارة امرئ القيس فى معلقته إلى "عذارى دوار" دون أن نعرف دين الجاهليين وأنهم كانوا وثنيين، وكانوا يدورون حول أوثانهم فى المناسبات الدينية المختلفة، وأن الملك الضِّلِّيل يقصد ما كانت تفعله الفتيات فى الجاهلية من الدوران حول الوثن المسمى: "دُوَارًا" كما يفعل المسلم الآن من الطواف حول الكعبة، وكما يفعل العامة فى كثير من البلاد الإسلامية من الدوران حول مقام الشيخ فى ضريحه كالسيد البدوى وإبراهيم الدسوقى والسيدة زينب مثلا. بل إن عبارة "الملك الضليل" التى مرت لتوها فى فقرتنا هذه لا يمكن القارئَ فهمُها إلا إذا عرف أن المقصود بها امرؤ القيس نفسه، ولولا ذلك ما فهم مرمى الكلام ولظن أننى أريد الإشارة إلى ملك آخر لا صلة بينه وبين شاعرنا. ولكى يعرف تلك المعلومة التى لا غنى له عنها إذا أراد أن يفهم علام يدور الكلام لا مناص له من الإلمام بشىء من حياة الشاعر حتى يعرف أنه كان أميرا ثم مات أبوه فتولى هو الملك مكانه إثر مقتله على أيدى رعيته، مما دفعه إلى التطواف فى بلاد العرب وخارج بلاد العرب بحثا عمن يعضده فى الانتقام  لأبيه وما أدى به إلى الرحلة إلى قيصر بالقسطنينية عاصمة الروم ومقتله فى عودته من هناك فى قصة لا داعى لإيرادها هنا الآن. وهذا معنى "الضليل"، أى الذى ضل طريقه إلى الملك فلم يصل إليه ومات مقتولا دونه.
وحتى لو حصرنا أنفسنا داخل النص فهل الأسلوبية هى المنهج الوحيد الذى نحتاج إليه فى تلك الحالة؟ أبدا، بل هناك البنيوية والتفكيكية والتناصية مثلا، بالإضافة إلى المنهج اللغوى والبلاغى، وقد أومأنا إليه فيما مضى. إذن فالمنهج الأسلوبى لا يحل الإشكال. كل ما هنالك أنه قد تصادف أن كان المنهج الأسلوبى فى الوقت الذى كان يعد د. أبو طاحون رسالته فيه هو المنهج الطارف، ولكل طريف جاذبيته، علاوة على أن هناك طائفة من النقاد تستقبل كل منهج وافد جديد كأنه هو المهدى المنتظر الذى سوف يضع حدا لكل المشاكل النقدية ويستخرج مصارين النص وقلبه وكرشته وفشته. ثم يتضح أن الأمر ليس بهذه البساطة وأن النص أعقد مما يظنون وأن هناك زوايا فيه وخبايا تظل مجهولة يسودها الغبار والظلام وتحتاج مناهج أخرى تزيح عنه ذلك الغبار وتكشف عنه هذا الظلام.
إلا أن هذه الطائفة من النقاد لا تأخذ الموعظة ولا ترعوى، فتراها تكرر نفس الهتافات والرقصات مع مطلع كل منهج نقدى جديد، وبنفس  التحمس والحرارة التى استقبلوا بها المنهج المودع الغارب... وهكذا. وأنا أقول هذا لأننى أربأ بالدكتور أبو طاحون أن يكون من هؤلاء، ولست أظنه منهم. إنما هى حرارة الشباب عند بعض الشباب. والرجل معتدل. وأحبه أن يظل معتدلا كما أتصوره بل كما أعرفه، وبخاصة أن دراسته هذه حول الطرماح هى دراسة قوية وجادة وعميقة وفيها جهد كبير مبارك وصبر بالغ ومقدرة على التحليل والتذوق والوصول فى التحليل إلى أدق شعيرات النص لا إلى شرايينه وأوردته الرئيسية وحسب.
