لإسلام والعروبة فى أدب فطاحل الغرب
د. إبراهيم عوض
[email protected]
سوف أدخل فى موضوعى على الفور وأتوقف عند الكاتب السورى قسطاكى الحمصى، الذى أفسح فى الجزء الثالث من كتابه: "منهل الوُرّاد فى علم الانتقاد" (وهو الجزء الصادر عام 1937م) فصلا كبيرا مكونا من مائة صفحة تقريبا، هو آخر فصول الكتاب، وعنوانه: "بين الألعوبة الإلهية ورسالة الغفران، وبين أبى العلاء المعرّى ودانتى شاعر الطليان"، تناول فيه تأثر دانتى إليجيرى بـــ"رسالة الغفران" لأبى العلاء المعرى، التى يرى أن الشاعر الإيطالى قد اطّلع عليها، إذ لا بد أن تكون قد تُرْجِمَت مع ما تُرْجِم من آثار العرب والمسلمين إلى اللاتينية، إن لم يكن قد قرأها فى لغتها الأصلية فى قرطبة. ولكى يدلل على رأيه نراه يلخص كتاب المعرى مركزا على ما فيه من روعة وخيال عبقرى، كما يلخص أيضا الملحمة الدانتيّة رادًّا كل شىء فيها تقريبا إلى "رسالة الغفران"، ومؤكدا أن صاحبها قد سرق عمل أبى العلاء، وليس له فيها من شىء أصيل، فقد أخذ الفكرة والخيال من المعرى، لكنه لم يصل مع ذلك إلى الشأو الذى بلغه شاعرنا المسلم ولا استطاع إنتاج عمل متماسك، وإن لم يمنع هذا من استعانته ببعض آيات الكتاب المقدس ومعتقدات اليونان وأساطيرهم وعادات قومه وأمثالهم وحوادث السياسة فى بلاده حينذاك، فضلا عما أخذه من أوصاف الجحيم كما وردت فى الروايات الخرافية التى كانت شائعة عندهم فى ذلك الوقت عن صعود بعض القديسين فى العهود الأولى للنصرانية إلى السماء أو هبوطهم إلى جهنم حسبما ذكر بعض من كتبوا عن عمله، رغم أن الحمصى يرى هذا الوصف أردأ جوانب عمله، إذ ليس فيه من الإبداع شىء حسب رأيه، فهو لا يزيد عن أن يكون كلاما مبتذَلا مما يردده العجائز والعوام. ومن هنا كان وصفه للكوميديا الإلهية بأنها لا تزيد عن أن تكون مجموعة مفككة من الحوادث أو كشكولا صغيرا يحتوى على عدد من أسماء المشاهير والمجاهيل، وليست ذلك العمل العبقرى الذى يفاخر به الغربيون على بكرة أبيهم عادّين صاحبه ثالث شعراء الدنيا، فى الوقت الذى يغمطون فيه قدر مكانة الشعر العربى ولا يلتفتون إليه عادةً لَدُن الكلام عن الشعر والشعراء. وبالمناسبة فقد حَمَل الحمصى على دانتى وشَدَّد النَّكِير عليه بسبب تهوره فى الإلقاء "بكل من يمر فى باله أو تحت رأس قلمه من مخالفيه فى الرأى أو فى الدين" فى الجحيم، "حتى إنه يقذف بنبىٍّ دعا الوثنيين وهداهم إلى عبادة إله دانتى نفسه، وليست دعواه النبوة دون دعاوى سواه من الأنبياء الوافرى العدد". وواضحٌ من هو النبى الذى تصوَّر الغبىّ دانتى أنّ بمكنته الإساءة إليه، غافلا عن أنه بذلك إنما أهان نفسه هو ومرّغها فى رَغام الكفر وأوحاله وعرّضها للمزيد من سخط الله سبحانه وتعالى (انظر الفصل المذكور فى كتاب "منهل الوراد فى علم الانتقاد"/ تحرير وتقديم د. أحمد إبراهيم الهوارى/ المجلس الأعلى للثقافة فى مصر/ 1999م/ 471 فصاعدا، وبخاصة ص 479، 483، 487، 494، 502، 513، 517، وكذلك ص 30- 34 من مقدمة المحرر).
هذا، ولا بد من الإشارة إلى أن الحمصى، حين قام بالمقارنة بين عَمَلَىِ المعرى ودانتى، إنما كان ينطلق مما كان يُعْرَف عند نقادنا القدماء بــ"الموازنة" الشعرية، لا مما كان الغرب قد عرفه آنذاك بــ"الأدب المقارن"، وهذا واضح فى أنه قد كتب الفصل الذى نحن إزاءه على نحوٍ يُومِئ بأنه امتداد لما كان عَقَدَه، فى آخر الجزء الأول (ابتداء من ص 345) وطوال الجزء الثانى من كتابه ذى الأجزاء الثلاثة، من "موازنات" بين قصائدَ لشعراءَ عربٍ فى أغراض الشعر المختلفة. بل لقد أعطى أيضا الفصل الذى كَسَره على هذه المقارنة عنوان "الموازنة بين الألعوبة الإلهية ورسالة الغفران وبين أبى العلاء المعرى ودانتى شاعر الطليان". فكأنه كان يرى أن ما يقوم به فى المقارنة بين المعرى ودانتى لا يزيد عن أية موازنة ينشئها بين شاعرين عربيين، كل ما هنالك أنه قد مد آفاق الموازنة لتتسع لشعراء من غير العرب فى مواجهة شعرائنا. إلا أنه، كما رأينا، كان حريصا على أن يثبت اطّلاع دانتى على "رسالة الغفران" بحيث تكون المشابهة بين العملين سرقة لا مجرد تشابه قائم على المصادفة. والدراسة التى وضعها مؤلفنا فى هذا الموضوع هى دراسة مفصلة فى المقارنة التطبيقية، ولعله لم يسبقه أحد فى وضع مثل هذه المقارنة طولا وتطبيقا وتحليلا واستقلالا فى الرأى والاستنتاج، وإلا فقد سبقه إلى تناول الشبه بين العملين دون تفصيلٍ عددٌ من الكتاب العرب منهم عبد الرحيم أحمد وروحى الخالدى وسليمان البستانى وجرجى زيدان.
