أدونيس والإسهال اللفظى (2)

د. إبراهيم عوض

كذلك يقول الرجل إن للمكان عند الشاعر الجاهلى وجهين: وجها يجذب لأنه فى المكان وحده ترتسم تحققات الفروسية وأبعاد الفارس، ووجها يخيف لأنه من المكان وحده تأتى مفاجآت السقوط. ثم ينتقل أدونيس من هذا إلى شىء آخر قائلا إن مكان الشاعر الجاهلى مكان زمان، كما أنه هو المكان المتاه. وتبحث هنا وهاهنا عن السبب الذى حدا بالرجل إلى التلفظ بكل هذه الهلاوس فلا تجد شيئا، ومن ثم لا تملك مثلى إلا أن تضرب كفا بكف تعجبا من بعض خلق الله الذين يَأْبَوْنَ أن يقولوا شيئا مفيدا، أو على الأقل: شيئا له معنى. المهم أنه يمضى فيقول إن المكان فى حياة الشاعر الجاهلى  لا يتيح أى شىء إلا بالقوة. عظيم! وهل هناك مكان يمكن أن يتيح لمن يسكنه الحصول على أى شىء إلا بالقوة؟ بل هل يمكن أن ينجز البشر شيئا دون أن يستعملوا القوة؟ ترى متى كان الضعف أو العجز وسيلة لعمل أى شىء مهما تكن تفاهته؟ القوة أو القدرة هى السبيل الوحيد أمام أى كائن للحصول على ما يريد مع التنبه إلى أن القوة أنواع وضروب: فمنها القوة الجسدية، ومنها القوة العقلية، ومنها القوة النفسية، ومنها القدرة على المكر والخداع، ومنها القدرة على التمثيل والتظاهر... إلخ. ومن كلامه أيضا فى هذا السياق أن من يملك الشجاعة ليجابه خطر المكان هو وحده الذى يعرف كيف يكون سيد مصيره. مرة أخرى عظيم، ولكن هل هذا هو وضع الشاعر الجاهلى وحده من دون الخلق جميعا؟

أما كلامه عن أنه فى المكان وحده ترتسم تحققات الفروسية وأبعاد الفارس فهذا ما سوف أنفجر غيظا أمامه. أترى هناك شيئا فى الدنيا ترتسم تحققاته (برطانة أدونيس) دون أن يكون هناك مكان، وزمان أيضا فوق البيعة؟ أرنى، يا عم أدونيس، أين يمكن أن يقع هذا. ولاحظ، أيها القارئ، كيف استخدمتُ فى السؤال عن ذلك كلمة "أين"، التى تدل على المكان بما يبين أبلغ بيان أننا لا يمكن أن ننفك عن المكان أبدا. ثم كيف كان شعراء الجاهلية فرسانا كلهم على بَكْرَة أبيهم وبَكْر أمهم أيضا؟ لا شك أن بعضهم كان فارسا، ولا شك أن بعضهم كانت به أخلاق الفرسان حتى لو لم يكن فارسا. نقصد بأخلاق الفرسان الشجاعة والنبل والصراحة والتعفف عما يسىء إلى كرامة الشخص: كرامته هو وكرامة الغير... إلى آخر ما يقصد الناس بكلمة الفروسية. لكن القول بأن شعراء الجاهليين كلهم كانوا فرسانا أو ذوى فروسية هو مما لا يمكن أن يكون، فهؤلاء الشعراء هم بشر من البشر: فيهم الفارس، وفيهم الراعى، وفيهم التاجر، وفيهم الجزار، وفيهم الزعيم، وفيهم التابع، وفيهم الخمار، وفيهم النخاس، وفيهم العبد، وفيهم السيد، وفيهم الملك، وفيهم الشريف، وفيهم الوضيع، وفيهم الماكر الخبيث، وفيهم الواضح الصريح، وفيهم اللص، وفيهم قاطع الطريق، وفيهم الكريم، وفيهم البخيل، وفيهم الشجاع، وفيهم الجبان، وفيهم الكاهن، وفيهم الحاذى، وفيهم الفقير، وفيهم الغنى، وفيهم المرأة، وفيهم الصبى، والمرأة والصبى لا يمكن أن يكونا فارسين أو فروسيين. فكيف يتغافل أدونيس عن هذا كله بوضع الشعراء الجاهليين كلهم أجمعين فى كفة وأحدة، وكأنهم شروة طماطم تُشْتَرَى كما هى بعُجَرها وبُجَرها وصحيحها وفاسدها؟

ثم لا يكتفى الرجل بأن يجعل منهم كلهم بربطة المعلم فرسانا أو فروسيين، بل يجعل منهم كلهم أيضا أبطالا بطولتهم تطهر الحياة (بماذا؟ بديتول مثلا أو بكحول أو ببيتادين؟). كلام، كلام، كلام، وليس على الكلام جمارك! ليس ذلك فقط، إذ البطولة عنده لا تطهر الحياة فقط، بل تصعّدها وتعيد لها زهوها وامتلاءها، كما تتغير صورة العالم ليصبح الوجود انعكاسا للذات فى مثالية شخصية، ويصبح العالم عندئذ حركة اقتحام وفروسية، ويستسلم العالم فى البطولة كما يستسلم فى الحلم، فيتحد بالبطل وتزول إذ ذاك الحدود بينه وبين الإنسان، بين المظهر والجوهر<!--. رحمك الله يا دكتور طه حسين! لقد ركبك الغضب وأنت تقرأ كتاب محمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس: "فى الثقافة المصرية"، الذى ظنا أنهما سوف يقلبان الأدب العربى به رأسا على عقب، فلم  تفهم منه شيئا كما قلتَ مشتكيا فى مقال لك مشهور عن تلك المسألة. فما بالك لو كان قُدِّر لك أن تقرأ كتاب أدونيس؟ إن الطامة فيه لأكبر وأشد.