ومرة أخرى أقول هذا رغم اهتمامى الشخصى بهذا الجانب من المناهج النقدية، فأنا من المغرمين بتحليل أساليب كل من أدرسهم من شعراء وكتاب. لكنى فى ذات الوقت لا أقول أبدا إن هذا المنهج هو أعظم المناهج، بله أن يكون هو المنهج العلمى الناجع الوحيد. وعلى ذكر العلمية والموضوعية أود أن أذكّر القارئ بأن النص الأدبى قد أبدعه المبدع من أجل إمتاعنا فى المقام الأول. فلا هو يريد، ولا نحن يصح، أن نحلله تحليلا موضوعيا وعلميا لينتهى الحال عند هذا الحد، بل لنفهمه فهما أفضل ونتذوقه تذوقا أعمق وأرهف، ومن ثم يمكننا الاستمتاع به الاستمتاع المطلوب. فنحن مع النص لسنا فى تجربة معملية، كما أن النص ليس جثة هامدة يراد تشريحها مثلما تشرَّح الجثث دون أية عاطفة أو انفعال، وإلا لاختنق النص فى أيدينا ونفق، ولم يعد من سبيل إلى إحيائه والتعامل معه والاستمتاع به كرة أخرى.
أما ما نسمعه من بعض السطحيين المتحذلقين من أنه لا يصح خلط المناهج بعضها ببعض بل  عليك الالتزام بمنهج واحد لا غير حين تريد دراسة أحد النصوص أو الأدباء فلا أدرى من أى واد أتوا بهذه الدعوى ولا المبررات التى يستندون إليها. ذلك أن المناهج النقدية لا يناقض بعضها بعضا بل تتكامل فيما بينها وتتآزر بغية إظهار ما فى النص من جمال أو قبح. ولو افترضنا أن ثمة عناصر تتناقض بين منهج وآخر فإن الناقد البصير يزيل تلك التناقضات باصطفاء الصحيح المقبول من كل منهج  ونبذ ما لا صحة فيه ولا قبول له. والمناهج النقدية ليست وحيا من السماء لا بد أن نقبله كله، وإلا كنا من الكافرين، بل هو جهد بشرى فيه وفيه، وعلى الناقد المحترم أن يجيل بصره فى  كل منها فيبصر الصالح ويحتفظ به ويستعمله فى أغراضه وهو مطمئن واثق، ويلتقط الطالح ويلقى به خارج الاعتبار.
ولِأُقَرِّب الأمر أقول: هل، عندما نريد أن نحلل شخصية أى من الناس، يصح أن نقول إنه لا يوجد سوى طريقة واحدة لهذا التحليل، أو لا ينبغى أن نخلط أكثر من طريقة لهذا التحليل؟ هل يصح أن يقال مثلا إنه يكفى أن نرصد ملابس الفرد المراد تحليل شخصيته وألوانها ومدى تناسق بعضها مع بعض؟ أم هل يكفى أن نحلل شكله وقوامه وملامح وجهه ولون بشرته وشعره ونبرات صوته، وحركات يديه حين يمشى أو حين يتحدث مثلا؟ أم هل يكفى أن نركز على أسلوبه فى التفكير والتعبير، ومستوى ثقافته اتساعا وعمقا، ولون مشاعره وانفعالاته، ومدى استقامة سلوكه وتطابقها مع الخلق القويم الكريم؟ أم هل يكفى أن نعرف طبيعة علاقاته الاجتماعية المختلفة مع أفراد أسرته ومع أصدقائه وزملائه ولداته وجيرانه؟ الحق أننا، لكى نعرف شخصية إنسان ما، لا مناص لنا من معرفة هذا كله، وإلا كانت معرفتنا بشخصيته محدودة وفقيرة ولا تكفى للقول بأننا قد عرفناه. كما لا يصلح القول بأننا، حين نقوم بالتعرف إلى تلك الجوانب المتعددة من شخصيته، إنما نخلط طرق التعرف إليه بعضها ببعض، وهذا لا يصح.




 

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 121 مشاهدة
نشرت فى 13 نوفمبر 2015 بواسطة dribrahimawad

عدد زيارات الموقع

33,966