وقد تناول هذه النقطة الكاتب السودانى أحمد محمد البدوي فى مقال له بالمشباك على الرابط التالى: (www.nizwa.com/volume22/p221) بعنوان: "سياق معركة رسالة الغفران والمعري"، ومن ذلك قوله: "في عام 1897م انعقد مؤتمر المستشرقين في باريس، وحضره باحث عربي يدعى عبد الرحيم أحمد صمتت المراجع من بَعْدُ عن الاحتفال بسيرته وإسهامه العلمي، على الأقل فيما يتصل بهذه القضية الحيوية. وكنا نعرف أنه قدم بحثا في ذلك المؤتمر عنوانه "لمحة عن أبي العلاء وآثاره"، وقد حفظ لنا مرجعٌ "مهمٌّ" نصًّا من ذلك البحث حيث قال: عبد الرحيم أحمد اطلع على رسالة الغفران لأبي العلاء المعري، وهي مخطوطة يومئذ لأن طبعها لم يَتَسَنَّ إلا من بعد ذلك بسنوات، وفي عام 1902م على وجه التحديد، ثم وصفها وقارنها بكوميديا دانتي فقال: "إنها مؤلف ثلاثي يشبه تقريبا مؤلف دانتي. أقول: تقريبا، لأنه لا يختلف عنه إلا بروح النقد، ذلك أن سياق الأثر وهدفه متفقان". هذه أول إشارة إلى مسألة الأثر والتأثير. وفي عام 1902 تنشر مجلة "الهلال" في القاهرة سلسلة مقالات تحت عنوان "علم الأدب عند الإفرنج والعرب" بقلم "كاتب فاضل" ضمَّها من بَعْدُ كتابٌ يحمل العنوان نفسه. "كاتب فاضل" سنعرف من بعد أنه الكاتب الفلسطيني روحى الخالدى 1864-1913. وفي إحدى تلك الحلقات يقول روحى الخالدى: "الكوميديا الإلهية أو المضحكة الإلهية أشبه برسالة الغفران التي حررها المعري قبل تأليف الكوميديا بأكثر من قرنين". ومن بعد روحي يأتي باحثان مشهوران ومتميزان: أولهما سليمان البستاني الذي ترجم "إلياذة" هوميروس من اليونانية القديمة إلى اللغة العربية ترجمة ضافية، وصدَّرها بدراسة متعقمة ومجوَّدة جعلها مقدمة لها، وطبعها أول مرة عام 1904، جاء فيها: "وإنّ من أحسن ملاحم المولدين ملحمة نثرية جمع فيها صاحبها شتيت المعاني، وأوغل في التصور حتى سبق دانتي الشاعر الإيطالي ومِلْتُن الإنجليزي الى بعض تخيلاتهما، ألا وهي رسالة الغفران لأبي العلاء المعري". وثانيهما جرجي زيدان، صاحب دار الهلال الذي نشر عام 1907 مقالا في مجلة "الهلال" دون أن يَعْزُوَه إلى نفسه صراحة، ثم ظهر المقال نفسه من بَعْدُ داخل كتاب "تاريخ آداب اللغة العربية" المنسوب صراحة إلى مؤلفه جرجي زيدان، وقد جاء فيه : "إن ما صنعه المعري في رسالة الغفران يشبه ما كتبه أعظم شعراء الطليان في روايته المسماة: "الرواية الالهية". ويشبه ذلك ما كتبه مِلْتُن الشاعر الإنجليزي في روايته "ضياع الفردوس واسترجاعه"، ولكن هذين الشاعرين متأخران في الزمان عن أبي العلاء، فإن دانتي تُوُفِّيَ سنة 1321م (نحو740هـ)، وأبو العلاء تُوُفِّيَ 449هـ، فهو قبل دانتي بنحو 300 سنة، فلا بِدْع إن قلنا إنهما اقتبسا هذا الأسلوب عن شاعرنا المعري". إن كل من تناولوا القضية لم يفيضوا في تناول أمر التأثير والتأثر مفصَّلاً، وإنما اكتفَوْا بالكلمة الجامعة واللمحة الدالة".
أما فى كتاب "آثار عربية فى حكايات كنتربرى" لناجية مرانى (منشورات وزارة الثقافة والإعلام العراقية/ سلسلة "دراسات"- العدد284/ 1981م) فنجد مقارنة بين "حكايات كنتربرى" للشاعر الإنجليزى تشوسر، الذى عاش فى القرن الرابع عشر الميلادى والذى يوصف بأنه أبو الشعر الإنجليزى، وبين التراث العربى، وذلك لمعرفة مدى التأثير الذى مارسه ذلك التراث على تلك الحكايات الشعرية. وتقوم المقارنة على أن الشاعر الإنجليزى كان له اطلاع على تراثنا من خلال الترجمات اللاتينية له وأنه قد نجح فى توظيفه مع ما استعاره أو استعان به من الأدبين الفرنسى والإيطالى وغيرهما فى إغناء أدبه والأدب الإنجليزى بوجه عام من ثَمّ. ومن ذلك نظريته فى الفلك والنجوم وتأثيرها على حياة الإنسان ومزاجه حسبما أكد المتخصصون فى الأدب التشوسرى، وكذلك كتاب "Treaties on the Astrolabe: رسالة حول آلة الأسطرلاب"، الذى ترجمه عن اللاتينية بعد أن كان قد تُرْجِم إليها من العربية لغته الأصلية. وفى هذا الكتاب كثير من المعلومات والمعارف التى لم يكن أحد فى بريطانيا أوانذاك يعرف عنها شيئا، وعدد من المصطلحات الفلكية وغير الفلكية التى احتفظت عند تشوسر بأسمائها العربية كــ"الدَّبَران والغُمَيْصاء والعَبُور والمُنَاخ والسَّمْت والنظير والقانون والمقنطرات" (ص 9- 11)، إلى جانب طائفة أخرى من المفردات وأسماء الأعلام العربية التى وردت فى "حكايات كانتربرى" مثل "الزعفران والتأثير والذراع والزهر والعود والقيثارة والفن والإمبيق والإكسير، والإسكندرية وغرناطة وتلمسان وسبتة وجبل طارق، والقرآن ومحمد والرازى وابن رشد" (ص 61- 70).
أما بالنسبة للمضمون فى "الحكايات" التشوسرية الأربع والعشرين، وهى تدور حول الحب والفروسية والمغامرات والسحر والهزل وبعض الموضوعات الدينية وخرافات الحيوانات، فتقول الكاتبة إن معظم الحكايات الشعبية التى انتشرت فى أوربا خلال القرنين الثانى عشر والثالث عشر ترجع إلى أصل عربى كحكاية "فلورنس وبلانشفلور" الفرنسية، وحكاية "حكماء روما السبعة" التى تُرْجِمت من اللاتينية إلى الإنجليزية، وهى مأخوذة عن قصة "السندباد البرى" العربية... (ص 17- 18). وبالمثل وجدت الكاتبة فى "حكايات كانتربرى" ثلاث حكايات تشبه قصصا عربية: ففى القسم الأول من حكاية "الفارس الصغير" يقابلنا الحصان الطائر والمرآة والخاتم السحريان، وهو يشبه ما ورد فى "ألف ليلة وليلة" عن الحكماء الثلاثة الذين قدّموا للملك نفس هذه الهدايا السحرية. كما أن القسم الثانى من حكاية "الفارس الصغير"، وهو قصة الأميرة كانيس، التى أدركت عدم وفاء الرجال وعزفت عن الزواج بعد سماعها حكاية فى هذا الموضوع على لسان الطيور، هذا القسم يشبه حكاية أخرى من "ألف ليلة وليلة" رأت الأميرة فيها حلما من عالم الطيور يماثل ما سمعته كانيس على لسان تلك الطير. أما حكاية "حامل صكوك الغفران" فتشبه إحدى القصص التى أوردها الدميرى فى كتابه: "حياة الحيوان"، وهى تدور حول ثلاثة أشخاص طماعين ألقت بهم الأقدار فى طريق السيد المسيح عليه السلام وانتهى أمرهم، بسبب جشعهم للمال، إلى تآمر بعضهم على بعض حتى قُتِلوا جميعا دون أن ينال أى منهم شيئا من المال الذى أوردهم موارد التلف والتهلكة (19- 20 وما بعدها).
