رفاعة رافع الطهطاوى
(1)
د. إبراهيم عوض
وُلِد رفاعة رافع الطهطاوى عام 1801م فى طهطا، وتلقى تعليمه الأول فيها، ثم انتقل إلى القاهرة وسِنُّه ستة عشر عاما ليلتحق بالأزهر الشريف حيث ظل يدرس خمس سنوات أصبح بعدها من مشايخه. وفى عام 1826م أوفد محمد على بعثة علمية كبيرة إلى باريس وعُيِّن رفاعة، بناء على اقتراح أستاذه السابق الشيخ حسن العطار، إماما وواعظا لهذه البعثة. وهناك درس مع رفاقه اللغة الفرنسية والمنطق والتاريخ والحساب والهندسة وغير ذلك من العلوم. وكان، رحمه الله، يبذل قُصَارَى جهده فى الدرس ويسهر الليالى غير عابئ بما يسببه هذا لعينيه من إرهاق وأذى، كما كان على صلة ببعض المستشرقين الفرنسيين. وكانت حصيلة جهوده فى باريس طوال السنوات الخمس التى قضاها هناك هى ترجمته اثنتى عشرة رسالة فى مختلف العلوم كالجغرافيا والمعادن والتاريخ والأخلاق والهندسة والفلك والسياسة والطب وغيرها، فضلا عن تأليفه كتاب "تخليص الإبريز فى تلخيص باريز"، الذى سجل فيه أهم ما شاهده وسمعه وعمله وفكر فيه منذ أن تحركت البعثة من القاهرة إلى أن اجتاز أفرادها الامتحان النهائى وعادوا إلى أرض الوطن.
وبعد رجوعه إلى مصر شرع رفاعة يترجم ويراجع ما يترجمه غيره من الكتب التى كانت تحتاجها النهضة العلمية المصرية، فى الوقت الذى يقوم أيضا بالتدريس فى مدرسة الطب أو مدرسة الطوبجية (أى المدفعية) أو مدرسة التاريخ والجغرافية، أو فى مدرسة الألسن، وهى المدرسة التى اقترح الطهطاوى إنشاءها وأصبح مديرا لها. وكانت نتيجة ذلك كله ترجمة مئات الكتب فى مختلف العلوم والفنون. كذلك أُسْنِد إليه تنظيم صحيفة "الوقائع المصرية" من جديد. وفى عهده نالت العربية فى تلك الصحيفة الاهتمام اللائق بها، وكانت قبلا تحتل المرتبة الثانية بعد التركية، كما اتسع صدر "الوقائع" للمقالات الأدبية والعلمية بعد أن كانت مقصورة على الأخبار الرسمية.
وفى عهد عباس الأول حفيد محمد على باشا أُغْلِقَتْ مدرسة الألسن مع كثير من المدارس الأخرى، وأُرْسِل رفاعة إلى السودان مع بعض زملائه لتأسيس مدرسة هناك. ورغم ما كان يشعر به فى تلك البلاد من مرارة وحزن لفراق أسرته وعدم مواتاة الظروف لأداء مهمته التى أُرْسِل من أجلها وإحساسه فى ذات الوقت أن هذه المهمة ليست هى السبب الحقيقى لإرساله إلى القطر الشقيق، بل الرغبة فى التخلص من وجوده بمصر، فإنه قد بذل ما استطاع من جهد حتى أنشئت المدرسة المطلوبة وتخرج عليه منها بعض الطلاب، بالإضافة إلى ترجمته رواية سياسية أخلاقية كتبها قسيس فرنسى يُدْعَى فنلون بعنوان "مواقع الأفلاك فى وقائع تليماك".
ولما مات عباس وخَلَفه سعيد عاد رفاعة إلى مصر وتقلد بعض المناصب العلمية والإدارية المشابهة لما كان قد تولاه من قبل. وفى عهد إسماعيل اتجهت النية إلى فتح مدرسة للبنات، لكن هذا الأمر أخذ وقتا لأن الرأى العام كان يعارض بقوةٍ تعليم الفتيات، إلى أن افتُتِحَت فعلا أول مدرسة نسائية سنة 1873م بعد أن مهد رفاعة السبيل إلى ذلك بإصدار كتاب "المرشد الأمين لتربية البنات والبنين"، الذى دافع فيه عن حق المرأة فى التعليم وأكذ أنها لا تقل ذكاءً ولا استعدادًا لممارسة كثير من الأعمال عن الرجل.
كذلك اشتغل رفاعة فى عهد إسماعيل محررا بمجلة "روضة المدارس"، التى أنشأها آنذاك على مبارك والتى كان يكتب فيها أيضا جماعة من كبار الكتاب والأدباء، مثل عبد الله فكرى والشيخ حسين المرصفى ومحمود الفلكى ومحمد قدرى وصالح مجدى والشيخ حمزة فتح الله. وإلى جانب هذا ألف الطهطاوى عدة كتب هامة أحدها عن تاريخ مصر القديم بعنوان "أنوار توفيق الجليل فى أخبار مصر وتوثيق بنى إسماعيل"، والثانى فى سيرة المصطفى عليه السلام بعنوان "نهاية الإيجاز فى سيرة ساكن الحجاز"، والثالث باسم "مباهج الألباب المصرية فى مناهج الآداب العصرية"، والرابع فى تبسيط النحو والصرف وعرضهما بطريقة عصرية، وعنوانه: "التحفة المكتبية لتقريب اللغة العربية"، علاوة على تعريب رواية القس فنلون المارّ ذكرها، و"تخليص الإبريز فى تلخيص باريز" و"المرشد الأمين لتربية البنات والبنين" اللذين أشرنا إليهما آنفا، وكذلك أشعاره الكثيرة التى جُمِعَتْ بعد ذلك فى ديوان...إلخ. ومات رفاعة بعد حياة حافلة سنة 1873م.
