رواية "فتاة مصر" ليعقوب صروف
د. إبراهيم عوض
جاء فى كتاب "الأعلام" لخير الدين الزركلى تعريفا بالدكتور يعقوب صروف مؤلف هذه الرواية ما يلى: "الدكتور صروف (1268- 1346هـ= 1852- 1927م): يعقوب بن نقولا صروف. عالم بالفلسفة والرياضيات والفلك، من أئمة المترجمين عن الإنكليزية. وُلِد في قرية "الحدث" بقرب بيروت، وتعلم ببيروت في الجامعة الأميركية، وامتاز بالرياضة والفلسفة. واشتغل بالأدب، وله نَظْمٌ جيد، وعلَّم في صيدا وطرابلس وبيروت. وأصدر، مع فارس نمر وشاهين مكاريوس، مجلة "المقتطف" سنة 1876، وانتقلوا بها إلى مصر سنة 1885، وكانت من أرقي المجلات العلمية العربية. أخرج منها الدكتور يعقوب واحدا وسبعين مجلدا، وشارك في إصدار جريدة "المقطم" سنة 1889، وصنَّف وترجم عدة كتب منها "سر النجاح" و"بسائط علم الفلك" و"الحرب المقدسة" و"الحكمة الإلهية" و"سِيَر الأبطال والعظماء" (شاركه في ترجمته عن الانكليزية فارس نمر)، و"فصول في التاريخ الطبيعي" و"الحلى الفيروزية في اللغة الإنكليزية". ونشر في المقتطف بحثا طويلا في "نوابغ العرب والإنكليز" قارن فيه بين المعَرّي ومِلْتُنْ، وابن خلدون وسبنسر، وصلاح الدين وريشار قلب الأسد. وله نحو عشرين قصة منها "فتاة الفيوم" و"أمير لبنان" و"فتاة مصر". قال خليل ثابت: كان محققا باحثا، أضاف إلى ثروة اللغة العربية ألفاظا واصطلاحات علمية عديدة ابتكرها أو نحتها أو استخرجها من المظانّ المجهولة، وساقها في عُرْض مقالاته في الفلسفة والأدب والتاريخ".
أما بالنسبة لرواية "فتاة مصر" فتقع فى نحو 180 صفحة من القطع فوق المتوسط، إذ تتكون الصفحة من ثلاثين سطرا، فى كل سطر أربع عشرة كلمة أو أكثر. وهى ليست الرواية الوحيدة التى أعرفها لصاحبها، بل أعرف له روايتين أُخْرَيين هما: "أمير لبنان" (سنة 1907م)، و"فتاة الفيوم" (سنة 1908م). وقد ذكر الزركلى أن له نحو عشرين رواية حسبما رأينا قبل قليل، لكنى لا أعرف شيئا عما وراء تلك الروايات الثلاث. وأول ما أحب الوقوف عنده العنوان، وهو "فتاة مصر"، فالمؤلف بهذا العنوان إنما يجارى التقليعة التى كانت سائدة آنذاك من تضمين عناوين الروايات كلمة "فتاة" أو "غادة" أو ما إلى ذلك، مثل: "غادة جبل أناصيا" لأحمد سعيد بغدادى، و"الغادة الأوربية فى الشرق" لعبد الله طاهر، و"غادة الأندلس" لعبد الرحمن إسماعيل، و"غادة حمانا" لمحمود طاهر حقى، و"غادة الأهرام" لمحمد مسعود، و"فتاة الثورة العرابية" ليوسف بحرى، و"فتاة غسان" و"فتاة القيروان" لجرجى زيدان، و"الفتاة الريفية" لحسين رياض، و"اليهودية العجيبة أو فتاة إسرائيل" لعبد المحسن الأنطاكى، و"الفتاة الشركسية فى حرب الدولة العليّة" لزكريا نامق، و"شيرين أو فتاة الشرق" للبيبة هاشم، و"فتاة البوسفور" و"فتاة أرضروم" لسعادة مورلى، و"شهداء الوفاء أو فتاة النعمان بن المنذر" لمحمود جعفر إسماعيل، و"فاطمة أو الفتاة المعذَّبة" للسعيد محمد، و"فتاة القرية أو جناية الحب" لمعروف الأرناؤوطى، و"عذراء الهند أو تمدّن الفراعنة" لأحمد شوقى، و"عذراء اليابان" لعوض واصف، و"عذراء دنشواى" لمحمود طاهر حقى...إلخ. وليس فى ذلك ما يدعو إلى الاستغراب، فإن للتقاليع حكمها القاهر فى كل مجالات الحياة، وبخاصة فى ميدان الفنون والآداب. وإذا كانت الحضارة والثقافة تقوم فى جانب منها على الإبداع والابتكار، فهى أيضا تقوم على التقليد والاقتباس فى جانبها الآخر.
كذلك فإن التاريخ الذى ظهرت فيه هذه الرواية يدعونا إلى فتح الملفّ الخاص بقضية الريادة فى ميدان التأليف الروائى فى الأدب العربى الحديث، إذ قد رسخ، لدى معظم الباحثين على الأقل، أن لصاحب "زينب"، وهو الدكتور محمد حسين هيكل، قصب السبق فى هذا المضمار. وعندما يتبين أن هناك من تقدم هيكل فى تأليف الروايات يكون الجواب أن المقصود هو الرواية الفنية الجيدة، أما الروايات التى صدرت قبل رواية هيكل فلا تَرْقَى، فى نظرهم، إلى المستوى المطلوب، ومن ثَمّ لا يُعْتَدّ بها.