ولا تكتفى الباحثة بهذا الكلام الموجَز المرسَل، بل تترجم الحكايات التشوسرية الثلاث، ثم تضع إزاءها النصوص العربية كى يستطيع من يريد المقارنة بينهما بنفسه، ثم تقوم هى برصد وجوه الشبه تفصيلا. وأخيرا تختم كلامها بقولها إن الحكايات العربية الموازية لحكايات تشوسر سابقة عليها فى الظهور إلى عالم الوجود، فضلا عما ثبت بما لا يدع مجالا للريب من أنها قد تُرْجِمت إلى اللاتينية قبل كتابة تشوسر لحكاياته، وهو ما يدل على أن الحكايات العربية "كانت من المكونات لخلفية حكايات كانتربرى" (ص 39). وواضح أن الباحثة لم تورد ما يثبت أن تشوسر قرأ حكاياتنا قبل أن يؤلف حكاياته، وليس معنى هذا أنه لم يتأثر بتلك الحكايات، وإلا فما معنى هذا التشابه القوى بينها وبين حكاياته؟ ولعل التاريخ يكشف فى المستقبل أنه قد قرأ ذلك العمل. وحتى لو لم يثبت أبدا أنه قرأه، بل حتى لو تيقَّنّا أنه لم تقم بين العملين صلة فإن هذا لا ينفى أن تكون الدراسة التى فى أيدينا الآن دراسة فى الأدب المقارن. كما أنه ليس شرطا، كى يتأثر أحد الأدباء عملاً ما فى لسان أو أدب أجنبى، أن يكون قد قرأه بنفسه، إذ من الممكن جدا أن يكون قد تأثر بمن تأثر بدوره بذلك العمل، أو يكون قد سمعه من فم شخص آخر وسيط. المهم أن هناك تأثيرا من عمل أدبى على عمل أدبى آخر، وسِيّان بعد هذا أن يتم ذلك التأثير على نحو مباشر أو على نحو غير مباشر.
هذا من جهة المضمون، وتتبقى الناحية الفنية. وقبل أن تتناول الكاتبة هذا الجانب تشير إلى ما يسمَّى فى عالم الحكايات الشعبية بــ"قصة الإطار"، وهى نوع من القصص يتكون من عدة حلقات، كل منها يشكل حكاية مستقلة، إلا أنها مرتبطة فى ذات الوقت بالحكايات الأخرى، قائلة إنه كان هناك فى أوربا وقتذاك ثلاث حكايات من ذلك الصنف هى "حكايات روما السبعة" و"الديكامرون" و"حكايات كانتربرى". والذى يهمنا من كلام الكاتبة هنا هو ما قالته عن الحكايات الأخيرة، وخلاصته أن عددا من الحجاج الذين كانوا فى طريقهم لزيارة مثوى القديس توماس بِكِت الْتَقَوْا فى إحدى الحانات القائمة فى ضاحية من الضواحى اللندنية، وفيهم الفارس والطحان والطباخ والكاتب والمحامى والبحار والطبيب والقسيس والراهب والراهبة، فضلا عن توباز راوى القصة ذاته، الذى يشرع فى وصف الحقول والبساتين والجو الطبيعى والحانة وصاحبها وكل شخص من تلك الشخصيات، ثم يحكى لنا الطريقة التى اتفق هؤلاء الحجاج ليلتهم تلك فى الحانة المذكورة على أن يقطعوا بها رحلتهم إلى المزار الذى كانوا يقصدونه، وذلك بأن يحكى كل منهم قصة ذات مغزى أخلاقى رفيع تعينهم على قطع الطريق وتخفف عنهم مشاقه... وهكذا يبدأ كل منهم فى رواية قصته مع مقدمةٍ ووصلةٍ تربطها بما قبلها، فى الوقت الذى ينصت الجميع بانتباه إلى ما يقول، مع مقاطعة هنا أو هناك تُضْفِى قدرا من الحيوية والواقعية على الموضوع برُمّته، وقد تتطور المقاطعة إلى خصام وجدال سرعان ما يتدخل صاحب الحانة لفَضّه بالتى هى أحسن (ص 43- 51).
فإذا انتقلنا إلى "ألف ليلة وليلة" وجدناها هى أيضا تقوم على حكايةٍ إطارٍ هى حكاية شهرزاد وشهريار، إذ تأخذ شهرزاد كل ليلة برواية حكاية صغيرة أو حلقة من حكاية طويلة تشغل بها الملك المتعطش لدماء النساء عن ممارسة هوايته وتبقيه متشوقا ينتظر الحكاية أو الحلقة التالية فيُبْقِى هو بدَوْره على حياتها حتى تكمّل له قصتها المشوّقة، ولا تنتهى تلك الحلقات إلا مع انتهاء الكتاب كله كما هو معروف، فضلا عن أن أبطال الكتاب يظلون حاضرين طول الوقت منذ أول حكاية إلى أن نبلغ الحكاية الأخيرة (51- 56). ومن هنا يتبين لنا أن الأبطال فى كلا الكتابين هم الذين يروون الحكايات الموجودة فيه، وإنْ كانت هناك مع ذلك بعض الاختلافات الفنية لحساب هذه مرة، وتلك أخرى. ولعل القارئ قد لاحظ كيف تتطور العناصر المأخوذة أو المستوحاة من عمل ينتمى إلى أحد الآداب القومية عبر رحلته إلى أدب قومى آخر ولا يبقى كما هو، بل يتحور فى العادة متخذا أشكالا مختلفة ومكتسبا طعوما متباينة تبعا لاختلاف البيئات وتباين الظروف الاجتماعية والثقافية والسياسية فى كل بلد عنها فى البلاد الأخرى غالبا. لكن هذه الحقيقة لا ينبغى أن تلغى فضل الأدب المُعْطِى ولا أن تسلب حق الإبداع عن الأدب الآخِذ، إذ لا شىء يأتى من فراغ، بل كل إبداع (أدبى أو غير أدبى) إنما هو فى الواقع حلقة فى سلسلة طويلة متشابكة مكوناتها ثمرات العقل والخيال البشرى على مر العصور وعبر الأوطان. كذلك لا ينبغى أن يستغرب القارئ العربى (الذى يرى بأُمّ عَيْنه المدى الذى صارت أمورنا إليه وما زالت مرتكسة فيه) كيف أن الكتاب الذى ترجمه تشوسر مثلا من العربية عبر اللاتينية لم يكن أحد فى إنجلترا يعرف مما فيه شيئا، فنحن نتكلم هنا عن إنجلترا القرن الرابع عشر لا بريطانيا القرن العشرين التى كانت تحتل كثيرا من بلاد العرب والمسلمين، والتى لم تكن تغيب عن إمبراطوريتها الشمس، وكانت تتربع على قمة التقدم والازدهار العلمى والثقافى والاقتصادى. وشتان هذه وتلك!
