أما بالنسبة للعبارات والجمل التى تتكرر بنصها، فهل نَسِىَ المبشِّر مثلا عبارة "فإن إلى الأبد رحمته"، التى تكررت ستًّا وعشرين مرة فى ستٍّ وعشرين جملة هى مجموع المزمور الخامس والثلاثين بعد المائة، كما تكررت قبل ذلك فى المزمور السابع عشر بعد المائة فى الآيات الثلاث الأولى والآية الأخيرة. ومثلها كلمة "سلاه"، التى تكررت كثيرا فى عدد من المزامير تكرارا متقاربا. ولنأخذ أيضا: "سبِّحوا الله فى قدسه. سبِّحوه فى جَلَد عزته. سبحوه لأجل جبروته. سبحوه بحسب كثرة عظمته. سبِّحوه بصوت البوق. سبحوه بالدف والرقص. سبحوه بالأوتار والمزمار. سبِّحوه بصنوف السماع. سبحوه بصُنُوج الهتاف. كل نسمة تسبِّح الرب"، وهى كل المزمور المائة والخمسين. وفى الفصلين الأول والثانى من سفر "الجامعة" تظل تتردد فى آذاننا فى إلحاح مزعج أن "الجميع باطل وكآبة الروح" حتى نُصَاب فعلا بالكآبة. أما فى بداية الفصل الثالث قتأتى عبارة "للشىء الفلانى وقت" ثلاثين مرة على النحو التالى: "لكل غرض تحت السماء وقت: للولادة وقت، وللموت وقت. للغرس وقت، ولقلع المغروس وقت... للاعتناق وقت، وللإمساك عن المعانقة وقت... للتمرين وقت، وللخياطة وقت..." وهكذا إلى آخر المرات الثلاثين. وفى الفصل الأربعين من سفر "يشوع" تتكرر عَشْرَ مراتٍ تقريبا عبارةُ "الأمر الفلانى والأمر الفلانى شأنهما كذا وكذا، ولكن الأمر العلانى فوقهما". وفى الإصحاح الثالث والعشرين من إنجيل متى تقابلنا العبارة التالية سبع مرات منسوبة للسيد المسيح فى صفحة واحدة ليس غير: "ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون"، ومثلها فى نفس الإصحاح عبارة "أيها العميان"، أو "أيها الجهّال والعميان" موجَّهة إلى طائفة الفريسيين. وعلى مدى الإصحاحين الثانى والثالث جميعا من "رؤيا يوحنا" تقابلنا بعد كل عدة آيات جملة "من له أذن فليسمع ما يقوله الروح للكنائس"... وهذه مجرد أمثلة معدودة! إن التكرار، كما هو معروف، أداة من أدوات البلاغة، وبخاصة فى الخُطَب وما أشبه. ولا ينبغى أن يغيب عن بالنا أن القرآن إنما كان يتم تبليغه شفويا أولا بأول ردًّا على مواقف كانت تتكرر بنفس الأحداث والكلمات تقريبا فى المرحلة المكية التى يمكن تلخيصها فى تكذيب الكفار للرسول فى كل مكان يذهب إليه وتحذيرهم الناس منه وصفيرهم واستهجانهم لما يقول واتهامهم إياه بأنه كذاب وساحر ومجنون وبأنه ينقل ما يتلوه عليهم من كتب الأولين. ومن ثم يمكننا أن نتصور الجو الذى كانت تنزل فيه آيات القرآن على الرسول عليه السلام والدواعى التى كانت تستلزم تكرار بعض العبارات والتقريعات، والتىهى مع ذلك أخف كثيرا من نظيراتها فى الكتاب المقدس. والآن ألا يرى القارئ الكريم كيف أن هؤلاء المبشرين يلجأون إلى أساليب غير شريفة فى حربهم للقرآن معتمدين على جمود وجههم وقدرتهم الفائقة على الكذب والتدجيل واللف والدوران وعلى أن المسلمين لا علم لهم بكتاب أولئك المبشرين. ثم هم بعد هذا كله لا يرعوون إذا ما فضحهم فاضح، بل يظلون يرددون انتقاداتهم الكاذبة السخيفة للقرآن، ولسان حالهم يقول: كم يا ترى مِنَ القراء مَنْ عنده الاهتمام أو الوقت الذى يمكن أن ينفقه فى التحقق من كذب ما نقول؟ ثم يمضون فى ترديد الأسطوانة المشروخة عارفين أن طلقة الرصاص إن لم تُصِبْ فإنها على الأقل تزعج!
