تحنّ إلى ليلى بجوّ بلادها * وأنتَ عليها بالملاَ كنتَ أَقْدَرا؟
وكيف تُرَجّيها وقد حيل دونها * وقد جاوزتْ حَيًّا بتيماءَ منكرا؟
لعلكِ يومًا أن تُسِرِّي ندامةً * عليَّ بما جَشَّمْتِني يوم غضْوَرا
... ثم إن بني عامر أخذوا امرأة من بني عبس ثم من بني سكين يقال لها: أسماء. فما لبثت عندهم إلا يوما حتى استنقذها قومها. فبلغ عروةَ أن عامر بن الطفيل فخَر بذلك وذكر أخذه إياها، فقال عروة يعيرهم بأخذه ليلى بنت شعواء الهلالية:
إن تأخذوا أسماءَ موقفَ ساعةٍ * فمأخذ ليلى وهي عذراء أعجب
لبسنا زمانا حسنَها وشبابَها * ورُدَّتْ إلى شعواءَ والرأس أشيبُ
كمأخذنا حسناءَ كَرْهًا ودمعها * غداة اللوي معصوية يتصبب"
كان المجتمع الجاهلى إذن يعرف الإماء. لكن لا بد أن نضيف أن السِّباء لم يكن شأنًا خاصًّا بالعرب، بل كان يمارَس من قِبَل الأمم الأخرى كما هو معلوم. ومع ذلك كان الشعوبيون يلمزون العرب من هذه الناحية يريدون الإيهام بأنهم هم وحدهم الذين كانت نساؤهم تُسْبَى. فمن ذلك ما جاء فى كتاب "العِقْد الفَرِيد" لابن عبد ربه نقلا عن الشعوبية على النحو التالى مما يمكن الرد عليه، وإن كنا لا ننكر وجود السباء عند العرب، شأنهم فى ذلك شأن الأمم كلها فى العصور القديمة من يونان وفرس ورومان وزنوج وعبريين وصينيين وهنود. قالت الشعوبية: "ما الذي تَفْخر به العَرب على العجم، وإنما هي كالذّئاب العادية، والوُحوش النَّافرة، يَأْكل بعضُها بعضًا، ويُغِير بعضها على بَعْض. فرجالُها مَوْثوقون في حَلَق الأسْر، ونساؤها سَبَايا مُرْدَفات على حَقائب الإبلِ، فإذا أدركهنَّ الصَّرِيخ فاستُنْقِذن بالعشيّ، وقد وُطِئْن كما تُوطَأ الطَّريقُ المَهيْع، فَخَر بذلك الشاعر فقال:
وأَلْحَقُ رَكْب الـمُرْدَفات عَشِيّةً
فقيل له: وَيْحك! وأيّ فَخْر لك في أن تَلْحقهن بالعشى، وقد نُكِحْن وامْتُهِنَّ؟
وقال جَرِير يعيّر بني دارم بغَلَبَةِ قَيْسٍ عليهم يومَ رَحْرَحَان:
وبَرحْرحانَ غَدَاةَ كُبِّل مَعْبدُ * نُكِحت نِساؤُكم بغير مُهُورِ
وقال عَنترة لامرأته:
إنَّ الرِّجال لهم إليكِ وَسيلةٌ * إِنْ يَأخذُوك تَكحَّلي وتَخضَّبِي
وأنا امرؤ إن يَأخذُوني عَنْوَةً * أُقْرَنْ إلى سَيْر الرِّكاب وأُجْنَبِ
ويكونُ مَرْكبَك القَعُودُ ورحلُه * وابن النَّعامة عند ذلك مَرْكبي
أراد بابن النعامة: باطنَ القَدم. وسَبَى ابنُ هَبُولة الغَسَّاني امرأةَ الحارث بن عَمْرو الكِنْديّ، فَلحِقه الحارث فَقَتله وارتَجع المرأة، وقد كان نالَ منها. فقال لها: هل كان أصابَك؟ قالت: نعم واللّه، فما اشتملت النِّساء على مِثْله. فأوْثقَها بين فَرَسين، ثم استَحْضَرَهما حيث قَطّعاها، وقال في ذلك:
كل أنْثى، وإنْ بدَا لك مِنها * آيةُ الوُدِّ، عَهدُها خَيْتَعُورُ
إنَّ مَن غَرَّه النساءُ بوُدٍّ * بعد هِنْد لجاهلٌ مَغْرُورُ
وسَبَت بنو سليم ريحانة أختَ عمرو بن مَعْدِ يكرب فارس العَرب، فقال فيها عمرو:
أَمِنْ رَيْحانةَ الدَّاعِي السَّمِيعُ * يُؤرِّقني وأصْحابي هُجُوعُ؟
وفيها يقول:
إذا لم تَسْتَطع أمرًا فَدَعْهُ * وَجَاوِزْه إلى ما تَسْتَطِيعُ
وأغار الحَوْفزان على بَنِي سَعْد بن زَيْد مَناة، فاحتمل الزرْقاءَ من بَني ربيع بن الحارث فأعْجبته وأعجبها، فوَقع بها. ثم لَحِقَه قَيْس بن عاصم، فاستَنْقَذها ورَدّها إلى أهلها بعد أن وقع بها".
ولقد علقت على هذا فى كتابى: "هوامش على "تاريخ العرب" لفيليب حِتِّى" فقلت ما نصه: "أما ما قَرَفَ به الشعوبيون أعراضَ العرب مدعين أن السَّبِيّة العربية فى الجاهلية كان سُبَاتُها ينتهكون عرضها فى الطريق، ثم إذا ما استخلصها زوجها من أيدى الآسرين شرع يطنطن بأنه قد حمى عرضه وأنقذه من التلوث بعد أن يكون الآسرون قد اعتدَوْا على عرضه وانتهى الأمر، فهو زعم لا يصمد للتحليل. إذ من المفهوم أن الزوج فى هذه الحالة لا يضيع وقتا بل يهب لساعته مطاردا من خطفوا زوجته، ومعه بعض أفراد قبيلته بطبيعة الحال. وفى مثل تلك الظروف لا يكون هناك وقت أمام الخاطف كى ينزل عن ناقته أو فرسه فى الطريق ويستمتع بأسيرته، بل يعمل بكل طاقته على الاستمرار فى الهرب حتى لا يدركه الزوج المطارِد، بل لا تكون عنده فى الحقيقة أية رغبة سوى النجاة بنفسه وبخطيفته. ثم إنه ليس من المعقول أن تمكنه السبيّة من نفسها دون أية مقاومة. ذاك شىء يخالف الفِطَر. وعلى ذلك فما قاله العائبون على العرب فى هذه النقطة هو كلام فى الهواء غالبا، فلا يُلْتَفَت إليه. وإلا فلو كان ذلك الكلام صحيحا أكان يجد العربى فى نفسه الرغبة فى الافتخار بإنقاذ زوجته، بينما هو يعلم، وكذلك الجميع يعلمون، وأولهم الخاطف، أن العدوان على العِرْض قد وقع، أو كان يسكت عنه خصوم القبيلة فلا يردوا عليه ويسخروا منه ومن أوهامه وطنطناته التى لا تسمن ولا تغنى من جوع؟
أما الحكاية التى تقول إن ابن هَبُولة الغَسَّاني قد سبى امرأةَ الحارث بن عَمْرو الكِنْديّ، فَلحِقه الحارث فَقَتله وارتَجع المرأة، وقد كان نالَ منها، فقال لها: "هل كان أصابَك؟"، قالت: "نعم واللّه، فما اشتملت النِّساء على مِثْله"، فهو كلام لا يدخل العقل، إذ أين هى الزوجة التى تردّ بهذا الرد على زوجها فى ظروف كهذه؟ ودعك من معرفتها أن مصيرها حينئذ هو القتل الوَحِىّ. إنما هى حكاية ملفقة للإساءة إلى زوجها.