ويمثل الأديب الألمانى يوهان ولفجانج جوته حالة ساطعة فى ميدان الأدب المقارن حتى بمقاييس المدرسة الفرنسية المتشددة، إذ يكثر لديه التأثر بالشعر العربى والاحتذاء بالإسلام عموما، والقرآن الكريم والنبى محمد على وجه الخصوص، فضلا عن إعجابه بحافظ الشيرازى واستحضاره إياه استحضارا قويا فى أشعاره: نصوصًا من إبداعه، ووقائعَ من حياته. وقد صدر فى يونيه 1967م فى سلسلة "كتاب الهلال" (العدد 195) كتاب أكثر من رائع عن هذا الموضوع للمرحوم عبد الرحمن صدقى مدير دار الأوبرا الأسبق عنوانه: "الشرق والإسلام فى أدب جوته"، وإن كنا قد قرأناه فى طبعة سلسلة "المكتبة الثقافية" التى صدرت قبل ذلك فيما أذكر، وفرحنا به كثيرا، إذ وجدناه يلقى ضوءا وهّاجا على قضية أشد لمعانًا ووهجًا هى قضية تأثر أديب وعالم ومفكر بقامة جوته الألمانى بالإسلام والقرآن والنبى محمد صلى الله عليه وسلم. ثم مرت الأيام ورأيت كتاب الدكتور عبد الرحمن بدوى عن "الديوان الشرقى للمؤلف الغربى"، وهو ديوان شعر للأديب الألمانى يتبدَّى فيه هذا التأثر والإعجاب بالإسلام والرسول والكتاب الذى أنزله الله عليه وبعض شعراء أمته. ثم ها هو ذا كتاب آخر عن ذات الموضوع يصدر عن سلسلة "عالم المعرفة" فى رمضان 1415هـ- فبراير 1995م (العدد 194) بعنوان "جوته والعالم العربى"، وهو للكاتبة الألمانية كاتارينا مومزن، وترجمة د. عدنان عباس على، وهو الكتاب الذى سيكون معتمَدنا عليه فى الفقرات التالية التى سنخصصها لإلقاء نظرة سريعة على موضوع المقارنة بين جوته والأدب العربى والفكر الإسلامى بوجه عام، وتأثره بالقرآن وشخصية الرسول على سبيل التخصيص.
ويتعرض الكتاب الذى بين أيدينا لاهتمام جوته بالثقافة العربية والإسلامية وبما وضعه المستشرقون من دراسات عنها واستيحائه بعضا من عبارات الشعر الجاهلى وموضوعاته وأساليبه الفنية، وبخاصة فى المعلقات، التى أشاد بها فى تعليقاته وبحوثه، وكذلك تأثره الغلاب بالقرآن الكريم وروحانيته وعقائده، وبخاصة عقيدة التوحيد والقضاء والقدر وإسلام النفس لمشيئة الله، ونفوره من عقيدة الصلب والفداء النصرانية جَرّاء ذلك، وترديده أسماء الله الحسنى فى الديوان الشرقى، وإعجابه بالشاعر المسلم حافظ الشيرازى. وسوف أتريث قليلا عند تأثره الشديد بالقرآن المجيد وشخصية الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، وهو ما خصصتْ له المؤلفة الفصل الثانى من كتابها هذا.
تقول الكاتبة إن "علاقة جوته بالإسلام وبنبيه محمد... ظاهرة من أكثر الظواهر مدعاة للدهشة فى حياة الشاعر، فكل الشواهد تدل على أنه كان فى أعماق وجدانه شديد الاهتمام بالإسلام، وأن معرفته بالقرآن الكريم كانت، بعد معرفته بالكتاب المقدس، أوثق من معرفته بأى كتاب من كتب الديانات الأخرى. ولم يقتصر اهتمامه بالإسلام وتعاطفه معه على مرحلة معينة من حياته، بل كان ظاهرة تميزت بها كل مراحل عمره الطويل. فقد نظَم، وهو فى الثالثة والعشرين من عمره، قصيدة رائعة أشاد فيها بالنبى محمد صلى الله عليه وسلم، وحينما بلغ السبعين من عمره أعلن على الملإ أنه يعتزم أن "يحتفل فى خشوع بتلك الليلة المقدسة التى أُنْزِل فيها القرآن على النبى". وبين هاتين المرحلتين امتدت حياة طويلة أعرب الشاعر خلالها بشتى الطرق عن احترامه وإجلاله للإسلام. وهذا ما نجده قبل كل شىء فى ذلك الكتاب الذى يُعَدّ، إلى جانب "فاوست"، من أهم وصاياه الأدبية للأجيال، ونقصد به "الديوان الشرقى للمؤلف الغربى". بل إن دهشتنا لتزداد عندما نقرأ العبارة التى كتبها فى إعلانه عن صدور هذا الديوان وقال فيها إنه هو نفسه "لا يكره أن يقال عنه إنه مسلم"..." (ص 177).
وتتحدث الكاتبة عن التحول الذى تم على أيدى بعض كبار المفكرين فى أوربا القرن التاسع عشر تجاه الإسلام مما كان من نتيجته تغير النظرة التقليدية العدائية نحوه إلى حد ما، وهو ما أثّر على فكر جوته وشخصيته، إلى جانب شعوره بأن عقائد الإسلام ومبادئه تقترب من اقتناعاته الشخصية إلى حد بعيد، كالتوحيد المطلق والإيمان بدور الرسل فى اتصال البشرية بالسماء ورفض المعجزات الخارقة والاقتناع بأن الاعتقاد لا يكفى، بل لا بد أن يتخذ التدين الحق صورة البر والإحسان، فضلا عن حَثّ الفيلسوف هردر له على قراءة القرآن الكريم، الذى كان هذا الفيلسوف يجله إجلالا كبيرا، وهى القراءة التى كان من ثمرتها احتكاك جوته بأسلوب القرآن وإحساسه بجلاله وروعته وإشادته به مرارا (ص 178- 188).
والآن إذا ما نظرنا إلى ما تركه القرآن من أثر فيما خطته يراعة جوته وجدنا شاعرنا مثلا فى خطاب مبكر منه لهردر يستشهد بقوله تعالى فى سورة "طه" على لسان موسى عليه السلام: "ربِّ، اشرح لى صدرى" (ص 189). كما أشارت المؤلفة إلى عدد من الآيات التى اقتبسها فى كتاباته وتعليقاته، ومنها قوله تعالى: "وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ " (البقرة/ 115)، "إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ " (البقرة/ 164)، "وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ" (الرعد/ 7)، "وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ " (العنكبوت/ 48)، وغير ذلك من الآيات التى تلقانا فى رسائله الشخصية ومقالاته وكتبه وأشعاره (ص 195- 203).