وكان أبوه قد مات وهو لا يزال طفلا فربته أمه وأنفقت على تعليمه. وكان فى شبابه فقيرا حتى إنه، وهو طالب بالأزهر، كان يعطى دروسا خصوصية لأولاد بعض الكبراء للاستعانة بما تُدِرّه عليه فى نفقات معيشته، لكنه عند مغادرته الدنيا كان له من الأطيان ألف وستمائة فدان: بعضها هبة من حكام مصر، وبعضها اشتراه بنفسه، علاوة على العقارات وغيرها. وكان ينتمى من جهة أبيه إلى الحسين بن على، ومن جهة أمه إلى الأنصار الخزرجيين، كما كان بين أخواله عدد من العلماء والصالحين.
ويُعَدّ رفاعة رائد النهضة العربية الحديثة، إذ له عدد من الإنجازات الثقافية والأدبية لم يسبقه إليه سابق: فهو مثلا أول من كتب عن فرنسا بل أول من كتب عن بلد غربى من أدباء العرب ومفكريهم فى العصر الحديث، على الأقل: من بين مشاهيرهم. لقد عرّف المصريين والعرب بما خبره فى بلاد الفرنسيين من العادات والتقاليد والإدارة والسياسة والثقافة والفنون وسائر مظاهر الحضارة. وهو، فى هذا التعريف، لم يكن بارد القلم يصف ما شاهده فحسب، بل أراد أن يشعل هذه النار المقدسة التى لا تَذَر مِنْ وَضْعٍ من أوضاع التخلف إلا أرادت أن تجعله رمادا وتطيره فى الهواء ليفسح الأرض للتقدم والحضارة. إن الرجل لم يكد يترك شيئا رآه أو سمعه إلا وسجله تفصيلا، وبعينٍ يَقْظَى وعقلٍ واعٍ وقلبٍ يغار على أمته وحاضرها ومستقبلها. وهو، فى كل ذلك، يقارن بين ما عندنا وعندهم ويحكم لهم أو لنا دون تعصب لأى من الطرفين أو عليه، بل فى عدل وثقة إلى حد بعيد، يساعده فى هذا ذكاؤه الشديد وإخلاصه العميق وثقافته العربية الإسلامية الراسخة وحبه لوطنه وأمته وعقله المتفتح وعينه اللاقطة وأذنه المرهفة وقلمه السيال وطاقته العجيبة فى العمل والسهر.
إنه يصف الشوارع ونظافتها وما فيها من أشجار وأنوار، فلا يفوته مثلا أن يقف عند العربات التى ترشها فى أوقات الحر فى أسرع وقت ممكن وبأقل جهد وتكلفة. وعربة رش الشوارع بالنسبة لنا الآن هى من الأمور العادية التى لا تثير عندنا أدنى دهشة، أما بالنسبة لرفاعة فقد كانت شيئا باهرا: "فإن أهل باريس مثلا سهلٌ عندهم رشّ ميدان متسع من الأرض وقت الحر، فإنهم يصنعون دَنًّا عظيما ذا عجلات ويُمَشّون العجلة بالخيل. ولهذا الدَّنّ عدة بزابيز مصنوعة بالهندسة تدفع الماء بقوة عظيمة وعزم سريع، فلا تزال ماشية والبزابيز مفتوحة حتى ترش قطعة عظيمة فى نحو ربع ساعة لا يمكن رشها بجملة رجال فى أبلغ من ساعة، ولهم غير ذلك من الحيل. فمصرنا أولى بهذا لغلبة حرها"(1).
كما يدخل البيوت ويعطينا صورة مفصلة لها، واصفا الأرضيات والجدران والسقوف والطلاء الذى تُطْلَى به، والستائر التى تعلَّق على النوافذ، والسجاجيد والأبسطة المفروشة فى الغرف، والصور والتحف التى تزين الحوائط، والكتب الموجودة على الأرفف، ودَوْر ربة البيت فى المنزل. وهو لا يكتفى بوصف المنازل العادية، بل يصف أيضا، وبنفس التفصيل، بيوت عِلْية القوم والقصور الملكية، مبرزا أثناء ذلك اهتمام القوم بالنظافة، التى من الواضح أن بلادنا كانت تفتقر إليها حسبما يظهر من كلامه بين الحين والحين(2). ولا ينسى رفاعة أن يخصص فصلا كاملا لطعام أهل باريس وشرابهم وعاداتهم فى ذلك، كما لا يفوته الحديث عن متنزَّهاتها ومسارحها متريّثًا عندها بالشرح والتوضيح، إذ لم يكن للمصريين ولا للعرب بها عهد(3).
وبالمثل يقف عند المؤسسات العلمية والثقافية من الأكادبميات والمدارس ودُور الكتب والمراصد الفلكية والصحف والتقاويم(4)، وكذلك الناحية الصحية والطبية التى أفاض القول أيضا فيها ثم ختمها بإيراد نُبَذٍ مهمةٍ من قانون الصحة لتكون فى خدمة أهل بلده. وهى عبارة عن وصايا ينبغى مراعاتها لتجنب الأمراض، وأخرى يتّبعها الإنسان حين الإصابة بهذا المرض أو ذاك كالزكام والتسمم والسكتة وداء الكلب والجدرى والغيبوبة...إلخ(5). وكما ترجم رفاعة هذه النُّبَذ الطبية ترجم أيضا مواد الدستور الفرنسى الذى ينظم العلاقة بين الأمة وحكامها، ويرسى أصول الحرية والتقدم السياسى والإدارى والفكرى، ويبين للمواطنين واجباتهم وحقوقهم. وقد أراد بهذا العمل إطلاع أمته على الفرق بين أوضاعها السياسية وبين نظيرتها لدى الأمم المتقدمة التى يجب علينا أن نعمل بكل طاقتنا للحاق بها إن أردنا أن يكون لنا مكان كريم تحت الشمس. كما فصَّل القول فى شرح النظام السياسى الذى يُحْكَم الفرنسيون بمقتضاه وأركان ذلك النظام من ملك وأحزاب ونواب ووزراء(6).