كذلك هل يمكن أن تكون صحيحة تلك الحكاية التى تقول إن بنى سليم قد سَبَوْا ريحانةَ أختَ عمرو بن مَعْدِيكَرِب فارس العرب، فاكتفى عمرو بنظم بضعة أبيات يفضح نفسه وأخته وبيته بل قبيلته كلها، وكان الله يحب المحسنين، ثم مضى فتغزل فى سلمى متدلها فى حسنها، متذكرا لهوه فى شبابه بأمثالها، بدلا من أن يكفأ على الخبر ماجورا ويكفى نفسه الخزى والعار؟ بالله أهذا وقت غزل واستعادة ذكريات وافتخار بلهو الشباب؟ أم هل من المعقول أن يكون هذا هو كل ما فعله الشاعر حين سُبِيَتْ أخته، لينساها بعد ذلك إلى الأبد فلا ثأر ولا محاولة لاستعادتها كرة أخرى؟
على أن التفسير الذى يصحب هذه الأبيات يتحدث عن زواج دريد بن الصمة لريحانة لا اعتدائه على عِرْضها غَصْبًا كما يقول الشعوبيون. وهناك تفسير آخر للأبيات يختلف عن هذا ويَفْضُله فى الإقناع، ولا صلة بينه وبين سَبْى أخت الشاعر بحال من الأحوال، إذ يتحدث عن زوجة للشاعر طلقها بتأثير بعض المخادعين، ثم لما استبان له أنه وقع ضحية للخداع أنشأ القصيدة المذكورة"<!--.
لكن ليس معنى ردى على هذا السخف الشعوبى أن العرب لم يكن عندهم سِبَاء، بل كان هذا جزءا من نظامهم الاجتماعى كباقى الأمم الأخرى فى تلك الأعصر القديمة. فهل يُعْقَل أن العرب جميعا كانوا يعاملون الأسيرات عندهم دائما أبدا بالاحترام الذى افتخر حاتم الطائى بأنه كان يعامل به أسيراته من القبائل المعادية؟ بكل يقين هم لم يكونوا ملائكة مبرأين من كل مأخذ.
ومثلُ ذلك القولُ بأن كل انتصارات العرب كانت فى معارك واضحة صريحة لا خداع فيها ولا غدر ولا تضليل. ذلك مما لا يشاكل طبائع البشر. والحرب خدعة كما يعرف الناس جميعا. بل إن القبائل كان يُغِير بعضها على بعض ويُبَيِّت بعضهم بعضا، والغارة والتبييت عبارة عن هجوم مباغت، فلا صراحة فيه ولا وضوح. ثم إن الحروب لم تكن كلها سيوفا ورماحا حتى تكون المواجهة مباشرة دائما، بل هناك أيضا السهام مثلا، وهو سلاح يصوَّب من بعيد، ومن ثم لا اعتبار للمساواة بين القِرْنين، ولا مجال للفروسية وأخلاقها. بل لقد كان الملوك أنفسهم لا يتنزهون عن الغدر، فما بالنا بغير الملوك؟ ففى "الأغانى" أن تُبَّعًا استدعى أُحَيْحَة بن الجلاح من يثرب ومعه بعض رجال قومه، فظنوا أنه يريد أن يملّكهم على يثرب بلدهم. إلا أن أحيحة أكد لهم أنه إنما يريد الغدر بهم واغتيالهم ومصادرة ممتلكاتهم، وهو ما كاد أن يقع لولا أنه كان قد أخذ حذره لذلك مسبقا، وهرب من تبع قبل أن يضع يده عليه، إذ ترك قَيْنَته وفر راجعا يحتمى بأُطُمٍ لأهله بعدما لقن القينة كيف تتصرف عقب فراره حتى تشغل رجال تبع فلا يستطيعوا اللحاق به. وهذا كله، وهو مجرد عينة ضئيلة مما كان يقع فى الجاهلية، يبين لنا بقوةٍ أن الأمر على غير ما وصفه لنا أدونيس، الذى لم يكن يوثِّق ما يقول أو يستوثق منه، بل ينطلق فى كلام إنشائى يسود به الصفحات ليس له فى العلم كبير قيمة.
