الترجمة: طبيعتها ومشاكلها- كُلَيْمَة
د. إبراهيم عوض
من المعروف أن المترجم بوجه عام يحاول الدخول إلى عقل إنسان آخر واقتناص خواطره وانفعالاته وأفكاره ودقائق معانيه. فأما فى مجال العلوم الطبيعية والرياضية فالأمر سهل إلى حد كبير ما دام المترجم يعرف اللغة التى يترجم منها جيدا ومتخصصا فى الميدان الذى يترجم منه، إذ العلوم الطبيعية والرياضية تنعدم فيها الفروق القومية والفردية والدينية وما إليها لأنها فكر محض، وليس فى مجال الفكر المحض فرصة للاختلافات بين الشعوب والأفراد والطوائف. أما فى مجال العلوم الإنسانية، وبالذات تاريخ الأدب والنقد والدراسات الدينية وما أشبه، إذ وراء النص المترجم ثقافة وسياق وخلفية خاصة به، وهو ما يجعل عملية الترجمة صعبة بعض الشىء، إذ أنَّى للمترجم أن يؤدى مهمته على وجهها الكامل، والسياق الذى يعمل فيه يختلف عن السياق الذى ألف فيه صاحب النص نصه، والخلفية الثقافية التى ينتمى إليها المؤلف تختلف عن خلفيته هو؟ أما فى ترجمة الإبداعات الأدبية فيزداد الأمر صعوبة وعسرا على ما نعرف جميعا.
وهذا كله إن لم يتعمد المترجم الخيانة تعمدا كى ينقل شيا آخر غير ما فى النص، وربما عَكْس ما فى النص، وكثيرا ما يحدث هذا لغرض فى نفس يعقوب، أو على الأقل: قد يقتحم ذلك الميدان اقتحاما دون أن يكون مؤهلا له فلا تكون معرفته باللغة التى يترجم منها كافية لتمكينه من أداء المطلوب كما هو الحال فى كثير ممن يتصدَّوْن لتلك المهمة الشاقة ولا يأخذون فى اعتبارهم حجم المشكلة التى يحاولون النهوض بأعبائها. وهذا أيضا لون من الخيانة. ويدخل فى الخيانة أيضا أن يقوم شخص ما بالترجمة دون أن يبذل الجهد المطلوب الذى يستطيعه لو أراد. كذلك كثيرا ما تكون معرفة المترجم باللغة التى يترجم لها ضعيفة حتى لو كانت لغته الأم، ومن ثم لا يستطيع أن يعبر التعبير السليم والدقيق عما يترجمه. وهذا إن كان يفهم لغة الأصل فهما سليما فى الأساس.
ويقول بروس ميتزجر، فى دراسة عوانها: "Trials of the Translator"، إن المترجم، بالغا ما بلغ الجهد الذى يبذله والتركيز الذى يقوم به، فإن النتيجة التى يصل إليها لا تأتى أبدا وفاق المطلوب ولا يمكن أن تحظى برضا الجميع، فضلا عن أن يكون الراضى هو المترجم ذاته إذا كان ذا حساسية وضمير. ذلك أن النص يحتوى فى كثير من الأحيان على عدد من الشِّيَات الدقيقة المتقاربة، وعلى المترجم أن يوازن بين تلك الشِّيَات ليختار منها ما يراه أقرب إلى ما فى النص. ومن ثم يصف الساخرون عملية الترجمة بأنها "فن القيام بالتضحية المناسبة".