ثم يذهب الرجل مرة أخرى فى فاصل إنشائى مما لا يؤكّل عيشا حافيا فيتكلم عن المغامرة التى لابد منها كى نحظى بنفوسنا<!--. يقصد بذلك بطولة الشاعر الجاهلى ومغامراته، مع أن الشاعر الجاهلى فى معظم الأحيان رجل غلبان مثل العبد لله. قد يكون بعض الشعراء آنذاك أبطالا فعلا، كما أن بعضهم، وهم الصعاليك، كانوا مغامرين. بيد أن نسبة الأبطال والمغامرين بينهم نسبة ضئيلة لا تخول لأدونيس ولا لغير أدونيس أن يحاول استغفالنا وإيهامنا أن كل شعراء الجاهلية كانوا أبطالا مغامرين. ترى هل كانت على رأسهم ريشة لم تكن على رأس أحد آخر؟ فأين هذه الريشة؟ أمامكم الشعر الجاهلى كله، وفوقه كتاب د. جواد على، الذى جمع كل شىء عن العصر الجاهلى فأوعى، فهاتوه وابحثوا فيه عن تلك الريشة، وأنا زعيم أنكم لن تجدوا لا فى هذا ولا فى ذاك شيئا عن تلك الريشة. قرأت مرة لأحد المفاليك الصعاليك الذين يطمعون أن يكونوا نقادا رغم أنهم لا تتوفر لهم أية صفة من صفات الناقد يقول إن الكتاب، أى كتاب، يكمن كله فى أول حرف فيه. وقد رددت على هذا التنطع بأن ملايين الكتب تبدأ كلها بذات الحرف رغم اختلافها فى المؤلف والموضوع والروح والأسلوب والغاية والعصر والفهرست. فكيف يتسق هذا مع ما يقوله؟

ولنمض خطوة أخرى مع أدونيس، الذى يستمر قائلا إن البطولة تعبر عن نفسها بلغة ساحرة متحركة تخاطب الأعصاب والجلد والعضلات والحواس، أما الروح فتسحرها. ثم يضيف بعد قليل أن لغة الشاعر الجاهلى تعتمد على الغلو فى التصوير والتعبير لأنه لا يقدر أن يقبل العالم أو يراه إلا فى مستوى البطولة والمغامرة بحيث تجرى فى الأشياء كذلك دماء الفروسية<!--. أى أن أدونيس لا يكتفى بفروسية البشر، بل يشرك معهم فيها الأشياء أيضا. ولم لا؟ وهل سندفع شيئا من جيوبنا؟ وهذه أول مرة أسمع أن فى الأشياء فروسية! ولكن بالله عليكم، أيها القراء، هل كان كل الشعراء الجاهليين يبالغون تلك المبالغة التى يتحدث عنها أدونيس؟ وهل الشعر الجاهلى هو وحده الذى يعرف المبالغة؟ إن شعراء الجاهلية بوجه عام، على ما هو معروف لدارسيهم، أقل من غيرهم من ناحية المبالغات. لقد زادت المبالغات فى العصر العباسى مثلا زيادة فاحشة حتى وجدنا من يخلع على البشر صفات الله ذاته كما هو الحال لدى ابن هانئ الأندلسى فى مدحه للمعز لدين الله الفاطمى.

ثم أين البطولة والفروسية فى معلقة امرئ القيس وهو يدخل على عُنَيْزَة الخِدْر ومال الغبيط بهما معا فوق بعيرها فتشهق خشية الفضيحة والعار، وتأمره أن ينزل ويتركها لحال سبيلها؟ أو أين البطولة والفروسية وهو يفاخر بمجامعته امرأة أثناء إرضاعها طفلها؟ أو أين البطولة والفروسية فى أن يقتحم بيت معشوقته بالليل متلصصا فتأمره المرأة بالخروج والعودة من حيث جاء درءا للفضائح فيرد عليها هازئا بأنه لن يبرح مكانه حتى لو قطعوا رأسه ومزقوا أوصاله؟ أو أين البطولة والفروسية فى معلقة طرفة المتمردة دون عقل وبلا تبصر؟ أو أين البطولة والفروسية فى تكسب بعض الشعراء آنذاك بأشعارهم كالأعشى والنابغة؟ أو أين البطولة والفروسية فى شعر النابغة فى المتجردة زوجة النعمان إن كان هذا الشعر له، ولم يكن منحولا عليه؟ أو أين البطولة والفروسية فى شعر جليلة بنت مرة؟ أو أين البطولة والفروسية فى رثاء عبد يغوث لنفسه؟ أو أين البطولة والفروسية فى شعر الصعاليك قاطعى الطريق؟ أو أين البطولة والفروسية فى أشعار الهجاء؟ أو أين البطولة والفروسية فى الوقوف على الأطلال والبكاء فى الرسوم؟ أو أين البطولة والفروسية فى وصف الطبيعة من سحاب أو مطر أو بَرَد؟ أو أين البطولة والفروسية فى أشعار ورقة بن نوفل وقُسّ بن ساعدة وأمثالهما؟ أو أين البطولة والفروسية فى شعر الغزل؟ أو أين البطولة والفروسية فى شعر التفجع على ذهاب الشباب والتقدم فى العمر؟ وما حكاية "البطولة"، التى تعبر عن نفسها بلغة ساحرة متحركة تخاطب الأعصاب والجلد والعضلات والحواس كما يقول سيدنا أدونيس؟ هذا كلام يطير لا برجا واحدا فقط من الرأس، بل الأبراج جميعا. هذا كلام خارج عن حدود العقل والمنطق. وهذا هو النقد الجديد الذى أتانا به عبقرى العصر أدونيس.