ومما أورده الكاتب عن السيوطى أن "من الآيات ما أَشْكَلَتْ مناسبتها لما قبلها. من ذلك قوله تعالى في سورة "القيامة" (13- 19): "لا تُحَرِّكْ به لسانَك لِتَعْجَل به"، فإن وجه مناسبتها لأول السورة وآخرها عَسِرٌ جدًّا، فإن السورة كلها في أحوال القيامة...". والأمر أبسط من هذا كثيرا، ويمكن فهمه فى ضوء ما يحدث أحيانا من بعض المحاضرين أو الخطباء حين يقطعون ما هم فيه فجأة ليعلّقوا على شىء وقع أثناء الكلام أو يوجِّهوا الحديث لأحد المستمعين، ثم يعودوا مرة أخرى لما كانوا فيه، وكأن شيئا لم يكن. ويمكن تشبيهه أيضا بالأحفورة الناتجة عن بركان مثلا، إذ تفاجئ الحُمَمُ حيوانًا أو شخصًا فتجمّده إلى الأبد على وضعه الذى كان عليه عند انفجار البركان وانصباب الحُمَم بحيث يبدو شيئا خارج السياق بمعنى من المعانى وداخله بمعنى آخر. وكثير منا قد قرأ، ولا شك، عن البركان الذى باغت أهل بومباى فى التاريخ القديم ودفنهم تحت ركامه إلى الأبد مبقيًا بذلك عليهم فى ذات الوضع الذى كان كل منهم فيه ساعة حدوث الكارثة! ولقد رأيت ذات مرة، وأنا شابٌّ، صُوَر الحفل الخاص بخِطْبة أحد الزملاء، فلاحظت فى إحدى الصور شخصا فى الطرف الأيسر ينظر للزميل الموجود فى أقصى يمين الصورة نظرةً غير مريحة، على حين كان الصديق مشغولا فى تلبيس عروسه الشبكة. ولما سألت الصديق عن ذلك الشاب وعن سر نظرته الغريبة أجابنى ضاحكا: لقد كان يريد أن يخطبها لنفسه، لكنها كانت من نصيبى أنا. وطبعا لم يكن من هَمّ المصوِّر أن يصور ذلك الشاب بل الخطيبين فقط، أما من عداهما، بما فيهم هذا الشخص، فظهورهم فى الصورة أمر عارض. ومع هذا فقد ثبّتت اللقطةُ نظرة الشاب المنافس لصديقى ما بقيت الصورة. كذلك نسمع فى تسجيل بعض الحفلات الغنائية لأم كلثوم صوت كُحَّة أثناء انتقال العزف الموسيقى من مقطع غنائى إلى آخر، ولا ندرى أهى التى تَكُحّ أم أحد أعضاء الفرقة الموسيقية. المهم أن جهاز التسجيل قد التقط الكُحَّة وثبّتها تثبيتا دائما بحيث نظل نسمعها كلما استمعنا إلى الأعنية رغم أنها لم تكن فى الحسبان، ورغم أنها ليست عنصرا من عناصر الأغنية، لكن هكذا جرت الأمور. وبنفس الطريقة نرى أن الآيات التى نحن بسبيلها قد ثتبتت الموقف الذى نزلت فيه إلى أبد الآبدين، كما أنها من جهة أخرى تدل على تلقائية عجيبة من شأنها أن تُشِيع فى النص مزيدًا من الحرارة والحيوية!