والواقع أن ما يقوله ميتزجر صحيح. ومثالا على ذلك نأخذ عبارة "وضع فلان النقاط فوق الحروف"، الذى أخذناه من الفرنسية والإنجليزية، إذ تقول هاتان اللغتان: " mettre les points sur les i's\ to dot one's i's". فالمظنون أن العبارة العربية هى نفسها العبارتان الإنجليزية والفرنسية دون أدنى اختلاف، إلا أن نظرة متأنية إلى الأصل والترجمة ترينا أننا فى لغتنا نقول: "وضع النقاط فوق..." بينما يقول الأصل الإنجليزى: "نَقَّطَ"، أما الفرنسى فيقول مثلنا: "وضع النقاط فوق..."، لكن لا تتسرع، فكلتا العبارتين الأوربيتين تقول إن التنقيط قد وقع على "الآيات" (بتفخيم الألف والياء)، أى على حرف الـ"i"، على حين نشير نحن إلى أن التنقيط يقع على "الحروف" لا على حرف واحد، فضلا عن أننا نستعمل صيغة جمع الكثرة فنقول: "حروف" لا "أحرف" لأن الحروف المنقطة فى العربية كثيرة: الباء والتاء والثاء والجيم والخاء والذال والزاى والشين والضاد والظاء والغين والفاء والقاف والنون والياء، فى حين أن كُلاًّ من الإنجليزية والفرنسية لا تعرف سوى تنقيط الـ"i" والـ"j"، ومع ذلك فالعبارة لا تذكر إلا تنقيط الـ"i" فقط. يمكن أن يعلق أحد على ذلك بأن المهم هو أن المعنى العام واحد فى كل اللغات الثلاث، وهو أن صاحب العمل قد اهتم بجميع تفاصيل عمله، ولم يترك شيئا دون أن يتمه ويوضحه. لكن فات قائلَ ذلك أن المعنى العام ليس هو كل شىء، إذ هنالك الشيات الدقيقة والإيماءات الظليلة، التى تختلف هنا من لغة إلى أخرى لاختلاف العبارة المستخدمة.
وخذ كذلك هذا المثال الآخر، وإن دار الكلام فيه على لفظة مفردة لا عبارة ولا صورة بلاغية. وقد وقعت أحداثه فى شقتى بأكسفورد منذ أكثر من خمس وثلاثين سنة، وعلى يد فتاة صغيرة نسبيا دعوناها على العشاء مع أمها، التى كانت تدرس لنا الإنجليزية فى فرذر إيديوكيشن كولدج، إذ بعد أن أكلت هى وأمها هنيئا مريئا وشفعتا الطعام بما لذ وطاب من الفواكه والشراب (الحلال طبعا كما لا أحتاج أن أقول)، أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا، وعَنَّ لى، فى سياق لا أتذكر طبيعته الآن، أن أشير إلى زوج السيدة (والد الفتاة) بوصفه رجلا كبيرا يستحق الاحترام، وكان ناظر مدرسة، فاستخدمت كلمة "elderly" تبعا لما قاله لى صديق مسلم إسكتلندى كان يزورنا ويسهر معى كثيرا وأجد فى صحبته ودا ودفئا، وكنت قد استفسرت منه عن لفظة تستخدم للتعبير عن المعنى المذكور، فاقترح بعد عدة مداولات وأخذ ورد بينى وبينه تلك الكلمة، التى ما إن خرجت من فمى، وقبل أن أحاول استردادها وإعادتها من حيث خرجت، حتى استحالت الضيفة الصغيرة شيطانة تقذف بالحمم البركانية متهمة إياى بأننى قد أسأت إلى والدها إساءة بالغة لا تصح ولا تليق. تقصد أنى جعلته رجلا عجوزا. وعبثا حاولتُ، وأنا فى غاية الحرج، أن أفهمها سر اللَّبْس المضحك، وتدخلت أمها تهدئ من ثورة ابنتها، ولكن ليس بالقوة الكافية.
والواقع أننى لا أزال حتى الآن متحيرا لا أستطيع أن أجزم بالكلمة التى تعبر عن المعنى المراد. ربما لأن الإنجليز لا يعرفون هذا المفهوم أصلا. وأحيانا أرى أن أقرب الكلمات إلى هذا المعنى هى "senior". ومع ذلك لا أخفى عليكم أننى كلما فكرت فى استخدامها سرت فى جسدى قشعريرة، وتمثلت أمام عينى تلك الشيطانة النزقة، فأخنق الكلمة فى حلقى. منها لله! لم يثمر فيها ما أكلتْه عندنا من السمك الغريض بأطباقه المختلفة وكفتته اللذيذة التى تأكل أصابعك وراءها، والأرز الشهى الذى يجعل ريقك يسيل من مسافة أميال، والسَّلَطَات التى تلتهمها بعينيك قبل فمك، وغير ذلك من الأطعمة الجميلة التى وضعتْ فيها زوجتى كل اهتمامها وذوقها والتى تناولناها على ضوء الشموع لانقطاع التيار الكهربى فى تلك الليلة للمرة الأولى والأخيرة هناك، لتأتى هذه البنت الحمقاء فتفسد كل شىء، غير مراعية أنها ضيفة فى بيتنا ولا أننا غرباء عن لغتهم، فوقوع مثل ذلك الخطإ من ثم وارد، وبقوة.