والحق أن هذه الدعوى هى إحدى المقولات التى تعكس ذلك الكسل العقلى الذى لا يَعْرَى منه أحد من البشر تماما. ذلك أن ثمة روايات ظهرت قبل "زينب" ولا تقلّ عنها لا من الناحية الفنية ولا من ناحية خطورة الموضوع. ومن هذه الروايات الرواية القصيرة التى ألفها محمود طاهر حقى (عم الأستاذ يحيى حقى) عن حادثة دنشواى بعنوان "عذراء دنشواى"، والتى مر ذكر عنوانها آنفا، وكذلك الرواية التى بين أيدينا(1). وقد اقتصرتُ على ذكر هاتين الروايتين لأنى قد قرأتهما بنفسى: قرأت الثانية مرة فى ثمانينات القرن الماضى مع مقدمة يحيى حقى لها، وعجبت كيف غفل الأستاذ حقى، فى كتابه الصغير القيم: "فجر القصة المصرية"، عن أهمية هذه القصة التى دبجتها يراعة عمه فجعل "زينب" هى الرواية الأولى فى أدبنا العربى، مع أنه فى مقدمة "عذراء دنشواى" قد أشاد برواية عمه أَيَّمَا إشادة. فأين كان ذلك الاحتفاء حين كان يؤرخ للقصة المصرية فى كتيّبه المذكور؟ غريبة! أما الأولى فقد قرأتها مرتين: الأولى فى أوكسفورد فى أواخر سبعينات القرن المنصرم، وشدّتنى إليها آنذاك شدًّا عجبت معه أن أحدا من النقاد لم يلتفت إليها بما تستحقه من اهتمام. ومن يومها وأنا حريص على أن أجدها فأقرأها مرة أخرى. ولكن للأسف لم تقع عليها عيناى فى أى مكان. وكنت قد كتبت عنها بضعة سطور فى كتابى: "محمد حسين هيكل أديبا وناقدا ومفكرا إسلاميا"، الذى صدر بعد احتفالية المجلس الأعلى للثقافة فى مصر بالدكتور هيكل فى 1996م بقليل أشرت فيها إلى الخلاف الذى دار بينى وبين صبرى حافظ فى إحدى جلسات تلك الاحتفالية، إذ ذكرتُ ضمن كلام لى أعقِّب به على ما قاله أحد الباحثين حول ريادة "زينب" أن ليعقوب صروف رواية مهمة ظهرت قبل رواية الدكتور هيكل بثمانية أعوام، فانبرى صبرى حافظ يؤكد أنها متأخرة فى الصدور عن "زينب" ولـَجَّ فى العناد دونما سبب مفهوم، وانتهى الأمر عند هذا الحد، فلما أخرجت كتابى عن هيكل وجدت من المناسب أن أشير إلى هذه النقطة وأبرز أهمية تلك الرواية فكتبت السطور المشار إليها(2).
وظل الأمر هكذا إلى أن عثرت بطريق المصادفة البحتة على نسخة أخرى من رواية صروف بين أكداس الكتب القديمة على سور الأزبكية بمعرض القاهرة الدولى للكتاب عام 2001م، وما إن وصلت إلى البيت حتى شرعت أقرؤها من جديد، فوجدت أننى لم أخطئ فى شىء مما كتبته عنها من الذاكرة فى كتابى عن هيكل. وبالمناسبة فإن د. سهير القلماوى، على ما سلف ذكره قبل قليل، تقول إن رواية صروف التى بين أيدينا قد ظهرت عام 1922م، ولا أدرى على أى أساس قالت ذلك! وهناك روايات أخرى سبقت رواية "زينب" وأشار إليها د. سيد حامد النساج حسبما مر بنا فى هذا الكتاب، مؤكِّدًا أنها جيدة فنًّا ومضمونًا، بَيْدَ أنه لم يقدَّر لى أن أقرأها لأحكم عليها بنفسى.
وتعالج الرواية التى بين أيدينا عدة موضوعات يأتى على رأسها تعلُّق شاب بريطانى، هو ابن واحد من أكبر مالكى الصحف فى بلاده، بفتاة قبطية اسمها بهية تعلقا ينتهى بزواجه منها. وأحسب أن الأمر لا يخلو من الرمز إلى العلاقة التى ينبغى أن تكون بين بريطانيا ومصر من وجهة نظر المؤلف. وغير خافٍ أن جريدة "المقطم" هى إحدى الجرائد التى كانت تناصر الاحتلال البريطانى لبلادنا، والمؤلف (كما هو معروف) أحد أصحاب تلك الجريدة. وفى الرواية ثلاث أُسَرٍ حرص المؤلف على أن يجعل كلا منها تنتمى إلى دين من الأديان الثلاثة التى تضمها أرض الكنانة، لكن الذى يلفت النظر هو أن الأسر الثلاث جميعها من الأسر الغنية، وبينها مودة وتزاور بل وتداخل أيضا.
وكان للأسرة اليهودية فتاة جميلة عاقلة مثقفة ثقافة غربية وعربية راقية وتتكلم الفرنسية والإيطالية بطلاقة، وكذلك العربية التى كثيرا ما تستشهد بشعرها فى موضعه. ولا غَرْو فى هذا، فقد تعلمت اللسان العربى وآدابه على يد عالم دين مسلم متفتح الذهن عصرى التفكير له علاقة قوية بأسرتها وبالأسرتين الأُخْرَيَيْن فأحسنت التعلم. وكان يطمح إلى الزواج بها أمين القبطى أخو بهية، وحليم المسلم التركى الأصل، وعزرا اليهودى المرابى. كذلك كان للأسرة التركية المسلمة ابنة فى سن الزواج اسمها حليمة على درجة عالية من الأناقة والجمال وطيب النفس انتهى الأمر بها إلى أن أطلق النار عليها شابٌّ من أقاربها أرعنُ سِكِّيرٌ كان يحبها حبًّا قاهرًا، لكنها لم تكن تبادله هذا الحب، فضربها بالرصاص انتقاما منها. وكانت النتيجة أنْ ذَوِيَتْ وضَوِيَتْ ثم ماتت رغم أن الأطباء كانوا قد استخرجوا من جسمها الرصاصة ورمّموا ما انكسر من أضلاعها.