ثم ما هذه الصرعة الجديدة التى يصدع بها بعض النقاد أدمغتنا فى زماننا هذا العجيب إذ يقولون إن وظيفة الشعر هى أن يغير العالم، مما يدخل فيه زعم أدونيس أن الشاعر الجاهلى كان يسعى إلى إخضاع هذا العالم. أفهم أن بعض الشعراء قد ينظمون شعرا يستحثون به الجماهير فيقومون بثورة تغير البلاد مثلا، لكن أدونيس لا يقصد هذا اللون من الشعر، أو لا يقصر هذه الدعوى على هذا اللون من الشعر، بل يعممها بحيث تشمل كل ألوان الشعر، وتغير كل شىء فى الدنيا. ولكن ها هو ذا العالم كما هو لم يتغير فيه شىء رغم جبال الأوراق ومحيطات  الأحبار التى استهلكت فى كتابة أشعار الشعراء منذ كان هناك شعر إلى اللحظة الحاضرة، ولا تزال الشمس تطلع من الشرق وتغيب فى الغرب، ولا تزال تشرق نهارا، والقمر يبزغ ليلا، وما زالت الناس تتنفس من أنوفها وتبصر بعينيها وتسمع بأذنيها وتأكل من فمها وتمضع بأسنانها... إلخ، فأين هذا التغيير يا ترى؟ أم هو كلام نملأ به الصفحات، ودمتم؟

لكنى أعود فأقول: دعوهم يخرّفون، فتخريفاتهم مضحكة تزيح الهم قليلا عن القلب ولو إلى حين. نعم، الشاعر يبدع ويمتع ويأخذنا إلى النجوم ويبالغ ويصور الكون تصويرارائعا بارعا، وننتشى معه كما انتشى هو من قبل حين كان يبدع هذاالشعر العجيب، لكننا ما إن نخرج من تلك النشوة مغادرين سماء الأحلام، وعائدين إلى أرض الواقع حتى نرى كل شىء من حولنا باقيا على حالته التى تركناها قبل أن نصعد مع شاعرنا إلى النجوم. أقول هذا كيلا يظن أحد أننا نحقر من شأن الشعر، فهو إحدى نعم الحياة، بل لأبين للقراء زيف بعض النقاد من أصحاب الكلام الطويل العريض وتنطعهم فى الكتابة حتى ليصدق على الواحد منهم أنه "أبو لمعة" النقد! ذلك أن الشعر فى حد ذاته لا يغنى من فقر، ولا يطعم من جوع، ولا يروى من عطش، ولا يؤمن من خوف، ولكن إذا كان له جمهور يشترى دواوينه فإنه قد يكون مصدرا للدخل بالنسبة للشاعر، وهذا كل ما هنالك، وإن كان المال الذى يمكن فى هذه الحالة أن يجلبه الشعر لصاحبه هزيلا كما هو معروف.

ويقول أدونيس إن فروسية الشاعر الجاهلى تعبر عن نفسها لا ببطش أعمى، بل بشهامة تحتضن حتى الأعداء. فالمرأة التى تُسْبَى لا تُذَلّ، بل تبقى امرأة حرة "تُخْلَط بخير النساء" على حد تعبير حاتم الطائى. وليس القتل غاية بل دفاعا وجزءا من سياق الظَّفَر والتفوق، إذ لم يكن الفارس يقتل شخصا أعزل أو مستسلما أو طالبا للعون، بل فارسا مثله يحاربه وقد تدجج بسلاحه، فضلا عن قوته ونِدِّيَّته له، إلى جانب حرص الفارس المنتصر على تمجيد خصمه القتيل وامتداح صبره على الموت وعدم استكانته أمامه أو جزعه منه<!--. وكالشِّنْشِنَة التى نعرفها من أدونيس نراه لا يورد من الشواهد، إن أورد، سوى جملة أو نصف جملة كما رأينا من قبل. ونستطيع نحن أن نورد كثيرا من الشواهد تنقض ما قال. ذلك أن الأمر لا يُحْسَم بشاهد أو اثنين، بل لا بد من التدليل بشواهد متعددة على ما نقول، وإلا كان الأمر مجرد تصيد منا لما يعضد كلامنا مهما يكن الدليل المعضِّد ضعيفا متهافتا لا يثبت صدق كلامنا.