والعجيب أن المدرِّسة الضيفة كانت قد اصطحبت ابنتها معها إلى المدرسة أكثر من مرة قبل ذلك وأوكلت إليها مهمة تصحيح كراساتنا. فأين ذُهِب بعقلها إذن حين ركبها العفريت فى بيتنا؟ لو كانت هذه البنت تقيم فى مصر لعملوا لها زارا ودقوا طول الليل على رأسها بالدفوف إلى أن يطردوا من جسدها ذلك العفريت الشرير الذى يركبها! والشاهد فى هذا هو أن اختلاف الثقافات يصعِّب من مهمة المترجم كما رأيتم، وقد يجعل من استعمال كلمةٍ مكانَ أخرى مشكلةً فظيعةً يمكن أن تؤدى إلى أوخم العواقب رغم سلامة النيات.
على أن هذا كله إنما يُقْصَد به الترجمات التى يحاول أصحابها إصابة الحق، ثم هم قد يصيبون الحق مشكورين، وقد يخطئونه معذورين. بَيْدَ أن الأمر لا يقف عند هؤلاء المجتهدين، إذ هناك من يلج باب الترجمة وفى نيته العبث والإفساد عامدا متعمدا. ومن هنا قلت إن الرجوع إلى الأصل العربى أو إلى أكبر عدد ممكن من الترجمات أمر جد ضرورى لأن المقارنة بين هذا وذاك أحرى أن تدله على الصواب، وإلا وقع الإنسان فى براثن المضلين العابثين.
ويظن بعض الناس ممن لا خبرة لهم فى هذا المجال، كما كنت أظن قبلا قبل أن تستحصد خبرتى، أن من البشر من يمكنهم أن يأتوا بالترجمة على أكمل وجه بحيث لو أن المؤلف الأصلى أتيح له أن يكون ابن اللغة التى تُرْجِم كتابه إليها وكتب دراسته هو نفسه بها لما كانت سوى ما خطته يدُ مَنْ تَرْجَم ذلك الكتاب. وإنى لأعلنها من الآن صريحة فأقول إننى أنا نفسى لا أستطيع أن أجزم البتة بأن أية ترجمة أؤديها يمكن أن تخلو تماما من الأخطاء، وإلا كنت كاذبا. صحيح أن الأخطاء تتفاوت ما بين مترجم وآخر: فهناك من تقل أخطاؤه إلى أقصى درجة ممكنة، وهناك من تفحش أخطاؤه إلى درجة مخزية لا يمكن التسامح معها... وهكذا. وإذا كانت الأخطاء فى مجال الترجمة ضربة لازب فليس معنى هذا أن نغض الطرف عن أية أخطاء، بل لا بد من التنبيه والتحذير إليها حتى لو عرفنا أننا سوف نخطئ مثلها أو حتى أسوأ منها. ذلك أن النقد هو لون من الوان التعاون الفكرى بين الناقد والمنقود. أعلم تماما أننا جميعا، مهما كنا واسعى الأفق، نضيق صدرا بمن ينتقدنا، ونحسب أنه يبغى الإساءة إلينا. لكن علينا أن نتحلى بالصبر ونجتهد فى قبول تجرع الكأس مهما تكون مرارتها، فهذا جزء من الحياة، التى لا يمكن أن تصفو لأحد كائنا من كان. ثم إن الانتقاد من شأنه تقليل الإهمال والأخطاء إلى أقل درجة محتملة فى ظروفنا هذه، إذ الكاتب المنقود يعلم سلفا أنه معرض للمؤاخذة وأنه لا أحد أكبر من النقد وأنه إن أهمل وتكاسل أو سها فلم يضبط أموره فلسوف تكون العقابيل مزعجة، بل قد تكون مخزية، والعياذ بالله!