وقد صور المؤلف العادات والتقاليد المصرية فى أوائل القرن العشرين تصويرا حيا، ورسم للافى (رب الأسرة اليهودى) بالذات صورة مقنعة بعقليته المتمركزة حول المال وتفكيره الدائم فى التوفير والأرباح، وإن لم يُخْلِه مع هذا من الصفات الطيبة، فجاءت صورته مقنعة إلى حد كبير. كما جعل الفتاة المسلمة قليلة الخروج والاختلاط بالمجتمعات، وبالمثل جعل الفتاة القبطية متحفظة حيية رغم مبادلتها هنرى (الشاب البريطانى) الاهتمام، حتى إنها لم توافق على أن يكتب لها أثناء رحلته الصحفية إلى الهند واليابان، مكتفية بأن تعرف أخباره من خلال رسائل دورا أخته إليها.
وفى الرواية كلام كثير عن البورصة وهَوَس كثير من أغنياء المصريين بالمضاربة فيها ومكاسبها التى تضاعف ثرواتهم بغاية السهولة، وكذلك الخسائر التى تقصم ظهورهم وتقضى عليهم بغاية السهولة أيضا. كما صورت الرواية، ضمن ما صورت، وسائل النقل التى كان يركبها الأغنياء أوانئذ، وهى مركبات الخيول، وأماكن التنزه التى كانوا يقصدون إليها، وبخاصة طريق الأهرام. وفى الرواية كلام عن الحجاب واختلاف الناس والعلماء بشأنه، وكذلك وصفٌ مفصَّلٌ لبعض طقوس الزار مما كنت أجهله رغم نشأتى الريفية وشهودى فى طفولتى الأولى حلقة من حلقاته، إذ لا أذكر أنى رأيت فيها شيئا مما ذكرته الرواية عن طقس الخروف المذبوح وتلطيخ الوجوه والأيدى بدمه وخروج الأصوات الغريبة من فم المريضة وما إلى ذلك(3).
وهناك أيضا كلام كثير عما عُرِف آنذاك من الاستعانة بصور بصمات الأصابع على التوصل إلى معرفة المجرم. وثمة كذلك عدة فصول عن الصراع بين الإنجليز والأمريكان بسبب القطن واهتمام الأولين بأن يتوسعوا فى زراعة هذا المحصول بمصر كيلا يحتاجوا إلى الأمريكان فيه، وكلام كثير مثله عن الحرب بين روسيا واليابان ودور ساسة الإنجليز ورجال أعمالهم وأرباب جرائدهم فى تأريث نارها طمعا فى المكاسب الهائلة التى ستعود عليهم من جرائها دون اعتبار للمصائب والكوارث التى ستصيب الطرفين. وفى الرواية حديث عن خُلُق الرجل الإنجليزى وتحكمه فى عواطفه وتقديم مصلحة وطنه على كل اعتبار وحبّه للأسفار واستهدافه للأخطار من أجل ذلك.
هذا، وقد تقدمت الإشارة إلى عالم دين مسلم اسمه الشيخ أحمد عصرى التفكير محترم الحضور مسموع الكلمة عند الجميع. ولست أشك لحظة فى أن المقصود بذلك العالم هو الشيخ محمد عبده: فآراؤه العصرية فى الدين هى آراء الشيخ، وملامح شخصيته هى الملامح التى نعرفها للأستاذ الإمام. بل لقد جاء فى الرواية صراحةً أنه يسمَّى أحيانا بــ"الشيخ"، وأحيانا أخرى بــ"الأستاذ"، وأحيانا ثالثة بــ"الإمام"(4)، وهذا الكلام لا ينطبق إلا على محمد عبده، فضلا عن قرب اسم "أحمد" من "محمد" كما هو معروف. ويكفى أن الرسول الكريم كان يسمَّى بالاسمين معا. ولعل مما له مغزاه هنا أن المفكر الأوربى الوحيد الذى ورد ذكره فى الرواية وأُلْقِىَ الضوء على بعض أفكاره هو الفيلسوف الإنجليزى هربرت سبنسر، الذى كانت بينه وبين الشيخ محمد عبده معرفةٌ وتَوَادٌّ، وزاره الشيخ فى منزله حين ذهب إلى بلاد الإنجليز. وبالمناسبة فقد أبرزت الرواية حرص ذلك الفيلسوف على مصالح اليابانيين ونصحه لهم بألا ينخدعوا فى الأوربيين فيرتبطوا بهم اقتصاديا ويخضعوا لهم(5).
وقد يكون مفيدا أن نسوق هنا بعض ما نُسِب إلى الشيخ أحمد فى الرواية، فلعله ينفع فى استكمال صورة الأستاذ الإمام: لقد ذكرت القصة أن الشيخ لم يكن يجد حرجا فى "إزالة الحجاب وخروج النساء سافرات الوجوه... مثل نساء الإفرنج"، وأن الناس كانوا "يكفّرونه كلما قال قولا خالف فيه المألوف"، وأنه كان يغشى "البالو" (أى حفلات الرقص) فيلتفّ حوله جِلّة القوم ممن تعلم أكثرهم فى أوربا(6). بل لقد جرى على لسانه أنه، وإن لم يستحسن مراقصة الرجال للنساء، لا يَعُدّ ذلك حراما، "ولا سيما فى المجتمعات الأدبية حيث يكون الراقصون والراقصات من الأقارب أو العُشَراء، فقد رأيت البدو يرقصون رجالاً ونساءً فى حلقة واحدة كأنهم إخوة وأخوات: لواءُ العفة منشورٌ فوق رؤوسهم، لا شىء يكدر صفوهم. أما إذا فسدت الأخلاق فالفصل بين الجنسين أدرأ للمفاسد"(7). وكان يرى أن "أكثر نسائنا لسن متربيات التربية الكافية التى تسمح لهن بمخالطة الرجال"، على عكس ما كان الحال عليه أيام ازدهار الحضارة الإسلامية، إذ "قام من نسائنا سيدات كن يدرّسن العلوم الشرعية، وكان أكبر الأئمة يقرأون عليهن"(8). وهو يرمى عبء المؤاخذة فيما وصلت إليه حال المسلمين فى عصره على عاتق من التصقوا بالعرب من أمم الفرس والترك والديلم(9).