ذلك أنه ليس كل الآسرين حاتما مثلما لا يشبهه كل الميسورين فى كرمه وأريحية نفسه وإهانته المال فى مساعدة المحتاجين. كذلك ليس كل المعطين قد قال الرسول فيهم، كما جاء فى "الأغانى" للأصفهانى، و"البداية والنهاية" لابن كثير، ما قاله فى حاتم حين أثنى عليه أمام ابنته قائلا إن أباها كان يحب مكارم الأخلاق، والله سبحانه يحب مكارم الأخلاق، وإن صفاته هى صفات المؤمن، وإنه لو كان مسلما لترحَّم عليه. ثم لماذا كان العرب يَسْبُون النساء إذا كانوا يُبْقُون عليهن حُرَّاتٍ مُكَرَّمَاتٍ كما قال حاتم فى بعض شعره؟ وأخبار السبايا عند العرب كثيرة، وهى تتحدث عن التمتع بهن ما لم يستطع أهلوهن أن يخلصوهن بطريقة أو بأخرى كالحرب أو المفاداة بالمال أو التماس التكرم بإطلاقهن أو مطاردتهم للسابى مَرْجِعَه من المعركة وتخليصهم إياهن منه فى نفس اليوم قبل أن يقربهن. يقول زهير بن جناب مفتخرا باسترقاق نساء تغلب بعدما أغار عليهم وهزمهم واستاق نساءهم أمامه فى نهاية المعركة:

 تَبًّا لتغلبَ أن تساق نساؤهم  *   سَوْق الإماء إلى المواسم عطلا

وقال أيضا يعير بني تغلب بهذه الواقعة:

أين أين الفرار من حذر المو *  ت وإذ يتقون بالأسلابِ

إذ أسرنا مهلهلا وأخاه  *  وابن عمرو في القِدِّ وابن شهابِ

وسبينا من تغلب كل بيضا *  ء رَقُود الضحى بَرُود الرِّضابِ؟

ويقول أعرابى من بنى ذبيان يهجو أعداءه ويحقر منهم ويعمل على إذلالهم:

رأَسْتُكُمُ، وما منكم رئيسلإ  *  أذُود، وليس فيكم من يذُودُ

تُفدِّيني نساؤُكم، ومُهْري *   يكرُّ، وأنتم عُصَبٌ شهودُ

وقال حاجز بن عوف الزدى يخاطب ضمرة بن ماعز بعدما هجم على قبيلته وسبى نساءها انتقاما لما فعلته قبيلة ضمرة بقبيلته من قبل:

يا ضمر، هل نلناكمُ بدمائنا؟ * أم هل حَذَوْنا نعلكم بمثالِ؟

نبكي لقَتْلَى من فقيمٍ قُتِّلوا  *  فاليوم تبكي صادقا لهلالِ

ولقد شفاني أن رأيت نساءكم  *  يبكين مُرْدَفَةً على الأكفالِ

وقال بشر بن أبى خازم يبكت أعداء قبيلته:

بني عامِرٍ، إِنّا تَرَكْنَا نِسَاءَكمْ * مِن الشَلِّ والإيجافِ تَدْمَى عُجُوبُها

عَضَارِيطُنا مُسْتَبْطِنو البِيضِ كالدُّمَى *  مُضَرَّجَةً بالزَّعْفرانِ جُيُوبُهَا

تَبِيتُ النِّساءُ المُرْضِعاتُ برَهْوَةٍ *   تَفَزَّعُ من خَوْفِ الجَنَانِ قُلوبُهَا

وأما بالنسبة إلى مقارعة الأقران بعضهم بعضا فى معركة صريحة لا غدر فيها ولا تآمر، فهأنذا أسوق خبرا عن عنترة بن شداد يدل على أنه كان يلجأ إلى الحيلة والخداع فى معاركه مع أقرانه، وهو من هو فروسيةً وشجاعةً وكرمًا. فإذا كان عنترة الفارس الشهم الشجاع يلجأ إلى الحيلة والخداع فى الانتصار على عدوه، فما بالنا بغيره؟ يقول لويس شيخو صاحب "مجانى الأدب فى حدائق العرب": "قيل لعنترة أنت أشجع العرب؟ قال: لا. قال: فبماذا شاع لك هذا في الناس؟ قال: كنت أُقْدِم إذا رأيتُ الإقدام عزما، وأُحْجِم إذا رأيتُ الإحجام حزما، ولا أدخل موضعا إلا أرى لي منه مخرجا. وكنت أعتمد الضعيف الجبان فأضربه الضربة الهائلة يطير لها قلب الشجاع فأُثَنِّي عليه فأقتله".

كذلك كانت الغيلة معروفة بين العرب. ومن ذلك على سبيل التمثيل، وغيره كثير، ما جاء فى ترجمة قيس بن الخطيم من كتاب "الأغانى" من أن قيسا، وهو من فرسان العرب وشعرائهم، "لما بلغ مبلغ الرجال وعرف أخبار قومه وأن أباه وجده قبله ماتا مقتولين لم يزل يلتمس غِرّةً من قاتل أبيه وجده في المواسم حتى ظفر بقاتل أبيه بيثرب فقتله، وظفر بقاتل جده بذي المجاز. فلما أصابه وَجَدَه في رَكْبٍ عظيمٍ من قومه، ولم يكن معه إلا رَهْطٌ من الأوس، فخرج حتى أتى حذيفة بن بدار الفزاري، فاستنجده فلم ينجده. فأتى خداش بن زهير، فنهض معه ببني عامر حتى أَتَوْا قاتل عدي، فإذا هو واقف على راحلته في السوق، فطعنه قيس بحرية فقتله، ثم استمر. فأراده رهط الرجل، فحالت بنو عامر دونه، فقال في ذلك قيس بن الخطيم:

ثأرتُ عَدِيًّا والخطيمَ فلم أُضِعْ * ولاية أشياخ جُعِلْتُ إزاءها"

وبطبيعة الحال لم يُقْتَل أبوه ولا جده أيضا فى حرب، وإلا لشنت القبيلة على قاتليْه حربا ولم يلجأ قيس إلى الاغتيال لِدَرْك ثأره.