وبالنسبة للحب يذكر أدونيس أن تلك العاطفة عند العربى كانت تنطلق من الجسد، وأن العيد الأول فى حياة العربى هو عيد الجسد حيث تتوحد الشهوة واللذة والنشوة<!--. لكن أدونيس لا يتركنا نهدأ، بل سرعان ما يضيف أن هناك، إلى جانب هذاالنوع من الحب، الذى جعله هو الحب الوحيد كما رأينا، حبا عذريا<!--. ولو كان دقيق الفكر والعبارة لقال منذ البداية إن هناك لونين من الحب. لكن لأنه مندفع لا يبالى أين يقع كلامه وجدناه يقول بجسدانية الحب العربى، وهو ما يدل على إيمانه بأنه هو اللون الوحيد من الحب لديهم، لنفاجأ كعادتنا مع ما يكتبه أدونيس أن هناك نوعا آخر من الحب هو الحب العذرى. وهذا تناقض سببه عدم الدقة فى الكلام بل عدم الدقة فى التفكير. وهناك عيب آخر فى أدونيس ظهر أثناء تناوله لهذه القضية أيضا هو أنه يلجأ إلى العبارات المهوشة التى لا يحصِّل منها القارئ شيئا، فأدونيس مغرم بالكلام المجعلص الذى يصدع الدماغ ثم لا يخرج الإنسان منه بطائل، فمعظم ما كتبه فى الموضوع الذى نحن بصدده هو، فى الواقع، قشر لا وظيفة له.
ومن كلام أدونيس الإنشائى الذى يكذبه الواقع أيضا قوله إن "العالم بالنسبة إلى الشاعر العذرى صورة شفافة لحبيبته. كل شىء فيه يصير على مثال حبه: يصفو، يتلألأ، يخلع ثوبه الكثيف المعتم ويصير روحا". وبعد عدد من الشقلباظات البهلوانية التى لا نخرج منها بشىء يضيف قائلا إن الشاعر العذرى "يدرك بفطرته الميل الغريزى عند المرأة للمعذَّبين الذين صعقهم القدر، وبالتالى لمواساتهم والتخفيف من آلامهم. لهذا كان يقدم نفسه لحبيبته فى حركة من التعاطف الأولى، ويصور نفسه جريحا معذبا ويدعوها إلى أن تبادله حبه ليتم شفاؤه. إنه بذلك يصور لها أعماقها، فهى بغريزتها لا تريد أن ترى فى العالم إلا الطفولة التى لا يجوز لها أن تعذَّب أوتشوَّه". ثم يعود أدونيس بعد هذه الأسطر، التى استطعت أن أستخلصها من بين كثير من الجمل التى لا أحقق لها معنى، إلى ما كان فيه من شقلباظات بهلوانية.
ولكن هل الأمر كما صوره أدونيس؟ هل عند المرأة، المرأة بإطلاق، أى بـ"ألف ولام" الماهية، ميل غريزى للمعذبين الذين يصعقهم القدر تواسيهم وتخفف آلامهم... إلى آخر ما قاله؟ فمن إذن يا ترى كان يعذب هؤلاء الشعراء العذريين؟ إنها المرأة. لو أن أدونيس قال إن لدى بعض النساء هذا الميل المشار إليه لكان مصيبا، أما أن يعمم هذا على كل النساء فهو مصيبة. وفرق بين أن يكون الإنسان مصيبا وبين أن يكون مصيبة بل كارثة. ولو ذهبنا نستقصى أخبار العذريين لوجدناهم فى الأغلب الأعم يحبون من طرف واحد ولا تبادلهم حبيباتهم حبا بحب، فهن لا يهتممن بهم ولا يلتفتن إلى صراخهم ولا يبالين بهم أوبالنيران المشبوبة فى قلوبهم، تلك التى تحول حياتهم إلى سعير، بل يتزوجن رجالا آخرين غيرهم. والمرأة، فيما يبدو، تميل إلى الرجل المقتحم لا الذى يبقى فى مكانه يولول وينظم الشعر فى التعبير عن هيامه بها تاركا الآخرين يفوزون بها قبله.