والشيخ أحمد أيضا هو الذى علّم أستير اليهودية النحو والبيان حتى أتقنت لسان الضاد قراءة وكتابة واستطاعت أن تَنْظِم الشعر(10). وكان رأيه فى تلك الفتاة أنها دُرَّةٌ يتيمةٌ، ولذلك حسَّن لحليم (الشاب المسلم) التقدم لخِطْبتها حين جاء يسأله رأيه فى ذلك(11). وذكرت الرواية كذلك أنه شرع يتعلم الفرنسية وأنه كان يخاطب بها هنرى الشاب البريطانى الذى وقع فى غرام بهية(12).
كما حكت أستير تلميذة الشيخ أنها سألته ذات مرة عن الموت والمكان الذى سيجتمع فيه الأهل والأحباب والأصدقاء بعده إذا كان هناك اجتماع كهذا مما سكتت التوراة فلم تذكر عنه شيئا البتة، فكان جوابه أنه لا يعلم شيئا عن هذا الموضوع أكثر مما تعلم، "ولكنه لا يقدر أن يتصور أن خالق الأجسام والأرواح خلقها لتعيش سنين قليلة ثم تَفْنَى، فكأنه بنّاء يبنى القصور الفخمة ثم يخرّبها ليتسلى ببنائها وخرابها، وهذا أمر لا يصدقه عقل". كما أكد "أن النفوس تبقى ولو صارت الأجسام ترابا ورمادا"(13).
ولم تكن علاقة الشيخ أحمد بالخواجة لافى مقصورة على ذلك، إذ يظهر من سياق الوقائع والحوار أنه كانت له ودائع مالية عنده. وربما كان هذا هو السبب فى تداخله فى قضية السطو على بنك ذلك الخواجه وتأكيده أن المال الذى تحت يده "أَحَلّ من الحلال". بل لقد امتُقِع وجهه وصار لونه ترابيا (كما جاء فى الرواية) وارتجفت لحيته عندما علم بالخبر لأول مرة وأن الحـُجَج والرَّهْنِيّات والدفاتر التى كانت فى خزانة لافى قد سُرِقَتْ كلها مع الأموال. ليس ذلك فحسب، بل إن الحادثة، لشدة وقعهاعليه، قد سببت له الحيرة فأخذ يؤكد أنه من المتعذر جدا معرفة الحكمة التى تجرى عليها أمور الكون نظرا إلى كثرة العلل التى تحرّكها وتعقّدها. وقد كان الشيخ ساعة علمه بذلك فى الإسكندرية، فما كان منه إلا أن أسرع إلى القاهرة فى أول قطار سريع(14). كذلك نراه يقدم للشرطة تقريرا للمساعدة فى حل لغز السرقة وتسهيل الوصول إلى الجانى(15)، كما كان دائم التردد على بيت الخواجه لافى فى ذلك الوقت(16).
ومن القضايا التى تضمنتها الرواية وتستحق الالتفات قضية الحروب ومن يثيرونها من الحكام ورجال المال وأرباب الصحف بدافع من أنانيتهم ورغبتهم الآثمة فى جَنْى مكاسبها الحرام المغموسة بشقاء الجموع التعسة الذين يقاسون ويلاتها وتأكلهم نيرانها. فهذه الطائفة الغليظة القلب "لا هم لها إلا تسخير الناس وإيقاع بعضهم فى بعض لأخذ ما فى أيديهم ولو استلحم بعضهم بعضا ونُهِكَتْ قواهم من التعب ويبست ألسنتهم من الظمإ وتقطعت أوصالهم من الجراح ونزفت الدماء من عروقهم وذاقوا الموت أشكالا وألوانا. وهذه الفئة قديمة فى الدنيا لم يَخْلُ منها عصر من عصور التاريخ قام منها الملك والكاهن والقائد والوزير، وتكاد تنحصر الآن فى أرباب الأموال والذين على شاكلتهم من كل منتفع بضرر غيره ولو ملكا عظيم الشأن، فقد صَمَّتْ آذانهم عن عويل اليتيم والأرملة ووقَرَتْ عن نَوْح الثاكل وأنين الجريح فلا تسمع إلا رنة الدينار وصوت المنادى بارتفاع الأسعار...إلخ"(17). وكانت مناسبة هذا الكلام هى التعليق على الحرب التى كانت تدور رحاها الطاحنة بين روسيا واليابان.
ولا يفوتنا من الناحية الفنية أن ننبه إلى أن هذا الكلام قد ورد على لسان مؤلف الرواية، وكان أحرى به أن يورده فيما كان يدور بين شخصياتها من حوار، إذ يعيب النقاد مثل هذا التدخل المباشر ويطليون من المؤلف أن يخفى شخصه ويكتم صوته فلا يسمعه أو يحس بوجوده أحد، وذلك حتى لا ينكسر ما ينبغى أن يسود القصة من جَوٍّ يُوهِم القارئ أنه يعايش وقائع وأحاديث حقيقية لا قصة مخترعة. ومع ذلك فلا بد أن نكون على ذِكْرٍ من أن هذه الرواية هى إحدى الروايات الرائدة فى الأدب العربى الحديث، فلا غرابة أن يكون فيها مثل هذا المأخذ الذى يوجد أشباهه فى "زينب" و"عودة الروح" و"دعاء الكروان" و"إبراهيم الكاتب" وغيرها من الروايات التى جاءت بعدها بزمن. وقد انتقل المؤلف بالقارئ بعد هذا إلى العواصم الثلاث التى تتصل بتلك الحرب بأوثق آصرة، وهى لندن وبطرسبورج وطوكيو، بغية إطلاعه على ما يجرى خلف الستار بين أرباب الأموال وأصحاب السلطان وأمثالهم مما يدبرونه من أجل بلوغ مصالحهم وتفويت فرص الخير على خصومهم غير مبالين بأى قانون أخلاقى أو اعتبار إنسانى(18).