وفى النص التالى يصف صاحب "الأغانى" الطريقة التى اتبعها قيس فى اغتيال قاتلى أبيه وجده مستعينا بالتخطيط والمكر والمباغتة والخداع، إذ ذهب إلى صديق أبيه خُدَاش بن زهير و"سأله أن يعينه وأن يشير عليه في أمره، فرحب به خداش وذكر نعمة أبيه عنده، وقال: إن هذا الأمر مازلت أتوقعه منك منذ حينٍ. فأما قاتل جدك فهو ابن عم لي، وأنا أعينك عليه. فإذا اجتمعنا في نادينا جلستُ إلى جنبه وتحدثتُ معه. فإذا ضربتُ فخذه فثِبْ إليه فاقتله. فقال قيس: فأقبلتُ معه نحوه حتى قمت على رأسه لما جالسه خداش. فحين ضرب فخذه ضربت رأسه بسيف يقال له: ذو الخرصين. فثار إليَّ القوم ليقتلوني، فحال خداش بينهم وبيني وقال: دَعُوه، فإنه والله ما قَتَل إلا قاتلَ جده. ثم دعا خداش بجمل من إبله فركبه، وانطلق مع قيس إلى العبدي الذي قتل أباه، حتى إذا كانا قريبا من هَجَر أشار عليه خداش أن ينطلق حتى يسأل عن قاتل أبيه، فإذا دُلَّ عليه قال له: إن لصا من لصوص قومك عارضني فأخذ متاعا لي، فسألتُ: مَنْ سيد قومه؟ فدُلِلْتُ عليك. فانطلقْ معي حتى تأخذ متاعي منه. فإن اتبعك وحده فستنال ما تريد منه، وإن أخرج معه غيره فاضحك، فإن سألك: مِمَّ ضحكتَ؟ فقل: إن الشريف عندنا لا يصنع كما صنعتَ إذا دُعِيَ إلى اللص من قوم. إنما يخرج وحده بسوطه دون سيفه. فإذا رآه اللص أعطى كل شيء أخذ هيبةً له. فإنْ أَمَرَ أصحابه بالرجوع فسبيل ذلك، وإن أبى إلا أن يمضوا معه فأتني به، فإني أرجو أن تقتله وتقتل أصحابه. ونزل خداش تحت ظل شجرة، وخرج قيس حتى أتى العبدي فقال له ما أمره خداش فأَحْفَظَه، فأمر أصحابه فرجعوا ومضى مع قيس. فلما طلع على خداش قال له: اختر يا قيس إما أن أعينك وإما أن أكفيك. قال: لا أريد واحدة منهما، ولكن إنْ قتلني فلا يفلتنك. ثم ثار إليه فطعنه قيس بالحربة في خاصرته فأنفذها من الجانب الآخر، فمات مكانه. فلما فرغ منه قال له خداش: إنا إنْ فررنا الآن طَلَبَنا قومُه. ولكن ادخل بنا مكانا قريبا من مقتله، فإن قومه لا يظنون أنك قتلته وأقمت قريبا منه. ولكنهم إذا افتقدوه اقْتَفَوْا أثره. فإذا وجدوه قتيلا خرجوا في طلبنا في كل وجه، فإذا يئسوا رجعوا. قال: فدخلا في دارات من رمال هناك، وفقد العبديَّ قومُه، فاقتفَوْا أثره فوجدوه قتيلاً، فخرجوا يطلبونهما في كل وجه ثم رجعوا. فكان من أمرهم ما قال خداش. وأقاما مكانهما أياما ثم خرجا فلم يتكلما حتى أتيا منزل خداش، ففارقه عنده قيس بن الخطيم ورجع الى أهله".

ثم إن قيسا مات بنفس الطريقة، إذ اغتاله أهل أحد مقتوليه، لينهض للأخذ بثأره رجل من قبيلته فيغتال رجلا من قبيلة القاتل، إذ نقرأ فى "الأغانى" أن "حرب الأوس والخزرج لما هدأت تذكرت الخزرج قيس بن الخطيم ونكايته فيهم، فتوامروا وتواعدو قتله. فخرج عشية من منزله في ملاءتين يريد مالاً له بالشوط حتى مر بأُطُم بني حارثة، فرُمِيَ من الأطم بثلاثة أسهم، فوقع أحدها في صدره، فصاح صيحة سمعها رهطه، فجاؤوا فحملوه الى منزله، فلم يروا له كفئا إلا أبا صعصعة يزيد بن عوف بن مدرك النجاري، فاندس إليه رجل حتى اغتاله في منزله، فضرب عنقه واشتمل على رأسه، فأتى به قيسا وهو بآخر رمق، فألقاه بين يديه وقال: يا قيس، قد أدركتُ بثأرك. فقال: عضضت بأير أبيك إن كان غير أبي صعصعة! فقال: هو أبو صعصعة. وأراه الرأس، فلم يلبث قيس بعد ذلك أن مات".