ولو كان المحبون يفوزون بقلوب حبائبهم بسبب ما يقولونه لهن من كلام جميل رائع فى التعلق بهن والثناء على حسنهن لكان الشعراء العذريون أول الناجحين فى دنيا الغرام. لكن الواقع غير ذلك. فكم من امرأة نظم عاشقها أشعارا ملتهبة فيها لكنها لم تستجب له، بل ربما زادتها تلك الأشعار نفورا منه على نفور. وفى أحسن الأحوال قد تفرح، زَهْوًا منها وتِيهًا على بنات جنسها، بما ينظم من شعر يعبر عن تعلقه العنيف بها، ثم لا شىء بعد ذلك. ذلك أن الحب ليس هو الناحية النفسية وحدها تلك التى يركز عليها الشعراء العذريون، بل الناحيتين: النفسية والجسدية. أما الحب النفسى وحده فحب ناقص لا يلبى نداء الطبيعة البشرية كما ينبغى أن تكون التلبية.
وأذكر أن الشاعر كامل الشناوى كان مغرما بإحدى المطربات، ثم رآها ذات مرة مع قَصّاص فى مكان بعيد عن العيون يناجيها وتناجيه، ويمسك بيدها ويميل عليها وما إلى ذلك مما يفعله بعض العشاق فى الخلوات أو شبه الخلوات، فانصرف متألما غاية الألم ونظم قصيدة رائعة يعبر فيها عن لهيب الحب الذى يقاسى نيرانه وما صنعته تلك المطربة بقلبه جراء ما فعلته مع القصاص الذئب. ثم زاد فأعطاها القصيدة كى تقرأها فتفهم ما يجنه قلبه لها من وله، فما كان منها بعدما قرأت القصيدة الجميلة إلا أن أبدت إعجابها بها ورغبتها فى غنائها، وهو ما كان، ثم لم تنوّله قلبها رغم هذا، بل بقيت العلاقة بينهما كما كانت قبلا: هى تعطى قلبها لسواه، أما هو فللشعر والحرمان والآلام.
هذا، ولا ينبغى أبدا أن يغيب عن بالنا أنه متى ما نال الشخص قلب حبيبته وصار مطمئنا من جانبها فإن الحب يهدأ عنده، وقد يخبو. ومن هنا لا نجد، إلا فى الشذوذ الذى لا يقاس عليه، حبا ملتهبا ولا شعرا مولها بين الأزواج، اللهم إلا أن تكون الزوجة قاسية لا تبذل قلبها، أو لا تبذله بما فيه الكفاية، لزوجها. وكثيرا ما أقول: لو أن ابن زيدون مثلا كُتِبَ له أن يحصل على ولادة ويتزوجها لخبت نيران ذلك الحب العبقرى الذى كان وراء نونيته العجيبة التى لا يوجد مِثْلَها كثير من الشعر إبداعا فنيا وتوهجا عاطفيا وروعة أسلوبية. ومن ثم فإن القصائد التى ينظمها العذريون هى أكبر دليل على نقيض ما يقوله أدونيس، إذ لو كانت المرأة التى يقع العذرى فى هواها تعطف عليه لانتهى عذابه فى الحال. وأخيرا هل كان هناك شعراء "عذريون" (بهذا الاسم) جاهليون خالصو الجاهلية؟ إن الدارسين يقولون إن أولئك الشعراء إنما ظهروا فى عصر بنى أمية، ولم يكن منهم قبل ذلك إلا عروة بن حزام، كما هو الحال لدى د. طه حسين فى الجزء الأول من كتابه: "حديث الأربعاء". وقد مات عروة سنة30 للهجرة، فهو إذن مخضرم لا جاهلى. أما صاحب "الأغانى" فقد وصفه (فى الفصل الخاص بأخباره) بأنه أحد "المتيَّمين"، مَثَلُه فى ذلك مَثَلُ المرقّش الأكبر وعبد الله بن العجلان، وإن كان قد جعله إسلاميا لا مخضرما، كما نص على أنه من قبيلة بنى عُذْرة. لكنْ هناك فى المقابل د. يوسف خليف، الذى يرى أن الجاهلية عرفت شعراء يشبهون الشعراء العذريين يسمَّوْن: "المتيَّمين"<!--، وهو ما وجدناه عند الأصفهانى. إلا أننا حتى لو قلنا بما يقوله د. خليف لقد كان أحرى بأدونيس أن يعرف أن مصطلح "العذريين" لم يكن معروفا فى الجاهلية، ومن ثم لم يكن ينبغى أن يتحدث عن حب عذرى ولا محبين عذريين قبل الإسلام، بل عن "متيَّمين". فهو، فى أحسن الأحوال، قد استعمل مصطلح "العذريين" فى غير موضعه ولا سياقه الصحيح. وبالمناسبة فإننا لا نذهب مذهب د. طه حسين، الذى يؤكد أن الشعراء العذريين ليس لهم وجود أصلا<!--. وقد سبق أن رددت عليه فى كتابى: "من قضايا الدراسة الأدبية المقارنة" فى الفصل الخاص بقصة مجنون ليلى وانتقالها من الأدب العربى إلى غيره من الآداب كالأدب الفارسى والأدب الأوردى والأدب التركى.
وبعد كل هذا الذى قاله أدونيس فى موضوعنا الحالى يعود فيقول إن فى الجسدية، شأن العذرية، بعدا روحيا ونارا سحرية تدفئ وتضىء. ثم يعود مرة أخرى فيقول إن الحب الجسدى هو إله يُعْبَد، وإن كان إلها ملعونا. ثم يقفز قفزة أخرى من قفزاته البهلوانية قائلا إن المرأة هى، بالنسبة إلى الشاعر الجاهلى، مكان يتصالح فيه مع الزمان والموت. أما كيف ذلك فهو كلام، والسلام. وإذا كنا قد قرأنا عند أدونيس أن الشاعر الجاهلى كان يعيش حياته منفصلا عن العالم لا تربطه به آصرة، بل تفصل بينه وبين العالم وأشيائه هاوية تشعره بنقصه، وتجعله كئيبا معتزلا منتظرا متململا مغامرا، فها هو ذا أدونيس نفسه لا أحدٌ آخرُ يعود فيقول إن غاية الشاعر الجاهلى هى التحدث مع الواقع ووصفه والشهادة له دون أية محاولة من جانبه أن يرى فى ذلك الواقع أكثر مما فيه فعلا. ثم يضيف أنه كان بريئا أمام الطبيعة، واقعيا غنائيا صافيا، يشهد للأشياء المحيطة به بروح التعاطف، ويغنى للفرح والمأساة، وللغبطة والكآبة، وللحب والكراهية، وللتمرد والرضا، وللرجاء واليأس<!--. ولا أدرى فى الواقع كيف يتسق هذا الذى يقوله الآن مع ذاك الذى قاله قبلا! أما قوله عقب ذلك إن الشاعر الجاهلى كان يريد أن يتشيأ فيكون خيمة وامتدادا صحراويا وليلا فهذا ليس نقدا ولا علما، بل هو بهلوانيات، ولا داعى لأن أقول شيئا آخر.