وفى شبابه نظم جوته قصيدة بعنوان "أنشودة محمد" مدحه عليه السلام فيها مديحا حارا يدل على مدى الاحترام الذى كان يكنه للرسول الكريم ، وقد كتبها فى 1773م بعد أن قرأ كل ما تحت يده من دراسات عنه صلى الله عليه وسلم . وفى هذه الأمدوحة التى بناها جوته على شكل حوار بين على وفاطمة رضى الله عنهما نجده يشبّهه عليه السلام بنهر يتدفق فى هدوء لا يلبث أن يستحيل سيلا هادرا يكتسح ما أمامه، ليصب فى نهاية المطاف فى المحيط الذى يرمز عنده إلى الألوهية. وفى "مسرحية محمد" نراه يظهر اهتماما خاصا بعقيدة التوحيد الإسلامية التى يؤكدها على لسان النبى العظيم فى مناجاته لربه تحت قبة السماء المرصعة بالنجوم: "ارتفع أيها القلب العامر بالحب إلى خالقك/ كن أنت مولاى، كن إلهى، أنت يا من تحب الخلق أجمعين/ يا من خلقتنى وخلقت الشمس والقمر/ والنجوم والأرض والسماء"(ص 203- 208).
وقد ظل جوته حتى آخر حياته يؤمن بهذا كله: ومن ذلك ما كتبه حين كانت زوجة ابنه مريضة بمرض خطير: "لا يسعنى أن أقول أكثر من أنى أحاول هنا أيضا أن ألوذ بالإسلام". ومنه أيضا رده على صديقةٍ التمست منه النصيحة بشأن وباء الكوليرا المنتشر آنذاك فى مشارق البلاد وغربها: "ليس بوسع امرئ أن يقدم النصح لامرئ آخر فى هذا الشأن. فليتخذ كل إنسان القرار الذى يناسبه. إننا جميعا نحيا فى الإسلام مهما اختلفت الصور التى نقوّى بها عزائمنا". ومنه كذلك وصفه لكتاب كان أحد أصدقائه أهداه إياه بأنه "يحفز على التفكير فى كل الآراء الدينية الرشيدة، وأن الإسلام لهو الرأى الذى سنُقِرّ به نحن جميعا إن عاجلا أو آجلا" (ص 223).
وفى "الديوان الشرقى للمؤلف الغربى" نقرأ هذه الأبيات التالية التى تقترب جدا جدا من القرآن الكريم: "لله المشرق/ لله المغرب/ والأرض شمالا/ والأرض جنوبا/ تسكن آمنة/ ما بين يديه" (ص 238)، "هو الذى جعل لكم النجوم/ لتهتدوا بها فى البر والبحر/ ولكى تنعموا برؤيتها/ وتنظروا إلى السماء" (ص 240)، "من حماقة الإنسان فى دنياه/ أن يتعصب كل منا لما يراه/ وإذا كان الإسلام معناه أن لله التسليم/ فعلى الإسلام نحيا ونموت نحن أجمعين" (ص 252)، "ويسوع كان طاهر الشعور ولم يؤمن/ فى أعماقه إلا بالإله الواحد الأحد/ ومن جعل منه إلها/ فقد أساء إليه وخالف إرادته المقدسة/ وهكذا فإن الحق/ هو ما نادى به محمد/ فبفكرة الله الواحد الأحد/ ساد الدنيا بأسرها" (ص 255)، "أيتها الطفلة الرقيقة، هذه الأسماط من اللآلئ/ وَهَبْتُها لك عن طِيب نفس/ بقدر ما استطعتُ/ كذُبَالةٍ لمصباح الحب/ لكنك تأتين الآن وقد عَلَّقْتِ/ عليها علامة هى من بين/ كل قريناتها من التمائم/ أقبحها فى نظرى/ وهذا الجنون الحديث المفرط/ أتريدين أن تأتى به إلى شيراز؟/ أم يجب علىّ أن أتغنى/ بالخشبة الجاسية المتقاطعة على الخشبة؟" (ص 256. والكلام هنا عن صليب كانت فتاته قد علقته على عِقْدٍ أهداها إياه لتزين به جيدها)، "لم لا أصطنع من الأمثال ما أشاء/ ما دام الله قد ضرب مَثَل البعوضة/ للرمز على الحياة؟" (ص 262)...
والكلام فى هذا يطول كثيرا، فنكتفى بهذا القدر، ولكن بعد أن نقول كلمة فيما كتبه فى بعض أشعاره تأثرا بقوله تعالى فى الآية الخامسة عشرة من سورة "الحج": "مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآَخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ "، وهذا نصه: "النبى يقول:/ إذا اغتاظ أحد من أن الله قد شاء/ أن ينعم على محمد بالرعاية والهناء/ فلْيُثَبِّتْ حبلا غليظا بأقوى عارضة فى قاعة بيته/ وليربط نفسه فيه! فسوف يحمله ويكفيه/ ويشعر أن غيظه قد ذهب ولن يعود" (ص 242). ومعنى الأبيات هو: من يظن أن الله لن ينصر نبيه فليذهب وليخنق نفسه بحبل يتدلى من سقف بيته، باعتبار أن "السبب" فى الآية معناه "الحبل" وأن "السماء" هى "السقف". ولكن لى تفسيرا آخر للآية يبدو أكثر وجاهة سواء من ناحية منطق العقل أو من ناحية اللغة وأساليب العرب والقرآن. ذلك أنه لا معنى لأن يقول الواحد منا لمن يكذّب بأنه سوف ينتصر عليه أَنِ اذهبْ وانتحِرْ لترى أيزول سبب سخطك أم لا. كما أننا نقرأ فى سورة "غافر" قوله تعالى على لسان فرعون غيظا من موسى واطمئنانه إلى نصر ربه: "وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ* أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبَابٍ" (الآيتان 36- 37). فــ"أسباب السماوات" (وهى مِثْل "سبب إلى السماء" بالضبط) لا تعنى الحبال، بل السبل التى توصل إلى السماء للاطّلاع إلى إله موسى. وعلى هذا فمعنى آية "الحج" هو أن من كان يشك فى نصرة الله لرسوله فليحاول إن كان يستطيع، ولن يستطيع، أن يثبت صحة ما يقوله من أن الله لن ينصر نبيه، حتى يرتاح ويذهب عن نفسه مشاعر الغيظ والحقد.
ثم هل كان الانتحار عن طريق حبل معلق فى سقف البيت من الأمور المعروفة عند العرب؟ كذلك فإن بيوت العرب كانت كلها تقريبا من الخيام، اللهم إلا فى المدن، وكانت قليلة فى بلاد العرب وتمثل الشذوذ على القاعدة، فلا سقف يشنق الإنسان نفسه بحبل يتدلى منه ولا يحزنون. وأيضا فمَدّ السبب إلى السماء غير تعليق السبب فى السقف: فهذا ينزل من فوق لتحت، وذاك يصعد من تحت لفوق. ثم كيف يمكن المنتحر، بعد أن يكون قد مات، أن ينظر ليرى هل يُذْهِبَنّ كيده ما يغيظ؟ أيا ما يكن الأمر فأَوْجَهُ من هذا التفسيرِ القولُ بأن المقصود هو: من كان يستطيع أن يتبين أن الله لن ينصر نبيه فليثبت ذلك عن طريق الاطلاع على ما فى السماء. وهذا أمر بطبيعة الحال مستحيل تماما. ويقول الله تعالى فى الآية 35 من سورة "الأنعام": "وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآَيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ"، فهذه الآية (كما نرى) تسير فى نفس اتجاه آيتَىِ "الحج" و"غافر"، وهو ما يعضّد ما طرحتُه من تفسير للآية الكريمة، هذا التفسير الذى أحسب أنه أقوى من التفسير الذى يقول به المفسرون وتأثر به مترجم الآية الذى قرأه جوته، وكان من أثر قراءته له كتابة ما كتبه (ص 241).