 على أن المسرحية الفروسية لما تنته فصولا، إذ لا يزال فيها فصل عن النساء يرينا أن الأمر لم يكن كله فروسية كما يتخيل أدونيس وهو جالس إلى مكتبه يؤلف من دماغه رأسا دون أن يتعب نفسه قليلا ليتيقن من صحة ما يكتب. فها هو ذا قيس بن الخطيم وحسان بن ثابت فى الجاهلية يتهاجيان بالنساء، فيتغزل حسان بليلى بنت الخطيم أخت قيس بعد أن احتك بها فى الطريق وأهانها، ويرد قيس التحية بأسوأ منها فيتغزل بزوجته عَمْرَة. يقول صاحب "الأغانى": "مر حسان بن ثابت بليلى بنت الخطيم، وقيس بن الخطيم أخوها بمكة حين خرجوا يطلبون الحلف في قريش، فقال لها حسان: اظعني فالحقي بالحي، فقد ظعنوا. وليت شعري ما خَلَّفَك؟ وما شأنك؟ أقَلَّ ناصِرُك أم راثَ رافِدُك؟ فلم تكلمه، وشتمه نساؤها. فذكرها في شعره في يوم الربيع الذي يقول فيه:

لقد هاج نفسَك أشجانُها  *  وعاودها اليومَ أديانُها

تذكرتُ ليلى، وأَنَّي بها *   إذا قطعت منك أقرانُها

وحَجَّل في الدار غربانها  *  وخف من الدار سكانُها

وغَيَّرها مُعْصِراتُ الرياح  * وسَحُّ الجنوب وتهتانُها؟

مهاة من العِين تمشي بها *  وتتبعها ثَمَّ غزلانها

وقفت عليها فساءلتها  *  وقد ظعن الحي: ما شأنها؟

فعَيَّتْ، وجاوبني دونها  *    بما راع قلبيَ أعوانُها

وهي طويلة. فأجابه قيس بن الخطيم بهذه القصيدة التي أولها:

"أجد بعمرة غنيانها"، وفخر فيها بيوم الربيع، وكان لهم، فقال:

ونحن الفوارس يوم الربيـــــــــــ*ـــــــــــع قد علموا كيف فرسانُها

حسان الوجوه، حداد السيو  *   ف، يبتدر المجد شبانُها

وهي أيضا طويلة".

ثم هذه قصة أخرى من قصص الغدر. ففى "الأغانى" أن "رجلاً من بني مازن بن النجار يقال له: كعب بن عمروـ تزوج امرأةً من بني سالم بن عوفـ فكان يختلف إليها. فقعد له رهط من بني جحجبى بمرصد، فضربوه حتى قتلوه أو كادوا، فأدركه القوافل فاستنقذوه. فلما بلغ ذلك أخاه عاصم بن عمرو خرج، وخرج معه بنو النجار، وخرج أُحَيْحَة بن الـجُلاَح ببني عمرو بن عوف، فالْتَقَوْا بالرحابة، فاقتلوا قتالاً شديدًا، فقتل أخا عاصم يومئذ أحيحةُ بن الجلاح، وكان يُكْنَى: أبا وحوحة، فأصابه في أصحابه حين انهزموا. وطلب عاصم أحيحة حتى انتهى إلى البيوت، فأدركه عاصم عند باب داره فزجه بالرمح، ودخل أحيحة الباب، ووقع الرمح في الباب، ورجع عاصم وأصحابه فمكث أيامًا. ثم إن عاصما طلب أحيحة ليلاً ليقتله في داره، فبلغ ذلك أحيحة، وقيل له: إن عاصما قد رُئِيَ البارحة عند الضَّحْيَان والغابة، وهي أرض لأحيحة، والضَّحْيَان أطم له. وكان أحيحة إذ ذاك سيد قومه من الأوس، وكان رجلاً صَنَعًا للمال، شحيحًا عليه، يبيع بيع الربا بالمدينة، حتى كاد يحيط بأموالهم. وكان له تسع وتسعون بعيرا كلها ينضح عليها. وكان له بالجرف أصوار من نخل قَلَّ يومٌ يمر به إلا يطلع فيه. وكان له أُطُمان: أُطُمٌ في قومه يقال له: المستظل، وهو الذي تحصن فيه حين قاتل تُبَّعًا أسعد أبا كرب الحميري، وأُطُمُه: "الضَّحْيَان" بالعصبة في أرضه التي يقال لها: الغابة، بناه بحجارة سود وبنى عليه نبرةً بيضاء مثل الفضة، ثم جعل عليها مثلها يراها الراكب من مسيرة يوم أو نحوه. وكانت الآطام هي عزهم ومنعتهم وحصونهم التي يتحرزون فيها من عدوهم. ويزعمون أنه لما بناه أشرف هو وغلام له، ثم قال: لقد بنيتُ حصنا حصينا ما بنى مثلَه رجلٌ من العرب أمنع ولا أكرم. ولقد عرفتُ موضع حجر منه لو نُزِع لوقع جميعا! فقال غلامه: أنا أعرفه. فقال: فأرنيه يابني. قال: هو هذا. وصرف إليه رأسه. فلما رأى أحيحة أنه قد عرفه دفعه من رأس الأطم فوقع على رأسه فمات. وإنما قتله إرادة ألا يعرف ذلك الحجر أحد. ولما بناه قال:

بنيتُ بعد مستظلٍّ ضاحيا *   بنيتُه بعصبة من ماليا

والسر مما يتبع القواصيا  *  أخشى ركيبًا أو رُجَيْلاً عاديا

وكان أحيحة إذا أمسى جلس بحذاء حصنه: "الضَّحْيَان"، ثم أرسل كلابا له تنبح دونه على من يأتيه ممن لايعرف، حذرًا أن يأتيه عدو يصيب منه غرة. فأقبل عاصم بن عمرو يريده في مجلسه ذلك ليقتله بأخيه، وقد أخذ معه تمرا. فلما نبحته الكلاب حين دنا منه ألقى لها التمر فوقفت. فلما رآها أحيحة قد سكنت حَذِر فقام فدخل حصنه، ورماه عاصم بسهم فأحرزه من الباب، فوقع السهم بالباب. فلما سمع أحيحة وقع السهم صرخ في قومه، فخرج عاصم بن عمرو فأعجزهم حتى أتى قومه. ثم إن أحيحة جمع لبني النجار، فأراد أن يغترَّهم فواعدهم وقومه لذلك. وكانت عند أحيحة سلمى بنت عمرو بن زيد بن لبيد بن خداش إحدى نساء بني عدي بن النجار، له منها عمرو بن أحيحة... وكانت امرأةً شريفة لا تنكح الرجال إلا وأمرها بيدها، إذا كرهت من رجل شيئا تركته. فزعم ابن إسحاق أنه حدثه أيوب بن عبد الرحمن، وهو أحد رهطها، قال: حدثني شيخ منا أن أحيحة لما أجمع بالغارة على قومها ومعها ابنها عمرو بن أحيحة، وهو يومئذ فَطِيمٌ أو دون الفطيم، وهو مع أحيحة في حصنه، عمدت إلى ابنها فربطته بخيط، حتى إذا أوجعت الصبي تركته فبات يبكي، وهي تحمله، وبات أحيحة معها ساهرا يقول: ويحك! ما لابني؟ فتقول: والله ما أدري ماله. حتى إذا ذهب الليل أطلقت الخيط عن الصبي فنام... فلما هدأ الصبي قالت: وارأساه! فقال أحيحة: هذا والله ما لقيتِ من سهر هذه الليلة. فبات يعصب لها رأسها ويقول: ليس بك بأس. حتى إذا لم يبق من الليل إلا أقله قالت له: قُمْ فَنَمْ، فإني أجدني صالحة قد ذهب عني ماكنت أجده. وإنما فعلتْ به ذلك ليثقل رأسه، وليشتد نومه على طول السهر. فلما نام قامت وأخذت حبلاً شديدًا وأوثقته برأس الحصن، ثم تدلت منه وانطلقت إلى قومها، فأنذرتهم وأخبرتهم بالذي أجمع هو وقومه من ذلك، فحذر القوم وأعدوا واجتمعوا. فأقبل أحيحة في قومه فوجد القوم على حذر قد استعدوا، فلم يكن بينهم كبير قتال. ثم رجع أحيحة فرجعوا عنه. وقد فقدها أحيحة حين أصبح. فلما رأى القوم على حذر قال: هذا عمل سلمى! خدعتْني حتى بلغتْ ما أرادت. وسماها قومها: المتدلية، لتدليها من رأس الحصن. فقال في ذلك أحيحة وذكر ما صنعت به سلمى:

تفهَّمْ أيها الرجل الجهولُ *  ولا يذهبْ بك الرأي الوبيلُ

فإن الجهل محمله خفيفٌ  *  وإن الحِلْم محمله ثقيلُ"

وفى أخبار الفِنْد الزِّمّاني فى "الأغانى" أيضا، وكان فارسا شاعرا، نقرأ ما يلى: "أرسلتْ بنو شيبان في محاربتهم بني تغلب إلى بني حنيفة يستنجدونهم، فوجهوا إليهم بالفند الزماني في سبعين رجلاً، وأرسلوا إليهم: إنا قد بعثنا إليكم ألف رجل. وقال ابن الكلبي: لما كان يوم التحالق أقبل الفِنْد الزِّمَّانِيّ إلى بني شيبان، وهو شيخ كبير قد جاوز مائة سنة، ومعه بنتان له شيطانتان من شياطين الإنس، فكشفت إحداهما عنها وتجردت، وجعلت تصيح ببني شيبان ومن معهم من بني بكر:

وعا وعا وعا وعا

حرَّ الجوادُ والتظى

وملئت منه الربا

يا حبذا يا حبذا

الملحقون بالضحى

ثم تجردت الأخرى وأقبلت تقول:

إن تُقْبِلوا نعانقْ   *   ونفرش النمارقْ

أو تُدْبِروا نفارقْ  *    فِرَاقَ غَيْرِ وامقْ

قال: والتقى الناس يومئذ، فأصعد عوفد بن مالك بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة، ابنته على جمل له في ثنية قضة، حتى إذا توسطها ضرب عرقوبي الجمل ثم نادى:

أنا البرك أنا البرك

أنزل حيث أدرك

ثم نادى: ومحلوفه لا يمر بي رجل من بكر بن وائل إلا ضربته بسيفي هذا. أفي كل يوم تفرّون فيعطف القوم؟ فقاتلوا حتى ظفروا فانهزمت تغلب". فكما نرى لم يكن الأمر دائما مع النساء على النحو الذى ذكر حاتم الطائى أنه يعامل به أسيرات قومه. فإن بِنْتَىِ الفِنْد الزِّمّانِىّ قد تصرفتا تصرفا يناقض تلك الصورة الكريمة، ولم ينكر عليهما أبوهما فى شىء مما أتتاه. فما بالنا لو أنه كان عليه أن يتعامل مع أسيرات أعدائه؟