وقد خصص فى أوائل الكتاب فصلا ذكر فيه العلوم التى تنقص مصر ويهتم بها الأوربيون اهتماما بالغا لأنها أساس عظيم من أسس التقدم والقوة الرفاهية، وهى الرياضيات والجغرافيا والتاريخ والرسم والسياسة والعلوم العسكرية والاقتصاد والميكانيكا وهندسة الرى والطب والزراعة والترجمة وغير ذلك(7)، مما أصبح يدرسه الطلاب العرب الآن، وإن كنا لا نزال متخلفين كثيرا عن أوروبا وأمريكا لما يعيبنا من كسل وقلة ثقة بالنفس وافتقار إلى التنظيم والتدقيق والإتقان والمبادرة الخلاقة التى تقتحم المجهول وتتوصل إلى الاكتشافات والاختراعات...إلخ.
إن رفاعة، حينما ذهب إلى بلاد الفرنسيس، قد وضع نُصْبَ عينيه منذ أول لحظة أن ينقل إلى بنى قومه صورة لما عند هؤلاء الناس ليكون ذلك دافعا للأمة إلى الإفاقة من الغفلة التى هى فيها والاجتهاد فى اللحاق بركبهم واستعادة أمجاد الماضى العظيم(8). لقد ذهب الرجل مع البعثة العلمية إلى باريس للوعظ وإمامة الصلاة، إلا أنه لم يكتف بأداء هذه المهمة على جلالها. لقد كان نافخ بوق النهضة والرائد الأول فى سلسلة المصلحين العرب فى العصر الحديث.
كذلك فرفاعة هو أول عربى ألف كتابا فى التربية الوطنية هو كتاب "المرشد الأمين لتربية البنات والبنين"، الذى تحدث فيه عن مفهوم الوطن والوطنية، وكان مفهوما جديدا فى ذلك الوقت. ولا شك أن سفر رفاعة إلى فرنسا واطّلاعه على الفكر السياسى الحديث هو السبب الرئيسى فى اتجاهه هذا. ويمكن أن نضيف إليه الاكتشافات الأثرية التى بدأت مع الحملة الفرنسية وأزاحت كثيرا من الأستار عن تاريخ مصر القديم وحضارتها الفرعونية، مما بعث الفخار فى نفوس المصريين، وكذلك جهود محمد على من أجل إنشاء دولة قوية عصرية فى مصر. ونحن مع رفاعة فى وجوب الدعوة لحب الوطن وبذل الجهود الصادقة لترقيته وتبويئه مكانا عاليا فى العالمين وقيام المواطنين بواجباتهم نحوه فى السلم والحرب وتعاونهم كالبنيان المرصوص فى هذا السبيل. ذلك أن عزة المواطن الحقيقية إنما تنبع أولاً من عزة وطنه والأمة التى ينتمى إليها.
ومن واجبات المواطن عند رفاعة أن يفدى وطنه بكل ما يملك ويدفع عنه كل معتد أثيم مثلما يصنع مع فلذات أكباده، وأن يحترم القانون ويتمسك دائما بالفضيلة والشرف، وأن يحب لإخوانه فى الوطن ما يحبه لنفسه فيجتهد فى تحقيق مصالحهم ما وَسِعَه ذلك. وفى مقابل هذه الواجبات هناك حقوق له على الوطن فلا يُعْتَدَى على حريته، بل تُحْتَرَم حقوقه المدنية التى كان الملوك قديما لا يبالون بها فيفعلون بالمواطن ما يشاؤون دون أى تعقيب أو تثريب(9).
كذلك أفاض رفاعة فى الكلام عن التربية والتعليم والتمدن، مبينا أن التربية تشمل الجسم والصحة والعقل والأخلاق والدين جميعا، وأن التعليم أوسع مما كان يُظَنّ قبلا، إذ يضم، إلى جانب علوم الدين، الفنون والصنائع المختلفة والعلوم الطبيعية(10)، وأن للمنزل، كما للمدرسة، دورا فى ذلك، وأن الكتاب خير صديق، وأنه لا مدنية ولا تقدم دون السعى وراء العلم والتنافس فيه وفى وسائل تحصيله ونشره، وأنه لا بد من العلم من أجل الدنيا والآخرة معا. كذلك اهتم رفاعة بتربية أبناء الملوك والسلاطين فأوجب ألا يتولى تعليمَهم إلا من تخلق بالأخلاق الكريمة وعرف آداب الملوك وعِلْم تهذيب الأخلاق والسلوك، وأن يُلَقَّنوا علوم الإدارة والسياسة والرئاسة ليُحْسِنوا تدبير الحكم حين يتولَّوْن زمامه، علاوة على تعليمهم ما يتعلمه أبناء المواطنين العاديين(11).
وفى ذلك الكتاب أيضا يتحدث الطهطاوى عن الإنسان وما يتميز به عن الحيوان وسائر المخلوقات من عقل، تلك النعمة الإلهية التى استطاع البشر بها أن يعوّضوا ما تتمتع به الوحوش من البطش، والطيور من التحليق، والأسماك من الغوص فى الماء...إلخ، والتى كفلت لهم السيادة على الطبيعة حَيِّها وجامِدها وهيّأتهم للتمدن وعمارة الأرض على اختلاف أجناسهم وألوانهم وغير ذلك من العوارض التى تعرض لهم بسبب ظروف البيئة والمناخ ولا دخل لها فى جوهر إنسانيتهم، إذ جميع البشر من هذه الناحية شىء واحد، وإنما يختلف هذا الإنسان عن ذاك فى الكسل أو النشاط وما أشبه(12). وهنا يحمل رفاعة على بعض المتصوفين وإخلادهم للتعطل واعتمادهم على الآخرين فى طعامهم وشرابهم وأمور معاشهم، داعيا إلى نفض الخمول ونبذ التواكل وإلى ضرورة الأخذ بالأسباب(13).