وقد قُسِّمَتْ الرواية إلى فصول معنونة، على عكس ما انتهى إليه التقليد الفنى منذ فترة ليست بالقصيرة، إذ لم تعد فصول الروايات الآن تُعَنْوَن كما كان يفعل يعقوب صروف وجرجى زيدان مثلا. وفى بعض المواقف كان المؤلف حريصا على أن يورد الأحداث والحوارات المرتبطة بموضوع من الموضوعات فى أكثر من مكان فى ذات الوقت، وهو ما يُعَدّ على نحو ما تمهيدا بدائيا للقصة التى تُرْوَى على لسان عدد من الأشخاص: كل منهم يرويها من جديد من وجهة نظره كما هو الحال مثلا فى "الرجل الذى فقد ظله" لفتحى غانم، و"الظلال على الجانب الآخر" لمحمود دياب، و"ميرامار" لنجيب محفوظ.
ومما تمتاز به القصة خلوها من المبالغات، ففى الوصف والسرد اقتصاد وإحكام بحيث يتم بلوغ الهدف من أقصر الطرق وأكثرها استقامة. كما أن المؤلف قد نحى العاطفة جانبا حتى ليشعر القارئ أن الرواية عمل عقلى محض، اللهم إلا فى المشهد الذى كانت فيه حليمة راقدة فى فراش المرض بعد إطلاق الرصاص عليها، شاعرة أن الموت يرفرف عليها بجناحيه الأسودين، إذ تذكرت أختها الصغيرة التى كانت قد ماتت، فملأت الأفكار والخواطر السُّود قلبها وعقلها، وأخذتها الحيرة من كل أقطارها فسدَّتْ عليها الأفق، وغلبتها الأوهام فكانت تتخيل أنها ترى أختها. "وكانت أفكار حليمة سريعة التنقل من موضوع إلى موضوع، فراجعت ماضى حياتها من حين كانت طفلة، وتَرَدَّدَ فى بالها ما حفظته غَيْبًا من الآيات والأشعار العربية والتركية والفرنسية وأحاديثها مع أمها وأبيها وأخيها...
وكررتْ أيضا ما كانت تسمعه من معلمتها الفرنسية عن السماء وجهنم والثواب والعقاب فقالت: إلى أين أمضى بعد الموت؟ وحاولت أن تنظر إلى ما وراء القبر فلم تر إلا ظلاما دامسا. ثم قالت: إن كل المعلِّمين والمهذِّبين يأمروننا بعمل الصلاح، وأنا لم أضرّ أحدا ولا قصدتُ ضرر أحد، فإلى أين أذهب بعد الموت؟ وكيف يكون حال أمى بعدى؟ لا بد من أنها تنسانى كما نَسِيَتْ أختى توحيدة! كم بكت عليها وكم ناحت! نعم إنه مر على ذلك خمس سنوات الآن، ولو بقيتْ توحيدة لكانت صبية. كان عمرها تسع سنوات لما ماتت. يا حبيبتى! كانت تحبنى أكثر من كل أحد، وقد فارقتنى منذ خمس سنوات. فراق طويل جدا، ولكننى لا أنساها أبدا، وسأذهب إليها. نعم سأذهب إليها سريعا، وهى الآن فى انتظارى. ما أعظم سرورى بها حين أراها! أظنها صارت طولى الآن. ولكن هل يطول الجسم بعد الموت؟ وهل ينمو كما تنمو أجسام الأحياء؟ إن أجسام المصريين القدماء التى فى الأنتكخانة لم تزل على حالها: الكبير كبير، والصغير صغير. حتى الطفل لم يزل طفلا. وقد بقيت محفوظة لأنها محنَّطة، ولو دفنت فى الأرض كما نُدْفَن نحن لانحلت وصارت ترابا. فأين ألتقى بك يا توحيدة، يا عزيزتى، بعد أن صرتِ ترابا ورمادا؟ وهل أصير أنا ترابا مثلك؟ أصير ترابا ولا يبقى شىء من جسمى وشعرى؟ كان لى جسم، أما الآن فصرت جلدا وعظما، وسيَبْلَى كله. ما أفرغ هذه الحياة التى نهايتها الموت والبِلَى! من أرى بعد الموت؟ ومن أعرف؟ ومن أنتظر؟ ومن ينتظرنى؟ لم يعلّمنى أبى شيئا ولا أمى عما يكون بعد الموت. نعم إن المدموازيل كانت تقول لى إننا نجتمع فى السماء ونرتّل مع الأبرار ونمجّد الله. ولكن كيف نرتّل لله، وكيف نمجده ونحن بلا أجسام؟ آه يا أمى، ما هذا الصداع؟ كيف نمجّده بلا أجسام؟
الفم يَبْلَى، واللسان يبلى، فكيف نتكلم ولا لسان لنا ولا فم؟ ولكن هأنا أتكلم الآن. أفتكر فكرا ولا أحرك لسانى ولا فمى. نعم نعم، نستطيع أن نتكلم من غير لسان، نتكلم بالفكر، وهذا الفكر يبقى ولا يموت، فإن الجسم ينام فى الليل، والفكر يبقى، فقد يبقى الفكر حيا بعد موت الجسم. قد يكون ذلك صحيحا، وقد لا يكون. يا حبذا لو أتى الشيخ أحمد إلى هنا، فإنه يعلم كل شىء، فكنت أسأله. وحليم(19) يعلم أيضا، فسأسأله متى حضر. أين هو الآن؟ مسكين حليم! كنت أريد أن يقترن بأستير. هل أرى توحيدة بعد الموت؟ نعم أراها. بلا جسمى أراها. أراها بعين العقل. ولكن هل يبقى العقل من غير جسد؟ إن كان عقلى يبقى فعقلها يبقى، فلماذا لا تكلمنى مطلقا؟ حلمتُ بها مرتين أو ثلاثا فى السنة الأولى، ثم لم أحلم بها بعد ذلك. أين أنت يا توحيدة؟ يا حبيبتى، كلمينى. نعم سأراك، ولا أعلم كيف أراك، ولكنى سأراك. آه يا ربى! ما هذا الصداع؟ آه يا أمى! يا راسى!"(20).