ثم يعود مرة ثالثة ليقول إن الشاعر الجاهلى، لكونه يرى الأشياء تعبر كالغيم وسرعان ما تضيع، كان يتشبث بالحاضر ويملأ المسافة بينه وبين العالم فيشعر بالسيادة على الطبيعة بعد أن يثأر منها. ثم يقول كذلك إن الصحراء فضاء متشابه أو يكاد لا يتغير، فما نراه أمس نراه اليوم، وسوف نراه غدا<!--. وكما يرى القارئ الكريم لا يستقر أدونيس على كلام واحد، إنما هى خطرات من وساوسه تنشأ ثم تذهب لتعقبها خطرات أو وساوس أخرى تنشأ ثم تذهب... وهكذا دواليك. أما قوله إن الصحراء<!-- من حول الشاعر الجاهلى كانت ثابتة لا تتغير أو لا تكاد، فهو كلام غير صحيح، إذ التغير فى الصحراء أسرع منه فى الحضر. كيف؟ إن الرياح تحمل الرمال من مكان إلى آخر، والسيول تجرف أمامها كل شىء، والكثيب الذى كان موجودا أمس فى هذا المكان أو ذاك سرعان ما يزول متى ما هبت الريح أو هطلت السيول ولا يعود هناك، فتتغير معالم الصحراء سريعا. وهذا يفسر لنا الشكوى التى نسمعها من ذلك الشاعر حين يمر على مضارب قبيلة حبيبته فيجدها قد تغيرت بسبب الريح والأمطار، ويصير من الصعب عليه أن يتعرفها. لنستمع إلى النابغة الذبيانى إذ يقول:
أَهاجَكَ مِن سُعداكَ مَغْنَى المَعاهِدِ * بِرَوْضَةِ نُعْمِيٍّ فَذاتِ الأَساوِد؟ِ
تَعاوَرَها الأَرْواحُ يَنسِفنَ تُرْبَها * وَكُلُّ مُلِثٍّ ذي أَهاضيبَ راعِدِ
بِها كُلُّ ذَيّالٍ وَخَنساءَ تَرعَوي * إِلى كُلِّ رَجّافٍ مِنَ الرَملِ فارِدِ
أو إلى زهير بن أبى سلمى:
قِفْ بِالدِّيارِ الَّتي لَم يَعْفُها القِدَمُ * بَلَى، وَغَيَّرَها الأَرْواحُ وَالدِّيَمُ
أو إلى طرفة بن العبد:
أَشَجاكَ الرَّبْعُ أَم قِدَمُه * أَمْ رَمادٌ دارِسٌ حُمَمُه
كَسُطُورِ الرّقِّ رَقَّشَهُ * بِالضُّحَى مُرَقِّشٌ يَشِمُه
لَعِبَت بَعْدِيَ السُّيُولُ بِهِ * وَجَرَى في رَيِّقٍ رِهَمُه
أو إلى لبيد بن ربيعة (وهو، رغم خضرمته، يصح الاستشهاد به فى هذا السياق لأننا نتحدث عن ظاهرة مستمرة لم تنته بانتهاء العصر الجاهلى):
عَفَتِ الدِيارُ مَحَلُّها فَمُقامُها * بِمِنًى تَأَبَّدَ غَوْلُها فَرِجَامُها
فَمَدافِعُ الرَيّانِ عُرِّيَ رَسْمُها * خَلَقًا كَما ضَمِنَ الوُحِيَّ سِلامُها
دِمَنٌ تَجَرَّمَ بَعدَ عَهدِ أَنيسِها * حِجَجٌ خَلَونَ: حَلالُها وَحَرامُها
رُزِقَت مَرابيعَ النُجومِ وَصابَها * وَدقُ الرَواعِدِ جَوْدُها فَرِهامُها
مِن كُلِّ سارِيَةٍ وَغادٍ مُدْجِنٍ * وَعَشيَّةٍ مُتَجاوِبٍ إِرزامُها
فَعَلا فُرُوع الأَيهُقانِ، وَأَطفَلَت * بِالجَهْلَتَينِ ظِباؤها وَنَعامُها
وَالعِينُ ساكِنَةٌ عَلى أَطلائِها * عُوذًا تَأَجَّلُ بِالفَضاءِ بِهامُها
وَجَلا السُيولُ عَنِ الطُلولِ كَأَنَّها * زُبُرٌ تُجِدُّ مُتونَها أَقلامُها
أَو رَجْعُ واشِمَةٍ أُسِفَّ نُؤُورُها * كِفَفًا تَعَرَّضَ فَوقَهُنَّ وِشامُها
ومن يقرأ معلقة امرئ القيس مثلا يَرَ كيف جرفت السيول أمامها كل شىء، واقتلعت الأشجار الضخام وأغرقت الحيوانات الوحشية فبدت "كأنها أنابيش عُنْصُل"... إلخ:
أَحارِ، تَرَى بَرْقًا أُريكَ وَميضَهُ * كَلَمْعِ اليَدَيْنِ في حَبِيٍّ مُكَلَّلِ
يُضيءُ سَناهُ أَو مَصابيحَ راهِبٍ * أَهانَ السَّلِيطَ في الذُّبَالِ المُفَتَّلِ
قَعَدْتُ لَهُ وَصُحْبَتي بَينَ حامِرٍ * وَبَينَ إِكامٍ. بُعْدَ ما مُتَأَمَّلِ!