ومما عالجه فى هذا الكتاب كذلك موضوع الرجل والمرأة وكيف أن كلا منهما يكمل الآخر ويشبهه فى كل شىء تقريبا، إذ لا فرق بينهما فى تركيب الجسم أو فى الاستعداد الفطرى للتعلم والتمدن إلا فى أضيق الحدود مما استتبع أن ينفرد كلاهما ببعض الميزات التى لا تتوفر لرفيقه: ففى المرأة مثلا لينٌ وحياءٌ وصبرٌ على الآلام أكثر مما فى الرجل، كما أنها تبلغ الحُلُم أسرع منه، وغيرتها أعنف. أما الرجال فأكثر جراءة، وفيهم خشونة ومقدرة على حمل الأثقال واستعداد للرئاسة(14). وبالنسبة إلى العلم فكل من الجنسين مهيأ لولوج ميدانه، لا يتميز الرجل عن المرأة فى شىء من ذلك. ولهذا يطالب الطهطاوى بضرورة تعليم البنات كالأولاد سواء بسواء، مؤكدا أن السبب فيما كان المجتمع يأخذ به المرأة من حرمانها من تعلم القراءة والكتابة هو الحَمِيّة الجاهلية التى ترى أن تعليم البنت يفسد دينها وأخلاقها، مع أنه فى الواقع يرقّيها ويزيد نصيبها من الدين والخلق الكريم ولطف الطبع ورقة النفس وتهذيب السلوك، ويسعدها فى زواجها ويقربها من التفاهم مع شريك حياتها ويساعدها على حسن تربية أبنائها(15).
عملٌ واحدٌ عند رفاعة يفترق فيه الرجال عن النساء هو الـمُلْك والقضاء، فلا يحق للمرأة، حسبما تقضى الشريعة، أن تتولى من ذلك شيئا. أما بالنسبة للحالات التى تولت فيها المرأة مقاليد الحكم مثل بلقيس وسميراميس والزبّاء وكليوباترا وشجرة الدر وإليزابث (فى إنجلترا) وكاترين (فى روسيا) ومارى تريز (فى فرنسا) وغيرهن فذلك أمر شاذ لا يُعَوَّل عليه. وهو يرى أن للنساء مع ذلك سلطانا على الرجال عظيما هو سلطان الدلال بما أودع الله فى قلوب الرجال من محبتهن والعمل على الاستجابة لمطالبهن(16)، فهنّ بهذا سلاطين على السلاطين.
ومن أُولَيَات الطهطاوى أيضا تأريخه لمصر القديمة تأريخا عصريا يعتمد فى المقام الأول على الكتب الأوربية التى أُلِّفَتْ بعد اكتشاف حجر رشيد وفكّ رموز اللغة الهيروغليفية والولوج إلى تاريخ الفراعنة من بابه، إلى جانب ما كتبه الإغريق والرومان عن الفترة التى خضعت فيها مصر لسلطان أثينا وروما بحيث جاءت كتابته فى هذا الموضوع كتابة علمية إلى حد بعيد لا مجرد حكايات تُرْوَى بغير تمحيص فتختلط فيها الأخبار الصحيحة القليلة بالخرافات والأساطير والاختراعات المتخَيَّلة التى لا أصل لها.
وقد كان رفاعة واعيا بهذه النقطة فى تأريخه لمصر، إذ قال فى مقدمة كتابه: "أنوار توفيق الجليل فى أخبار مصر وتوثيق بنى إسماعيل"، الذى ألفه لهذا الغرض: "هذه... تواريخ حقائق ساطعة الأنوار... اقتطفتها من الكتب العديدة... عربية كانت أو غير عربية، متجنبا فيها الأقاويل غير الـمَرْضِيّة مما يظهر بعرضه على ميزان العقل أنه من مَحْض الخرافات أو مما تَوَلَّع به الإخباريون والقُصّاص من اختراع الأباطيل والخزعبلات أو مما توهَّمه أرباب الأوهام الفاسدة من العجائب التخيلية التى بدون فائدة، إذ كثير مِنْ كُتُب السِّيَر مشحون بخوارق العادات، ومملوء ببوارق خيال الاعتقادات، مما ليس بمعجزة ولا كرامة، والجزم به فى مقام التاريخ الأرفع مما يخفض مقامه"(17). وقد تكون إيماءته هنا إلى بعض كتّاب العرب القدماء الذين كانوا يشيرون عَرَضًا إلى شىء من تاريخ الفراعنة فيخلعون على حكامهم أسماء عربية صرفة ويوردون حوادث وتفسيرات ما أنزل الله بها من سلطان. ولهم العذر فى ذلك، فقد كانت أبواب ذلك التاريخ ونوافذه مغلقة غلقا محكما لا سبيل إلى النفوذ منها لأن مفتاح فهم هذا التاريخ هو اللغة المصرية القديمة والإغريقية واللاتينية، ولم يكن أجدادنا يعرفون هذه اللغات، وإنما كانوا يرددون الحكايات المتداوَلة القائمة فى معظمها على الخيالات والأوهام، وبخاصة أنه لم يرد فى القرآن الكريم شىء يُذْكَر عن حضارة الفراعنة أو تاريخهم أو حكامهم، اللهم إلا طرفا من أخبار الفرعون الذى اضطهد بنى إسرائيل. ومعروف أن رفاعة قد ترجم بنفسه أو من خلال تلاميذه فى مدرسة الألسن وغيرها عددا كبيرا من كتب التاريخ والجغرافيا الحديثة من تأليف الأوربيين، والفرنسيين بوجه خاص.