ومن جوته فى ألمانيا إلى شاعر كبير آخر، لكن من فرنسا، هو فكتور هيجو، الذى تأثر هو أيضا بالإسلام فى أشعاره تأثرا قويا. لقد كان الشاعر الفرنسى أحد شعراء الحركة الرومانسية التى اهتمت بالتوجه إلى الشرق، كما صحب ظهورَه على مسرح الأدب الفرنسى انتعاشُ النشاط الاستشراقى، فضلا عن الرحلات التى قام بها أدباء فرنسيون مشهورون إلى الشرق العربى وسجلوها فى كتب شائقة، ومن هنا جاءت معرفته بالإسلام وكتابه ورسوله عليه الصلاة والسلام. وكما كان لجوته "الديوان الشرقى للمؤلف الغربى" فكذلك كان لهيجو ديوان "المشرقيات"، ذلك الديوان الذى وضعه بعض الدارسين الفرنسيين فى نفس مستوى الديوان السابق والذى تبرز فيه الأشعار التى تتحدث عن الله ورسوله عليه الصلاة والسلام وتستلهم آيات القرن الكريم، ومنها القصائد التالية: "زلزال الأرض" و"السنة التاسعة للهجرة" و"شجرة السِّدْر" و"سورة من القرآن"... (انظر عبد المطلب صالح/ موضوعات عربية فى ضوء الأدب المقارن/ دار الشؤون الثقافية العامة ببغداد/ سلسلة "المكتبة الصغيرة"- العدد 288/ 1977م/ 27 وما بعدها).
وها هى ذى أبيات القصيدة الأولى، وهى من ترجمة عبد المطلب صالح (الباحث العراقى الذى كان أول من كشف سرقة الدكتور محمد مندور فصول كتابه: "نماذج بشرية" من كتاب جون كالفيه على حسب ما وضحتُ فى الفصل الثانى من كتابى: "د. محمد مندور بين أوهام الادعاء العريضة وحقائق الواقع الصلبة"): "ستُزَلْزَل الأرض زلزالا عميقا/ وسيقول الناس: ما لها؟ يومئذ/ يأتى الموتى خارجين من القبر جماعات مثل الثعابين/ صُفْر الوجوه ليرَوْا أعمالهم/ فأولئك الذين عملوا الشرّ بوزن النملة/ سيَرْون الشر. وإن الله لن يكون صديقا لهم/ أما أولئك الذين عملوا الخير بحجم ذبابة/ فسيرَوْن الخير، وسيكون الشيطان لهم أقلّ شراسة". ومن الواضح أنها إعادة صياغة لسورة "الزلزلة": "إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الإِنْسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)". ويقول الباحثون الفرنسيون إن هيجو إنما اطلع على السورة الكريمة فى ترجمة كازيمرسكى للقرآن، وإنه قد اضْطُرّ إلى إضافة كلمة "ثعابين" بغرض التقفية لا غير (ص 52- 58).
أما القصيدة التى تناولت السنة التاسعة للهجرة فهأنذا أنقل أجزاء منها للقراء، وهى من ترجمة عبد المطلب صالح أيضا: "عندما أحسَّ النبى محمد بأن ساعة رحيله قد دنت كان يسير رادًّا التحية لمن كانوا يحبونه دون أن يحمل أية ملامة لإنسان/ وكلَّ يوم كان الناس يَرَوْن فيه أمارات المشيب برغم الشعرات البيض القليلة فى شعر رأسه، على حين أن لحيته ظلت سوداء/ وغالبا ما كان يتوقف كى ينظر إلى الإبل متذكرا أنه كان جمّالا/ ... كانت له جبهة سامية ووجه رفيع سامٍ/ بدون حاجبين كثيفين. كان ذا نظرة ثاقبة حادة/ ... كان ينصت لمحدثيه فى هدوء، وكان يتكلم آخر المتكلمين/ وكانت عبارات الصلاة لا تفارق شفتيه/ وكان يصوم أكثر من غيره/ برغم الوهن الذى يصيبه بسبب ذلك/ ... وكان يبدو عليه أنه يتأمل رؤيا حزينة وهو يتخيل، إذ فجأة يفكر قائلا:/ هو ذا أنتم جميعا ماثلون/ أنا كلمة من كلمات الله، فأنا رماد كبشر/ لكنْ مثل النار كنبىّ/ ... أيها الأحياء، هى ذى الساعة حيث سأختفى فى مسكن آخر/ إذن فسارعوا، إذ يجب على من يعرفوننى أن ينكرونى إذا كنت مخطئا/ وإذا برجلٍ طالَبَ النبى بثلاثة دراهم قائلا:/ أجدر أن تدفع ذلك هنا من أن تدفع داخل القبر/ وكانت عين الجمهور رقيقة مثل عين حمامة/ وفى صباح اليوم التالى نادى محمد أبا بكر قائلا له:/ إننى لا أقدر على النهوض، فخذ الكتاب وصَلِّ بالناس/ على حين أن زوجته عائشة وقفت فى الخلف/ وكان محمد ينصت عند قراءة أبى بكر إحدى سور القرآن/ وفى المساء كان ملَك الموت عند الباب قائلا للنبى:/ إن الله يرغب فى حضورك. وعندها تُوُفِّىَ النبى محمد".
ويعزو الدارسون الفرنسيون نظم هيجو هذه القصيدة إلى ما كان قرأه فى "الكتب المقدسة فى الشرق" الذى ترجمه بوتييه، وكتاب "إسلام السلاطين" لدو فايّان، وكتاب هنرى ماتيو: "تركيا وشعوبها المتنوعة" (ص 59 وما يليها). ولست أظن القارئ إلا قد تنبَّه لاهتمام عبد المطلب صالح بالمصادر التى أخذ عنها هوجو معرفته بموضوعاته هذه، على غرار عموم المدرسة الفرنسية التى يتحزب لها الباحث العراقى تحزبا شديدا والتى كان يَدْرُس للحصول على درجة الدكتوراه فى باريس على يد بعض أعلامها لولا أنه، لظروف خارجة عن نطاق إرادته كما يقول، لم يكمل المسيرة رغم أنه كان قد انتهى من كتابة رسالته (المرجع السابق/ 115، ود. حسام الخطيب/ آفاق الأدب المقارن عربيا وعالميا/ 210، 223- 225).
