مع قصيدة "أماه" لسميح القاسم
إبراهيم عوض
"حَبَا فى ساحة الدارِ
وكَرْكَرَ حين فاجأها جوار السور مطروحهْ
وفاجأ بِضْعَ أزهارٍ
مبعثرةٍ على صدرٍ جميعُ عُرَاه مفتوحهْ
تصيح: تعال يا ولدى، تعال ارضعْ
فخَفَّ لها على أربعْ
وغرّد ثغرُه: أُمّاهْ
وكَرْكَرَ حين لم تسمعْ
وشدَّ رداءها، ورُؤاه دغدغةٌ وأُرجوحهْ
وردَّد عاتبًا: أُمّاهْ!
وظلَّتْ فى جوار السور مطروحهْ
وظلَّتْ بضعُ أزهارٍ تنِزُّ دمًا
على صدرٍ جميعُ عُراه مفتوحهْ
تصيح: تعال يا ولدى!"
* * *
هذه المقطوعة، رغم قصرها الملحوظ، بليغة فى الدلالة على وحشية الصهاينة المجرمين. وهى تقابل بين هذه الوحشية الإجرامية وبين البراءة والعجز المتمثلَيْن فى الطفل الرضيع الذى كل ما يستطيعه هو الحَبْو فى ساحة الدار، وغاية ما يمكن أن ينطق به هو لفظة: "أماه". فأما بالنسبة للوحشية الصهيونية الإجرامية فقد اكتفى الشاعر بوصف الأم "مطروحةً" بجوار سور البيت، لا تردّ على طفلها الرضيع الذى يغرد ثغره مرةً باسمها الحبيب، ومرةً يكركر ضاحكا ظنًّا منه أن ضَحِكه سيُخْرِجها من صمتها وانشغالها عنه. وحين لا ترد عليه بعد ذلك كله يعود فيناديها هذه المرة نداء المعاتب: "أماه"، ولكن ما من مجيب إلا الصمت الأخرس: فلا حفيف نسمة، ولا زقزقة عصفور، ولا هدير سيارة، ولا حتى مواء قطة أو نباح كلب! ترى هل يريد الشاعر أن يقول إن هذه الوحشية قد صدمت الكون، وأخرست فى فمه الكلمات والأصوات؟ أم تراه يقصد إلى إبراز وحدة "الطفل" فى مواجهة هذه الوحشية الجبانة، وهو، كما نرى، ما زال رضيعا عاجزا، إذ لا يستطيع أن يمشى بل يحبو، ولا يقدر من الكلام إلا على التلفظ بكلمة "أماه"، وهى أقرب إلى الصوت الفطرى منها إلى الكلام المقصود؟ لكن لماذا اكتفى الشاعر، وهو يشير إلى وحشية الصهاينة المجرمين، بتصوير الأم مطروحةً بجوار السور تنزّ دما؟ ألعله لا يرى فائدة من الكلام بعد أن أفاض المصلحون والغَيَارَى والمتكلمون والخطباء والشعراء فى إيقاظ أمتهم للوقوف وقفة الرجال فى وجه أولئك الوحوش فلم يُؤْتِ ذلك الثمرةَ المبتغاة؟ ترى أقد عزف عن ذكر تفاصيل الجريمة الشنعاء اشمئزازا منها ومن مجترحيها؟ ترى أقد هدف إلى إبراز جو العجز والخرَس الذى يغلّف اللوحةَ والذى حين مزقته صيحة ظهر لنا على الفور أنها صيحة خرساء، مجرد صيحة معنوية، صيحة صاحتها الأزهار التى على صدر الأم الصريعة:
وفاجأ بضعَ أزهارٍ مبعثرةٍ على صدرٍ جميعُ عُراه مفتوحهْ
تصيح: تعال يا ولدى، تعال ارضع؟
بَيْد أن الشاعر لم يكتف بهذا، بل اقتصر فى بداية قصته على استعمال ضمائر الغائب التى لا توضح شيئا، إذ لم يسبقها ما تعود عليه، رغم أن الضمائر، كما يقول النحاة، هى أعرف المعارف:
حَبَا فى ساحة الدارِ (من الذى حبا؟)
وكركر حين فاجأها جوار السور مطروحهْ (من التى فاجأها جوار السور مطروحة؟)
وقليلا قليلا يتضح لنا مقصود الشاعر، وإن كان التأكد من أن الأم قُتِلَتْ قد تأخر إلى قرب نهاية المقطوعة. إن جَوًّا من الغموض بل الخَرَس يلفّ الأبيات.