وفى كتابه عن تاريخ مصر القديمة إشارات إلى هذا، مثل قوله: "وقد أصبح الآن عند أرباب العارفين الباحثين عن أحوال مصر أن سبب فيضان النيل الدورى كثرة الأمطار السنوية بين المدارين دون سبب آخر..."(18)، وقوله فى موضع آخر: "وقد تبين أن بانى أكبر أهرام الجيزة أخيوبس(19)، وبانى الهرم الثانى خفرم(20) أخو أخيوبس المتقدم، وبانى الثالث موقرنوس(21) الموجود بعدهما. اشتهر أن هؤلاء الملوك كانوا قبل مبعث سيدنا إبراهيم الخليل، فعلى هذا يكون وجودهم فى القرن التاسع والعشرين قبل الميلاد... ومنه يُعْلَم تاريخ بناء الأهرام اعتمادا على هذه التحقيقات الجديدة"(22)، وقوله فى موضع ثالث: "وقد ظهر لبعض علماء الآثار من الاستكشافات الجديدة القريبة أنه..."(23)، وقوله فى موضع رابع: "وقد ذكر المؤرخ مانيطون أن عِدّة ملوكها (أى ملوك الأسرة الثالثة عشرة) كانوا ستين ملكا...، وكذلك يؤخَذ من الاستكشافات الجديدة بناحية صان ومن تمثال عظيم صار الاطلاع عليه بجزيرةِ أرجو بالقرب من دنقلة... أن المملكة المصرية فى أيام هذه الدولة اتسعت حدودها كما كانت عليه فى مدة الدولة الثانية عشرة"(24)، وقوله أيضا: "بهذه الدولة (يقصد الدولة اليونانية التى حكمت مصر القديمة) انتهت سلسلة الدول المصرية العائلات التى ذكرها المؤرخ مانيطون فى تاريخ مصر. فمن هذه الدولة وما يُذْكَر بعدها إلى فتوح الإسلام ليس الاعتماد فيه إلا على ما يُفْهَم من آثار العمارات مما هو مكتوب عليها مع ما يُضَمّ إلى ذلك مما يستفاد من كتب اليونان والرومانيين المتداوَلة عند الأمم وما تُرْجِم منها فى الألسن المختلفة"(25). أما إذا لم يجد فيما كتبه المؤرخون المدققون شيئا فى الموضوع الذى يتحدث عنه فإنه يذكر ذلك بكل وضوح وتجرد كما فى قوله: "وأما الدولة المصرية الرابعة عشرة فمجهولة الحال لا يعلم المؤرخون فى حقها شيئا"(26)، وكقوله عن الهكسوس: "وأصل هؤلاء القبائل الرعاة مجهول: فبعضهم يجعلهم من الأمة العبرانية، وبعضهم يقول إنهم تتارٌ وتراكمةٌ أغاروا على بلاد مصر لخصوبتها، وبعضهم يجعلهم صُورِيّين وكنعانيين. والأقرب إلى العقل أنهم من جهة الحجاز وبلاد الشام القريبة من مصر"(27).
ومن سِمَة المنهج العصرى فى تأليف هذا الكتاب أيضا أن صاحبه لم يقتصر على الجانب السياسى من تاريخ مصر، بل اهتم كذلك بالجوانب الاجتماعية والثقافية وما إليها كما هو الحال فى الصفحات التى تناول فيها "أقدمية مصر فى التقدم والتمدن" و"ترتيب مملكة مصر فى القديم وسياستها وأخلاقها والمعارف"(28)، و"فيما شوهد من الآثار القديمة بمصر"(29)، وكذلك الصفحات التى يخصصها، عند الفراغ من تأريخه لكل دولة من الدول التى تعاقبت على حكم مصر، للحديث عما ترتب على حكم هذه الدولة من نتائج(30).
إلا أن الطهطاوى مع ذلك لم يستطع الخروج عما كان يفعله بعض مؤلفى العرب القدامى من إهداء كتبهم إلى الخليفة الفلانى أو الوزير العلانى، إذ أهدى كتابه ذاك إلى ولى العهد آنئذ توفيق بن إسماعيل، مع الثناء المفرط عليه قائلا إنه قد بلغ غاية الجزالة والفصاحة فى معرفة اللغات المختلفة وممارستها، وله حظ وافر فى التاريخ والجغرافيا يسامى به أبناء الملوك، وخطه سلاسل الذهب النُّضَار(31).
وقد شفع رفاعة كتابه هذا فى تاريخ مصر بكتاب تاريخى آخر خصصه لسيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم سماه: "نهاية الإيجاز فى سيرة ساكن الحجاز"، وهو كتاب كبير الحجم، إذ يقترب من ثمانمائة صفحة، تناول فيه كل ما يتعلق بحياة النبى عليه السلام. إلا أنى لاحظت أنه يخلو تماما من مناقشة ما كتبه الغربيون فى السيرة العطرة مع أنه اختلط بالمستشرقين الفرنسيين فى باريس كما نعرف ودارت بينه وبينهم مناقشات لا أظن إلا أنها تعرضت، فيما تعرضت له، إلى الإسلام وكتابه ونبيه. ومن المؤكد أنه قرأ بعض كتبهم فى هذا الصدد(32). فكيف لم يتعرض لشىء من هذا لَدُنْ تأليف كتابه فى السيرة النبوية؟ ولقد رجعتُ، فى هذا الكتاب، إلى الموضوعات التى كان من الممكن أن يفترصها ليتعرض لما يقوله الغربيون فى صاحب السيرة العطرة عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام، فلم أجده أشار من قريب أو من بعيد إلى ما كتبه أحد من القوم فى هذا الصدد.