وبالنسبة للأدب الروسى الذى ربما لا يخطر على البال أن بينه وبين الأدب والتراث العربى صلة، وصلة قوية، هناك كتاب ممتع للدكتورة مكارم الغمرى عنوانه "مؤثرات عربية وإسلامية فى الأدب الروسى" (سلسلة "عالم المعرفة"- العدد 155/ ربيع الثانى 1412هـ- نوفمبر 1991م) رَصَدَتْ وحَلَّلَتْ فيه التأثيرات العربية والإسلامية فى أدب بوشكين وليرمنتوف وتولستوى وبونين، وكلهم من الأدباء الروس الكبار كما نرى، وذلك بعد فصول ثلاثة تمهيدية عن الأدب المقارن، والصلة بين روسيا والشرق العربى، والرومانتيكية الروسية والشرق. ولسوف نكتفى فى هذه الفقرات بتناول ما كتبته الأستاذة الدكتورة عن بوشكين وما تركه القرآن الكريم وسيرة الرسول فى أشعاره، وهو ما يجده القارئ فى الفصل الرابع الذى يغطى الصفحات 73- 172 من الكتاب.
وقد عاش بوشكين فى القرن التاسع عشر، وهو ينتمى إلى أسرة من طبقة النبلاء كان بيتها مزارا لعدد من كبار شعراء روسيا. ويتكون نتاجه الأدبى من الشعر العاطفى والوطنى، ومن القصة والمسرحية. أما ثقافته فكانت تضم بين رحابها عناصر روسية، وأخرى أوربية أهمها الفرنسية، كما كانت تتضمن أيضا عناصر شرقية وعربية إسلامية يأتى على رأسها القرآن الكريم. وبالمناسبة فبعض هذه العناصر الشرقية قد تسرب إليه من خلال أعمال فولتير وشاتوبريان وجوته وزملائه من أدباء روسيا. ويعتزى بوشكين إلى جد أفريقى هو إبراهيم هانيبال جده لأمه، كما كان له صديق مصرى بحّار اسمه على. وبلغ من حبه للشرق أن ارتدى فى إحدى الحفلات التنكرية الأرستقراطية ملابس عربية استهوت الحاضرين أشد الاستهواء (ص 73- 91).
ومن المؤثرات العربية فى أدب بوشكين ما استقاه من "ألف ليلة وليلة"، التى تركت بصماتٍ واضحةً على عِدّةٍ من أعماله منها قصتاه الشعريتان: "روسلان ولودميلا" و"إندجيلو"، وقصيدتاه: "القمر يتألق" و"التعويذة". وتذكر الدكتورة مكارم أن بوشكين قرأ "ألف ليلة" فى ترجماتها التى ظهرت فى أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، ثم تمضى فترصد الأثر الذى خلّفته "الليالى" على الأعمال البوشكينية المذكورة، بادئة بــ"روسلان ولودميلا"، التى تقول إنها تشترك مع حكاية "أبو محمد الكسلان" فى البناء الشكلى حيث يتفرع عن الحكاية الرئيسية عدة حكايات صغيرة، كما أن قصة خطف الجنى للعروس موجودة فى العملين، بالإضافة إلى قيامهما كلتيهما على روح المغامرة وذكر سيدنا سليمان عند الكلام عن الجن وعالمهم، والحديث عن طاقية الإخفاء وبساط الريح والحصان الطائر والخاتم السحرى، والإغراق فى وصف ما تعج به القصور من خدم وحشم على الطريقة الشرقية الموجودة فى "ألف ليلة وليلة"... إلخ. أما فى "إندجيلو" فيسترعى انتباهنا بقوةٍ شخصيةُ هارون الرشيد، الذى يصوره الأديب الروسى حاكما يرعى مصالح شعبه ويعطف على الفقراء ويتابع أحوالهم متنكرا فى ملابس عاديّة يجوس فيها ليلا خلال الشوارع والحوارى ليطّلع على حقيقة أمرهم وأسباب شكاواهم، باذلا كل جهده فى إزالتها. بل لقد جعل الشاعر الحاكم الإيطالى فى تلك القصة يترسم خطا هارون الرشيد فى ممارسة مهامه فى الحكم وإدارة شؤون الرعية... وهَلُمَّ جَرًّا (ص 93- 109).
وفى قصته الشعرية: "نافورة بختشى سراى" (أى "نافورة الدموع") يقابلنا تشبيه بوشكين لجمال زوجات الخان بالزهور العربية. وعندما يصور صمود زوجة الخان التى تتألم من غرامه الواله بأسيرته البولندية فإنه لا يجد إلا صورة النخلة التى اكتسحتها عاصفة، ومعروف أن النخلة ترتبط ببلاد العرب ارتباطا شديدا، كما تستحلف الزوجة المتألمة غريمتها بالقرآن أن تترك لها زوجها. وبالمثل فهو فى كلامه عن أحزانها المريرة يتذكر شعيرة الحج وما تمدّ به الإنسانَ من قدرة على الصبر والإيمان والتحمل، ويسمى المسلمين بــ"عشاق الرسول". وهناك قصيدة له اسمها: "من وحى العربى" يركز فيها بوشكين على صفات الدماثة وجاذبية الشخصية وتوقّد الخلق، التى هى صفات العرب عنده. وفى قصيدة أخرى اسمها: "بدون عنوان" تقابلنا "لَيْلَى" حبيبة الشاعر، ونشم رائحة المسك والكافور، وهما من العطور التى يغرم بها العرب غراما كبيرا، وجاء ذكرهما فى القرآن الكريم. كما نسمعها تعايره بأن "شعره أشيب"، وإن لم تلفت هذه العبارة ولا ما وراءها من معنًى السيدة الباحثة رغم كثرة ترددها فى أشعار العرب القديمة، حيث يشكو الشاعر انصراف صاحبته عنه بسبب بياض شعره والفجوة العُمْرية التى تفصل بينهما، بل إن كثيرا من الشعراء العرب القدماء قد وقفوا طويلا أمام بياض شعورهم يتألمون ويجاولون أن يُعَزّوا أنفسهم على ما أصابهم.