ويتبقى ما قاله الرجل عن رسم القرآن الأول الذى لم يكن فيه نَقْط ولا تشكيل، إذ تساءل كيف أن الله لم يُنْزِل القرآن منقوطا مشكَّلا كى يمنع الخطأ فى نطقه؟ وهو سؤال غريب، وإلا فعلينا أن نعمِّمه فنقول: ولماذا لم يخلق الله البشر من أول الأمر جاهزين لكل مشكلة تقابلهم فيحلّونها فى التو واللحظة بدلا من المرور بكل هذه المراحل التاريخية الطويلة التى استغرقت الآلاف المؤلفة من السنين، إن لم تكن الملايين، بما فيها من عناء وتعب وتعس وشقاء يعرفه كل إنسان؟ ولماذا كانت الأمراض والشرور والكذب والزنا والخمر والكفر والقتل والقلق والملل والغدر والخيانة والضعف والعجز...؟ ولماذا كانت الرسل والأنبياء، ولم ينزل البشر من بطون أمهاتهم مهتدين؟ بل لماذا كان عليهم أن يتعلموا كل شىء تعلما بدلا من أن يُخْلَقوا كالنحل والنمل والمعز والفراش وسائر الحيوانات والحشرات والطيور عارفين بفطرتهم ما ينبغى عمله؟ بل لماذا كان موتٌ وابتلاءٌ ولم يكن خلودٌ وسعادةٌ من الأصل؟ بل لماذا ابْتُلِىَ البشر بك وبأمثالك من الضلاليين الكذابين ولم يقصف عمرك من قبل حتى يستريحوا أو أستريح أنا على الأقل من وجع الدماغ الذى أتجشمه فى الرد عليك كما يتجشم الطبيب المتاعب فى مكافحة السرطان والإيدز مثلا؟ إن سؤال الرجل لهو سؤال ساذج مغرق فى السذاجة، أو خبيث عريق فى الخباثة، وكلاهما أضرط من أخيه! ثم إننا سائلوه: أترى العرب كانوا يفهمون الرسم القرآنى الجديد لو نزل عليهم جاهزا من السماء مختصرا الوقت والجهد والتجارب ومراحل التعليم الطويلة التى مروا بها؟ هاتوا لى شيئا مثل هذا حدث فى التاريخ ولم يحوج البشر إلى بذل الجهد وإنفاق الوقت وتجشم التعب والإرهاق ومكابدة الضيق والملل والإحباطات قبل أن يصلوا إلى مبتغاهم من إتقان العلم الجديد. ما كانت العين بكت! يدك فى يدى يا أخا التبشير، وأرنى همتك! فأنا "نَفْسِى ومُنَى عَيْنِى" أن أتوصل لطريقة تمكّننى من الرد على سخفك هذا دون أن أقرأ شيئا أو أكتب حرفا أو أجلس أمام الحاسوب وأتعرض لمشاكل استعماله، بل يكفى أن أنظر إليه من بعيد (أو لا أنظر)، وفى نيتى أن يتولى هو الرد عليك فيقوم فى الحال بهذا الرد، ثم يزيد هو من عنده كرما منه وتفضلا فيحضرك أمامى لأظل أضربك على أصداغك حتى يظهر لك صاحب يعتقك من يدى. أليست رغباتنا ومطالبنا ستتحقق هكذا بمجرد خطورها ببالنا فى الجنة، التى لن تَرِيح أنت وأمثالك رائحتها ولو على بعد سبعين خريفا (خريفًا ضوئيًّا لا خريفًا عاديًّا) بمشيئة الله الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذى لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كُفُوًا أحد؟
ومن جهة أخرى فإن الطريقة التى كان العرب يكتبون بها آنذاك كانت تقوم بالمهمة المطلوبة فى تلك المرحلة التاريخية. حتى إذا لم تعد تلبى مطالبهم رأيناهم يطورونها لتتواءم مع الوضع الجديد شأن كل شىء فى الدنيا: يكون فى حينه كافيا وفوق الكافى، ثم بمرور الأيام لا يبقى كذلك. وإذا كنا نحن الآن نرى أن ذلك الرسم ينقصه الكثير فإنهم هم لم يكونوا يرونه بنفس العين، وإلا فكيف كانت حياتهم منضبطة فى كتابة الديون والمعاهدات وتسجيل الحوادث والأسماء والحقوق وسائر المعلومات؟ إن معنى كلامك أن حياتهم كانت متوقفة تماما إلى أن اخترعوا التنقيط والضبط بالحركات والمدّ؟ فهل هذا صحيح؟ لا يقول بذاك إلا جاهل! إننا الآن مثلا لا نستطيع أن نعيش بدون السيارات والطائرات والمكيفات والثلاجات والمذياعات والمرناءات والحواسيب...إلخ، لكن أجدادنا لم يكونوا يشعرون بحاجة إلى شىء من هذا، ببساطة لأنه لم يكن لشىء من هذا وجود، ولا كانت حياتهم قد تطورت إلى الحد الذى أصبح استعمال هذه الآلات معه لازما لزوم الهواء للتنفس!