كذلك رأيته، رحمه الله، يردد بعض ما جاء فى كتب السيرة المتأخرة مما لا وجود له فى المؤلفات المبكرة كسيرة عروة بن الزبير والزهرى وابن إسحاق، مثل حديثه عن تصدع إيوان كسرى، واستشهاده ببعض أشعار الصوفية المغالية فى مديحه عليه السلام(33) مما لا يتمشى مع المنهج الجديد فى كتابة السيرة المصطفويّة. كما أنه، على عكس كثير من كتّاب السيرة فى العصر الحديث ممن جاؤوا بعده، قد دخل موضوعه مباشرة دون أن يقدم له بوصف جغرافية الجزيرة العربية والحديث عن تاريخها فى الجاهلية وما إلى ذلك مما نجده فى "حياة محمد" للدكتور محمد حسين هيكل و"ثورة الإسلام" لمحمد لطفى جمعة و"مَطْلع النور" لعباس محمود العقاد و"محمد خاتم المرسلين" للدكتور شوقى ضيف وغيرهم ممن يتبعون الأسلوب الحديث عند كتابة السيرة النبوية، فضلا عن المستشرقين الذين ترجموا له صلى الله عليه وسلم.
والطهطاوى كذلك هو أول مصرى يترجم رواية غربية، أقصد رواية فنلون: "Les Aventures de Télémaque"، التىسماها فى ثوبها العربى: "مواقع الأفلاك فى وقائع تليماك"، وهى رواية سياسية أخلاقية تتوسل إلى غرضها بأساطير الإغريق وخرافاتهم، فهو رائد فى هذا المجال أيضا. وكان قد قام بهذه الترجمة فى السودان أيام أن بعثه الخديوى عباس الأول على رأس طائفة من رجال التعليم المصريين لافتتاح مدرسة هناك(34). وتكمن أهمية عمل الطهطاوى هنا فى أنه أعاد الاهتمام بالإبداع القصصى بعد أن بَعُدَ العهد بــ"رسالة الغفران" و"رسالة حى بن يقظان" و"رسالة التوابع والزوابع" وأمثالها. وقد كتب، رحمه الله، مقدمة لتلك الترجمة ربط فيها بين رواية فنلون والمقامات، إذ قال إنها "من الموضوعات على هيئة المقامات الحريرية فى صورة مقالات"(35). كما أنه قد سمّى كل فصل من فصولها: "مقالة"، فقال فى رأس كل منها: "المقالة الأولى، المقالة الثانية، المقالة الثالثة..."، وهو ما يدل على أنه لم يكن يرى فى "الرواية" جنسا أدبيا جديدا لم يكن للعرب به معرفة. وهذا أيضا رأى معظم النقاد والقصاصين المصريين فى هذا الفن فى بدايات النهضة الأدبية كما وضحتُ قبلا فى هذا الكتاب.
ويلفت نظرَ القارئ المتمرس بكتابات الطهطاوى السابقة وأسلوبه فيها أنه قد عَدَلَ فى تعريب رواية القَسّ الفرنسى عن الأسلوب الـمُرْسَل الذى كان يصب فيه تلك الكتابات، إلى الأسلوب البديعى المسجوع. وهو أمر غريب لم أكن أفهم سره فى البداية، لكنْ خطر لى بعد ذلك أنه ربما أراد أن يجرى على أسلوب المقامات، التى رأى أنه لا فرق بينها وبين رواية فنلون حسبما مر ذكره قبل قليل، إذ المعروف أن أسلوب المقامات هو أيضا أسلوب يزخرفه السجع والمحسنات البديعية. وإلى القارئ المثال التالى على أسلوب كاتبنا فى ترجمة الرواية المومإ إليها: "فأجابه منظور بقوله: الحب يُعْمِى ويُصِمّ، ويعيب ويَصِم. وهذه نتيجة من نتائجه الشهوانية، وفعلة من فعلاته التأثيرية الهوائية. فإن المحب يبحث بكل دقة وتلطيف، فى تحسين القبيح السخيف، وتصحيح الضعيف. وبهذا يتخلص من الملامة، ويدبّر الحيلة فى غش نفسه اللوامة، حتى يداهنها ويجعلها راضية مرضيّة، ويبدل الحكمة بالأمور السوفسطائية. أنسيت يا تليماك أنك موعود من طرف الحق بالخير، وأن تعود إلى وطنك بدون ضَيْر، وكيف خرجت من صقلية غِبَّ المصائب الـمُعَدَّة، وكيف تحولتْ فى مصر أحوالُك للرجا بعد الشدة؟ وهل تنسى فضل المولى عليك فى صور، حيث أمَّن رَوْعك وهيأ لك أسباب الفرج وأنت محصور؟ أبعد هذا كله تنكر ما أعده المولى لك من بلوغ المراد، والعَوْد إلى البلاد؟ ولكن ماذا أقول، وأنت لست أهلاً للمعروف والمأمول؟ فأما أنا فمرتحل من هذه الجزيرة حالا، وأعرف كيف أرتحل وأجد الـمُقام محالا. فيا أيها الجبان، الخارج من خير أب عاقل كريم النفس فائق الأقران، أتعيش بهذه الجزيرة عيشة الارتخا والبطالة والخسة بين النسوان؟ فافعل هنا ما لا يرضى المولى ولا يرضاه أبوك. وإذا لم تستح فاصنع ما شئت، فهل أُولُو الحِجَا إلى أبيك فى هذا نسبوك؟"(36). أما د. أحمد أحمد بدوى فيعزو لجوء الطهطاوى لهذا الأسلوب إلى "غرامه بالسجع وظنه أنه لغة الأدب"(37). وواقع الحال أن الطهطاوى لم يكن من المغرمين بالسجع بدليل أن كتبه السابقة كلها قد أُفْرِغَتْ بوجه عام فى قالب نثرى مرسل كما قلنا قبل ذلك مرات. وعلى كل حال هأنذا أسوق الأصل الفرنسى للفقرة الماضية ليرى القارئ بنفسه إلى أى مدى أَثَّر الأسلوب البديعى الذى لجأ إليه رفاعة على طريقته فى الترجمة، على الأقل فى زيادة حجم الترجمة عن الأصل زيادة ملحوظة، فضلا عن تجاهله لذِكْر لفظة "الآلهة" فى النص الفرنسى وتغييرها إلى لفظة من ألفاظ الجلالة كــ"المولى" وأشباهها:
Mentor répondait:
- Voilà l'effet d'une aveugle passion. On cherche avec subtilité toutes les raisons qui la favorisent, et on se détourne de peur de voir toutes celles qui la condamnent. On n'est plus ingénieux que pour se tromper et pour étouffer ses remords. Avez-vous oublié tout ce que les dieux ont fait pour vous ramener dans votre patrie? Comment êtes-vous sorti de la Sicile? Les malheurs que vous avez éprouvés en Egypte ne se sont-ils pas tournés tout à coup en prospérités? Quelle main inconnue vous a enlevé à tous les dangers qui menaçaient votre tête dans la ville de Tyr? Après tant de merveilles, ignorez-vous encore ce que les destinées vous ont préparé? Mais que dis-je? vous en êtes indigne. Pour moi, je pars, et je saurai bien sortir de cette île. Lâche fils d'un père si sage et si généreux, menez ici une vie molle et sans honneur au milieu des femmes; faites, malgré les dieux, ce que votre père crut indigne de lui.