إنه نصٌّ عجيبٌ وفريدٌ فى الرواية كلها يلغ فيه المؤلف الذروة. ولا أظن أن هناك نصوصا فى روايات تلك الفترة تشبهه فى استخدام تيار الوعى بهذا الاتساع وبهذه البراعة والحرارة، وعلى ذلك النحو الذى يجسد الحيرة واليأس تجسيدا بأفكاره المتلاحقة المتقافزة ذات اليمين وذات الشمال لا تستقر على حال، وجمله القصيرة السريعة المتقلبة ما بين الخبر والإنشاء، ومقارناته بين ما عند المسلمين وغيرهم فى هذه المسألة، مع العجز التام عن الوصول إلى شىء يبعث على الراحة، فضلا عن البساطة المتناهية فى تناول مفهوم الموت وما وراءه، وهى بساطة تتسق تمام الاتساق مع شخصية فتاة فى ظروف حليمة الاجتماعية والتعليمية وفى مرضها الذى لا يرجى لها منه شفاء. ويزيد النصَّ فرادةً أنه قد ورد فى قصة محكية بضمير الغائب لا بلسان حليمة نفسها، لأنه لو كانت حليمة هى راوية الأحداث لكانت هذه الخواطر مجرد امتداد للسرد أو كادت أن تكون، فالسارد هو حليمة، والخواطر أيضا لحليمة. أمّا، والقصة محكيّة بضمير الغائب، أى على لسان الراوى العليم بكل شىء، فمعنى ذلك أن الأمر لم يكن بهذه السهولة وأنه من حسنات المؤلف الكبيرة. وفضلا عن ذلك فإن الرواية، بوجه عام، تخلو (كما أشرنا من قبل) من هذه النزعة الوجدانية وتلك الشاعرية، مما يعطى النص تميزا إضافيا.
كذلك تخلو الرواية من الوقائع الغريبة التى لا يقبلها العقل مما كان شائعا فى قصص ذلك الزمان، اللهم إلا ما جاء فى مطلعها من أن الشاب هنرى قد رأى فى منامه فتاة شرقية أحبها وتمنى لو تزوجها، ثم لما ذهب إلى مصر قابل بهية، التى كانت تشبه حبيبة أحلامه تمام الشبه، والتى يشكل حبه لها ورغبته فى الزواج منها إحدى عُقَد القصة. فالرواية فى عمومها واقعية لا تطير مع رياح العجائب والمبالغات والأوهام. وقد كان صروف واعيا بهذا الاتجاه الجديد فى الرواية الحديثة، إذ جاء فى "المقتطف" مثلا قبل تأليف صروف لروايته التى نحن بصددها بعدة أعوام أن الفرق بين المنهج القصصى القديم ونظيره الجديد هو أن القدماء لم يكونوا يبالون بإمكان وقوع الأحداث القصصية ما دامت غريبة تَشْدَه العقل. ذلك أنهم إنما كانوا يَنْشُدون التسلية والمتعة. أما الطريقة الجديدة فتحرص على أن تكون أحداث القصص محتملة الوقوع(21). وأغلب الظن أن كاتب هذا الكلام هو صروف نفسه.
ولغة الرواية لغة عصرية سهلة بسيطة منسابة ليس فيها إغراب ولا اهتمام بمتانة التراكيب أو المحسنات البديعية. بل إن أسلوبها لَيَقْرُب إلى حد بعيد من أسلوب المقالات العلمية الصحفية التى كان يكتبها صروف فى مجلة "المقتطف". ولست أستطيع أن أتذكر، مما يغمض معناه على بعض القراء، سوى كلمات "اللَّمَاظ" (أى ما يذاق من الطعام)، و"الحنجر" (أى "الـحُقّ")، و"الأَرْى" (أى "العسل"). ولإعطاء القارئ فكرة سريعة عن طبيعة ذلك الأسلوب أسوق إليه العبارات التالية: "له فى خدمتهم بضع سنوات"، "لا بد من تصفية مركزى غدا"، "سلطان زمانه"، "الله يرضى عليك"، "يشق المرائر"، "المصيبة على المديون" (وبالمناسبة فمن الصرفيين العرب القدامى من كان يقول: "مَدْيُون، ومَعْيُوب، ومَبْيُوع، ومَرْوُوض، ومَسْوُوم... إلخ" بدلا من "مَدِين، وَمِعيب، ومَبِيع، ومَرُوض، ومَسُوم". فاستعمال صروف لــ"مديون" كما ننطقها فى العامية يرتكن إلى أساس فصيح)، "لا أجد من يبلّ شفتى بقطرة ماء"، "انقطعت أخباره عنهم منذ شهر من الزمان"، "أقام فى غرفته، لا طعام ولا شراب، ولا هَمّ له إلا النظر إلى المحفظة التى معه"، "وقالت لأمها أن تخبر أباها"، "وأما أنا فقلبى فارغ لم يدخله أحد"، "كل ما يمكن مشتراه (أى "شراؤه")"...
كذلك ليس ثمة فرق كبير بين لغة السرد ولغة الحوار، التى لا يلحظ القارئ فيها أى لون من ألوان الابتعاد عن الحياة اليومية، اللهم إلا فى قول أحدهم مثلا: "بئس العمل! وبئس المساعدة!"، إذ ليست كلمة "بئس" من ألفاظ الحياة اليومية. وهناك تعبير قابلته مرتين لا أدرى أهو جزء من لغة الحياة اليومية فى بلاد الشام أم لا، إذ هو بالتأكيد غير مصرى. ألا وهو: "نفسى صغيرة"، بمعنى "حزينة بائسة".