إن الخفيف الظل يتساءل: ماذا لو أن طالبا الآن كتب لأستاذه بحثا دون نقط أو حركات؟ أويعطيه الأستاذ حينئذ شيئا غير الصفر؟ ألا إنك لبكّاش من الطراز الأول أيها الرجل، وإلا فإننى أتساءل بدورى: ترى لو أن أحدنا عاش الآن فى الكهوف أو على أغصان الأشجار، وكان عليه أن يأكل اللحم نَيِّئًا ويشرب من البِرَك الآسنة، ويترك جسده دون أن يستره أصلا أو يستره على أحسن تقدير بأوراق الشجر، ويستخدم رجليه فى السفر والترحّل، ويدفع عن نفسه أخطار أعدائه من البشر والحيوانات بالظِّئْر، ويقضى الليل فى ظلام دامس أو فى ضوء القمر على الأكثر، ولا يعرف شيئا اسمه المدرسة أو الرعاية الصحية أو المذياع أو التلفاز أو الصحيفة، أكانت حياته فى ظروف العصر الحالى تنجح وتستمر؟ فهذا مِثْل هذا! إن حياة الرجل البدائى بهذا الوضع الذى وصفناه كانت ناجحة وموفقة إل حد بعيد، كما أن حياتنا بأوضاعها الحالية ناجحة وموفقة إلى حد بعيد، لكن ظروف الرجل البدائى لا تصلح الآن بتاتًا، مثلما لن تكون ظروف حياتنا الحاليّة صالحة بعد فترة من الزمن. والأمور كما نعرف نسبية، وهذه هى الحقيقة دون حذلقات تبشيرية مضللة!
ثم إن العرب لم يكونوا يكتفون بتسجيل القرآن كتابة، بل كانوا يحفظونه فى الصدور. أى أنه كان محفوظا حفظا مضاعفا، كما أنهم فى كل مرحلة من مراحل تدوينه كانوا يستعملون هاتين الطريقتين معا، ومن هنا كان ذلك الحفظ المذهل لكتاب الله الذى استمرت جماهير المسلمين حتى من غير العرب تحفظه وتتبرك بحفظه فى قلوبها على مدى القرون رغم وجود المصاحف، وهو ما لم وما لن يحدث لأى كتاب آخر. وكما قلت فالأمور نسبية، ومن هنا كان يكفى أن تقع عين الواحد منهم على الرسم الذى يراه صاحبنا ناقصا معيبا حتى ينطلق كالريح المرسلة بالخير، وهو ما يقع لنا الآن نحن الذين نحفظ القرآن أو للذين تعلموا على الأقل الرسم العثمانى المتَّبَع فى كتابة المصحف، إذ لا نجد أية مشكلة على الإطلاق فى قراءته دون خطإ رغم مخالفته فى بعض الأشياء لقواعد الإملاء المعمول بها حاليًّا وخلوّه تماما من علامات الترقيم التى نعرفها. ولا يقتصر هذا على العرب، بل يَشْرَكهم فيه المسلمون الأعاجم حتى لو لم يعرفوا من العربية شيئا آخر سوى قراءة القرآن. أما اختلاف الحكم الشرعى أحيانا بسبب هذا الرسم فهو مقصود، إذ القرآن قد نزل على ما يُعْرَف فى تاريخه بــ"السبعة الأحرف"، وهى طرق سبعة لأدائه من باب التوسعة على العرب الذين لم يكنوا قد اعتادوا جميعهم بكل مستوياتهم الثقافية على استخدام لغة موحَّدة بعد، بل كانت تتوزعهم لهجات تختلف قليلا أو كثيرا، إلى جانب اللغة الفصحى التى لا نظن أن كل عربى كان يعرفها بنفس الدقة والتعمق اللذين كان يعرف بهما لهجة قبيلته. وقد كان الخط العربى آنذاك بقلة قيوده مما يسهِّل تأدية القرآن بهذه الأحرف السبعة جميعها رغم ما يوجهه الكاتب لهذا الخط بسبب ذلك من انتقادات.
نشرت فى 8 سبتمبر 2015
بواسطة dribrahimawad
عدد زيارات الموقع
33,960