ولأنه، كما يقول المثل السائر: "بضدّها تتميز الأشياءُ"، أود أن أضع بين يدى القارئ نفس الفقرة مترجمة بقلم المرحوم عادل زعيتر، وهى ترجمة تجمع بين الفخامة وشىء من التكلف فى التعبير، ولكنها تَعْرَى تماما عن السجع ومحسِّنات البديع. وقد يساعدنا على أن نعرف إلى أى مدى تأثرت ترجمة رفاعة بالأسلوب البديعى أن أذكر للقارئ أن ترجمة زعيتر تقع فى 450 صفحة، فيما تستغرق ترجمة الطهطاوى نحو ثمانمائة من الصفحات. وها هى ذى الفقرة المذكورة بقلم المترجم الفلسطينى، وعنوان الرواية عنده هو: "تلماك" لا أكثر ولا أقل، وقد نشرتها له دار المعارف بمصر عام 1957م، والنص موجود ص 127- 128، وإن كنت أوثر ترجمة رفاعة رغم ما يحليها من البديع، إذ إنها رغم هذا البديع أكثر ليونة وأدفأ تعبيرا: "وأسمع جواب منتور: هذه هى نتيجة الهوى الأعمى، وذلك أنه يُبْحَث بدقة عن جميع البراهين التى تسوّغه، وأنه يُلْجَأ فيه إلى اللف والدوران خشية الوقوف على كل دليل ينقضه، ولا يبلغ الإنسان ما يبلغ إلا خَدْعًا لنفسه وخَنْقًا لندمه. وهل نسيتَ ما صنع الآلهة جَلْبًا لك إلى وطنك؟ وكيف خرجتَ من صقلية؟ ألم تتحول جميع المصائب التى لاقيتها فى مصر إلى يُسْرٍ بغتة؟ وأية أيدٍ خفيةٍ أنقذتك من الأخطار التى كانت تهدد رأسك فى مدينة صور؟ وهل تجهل، بعد هذه العجائب، ما تُعِدّ لك الأقدار بَعْدُ؟ ولكن ما أقول؟ أنت غير أهلٍ لذلك. وأما أنا فإننى ذاهب، وأعرف كيف أخرج من هذه الجزيرة! يا لك من ولدٍ نذلٍ لوالدٍ بالغِ الحكمة بالغِ الكرم! اقضِ هنا حياة تخنُّث بين النساء خاليا من الشرف. اصنع، على الرغم من الآلهة، كل ما اعتقد أبوك أنه غير خليقٍ بك".
على أن هناك مسألة أخرى فى غاية الأهمية تتعلق بعمل رفاعة، ألا وهى زعم بعض من أرخوا لفن القصة فى الأدب العربى الحديث أن الأدباء العرب فى بدايات النهضة كانوا يخجلون من هذا الفن حتى إن من مارسه منهم لم يكن يحب أن يعرف الناس عنه ذلك، وأن هذا هو السر فى أن د. محمد حسين هيكل، حين طبع رواية "زينب" لأول مرة، كتب على غلافها أنها بقلم "مصرى فلاح". وقد بينت فى كتابى: "نقد القصة فى مصر: 1888م- 1980م" أن هذا غير صحيح. وأمامنا هنا أيضا برهان قاهر على خطإ هذه الدعوى، فها هو ذا أبو النهضة الحديثة ذاته يترجم إحدى الروايات الغربية مُثْنِيًا عليها وعلى مؤلفها ثناءً عظيمًا. فإذا أضفنا إلى ذلك أن الرواية ممتلئة بالأساطير الإغريقية التى تتحدث عن الآلهة وأنصاف الآلهة وأنها تحمل على الاستبداد وتندد به، وقد كان الاستبداد الطاغى أساس الحكم يومئذ فى بلادنا، وأننا كنا حديثى عهد بالآداب الأوربية، فضلا عن أن رفاعة أزهرى التربية والتعليم، تبين لنا أن ما يقال عن نفور رواد أدبنا الحديث من ربط أسمائهم بهذا الفن هو كلام غير دقيق. وربما كان د. عبد المحسن طه بدر هو أول من روج هذا الزعم الذى لا أصل له(38).