وقد تناول عبد الله عفيفى فى كتابه: "نساء العرب فى الجاهلية والإسلام" هذا الموضوع فقال تحت عنوان "السِّبَاء والوَأْد" ذاكرا الحالين: "أما بعد، فإنا لا نخدع التاريخ في ماضيه، فنمثله زهرا لا أشواك فيه. فلئن كان من الحب ما يُمِضُّ ويؤذي، ومن الصداقة ما يضر ويؤلم، لقد أصيبت المرأة العربية في سبيل إعزازها والحرص عليها بلواذع بلغت في بعض المواطن حبة قلبها ومستقرّ حياتها. فمن ذلك السباء. وذلك أن العرب كانوا يُعْقِبون صفوف القتال بنسائهم وذوات أرحامهم تثبيتا لأنفسهم، وتشديدا لعزائمهم. وربما أُحِيط بهم، وغُلِبوا على أمرهم، فيكون هَمّ الظافر أن يتخذ نساء المقهور سبايا يسوقهن إلى بيته، ويتحكم فيهن كما يتحكم في ماله، لا لحاجته إليهن، بل ليقطع باستلابهن آخر عرق ينبض من قلب عدوه فيعيش ذليل الناصية، مُقَنَّع الوجه أمد الحياة. على أنهم، وإن غلظت إلى هذا الحد أكبادهم على أعدائهم، فهم يعرفون لسباياهم منازلهم بين قومهن فيخلطونهن بأنفسهم، إلا قليلا ممن أرّث الحقد صدورهم، وملكت الضغينة منازع الرحمة من قلوبهم. وفي أولى الحالتين يقول حاتم بن عبد الله الطائي:

فما أنكحونا طائعين بناتِهِم  *  ولكن خطبناها بأسيافنا قَسْرا

فما زادها فينا السِّبَاء مذلةً *  ولا كُلَِّفَتْ خَبْزًا ولا طبختْ قِدْرا

ولكنْ خلطناها بخير نسائنا * فجاءت بهم بِيضًا وجوهُهمُ زُهْرا

وكائِنْ ترى فينا من ابن سَبِيَّةٍ * إذا لقي الأبطال يطعنهم عذْرا

ويأخذ رايات الطعان بكفه  * فيوردها بِيضًا، ويُصدرُها حمرا

كريم إذا اعتز اللئيم تخاله * إذا ما سرى الدجى قمرا بدرا

وهنالك الكثير من سادات العرب وذوي زعامتهم انكشفت عنهم السبايا، فلم يَضَعْ ذلك من منازلهم أو يُهَجَّنْ من أحسابهم. ومن بين أولئك دُرَيدُ بن الصَمَةِ حكيم العرب وشاعر فرسانهم وفارس شعرائهم، وأمُّهُ ريحانة بنت معد يكرب. أسرها الصّمَّةُ بن عبد الله وتزوجها فأنجبت دُرَيْدًا وإخوته. وهي التي يقول عمرو في حديث إسارِها:

أمن ريحانة الداعي السَّميعُ *   يُؤرَّقُني وأصحابي هُجُوعُ؟

سباها الصَّمَّةُ الْجُشَمِيُّ غَصْبًا *  كأن بياض غُرّتها صديعُ

وحالت دونها فرسان قيسٍ  *  تَكَشَّفُ عن سواعدها الدروعُ

إذا لم تستطع شيئا فدَعْهُ  *  وجاوِزْه إلى ما تستطيعُ"

وفى حوادث يوم أوارة الثانى قَتَل الملك الحيرى عمرو بن هند امرأةً وهى حامل فبَقَرَ بطنها. ثم أحرق تسعة وتسعين رجلا من قبيلة "البراجم"، وأكمل المائة بواحدة من نسائهم لقاء اعتزازها بزوجها ووقوفها فى وجه الملك متماسكةً لا تخاف<!--.

ويذكر المرزبانى فى "أشعار النساء" أنه فى يوم العداب أغار بنو عبد مناة بن أد بن طابخة على بني عِجْل وحنيفة بالأراكة من أرض جو اليمامة، وسُبِيَتْ حسينة بنت جابر بن بجير العجلي أخت أبجر بن جابر، وكانت تحت تمّام بن سوادة مُعْرِسًا بها. وكان الذى سباها هو عَمْرو بن الحارث بن أقيش العُكْلِيّ. ثم إن زوجها وأباه أتياها ليفادياها، فاختارت عَمْرو بن الحارث، وقالت تعيّر زوجها:

تمَّامُ، قد أسلمتَني لرماحهم  *  وخرجتَ تركض في عَجَاج القَسْطَلِ

وتلومني ألا أَكُرَّ عليكمُ  *   هيهات ذلك مِنْكُمُ. لا أفعلُ

إني وجدتُكُمُ تكون نساؤكم  *  يوم اللقاء لمن أتاكم أَوَّلُ

ثم إن أخاها أبجر بن جابر أتاها بعدما ردت تمّامًا وأباه، فلامها على اختيارها على قومها، فرَضِيَتْ بالرجوع مع أخيها، ففاداها بمائة من الإبل وخمسة أفراس. وسار معها عمرو بن الحارث حتى أرض بني تميم، وقال في ذلك:

وخَيَّرْنا حُسَيْنةَ إذْ أتاها * سوادةُ ضارعًا مَعَهُ الفِداء

فقالت: إن رجعتُ إلى لُجَيْمٍ  *  مخايَرَةً، فقد ذهب الحياء

فما صبروا ولا عطفوا علينا *   وندعوهم، فما سُمِعَ النداء

وكنتُ مَهِيرةً فيكم، فأُمْسِي * ومَهْرِي فيكمُ الأسَلُ الظِمَاء

وكانَتْ صفوتي من سَبْيِ عِجْلٍ * حُسَيْنَةُ من كواعِبَ كالظباء

وهبناها لأَبْجَرَ إذْ أتانا *  وفينا غَيْرَها منهم نساء

 

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 119 مشاهدة
نشرت فى 28 فبراير 2015 بواسطة dribrahimawad

عدد زيارات الموقع

33,987