ثم عندنا كذلك قصيدتا بوشكين: "الرسول" و"قبسات من القرآن"، اللتان تعجّان بالتأثيرات الإسلامية الواضحة: ففى الأولى نجد شاعرنا يتحدث عن الفترة التى قضاها عليه السلام قبل المبعث يقلب طَرْفه فى أرجاء الكون بحثا عن الحقيقة فى عزلته وسط الصحراء، ثم يصور ظهور جبريل للرسول بستة أجنحة وشعوره صلى الله عليه وسلم بالفزع، إشارة إلى ما اعتراه فى الغار أوانذاك فرجع إلى زوجه وأخلد إلى فراشه وهو يقول: زَمِّلونى! زَمِّلونى! أما بعد النبوة فتتكشف أمامه عليه السلام أسرار عالم الغيب، مما يذكرنا بما ورد فى سورة "النجم" حيث صعد الرسول إلى سِدْرة المنتهى ورأى من آيات ربه الكبرى. كما تحدثت القصيدة عن شق الصدر ودعوة القرآن له صلى الله عليه وسلم أَنْ قُمْ فأَنْذِر. وتذكر الباحثة هنا أن النقاد والدارسين فى البداية كانوا يظنون أن المقصود بالرسول فى هذه القصيدة هو عيسى عليه السلام استنادا إلى أن بوشكين قد اختار لجبريل كلمة "سيرافيم"، وهى كلمة غير إسلامية (ص 134- 142). لكننى أستعجب من هذا التفسير رغم ذلك، لأن كل شىء فى كلام الشاعر هنا إنما يصرخ بكل قواه أن المراد هو محمد كما هو واضحٌ لا يمكن أن تخطئه العين، عليه وعلى عيسى بن مريم جميعا الصلاة والسلام. كذلك لا يسعنى إلا أن أنبه إلى السهو الذى اعترى الأستاذة الدكتورة فجعلها تقول إن ما ذكره بوشكين فى قصيدته السابقة عن اتصال الرسول بعالم الغيب إثر نبوّته يذكِّرنا بسورتَىِ "النجم" و"المعراج": فأما "النجم" فمفهومة، ولكن ماذا عن "المعراج"؟ أتُرَى هناك سورة فى القرآن المجيد اسمها: "المعراج"؟ ألعلها تعنى "الإسراء"؟
أما الثانية، وعنوانها: "قبسات من القرآن"، وهى فى الواقع تسع قصائد مترابطة لا قصيدة واحدة، فتقول الكاتبة إنها "تعكس المكانة الهامة التى أحدثها القرآن فى التطور الروحى لبوشكين، فقد أعطى القرآن أول دفعة للنهضة الدينية عند بوشكين... وفضلا عن ذلك فالقرآن كان أول كتاب دينى يُدْهِش خيال الشاعر ويقوده إلى الدين" طبقا لما قاله بعض المستشرقين الروس. وقد اعتمد بوشكين فى قراءة القرآن على ترجمة فيريفكين، وكذلك على الترجمة الفرنسية التى قام بها المستشرق الفرنسى ديورى. وهذا الاهتمام الشديد من قِبَل بوشكين بالقرآن يُرْجِعه عدد ممن تناولوا هذا الموضوع من المستشرقين إلى أن جده إبراهيم هانيبال كان مسلما، على حين يقول بعض آخر منهم إن سر الأمر يكمن فى قدرة القرآن الكبيرة على التأثير فى البشر. أما بوشكين نفسه فيقول فى سر هذا الاهتمام إن "الكثير من القيم الأخلاقية موجزة فى القرآن فى قوة وشاعرية" (ص 143- 147).
وفى هذه القصائد يقابلنا ذلك اللون الخاصّ من القَسم الذى يجرى على سُنّة القرآن: "أُقْسِم بالشفع وبالوتر/ وأقسم بالسيف وبمعركة الحق/ وأقسم بنجم الصباح،/ وأقسم بصلاة العشاء/ لا لم أودّعك"، مما يجد الإنسان شبيهه فى بدايات سُوَر "الضحى" و"الفجر" و"العاديات" وما إليها. كما يقابلنا هذا الكلام عن أمهات المؤمنين الطاهرات: "إيه يا زوجات الرسول الطاهرات/ إنكن تختلفن عن كل الزوجات/ فحتى طيف الرذيلة مُفْزِع لَكُنّ/ فى الظل العذب للسكينة/ عشن فى عفاف، فقد عَلِقَ بكنّ/ حجاب الشابة العذراء/ حافِظْن على قلوبٍ وفيّةٍ/ من أجل هناء الشرعيين والخَجْلى/ ونظرة الكفار الماكرة لا تجعلْنها تبصر وجوهكن/ أما أنتم يا ضيوف محمد/ وأنتم تتقاطرون على أمسياته/ احذروا، فبهرجة الدنيا/ تكدر رسولنا/ فهو لا يحب الثرثارين/ وكلمات غير المتواضعين والفارغين/ شَرِّفوا مأدبته فى خشوع/ وانحنوا فى أدبٍ/ لزوجاته الشابات المحكومات"، وهو ما يعكس صدى الآيات التى تتضمنها سورة "الأحزاب" عن زوجات الرسول وحجابهن وتفرد أوضاعهن فى بعض شؤونهن عن أوضاع المسلمات الأخريات (ص 148- 151).
وبالمثل فإنه فى الأبيات التالية التى يصور فيها انتصار المسلمين فى بعض المعارك ورغبة المنافقين الذين تخلفوا عن الجهاد فى سبيل الله فى أن يقاسموهم الغنائم: "لقد انتصرتم، فالمجد لكم/ ويا للسخرية من ضعاف النفس/ فنداء الحرب لم يلبّوه/ ولم يصدّقوا الأحلام الرائعة/ وهم الآن فى ندم/ تفتنهم غنيمة الحرب/ يقولون: خذونا معكم/ لكنكم ستقولون: لن نأخذكم" (ص 158- 159). وهذه الأبيات مستلهمة بكل وضوح من قوله تعالى من سورة "الفتح": "سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (11) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا (12) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا (13) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (14) سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاّ قَلِيلاً (15)"، لا من الآيات 18- 19، 27 من ذات السورة كما ذكرت الأستاذة الدكتورة. ونكتفى بهذا، وإلا فالكلام يطول. ويستطيع الدارس أن يعود بنفسه إلى كتاب د. مكارم لمزيد من التوسع والمتعة الراقية.
ومن بوشكين وتأثره ببعض الإبداعات الأدبية العربية والقرآن الكريم وحديث الرسول عليه السلام وسيرته، إلى الكاتب والشاعر الأمريكى إدجار ألن بو، الذى عرض لما يوجد فى بعض أعماله من آثار عربية وإسلامية أيضا د. أحمد محمد البدوى فى كتابه: "أوتار شرقية فى القيثار الغربى" (منشورات جامعة قار يونس بليبيا/ 1989م)، إذ رصد الدكتور البدوى مثلا عَنْوَنة الشاعر الأمريكى إحدى قصائده الهامة، بل أهم عمل شعرى له، بعنوان "الأعراف" (هكذا بنطقها العربى: "ALAARAF")، وخالف النقاد الأمريكان الذين يصرون على أن بو إنما أخذ هذه الكلمة من الشاعر الإنجليزى شيلى، وكأن كلمة "الأعراف" توجد خارج العقيدة الإسلامية أصلا، ومعضدا ما يقول بما كتبه الشاعر ذاته إلى ناشره من أنه قد استمد تلك الكلمة من "أعراف" العرب (ARABIANS) وأنها تعنى عند المسلمين مكانا بين الجنة والنار لا يعانى البشر فيه أى عذاب، إلا أنهم لا يظفرون مع ذلك بنعمة الاطمئنان... إلخ. وبالإضافة إلى هذا رصد الدكتور البدوى فى هوامش القصيدة التى أثبتها الشاعر نفسه بضعة ألفاظ عربية مثل: "Bahar Loth or Almotanaha: بحر لُوط أو المتناهَى" (ص 56- 58).
كذلك رصد ا�
نشرت فى 8 سبتمبر 2015
بواسطة dribrahimawad
عدد زيارات الموقع
33,965