والملاحظ أن الحوار دائما ما يكون بالفصحى حين يدور الكلام بين السادة، أما حينما يتحدث الخدم فإنه ينقلب حوارا عاميا، وتبدو عليه مسحة شامية تتمثل فى اختتام الأسماء والأفعال والحروف المنتهية بضمير الغائب المفرد المذكَّر بحرف "الواو"، مثل: "قولى لو انى بَخْدِمُو بعينى"، وكذلك استعمال "ها" قبل الاسم للإشارة إليه كقول أحدهم: "سيدى عزرا مشيّع لك هالخاتم"، بخلاف العامية المصرية التى تقول فى تلك الحالة: "مشيّع لك الخاتم ده" باستعمال كلمة "ده" بعد الاسم المشار إليه. أما إذا كان الحوار بين سيد وخادم فإن الأول يتكلم حينئذ بالفصحى، والثانى بالعامية، كما فى الحوار الموجود ص 125 بين حليمة وفاطمة الخادمة.
ولعل القارئ قد لاحظ أن صروف يكتب على الأقل بعض الكلمات العامية حسب نطقها، وهو ما سبق به محمود طاهر لاشين فى مجموعته: "سخرية الناى"، على عكس ما يُفْهَم من كلام يحيى حقى من أن لاشين هو أول من فعل ذلك بين كتاب القصة(22). وقد زعم يحيى حقى أن عمه محمود طاهر حقى هو الذى مهد لهيكل كتابة الحوار فى "زينب" بالعامية(23)، وهو زعم خاطئ، فها هو ذا صروف، كما لاحظنا، يكتب كلام الخدم فى "فتاة مصر" بالعامية قبله بسنة. وربما كان هناك من سبق صروف بدوره فى هذا، وإن كنت لا أجد فى ذلك الاتجاه مبعثا على الفخر والمباهاة، فنحن من أنصار منهج نجيب محفوظ فى كتابة الحوارات كلها بالفصحى، أيا كانت الشخصية المتحاورة، مع تلوين لغة الحديث بما يوحى بشخصية المتكلم ومستواه الفكرى والنفسى والاجتماعى، وهو ما برع فيه محفوظ رحمه الله براعة هائلة كما هو معروف.
وهناك سمة أخرى فى لغة الكاتب، وهى أنه إذا ما أراد مثلا الربط بين ما وقع لشخصين فى مكانين مختلفين فى ذات الوقت فإنه يقول: "هذا ما كان من أمر فلان، أما علان فإنه قد فعل كذا وكذا". وهذه من البقايا الأسلوبية التى خلّفتها وراءها لبعض الوقت السيرة الشعبية وألف ليلة وليلة. ومثل ذلك أيضا نجده فى روايات جرجى زيدان عن تاريخ الإسلام. إلا أن روايتنا، خلافا لما هو شائع فى السير الشعبية وقصص ألف ليلة، لا تتضمن من الأشعار تقريبا إلا ما جاء فى الحوار على لسان هذه الشخصية أو تلك(24)، وبطريقة طبيعية جدا، وعلى سبيل الندرة. بل لقد أجرى المؤلف على لسان دورا أخت هنرى بضعة أبيات لجورج لنتش من رده على رديارد كبلنج بعد أن عربها منظومة(25). لكن لا يوجد شىء من هذا فى السرد حسبما لاحظت. ومعروف أن يوسف السباعى كان لا يزال، بعد ذلك بعشرات السنين، يحرص على ترصيع سَرْده القصصى بأبيات لمشاهير الشعراء العرب.
ومما يلفت النظر بقوة فى روايتنا التى بين أيدينا أن بعض فصولها، أو على الأقل: أجزاء كبيرة منها، تجىء كلها حوارا خالصا لا يشوبه سرد ولا وصف، فضلا عن أنه لا توجد فى هذه الفصول عبارات ممهدة لكلام الحوار من مثل: "قال، أو صاح، أو صرخ قائلا، أو قاطعه بقوله، أو أجابه وهو ينظر له بغضب...إلخ"، بل يكتفى صروف فى هذه الحالة بذكر اسم المتحاور فقط قبل كلامه مشفوعا بنقطتين متراكبيتن دلالة على أن هذا حوار(26)، ثم يرجع الأمر بعد ذلك إلى وضعه المعتاد، وهو ما يقترب كثيرا مما حاوله توفيق الحكيم فى أواسط الستينات فى "بنك القلق" وسماه"مسرواية"، نَحْتًا من كلمتى "مسرحية" و"رواية".
وفى بعض الأحيان كان السرد يتحول من الفعل الماضى إلى المضارع كما لو كان المؤلف يصف حادثه تقع أمامه مثلما يفعل المعلقون على المباريات الرياضية أو الأفلام المذاعة فى الراديو. مثال ذلك كلام الراوى عقب الفراغ من الحوار الذى دار بين السير إدوارد وزوجته ص 132، إذ قال: "يلتفت السر إدوارد إلى الساعة ويقول: "لا بد من ذهابى الآن، وسنعود إلى الكلام فى هذا الموضوع بعد رجوعى إن شئتِ"، ثم يقبل وجنيتها ويذهب ويدور الحديث فى نادى الصحافة على طلب اليابان قرضا جديدا وعلى كيفية مساعدتها فى الجرائد بالكتابة والترغيب حتى يغطَّى القرض مرارا عديدة. ويعرض على كل جريدة المبلغ الذى يحق لها أن تكتتب به وتأخذ فَرْقه". وهذا يعزِّز ما قلته من أن صروف قد اقترب فى مواضع من روايته من شكل "المسرواية" كثيرا. ذلك أن هذه الطريقة فى استخدام المضارع أشبه التعليقات التى يلجأ إليها الكاتب المسرحى أحيانا عند حكاية ما يفعله هذا أو ذاك من أبطال مسرحيته.