وَأَضْحَى يَسُحُّ الماءُ عَن كُلِّ فِيقَةٍ * يَكُبُّ عَلى الأَذقانِ دَوْحَ الكَنَهْبَلِ
وَتَيْماءَ لَم يَتْرُك بِها جِذْعَ نَخْلَةٍ * وَلا أُطُمًا إِلا مَشِيدًا بِجَنْدَلِ
كَأَنَّ ذُرَى رَأْسِ المُجَيْمِرِ غُدْوَةً * مِنَ السَّيْلِ وَالغُثّاءِ فَلْكَةُ مِغْزَلِ
كَأَنَّ أَبانًا في أَفانينِ وَدْقِهِ * كَبيرُ أُناسٍ في بِجادٍ مُزَمَّلِ
وَأَلْقَى بِصَحْراءِ الغَبيطِ بَعَاعَهُ * نُزُولَ اليَمَانِي ذي العِيَابِ المُخَوَّلِ
كَأَنَّ سِباعًا فيهِ غَرْقَى غُدَيَّةً * بِأَرجائِهِ القُصْوَى أَنابيشُ عُنْصُلِ
عَلى قَطَنٍ بِالشَيْمِ أَيْمَنُ صَوْبِهِ * وَأَيْسَرُهُ عَلى السِّتارِ فَيَذْبُلِ
وَأَلقى بِبَيْسانٍ مَعَ اللَيلِ بَرْكَهُ * فَأَنزَلَ مِنْهُ العُصْمَ مِنْ كُلِّ مَنْزِلِ
ثم إن العرب المتبدِّين لا يسكنون الصحارى القاحلة التى ليس فيها عشب ولا ماء، بل ينزلون الأماكن المعشبة التى توجد فيها آبار المياه كى تأكل ماشيتهم وتشرب. حتى إذا جفت الآبار وأتت الإبل والأغنام على الأعشاب رحلوا عنها وخلَّفوها إلى غيرها حيث يوجد العشب والماء. فالبدو إذن لا يسكنون بيئة ثابتة لا يعتريها أى تغير كما يتصور بعض الناس. أما فى القرى والمدن فالمبانى والشوارع والمعالم ثابتة إلى حد بعيد، ولا تتغير إلا بعد مرور وقت طويل، وبالتدريج، بحيث لا يحس الإنسان بذلك التغيير. ولهذا لا نسمع أن رجلا قد ضل الطريق وضاع فى الحضر، بخلاف ما يقع كثيرا فى الصحراء من تَيَهَان الكثيرين وضياعهم وهلاكهم ما لم تتداركهم رحمة الله، فعندئذ تُكْتَب لهم حياة جديدة. وعلى هذا فإننى لا أستطيع أن أفهم أدونيس، الذى يبدو وكأنه يتعمد مدابرة المنطق والحكمة فى كل ما يكتب.