وكما قابل الشاعر بين وحشية الصهاينة المجرمين وعجز الطفل الرضيع نراه يقابل بين ما يتوقعه هذا الطفل البرئ وبين الواقع الأليم:
وشَدَّ رداءها، ورُؤاه دغدغةٌ وأُرجوحهْ
وردد عاتبا: أماه!
وظلت فى جوار السور مطروحهْ
وظلت بضع أزهار تنز دما
كذلك فإن الشاعر، كما أوجز فى تصوير وحشية الأدنياء الأنذال، إذ اكتفى فى الإشارة إلى قتلهم إياها بقوله: "مطروحه...بضع أزهار تنزّ دما" وإلى اعتدائهم على عرضها بـقوله: "صدرٍ جميع عراه مفتوحه"، نجده قد أوجز أيضا بل ا كتفى بالتلميح إلى أن دم الأم فى هذه الجريمة النكراء لن يضيع هدرا. إن الطفل لا يزال رضيعا، ومعنى ذلك أن أمامه العمر كله يستطيع أن يأخذ بالثأر فيه لأمّه وأمته. كذلك جعل الشاعرُ الأزهارَ هى التى تنزّ الدم لا صدر الأم. لقد اعتدى هؤلاء المتوحشون على السلام والبراءة، وحطموا كل ما هو جميل ورقيق.
ثم ما معنى: "تعال يا ولدى"، هذا النداء الذى صاحت به الأزهار على صدر أمه مرتين فى هذه القصيدة؟ لقد فهم الطفل الصغير البرىء أن صدر أمه يناديه إلى الرضاع، لكنه يفاجأ ألاّ رضاع هناك ولا حنان، بل دم تنزفه بضع أزهار على صدر هذه الأم. لكن ألا يمكن أن يكون تكرير هذا النداء مرة أخرى بعد أن رأى الطفلُ الدمَ، معناه: "تعال يا ولدى، تعال انظر كى تنتقم لى بعد أن تكبر"؟ لاحظ أن الشاعر يقول: "تصيح: تعال يا ولدى"، وقد كان الطفل قريبا من أمه، فلم يكن ثَمَّ داع للصياح لو كان المقصود هو دعوته للرضاع. إن الصياح هنا، إن صح هذا التوجيه، هو استحثاث للطفل وإلحاح عليه ألا ينسى الجريمة الوحشية البشعة!
* * *
وقد أستطيع أن أرى فى هذه الأبيات رمزا إلى حالنا نحن العرب والمسلمين مع أعدائنا الذين أذلونا ومرّغوا كرامتنا فى الوحل. نعم قد أستطيع أن أرى فى الطفل رمزا إلينا، وفى أمه المجندلة المقتولة رمزا إلى فلسطين، بيد أنه من الصعب علىّ مع ذلك أن أجد التوازى الكامل بين الطفل (الرمز) وبيننا (المرموز إليه). صحيح أن الطفل عاجز، بالضبط كعجزنا، وقد بلغ من عجزه أنه لا يستطيع حتى المشى، بل يحبو على أربع، وهو ما ينطبق على حالنا فى هذه المرحلة النكراء السوداء من تاريخنا، لكن الطفل هنا برىء، أما نحن فأين البراءة منا؟ وأين نحن من البراءة؟ إننا أى شىء إلا أن نكون أبرياء! لقد أجرمنا، وما زلنا، فى حق أنفسنا، وفى حق تاريخنا، وفى حق أسلافنا ومستقبل أولادنا من بعدنا! ومن ثَمَّ فإن ضميرى الأدبى لا يقدر على أن يظلم هذا الطفل البرىء بمقارنتنا به، وإن كان رمز الأم إلى فلسطين العربية المسلمة يَسُوغُ فى العقل والقلب جميعا.
* * *
والآن إلى قراءة الأبيات مرة أخرى لعلها أن تقرص الجلود الثخينة وتجعلها تحسّ:
"حَبَا فى ساحة الدارِ
وكَرْكَرَ حين فاجأها جوار السور مطروحهْ
وفاجأ بِضْعَ أزهارٍ
مبعثرةٍ على صدرٍ جميعُ عُراه مفتوحهْ
تصيح: تعال يا ولدى، تعال ارضعْ
فخَفَّ لها على أربعْ
وغرّد ثغرُه: أماهْ
وكَرْكَرَ حين لم تسمعْ
وشدَّ رداءها، ورُؤاه دغدغةٌ وأُرجوحهْ
وردد عاتبًا: أماهْ!
وظلّتْ فى جوار السور مطروحهْ
وظلّتْ بضعُ أزهارٍ تنِزُّ دمًا
على صدرٍ جميعُ عُراه مفتوحهْ
تصيح: تعال يا ولدى!"
<!--