كذلك فإن المؤلف قد يتدخل بين الحين والحين أثناء السرد بتعليق على ما يحكيه، كما فعل حين كان يصف شكل كل من هنرى وأخته دورا وكيف ورث الولد عن أمه صفاتها، على عكس البنت، التى أخذت من الأب ملامحها، إذ قال: "وهذا هو الغالب فى وراثة الأخلاق العقلية والأوصاف البدنية: الذكر يرث من أمه، والأنثى من أبيها"(27). وفى مثل هذا التعليق تتضح ثقافة صروف فى مجال العلوم الطبيعية، التى كان متخصصا فيها، ومهتما بنشر آخر مستجداتها فى مجلة "المقتطف"، التى كان يرأس تحريرها لفترة طويلة. وهناك مَثَلٌ أخَرُ على هذه السمة سبق أن أوردناه فيما مضى من صفحات هذه الدراسة.
وأخيرا فإذا كان مسرح رواية "زينب" هو الريف المصرى، فإن روايتنا هذه إنما تدور فى القاهرة. وكلاهما أمر طبيعى، فإن صروف لم يكن مصريا، بل أتى أرض الكنانة من لبنان، ولم يعرف من بلادنا إلا المدينة. أما هيكل فكان، وهو يكتب روايته فى أوربا، يستعيد ذكريات الوطن العزيزة. وهل من ذكرى لابن الريف تضارع ذكريات القرية التى عاش فيها طفولته وصباه وشبابه وذاب هياما فى حقولها وسمائها وأشجارها وجداولها وسواقيها وأهرائها وحدائقها لدرجة الاتحاد، بل لدرجة الفناء؟ لقد صور هيكل فى روايته حقول القطن والبرسيم والأشجار والطيور وأجران القمح والشروق والغروب والفصول الأربعة والفلاحين الأُجَراء والسادة أصحاب الأطيان، أما صروف فقد رسم لنا صورة للقاهرة فى أوائل القرن الماضى بنشاطها السياسى والاقتصادى وشوارعها ومركباتها ودَوْر اليهود المرابين فيها وأوضاع الأسر الأرستقراطية...إلخ. فكلتا الروايتين تكمل الأخرى فى إمدادنا بصورة لمصر فى العِقْدين الأولين من القرن العشرين.
الهوامش:
<!--وهناك رواية ثالثة موجودة فى مكتبتى الخاصة، ولكنى لم أقرأها بعد، وهى رواية "فى وادى الهموم" لمحمد لطفى جمعة، التى أصدرها صاحبها عام 1905م أيضا. ومع أنى لا أستطيع أن أصدر عليها حكما فنيا لهذا السبب فبإمكانى، وأنا مستريح الضمير، أن أنبه إلى أهمية المقدمة التى كتبها لها مؤلفها، إذ هى بمثابة بيان (أو لمن يحبون الرطانة بالمصطلحات الأجنبية: بمثابة "مانيفستو") نقدى، إذ سبق جمعة عصره فهاجم الاتجاه الخيالى فىكتابة القصص ودعا إلى النزول لأرض الواقع والتمسك بتلابيبه وغير ذلك، مما أبرزته فىكتابى: "محمد لطفى جمعة وجيمس جويس" (عالم الكتب/ 1421هـ- 2001م/ 9- 11).
<!--انظر كتابى المذكور/ مكتبة زهراء الشرق/ 1418هـ- 1998م/ 67- 68.
<!--ص 128 من الرواية/ مطبعة جريدة المقتطف.
(4) ص 138.
(5) انظر ص 47 وما بعدها.
(6) ص 20.
(7) ص 23.
(8) ص 36- 37.
(9) ص 37.
(10) ص 20- 21.
(11) ص 23.
(12) ص 35، 105- 106.
(13) ص 136. وكنت قرأت، فى أواخر سبعينات القرن الفائت بأوكسفورد، مذكرات ولفرد سكاون بلنت بالإنجليزية، وفيها كلام كثير عن صديقه الشيخ محمد عبده، وأذكر أنه قد غمز عقيدة الشيخ فى مسألة البعث والحساب، وصوّره فى صورة المتشكك اللاأدرى، وهو ما أنكرتُه ولم أصدقه. وأذكر أيضا أننى قرأت فى إحدى المجلات الثقافية المصرية بعد ذلك بقليل ترجمة كلام بلنت عن الأستاذ الإمام إلى العربية (ولعل المترجم هو محمد أمين حسونة) فلاحظت غياب الفقرة التى قال فيها المستشرق الأيرلندى فى عقيدة الشيخ ما قال. لكن ها هو ذا يعقوب صروف يسوق للشيخ أحمد فى النشور رأيا آخر مخالفا لما جاء فى مذكرات بلنت.
(14) ص 148- 150.
(15) ص 153.
(16) ص 156.
(17) ص 111.
(18) انظر الصفحات 112- 121.
(19) حليم هذا هو أخوها.
(20) ص 125- 127.
(21) المقتطف/ عدد فبراير 1901م/ 145.
(22) انظر مقدمته لمجموعة "سخرية الناى"/ الدار القومية للطباعة والنشر/ 1383هـ- 1964م/ ب.
(23) نفس المرجع والصفحة.
(24) انظر مثلا ص 156 حيث يتمثل كل من الشيخ أحمد وأستير ببيت من الشعر مصداقا لما يقول.
(25) ص 62.
(26) من ذلك مثلا الفصل المسمى: "تغير الشؤون" من ص 101 فصاعدا، والمشهد الذى عنوانه: "فى بطرسبورج" ص 118- 119، وكذلك المشهد الآخر المسمَّى: "القاهرة" من ص 121 فما بعدها.
(27) ص 1.