ومن الريادات التى حققها الطهطاوى كذلك أنه أول من قام بالمقارنة بين اللغة والبلاغة والأدب العربى ونظيرها عند الفرنسيين. فعل ذلك فى أكثر من موضع من كتابه: "تخليص الإبريز" وغيره. لنأخذ مثلا مقارنته بين اهتمام العرب بالمحسنات البديعية فى أدبهم وعدم استحسان الفرنسيين لها، اللهم إلا إذا أراد بعض أدبائهم الهزل فيما يكتبون، حيث يلجأون حينئذ إلى التورية، أما الجناس فإنه، كما جاء فى كلامه: "لا معنى له عندهم"(39). ولنأخذ كذلك قوله إن الفرنسيين "مع شربهم... الخمور لا يتغزلون بها كثيرا فى أشعارهم، وليس لهم أسماء كثيرة تدل على الخمرة كما عند العرب. فهم يتلذذون بالذات والصفات، ولا يتخيلون فى ذلك معانى ولا تشبيهات ولا مبالغات"، وإنْ ذَكَرَ مع هذا أن عندهم "هزليات فى مدح الخمرة لا تدخل فى الأدبيات الصحيحة فى شىء أصلا"(40). وفى موضع ثالث نراه يقارن بين بعض قواعد اللغة الفرنسية ومقابلها فى لسان الضاد: فالفرنسيون مثلا يَعُدّون الضمير واسم الإشارة قسيمين للاسم لا قسمين منه، كما أن لأداة التعريف عندهم ثلاثة أشكال هى "le, la, les" بخلاف وضعها لدينا حيث تتخذ شكلا واحدا هو "أل". وأما بالنسبة للعَرُوض فهو يؤكد وجوده فى جميع اللغات، ولكن على نحو خاص بكل منها مما يختلف به عن عَروض الشعر العربى(41)، مثلما يؤكد أن علم البلاغة "ليس من خواص اللغة العربية، بل قد يكون فى أى لغة كانت من هذه اللغات، فإنه يعبَّر عن هذا العلم فى اللغات الإفرنجية بعلم الريتوريقى"، وإن سارع فأضاف قائلا إن "هذا العلم فى اللغة العربية أتم وأكمل منه فى غيرها، خصوصًا علم البديع، فإنه يشبه أن يكون من خواصّ اللغة العربية لضغفه فى اللغات الإفرنجية". ثم ينطلق مبينا أن الذوق البلاغى يتفق بين أمة وأخرى فى بعض الأشياء، ويختلف فى بعض الأشياء الأخرى. فعبارة مثل: "زيد أسد" مقبولة عندنا وعند غيرنا، على عكس ما لو قلنا عن حمرة الخدين إن فلانا "خدوده تتلظَّى"، فإن ذلك غير مقبول أصلا فى اللغة الإفرنجية"(42). كذلك يؤكد رفاعة خلوّ لغة الفرنسيين من السجع، أو "تقفية النثر" كما سماه(43).
وفى مقدمة ترجمته لرواية القَسّ فنلون: "Les Aventures de Télémaque" نراه يربط بين ذلك العمل وبين مقامات الحريرى ناظرا إلى فصول تلك الرواية التى يسميها: "مقالات" على أنها تشبه تلك المقامات(44)، وإن لم يفصّل القول قى هذه المسألة رغم أهميتها. إلا أن هذا، من الناحية الأخرى، يدل على أن الفن القصصى عنده لم يكن شيئا مجهولا فى أدبنا القديم، ومن ثم لم يشأ أن يتلبث إزاء تلك النقطة أطول من هذا.
ومن الفقرات السابقة يتضح لنا أن جهود المقارنة بين اللغة العربية وبلاغتها وأدبها وبين نظير ذلك كله عند الغربيين فى العصر الحديث تصعد إلى بداية الربع الثانى من القرن التاسع عشر عندما ظهر كتاب "تخليص الإبريز فى تلخيص باريز"، قبل أن يسطر أديب إسحاق وأحمد فارس الشدياق وسليم البستانى وغيرهم ما سطروا فى هذا المجال ممن ذكرهم د. حسام الدين الخطيب فى كتابه: "آفاق الأدب المقارن عربيا وعالميا" وأشار إلى جهودهم بشىء من التفصيل، على حين اكتفى بإشارة عامة إلى اهتمام رفاعة فى كتابه الآنف الذكر بالمقارنة بين الشرق والغرب: المقارنة بإطلاق لا المقارنة الأدبية على وجه التخصيص. يقول د. الخطيب: "ويُعَدّ كتابه: "تخليص الإبريز فى تلخيص باريز" اللبنة الأولى فى فكرة المقارنة بين الشرق والغرب التى أصبحت فيما بعد أساسا لسلسلة من الأعمال الإبداعية والجدالية"(45). وكان المفروض أن يحظى رفاعة عند الكاتب بمزيد من الاهتمام يكافئ إنجازه الرائد فى مجال المقارنة بين لغة العرب وأدبها ونظيريهما لدى الفرنسيس. ولعله يعالج هذا فى الطبعة القادمة. وبالمناسبة فمعظم كتاب رفاعة هو فى الأدب المقارن بمعنى من المعانى، وإن لم يكن على الطريقة الفرنسية التى تشترط وجود صلات بين الأدبين اللذين يقارن بينهما الدارس. أليس يقدم لنا صورة عن الأمة الفرنسية من وجهة نظر مثقف عربى مسلم فى أواخر الثلث الأول من القرن التاسع عشر الميلادى؟ أليس هذا بابا من أبواب الأدب المقارن؟ ولقد خَصّصْتُ لرفاعة وجهوده الرائدة فى الأدب المقارن بضع عشرة صفحة فى كتابى: "فى الأدب المقارن- ملاحظات واجتهادات"، فيستحسن الرجوع إليها لمعرفة الإنجاز الكبير الذى حققه الرجل فى هذا الميدان(46).